فلما كانت الليلة ٥٧٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما رأى هذه الجارية تعجَّبَ غاية العجب من جمالها، وتحيَّرَ من حُسْنها وحُمْرَة خدَّيْها وسواد شعرها، يظن الناظر أنها بالحياة ولم تكن ميتة. فقالوا لها: السلام عليك أيتها الجارية. فقال له طالب بن سهل: أصلَحَ الله شأنك، اعلم أن هذه الجارية ميتة لا روحَ فيها، فمن أين لها أن تردَّ السلامَ؟ ثم إن طالب بن سهل قال له: أيها الأمير، إنها صورة مدبَّرة بالحكمة، وقد قُلِعت عيناها بعد موتها وجُعِل تحتهما زئبق وأُعِيدتا مكانهما، فهما يلمعان كأنهما يحركهما الهدب، يُخيَّل للناظر أنها ترمش بعينيها وهي ميتة. فقال الأمير موسى: سبحان الله الذي قهر العباد بالموت.
وأما السرير الذي عليه الجارية فله درج، وعلى الدرج عبدان أحدهما أبيض والآخَر أسود، وبيد أحدهما آلة من البولاد، وبيد الآخر سيف مجوهر يخطف الأبصار، وبين يدي العبدين لوح من ذهب، وفيه كتابة تُقرَأ وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خالق الإنسان وهو رب الأرباب، ومسبِّب الأسباب، باسم الله الباقي السرمدي، باسم الله مقدِّر القضاء والقدر. ويا ابن آدم ما أجهلك بطول الأمل، وما أسهاك عن حلول الأجل، أَمَا علمتَ أن الموت لك قد دعاك، وإلى قبض روحك قد سعى؟ فكُنْ على أهبة الرحيل، وتزوَّدْ من الدنيا فستفارقها عن قليل، أين آدم أبو البشر؟ أين نوح وما نسل؟ أين الملوك الأكاسرة والقياصرة؟ أين ملوك الهند والعراق؟ أين ملوك الآفاق؟ أين العمالقة؟ أين الجبابرة؟ خلت منهم الديار وقد فارقوا الأهل والأوطان. أين ملوك العجم والعرب؟ ماتوا بأجمعهم وصاروا أممًا. أين السادة ذوو الرتب؟ قد ماتوا جميعًا. أين قارون وهامان؟ أين شداد بن عاد؟ أين كنعان وذو الأوتاد؟ قرضهم والله قارض الأعمار وأخلى منهم الديار، فهل قدَّموا الزاد ليوم المعاد، واستعدُّوا لجواب رب العباد؟ يا هذا إن كنت لا تعرفني، فأنا أعرِّفك باسمي ونسبي، أنا ترمز ابن بنت عمالقة الملوك، من الذين عدلوا في البلاد، ملكت ما لم يملكه أحد من الملوك، وأعدلت في القضية، وأنصفت بين الرعية، وأعطيت ووهبت، وقد عشت زمانًا طويلًا في سرور وعيش رغيد، وأعتقتُ الجواري والعبيد، حتى نزل بي طارق المنايا، وحلَّتْ بين يدي الرزايا، وذلك أنه قد تواترت علينا سبع سنين لم ينزل علينا ماء من السماء، ولا نبت لنا عشب على وجه الأرض، فأكلنا ما كان عندنا من القوت، ثم عطفنا على المواشي من الدواب، فأكلناها ولم يَبْقَ شيء، فحينئذٍ أحضرت المال واكتلته بمكيال وبعثته مع الثقات من الرجال، فطافوا به جميع الأقطار، ولم يتركوا مصرًا من الأمصار في طلب شيء من القوت فلم يجدوه، ثم عادوا إلينا بالمال بعد طول الغيبة، فحينئذٍ أظهرنا أموالنا وذخائرنا، وأغلقنا أبواب الحصون التي بمدينتنا وسلَّمْنا لحكم ربنا، وفوَّضْنا أمرنا لمالكنا، فمتنا جميعًا كما ترانا، وتركنا ما عمَّرْنا وما ادَّخَرْنا، فهذا هو الخبر، وما بعد العين إلا الأثر.» وقد نظروا في أسفل اللوح فرأوا مكتوبًا فيه هذه الأبيات:
فبكى الأمير موسى لما سمع هذا الكلام: «والله إن التقوى هي رأس الأمور والتحقيق والركن الوثيق، وإن الموت هو الحق المبين والوعد اليقين، وفيه يا هذا المرجع والمآب، واعتبِرْ بمَن سلف قبلك في التراب، وبادِرْ إلى سبيل المعاد، أَمَا ترى الشيب إلى القبر دعاك، وبياض شعرك على نفسك قد نعاك؟ فكن على يقظة الرحيل والحساب. يا ابن آدم، ما أقسى قلبك! فما غرك بربك؟ أين الأمم السالفة؟ العبرة لمَن يعتبر، أين ملوك الصين أهل البأس والتمكين؟ أين عاد؟ أين شدَّاد وما بنى وعمَّر؟ أين النمرود الذي طغى وتجبَّر؟ أين فرعون الذي جحد وكفر؟ كلهم قهرهم الموت على الأثر، فما أبقى صغيرًا ولا كبيرًا، ولا أنثى ولا ذكرًا، قرضهم قارضُ الأعمار، ومكورُ الليل على النهار. اعلم أيها الواصل إلى هذا المكان ممَّنْ رآنا أنه لا يُغتَرُّ بشيء من الدنيا وحطامها؛ فإنها غدارة مكارة، دار بوار وغرور، فطوبى لعبدٍ ذكر ذنبَه وخشي ربه وأحسن المعاملة، وقدم الزاد ليوم المعاد، فمَن وصل إلى مدينتنا ودخلها وسهَّلَ الله عليه دخولها، فَلْيأخذ من المال ما يقدر عليه، ولا يمس من فوق جسدي شيئًا؛ فإنه ستر لعورتي وجهازي من الدنيا، فَلْيتقِّ الله ولا يسلب منه شيئًا فيهلك نفسه. وقد جعلت ذلك نصيحة مني إليه، وأمانة مني لديه والسلام، فأسأل الله أن يكفيكم شر البلايا والسقام.» وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.