فلما كانت الليلة ٥٧٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى دنا من اللوح الثالث فوجد فيه مكتوب: «يا ابن آدم، أنت بحب الدنيا لاهٍ، وعن أمر ربك ساهٍ، كل يوم من عمرك ماضٍ، وأنت بذلك قانع وراضٍ، فقدِّم الزاد ليوم الميعاد، واستعِدَّ لرد الجواب بين يدَيْ ربِّ العباد.» وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى بكاءً شديدًا، ثم دنا من اللوح الرابع فرأى مكتوبًا عليه: «يا ابن آدم، كم يمهلك مولاك وأنت غائص في بحر لهوك؟ كل يوم خيره إليك حتى لا تموت. يا ابن آدم لا تغرنك أيامك ولياليك، وساعاتك الملهية وغفلاتها، واعلم أن الموت لك مراصد، وعلى كتفك صاعد، ما من يوم يمضي إلا صبحك صباحًا ومساك مساء، فاحذرْ من هجمته، واستعِدَّ له، فكأني بك وقد سلبت طول حياتك، وضيَّعت لذات أوقاتك، فاسمع مقالي، وثق بمولى الموالي؛ ليس للدنيا ثبوت، إنما الدنيا كبيت العنكبوت.» ورأى في أسفل اللوح مكتوبًا هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى، وكتب ذلك كله ونزل من فوق الجبل، وقد صور الدنيا بين عينيه، فلما وصل إلى العسكر أقاموا يومهم يدبرون الحيلة في دخول المدينة، فقال الأمير موسى لوزيره طالب بن سهل ولمَن حوله من خواصه: كيف تكون الحيلة في دخول المدينة لننظر عجائبها؟ ولعلنا نجد فيها ما نتقرَّب به إلى أمير المؤمنين. فقال طالب بن سهل: أدام الله نعمة الأمير، نعمل سلمًا ونصعد عليه لعلنا نصل إلى الباب من داخل. فقال الأمير موسى: هذا ما خطر ببالي وهو نِعْم الرأي. ثم إنه دعا بالنجارين والحدادين، وأمر أن يسووا الأخشاب، ويعملوا سلَّمًا مصفَّحًا بصفائح الحديد، ففعلوه وأحكموه، وقعدوا في عمله شهرًا كاملًا، واجتمعت عليه الرجال فأقاموه وألصقوه بالسور، فجاء مساويًا له كأنه قد عُمِل له قبل ذلك اليوم؛ فتعجَّبَ الأمير موسى منه، وقال: بارَكَ الله فيكم، كأنكم قستوه عليه من حُسْن صنعتكم! ثم إن الأمير موسى قال للناس: مَن يطلع منكم على هذا السلم ويصعد فوق السور ويمشي عليه، ويتحايل في نزوله إلى أسفل المدينة لينظر كيف الأمر، ثم يخبرنا بكيفية فتح الباب؟ فقال أحدهم: أنا أصعد عليه أيها الأمير وأنزل أفتحه. فقال له الأمير موسى: اصعد بارَكَ الله فيك. فصعد الرجل على السلم حتى صار في أعلاه، ثم إنه قام على قدميه وشخص إلى المدينة، وصفَّقَ بكفيه وصاح بأعلى صوته، وقال: أنت مليح. ورمى بنفسه من داخل المدينة فانهرس لحمه على عظمه، فقال الأمير موسى: هذا فعل العاقل، فكيف يكون فعل المجنون؟ إنْ كنَّا نفعل هكذا بجميع أصحابنا، لم يَبْقَ منهم أحد فنعجز عن قضاء حاجتنا وحاجة أمير المؤمنين، ارحلوا فلا حاجةَ لنا بهذه المدينة.
فقال بعضهم: لعل غير هذا أثبت منه. فصعد ثانٍ وثالث ورابع وخامس، فما زالوا يصعدون من على ذلك السلم إلى السور واحدًا بعد واحد، إلى أن راح منهم اثنا عشر رجلًا، وهم يفعلون كما فعل الأول، فقال الشيخ عبد الصمد: ما لهذا الأمر غيري، وليس المجرب كغير المجرب. فقال له الأمير موسى: لا تفعل ذلك، ولا أمكنك من الطلوع إلى هذا السور؛ لأنك إذا مت كنتَ سببًا لموتنا كلنا، ولم يَبْقَ منَّا أحد لأنك أنت دليل القوم. فقال له الشيخ عبد الصمد: لعل ذلك يكون على يدي بمشيئة الله تعالى. فاتفق القوم كلهم على صعوده. ثم إن الشيخ عبد الصمد قام ونشط نفسه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم إنه صعد على السلم وهو يذكر الله تعالى ويقرأ آيات النجاة، إلى أن بلغ أعلى السور، ثم إنه صفَّقَ بيدَيْه وشخص ببصره، فصاح عليه القوم جميعًا وقالوا: أيها الشيخ عبد الصمد، لا تفعل ولا تُلْقِ نفسك. وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن وقع الشيخ عبد الصمد هلكنا بأجمعنا. ثم إن الشيخ عبد الصمد ضحك ضحكًا زائدًا، وجلس ساعة طويلة يذكر الله تعالى ويتلو آيات النجاة، ثم إنه قام على حيله، ونادى بأعلى صوته: أيها الأمير، لا بأسَ عليكم، فقد صرف الله عزَّ وجل عني كيدَ الشيطان ومكره، ببركة بسم الله الرحمن الرحيم. فقال له الأمير: ما رأيتَ أيها الشيخ؟ قال: لما حصلت أعلى السور رأيتُ عشرَ جوارٍ كأنهن الأقمار، وهنَّ ينادين … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.