فلما كانت الليلة ٥٧٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما سمع هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، فلما أفاق كتب جميع ما رآه واعتبر بما شاهده، ثم قال لأصحابه: ائتوا بالأعدال واملئُوها من هذه الأموال وهذه الأواني والتحف والجواهر. فقال طالب بن سهل للأمير موسى: أيها الأمير، أنترك هذه الجارية بما عليها وهو شيء لا نظير له، ولا يوجد في وقت مثله، وهو أوفى ما أخذت من الأموال، وأحسن هدية تتقرَّب بها إلى أمير المؤمنين. فقال الأمير موسى: يا هذا، أَلَمْ تسمع ما أوصت به الجارية في هذا اللوح، لا سيما وقد جعلته أمانة، وما نحن من أهل الخيانة. فقال الوزير طالب: وهل لأجل هذه الكلمات نترك هذه الأموال وهذه الجواهر وهي ميتة؟ فما تصنع بهذا وهو زينة الدنيا وجمال الأحياء؟ وثوب من القطن تستر به هذه الجارية ونحن أحق به منها. ثم دنا من السلم وصعد على الدرج حتى صار بين العمودين، وحصل بين الشخصين، وإذا بأحد الشخصين ضربه في ظهره، وضربه الآخر بالسيف الذي في يده، فرمى رأسه ووقع ميتًا، فقال الأمير موسى: لا رحم الله لك مضجعًا، لقد كان في هذه الأموال ما فيه كفاية، والطمع لا شك يزري بصاحبه. ثم أمر بدخول العساكر، فدخلوا وحملوا الجمال من تلك الأموال والمعادن، ثم إن الأمير موسى أمرهم أن يغلقوا الباب كما كان.
ثم ساروا على الساحل حتى أشرفوا على جبلٍ عالٍ مشرف على البحر، وفيه مغارات كثيرة، وإذا فيها قوم من السودان وعليهم نطوع، وعلى رءوسهم برانس من نطوع، لا يُعرَف كلامهم، فلما رأوا العسكر أجفلوا منهم وولوا هاربين إلى تلك المغارات ونساؤهم وأولادهم على أبواب المغارات، فقال الأمير موسى: يا شيخ عبد الصمد، ما هؤلاء القوم؟ فقال: هؤلاء طلبة أمير المؤمنين. فنزلوا وضُرِبت الخيام وحطَّتِ الأموال، فما استقر بهم المكان حتى نزل ملك السودان من الجبل، ودنا من العسكر وكان يعرف العربية، فلما وصل إلى الأمير موسى سلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام وأكرمه، فقال ملك السودان للأمير موسى: أنتم من الإنس أم من الجن؟ فقال الأمير موسى: أما نحن فمن الإنس، وأما أنتم فلا شك أنكم من الجن، لانفرادكم في هذا الجبل المنفرد عن الخلق، ولعظم خلقتكم. فقال ملك السودان: بل نحن قوم آدميون من أولاد حام بن نوح عليه السلام، وأما هذا البحر فإنه يُعرَف بالكركر. فقال له الأمير موسى: ومن أين لكم علم ولم يبلغكم نبي أُوحِي إليه في مثل هذه الأرض؟ فقال: اعلم أيها الأمير أنه يظهر لنا من هذا البحر شخص له نور تضيء له الآفاق، فينادي بصوتٍ يسمعه البعيد والقريب: يا أولاد حام، استحوا ممَّن يرى ولا يُرى، وقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا أبو العباس الخضر. وكنا قبل ذلك نعبد بعضنا، فدعانا إلى عبادة رب العباد. ثم قال للأمير موسى: وقد علَّمنا كلمات نقولها. فقال الأمير موسى: وما تلك الكلمات؟ قال: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وما نتقرب إلى الله عز وجل إلا بهذه الكلمات ولا نعرف غيرها، وكل ليلة جمعة نرى نورًا على وجه الأرض ونسمع صوتًا يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كل نعمة من الله فضل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقال له الأمير موسى: نحن أصحاب ملك الإسلام عبد الملك بن مروان، وقد جئنا بسبب القماقم النحاس التي عندكم في بحركم، وفيها الشياطين محبوسة من عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وقد أمر أن نأتيه بشيء منها يبصره ويتفرج عليه. فقال له ملك السودان: حبًّا وكرامةً.
ثم أضافه بلحوم السمك، وأمر الغواصين أن يُخرِجوا من البحر شيئًا من القماقم السليمانية، فأخرجوا لهم اثني عشر قمقمًا؛ ففرح الأمير موسى بها والشيخ عبد الصمد والعساكر لأجل قضاء حاجة أمير المؤمنين. ثم إن الأمير موسى وهب لملك السودان مواهبَ كثيرة، وأعطاه عطايا جزيلة، وكذلك ملك السودان أهدى إلى الأمير موسى هدية من عجائب البحر على صفة الآدميين، وقال: إن ضيافتكم في هذه الثلاثة أيام من لحوم هذا السمك. فقال الأمير موسى: لا بد أن نحمل معنا شيئًا حتى ينظر إليه أمير المؤمنين، فيطمئن خاطره بذلك أكثر من القماقم السليمانية. ثم ودَّعوه وساروا حتى وصلوا إلى بلاد الشام، فدخلوا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فحدَّثه الأمير موسى بجميع ما رآه، وما وقع له من الأشعار والأخبار والمواعظ، وأخبره بخبر طالب بن سهل، فقال له أمير المؤمنين: ليتني كنتُ معكم حتى أعاين ما عاينتم. ثم أخذ القماقم، وجعل يفتح قمقمًا بعد قمقم، والشياطين يخرجون منها ويقولون: التوبة يا نبي الله، وما نعود لمثل ذلك أبدًا. فتعجَّبَ عبد الملك بن مروان من ذلك. وأما بنات البحر التي أضافهم بنوعها ملك السودان، فإنهم صنعوا لها حياضًا من خشب وملئوها ماءً، ووضعوها فيها فماتت من شدة الحر. ثم إن أمير المؤمنين أحضر الأموال، وقسَّمَها بين المسلمين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.