فلما كانت الليلة ٥٧٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد قال: لما حصلت أعلى السور رأيت عشرَ جوارٍ كأنهن الأقمار، وهنَّ يُشِرْنَ بأيديهن أن تعال إلينا، وتخيَّلَ لي أن تحتي بحرًا من الماء، فأردتُ أن أُلقِي نفسي كما فعل أصحابنا، فرأيتهم موتى، فتماسكتُ عنهم، وتلوتُ شيئًا من كتاب الله تعالى، فصرف الله عني كيدهن، وانصرفن عني، فلم أرمِ نفسي، وردَّ الله عني كيدهن وسحرهن، ولا شك أن هذا سحر ومكيدة صنعها أهل تلك المدينة ليردوا عنها كلَّ مَن أراد أن يشرف عليها، ويروم الوصول إليها، وهؤلاء أصحابنا مطروحون موتى. ثم إنه مشى على السور إلى أن وصل إلى البرجين النحاس، فرأى لهما بابين من الذهب ولا قفل عليهما، وليس فيهما علامة للفتح، ثم وقف الشيخ ما شاء الله وتأمَّلَ فرأى في وسط الباب صورة فارس من نحاس له كف ممدود كأنه يشير به، وفيه خط مكتوب، فقرأه الشيخ عبد الصمد فإذا فيه: افرك المسمار الذي في سرَّة الفارس اثنتي عشرة فركة؛ فإن الباب ينفتح. فتأمَّلَ الفارس فإذا في سرته مسمار محكم متقن مكين، ففركه اثنتي عشرة فركة فانفتح الباب في الحال، وله صوت كالرعد، فدخل منه الشيخ عبد الصمد، وكان رجلًا فاضلًا عالمًا بجميع اللغات والأقلام، فمشى إلى أن دخل دهليزًا طويلًا نزل منه على درجات، فوجد مكانًا بدكك حسنة، وعليها أقوام موتى، وفوق رءوسهم التروس المكلفة والحسامات المرهفة، والقسي الموترة، والسهام المفوقة، وخلف الباب عمود من حديد، ومتاريس من خشب، وأقفال رقيقة، وآلات محكمة، فقال الشيخ عبد الصمد في نفسه: لعل المفاتيح عند هؤلاء القوم. ثم نظر بعينه وإذا هو بشيخ يظهر أنه أكبرهم سنًّا وهو على دكة عالية بين القوم الموتى، فقال الشيخ عبد الصمد: وما يدريك أن تكون مفاتيح هذه المدينة مع هذا الشيخ؟ ولعله بوَّاب المدينة وهؤلاء من تحت يده. فدنا منه ورفع ثيابه، وإذا بالمفاتيح معلَّقة في وسطه، فلما رآها الشيخ عبد الصمد فرح فرحًا شديدًا، وقد كاد عقله أن يطير من الفرحة.
ثم إن الشيخ عبد الصمد أخذ المفاتيح ودنا من الباب وفتح الأقفال وجذب الباب والمتاريس والآلات، فانفتحت وانفتح الباب بصوت كالرعد لكبره وهوله وعظم آلاته، فعند ذلك كبَّرَ الشيخ وكبَّرَ القوم معه، واستبشروا وفرحوا، وفرح الأمير موسى بسلامة الشيخ عبد الصمد، وفتح باب المدينة، وقد شكره القوم على ما فعله، فبادر العسكر كلهم بالدخول من الباب، فصاح عليهم الأمير موسى وقال لهم: يا قوم، لا نأمن إذا دخلنا من أمر يحدث، ولكن يدخل النصف ويتأخر النصف. ثم إن الأمير موسى دخل من الباب ومعه نصف القوم وهم حاملون آلات الحرب، فنظر القوم إلى أصحابهم وهم ميتون فدفنوهم، ورأوا البوَّابين والخدم والحجاب والنواب راقدين فوق الفراش الحرير موتى كلهم، ودخلوا إلى سوق المدينة فنظروا سوقًا عظيمة عالية الأبنية لا يخرج بعضها عن بعض، والدكاكين مفتَّحة والموازين معلَّقة، والنحاس مصفوفًا، والخانات ملآنة من جميع البضائع، ورأوا التجَّار موتى على دكاكينهم، وقد يبست منهم الجلود، ونخرت منهم العظام، وصاروا عبرةً لمَن اعتبر. ونظروا إلى أربعة أسواق مستقلات دكاكينها مملوءة بالمال، فتركوها ومضوا إلى سوق الخز، وإذا فيها من الحرير والديباج ما هو منسوج بالذهب الأحمر والفضة البيضاء على اختلاف الألوان، وأصحابه موتى رقود على أنطاع الأديم، يكادون أن ينطقوا، فتركوهم ومضوا إلى سوق الجواهر واللؤلؤ والياقوت، فتركوها ومضوا إلى سوق الصيارف، فوجدهم موتى وتحتهم أنواع الحرير والإبريسم، ودكاكينهم مملوءة من الذهب والفضة، فتركوهم ومضوا إلى سوق العطارين، فإذا دكاكينهم مملوءة بأنواع العطريات، ونوافح المسك والعنبر والعود والند والكافور وغير ذلك، وأهلها كلهم موتى، ولم يكن عندهم شيء من المأكول، فلما طلعوا من سوق العطارين وجدوا قريبًا منه قصرًا مزخرفًا مبنيًّا متقنًا، فدخلوه فوجدوا أعلامًا منشورة وسيوفًا مجردة وقسيًّا موترة، وتروسًا معلَّقة بسلاسل من الذهب والفضة، وخوذًا مطلية بالذهب الأحمر، وفي دهاليز ذلك القصر دكك من العاج المصفَّح بالذهب الوهَّاج والإبريسم، وعليها رجال قد يبست منهم الجلود على العظام، يحسبهم الجاهل نيامًا، ولكنهم من عدم القوت ماتوا وذاقوا الحِمام، فعند ذلك وقف الأمير موسى يسبِّح الله تعالى ويقدِّسه، وينظر إلى حُسْن ذلك القصر، ومحكم بنائه، وعجيب صنعه بأحسن صفة وأتقن هندسة، وأكثر نقشه باللازورد الأخضر، مكتوب على دائره هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى حتى غُشِي عليه، وأمر بكتابة هذا الشعر، ودخل القصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.