فلما كانت الليلة ٥٧٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لما رأى القماقم وما فيها، تعجَّبَ من ذلك غاية العجب، وأمر بإحضار الأموال وقسَّمَها بين المسلمين وقال: لم يعطِ الله أحدًا مثل ما أعطى سليمان بن داود. ثم إن الأمير موسى سأل أمير المؤمنين أن يستخلف ولده مكانه على بلاده، وهو يتوجَّه إلى القدس الشريف يعبد الله فيه؛ فولَّى أمير المؤمنين ولدَه وتوجَّهَ هو إلى القدس الشريف ومات فيه. وهذا آخِر ما انتهى إلينا من حديث مدينة النحاس على التمام، والله أعلم.
حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة
وقد بلغنا أيضًا أنه في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك من ملوك الزمان كان كثير الجند والأعوان، وصاحب جاهٍ وأموال، ولكنه بلغ من العمر مدةً ولم يُرزَق ولدًا ذكرًا، فلما قلق الملك توسَّلَ بالنبي ﷺ إلى الله تعالى، وسأله بجاه الأنبياء والأولياء والشهداء من عباده المقرَّبين أن يرزقه بولد ذكر حتى يرث المُلْك من بعده، ويكون قرَّة عينه، ثم قام من وقته وساعته ودخل إلى قاعة جلوسه، وأرسل إلى بنت عمه فواصَلَها فصارت حاملة بإذن الله تعالى، فمكثت مدة حتى آن أوان وضعها، فولدت ولدًا ذكرًا وجهه مثل دورة القمر ليلة أربعة عشر، فتربَّى ذلك الغلام إلى أن بلغ من العمر خمس سنين، وكان عند ذلك الملك رجل حكيم من الحكماء الماهرين يُسمَّى السندباد، فسلَّمَ إليه ذلك الغلام، فلما بلغ من العمر عشر سنين علَّمَه الحكمة والأدب إلى أن صار ذلك الولد ليس أحدٌ في هذا الزمان يناظِره في العلم والأدب والفهم. فلما بلغ والده ذلك أحضر له جماعة من فرسان العرب يعلِّمونه الفروسية فمهر فيها، وصال وجال في حومة الميدان إلى أن فاق أهل زمانه وسائر أقرانه؛ ففي بعض الأيام نظر ذلك الحكيم في النجوم فرأى طالع الغلام، وأنه متى عاش سبعة أيام وتكلَّمَ بكلمة واحدة صار فيها هلاكه، فذهب الحكيم إلى الملك والده وأعلمه بالخبر، فقال له والده: فما يكون الرأي والتدبير يا حكيم؟ فقال له الحكيم: أيها الملك، الرأي والتدبير عندي أن تجعله في مكان نزهة وسماع آلات مطربة، يكون فيه إلى أن تمضي السبعة أيام. فأرسل الملك إلى جارية من خواصه، وكانت أحسن الجواري، فسلَّمَ إليها الولد وقال لها: خذي سيدك في القصر واجعليه عندك، ولا ينزل من القصر إلا بعد سبع أيام تمضي. فأخذته الجارية من يده وأجلسته في ذلك القصر.
وكان في القصر أربعون حجرة، وفي كل حجرة عشرُ جوارٍ، وكل جارية معها آلة من آلات الطرب إذا ضربت واحدة منهن يرقص من نغمتها ذلك القصر؛ وحواليه نهر جارٍ مزروع شاطئه بجميع الفواكه والمشموم. وكان ذلك الولد فيه من الحُسْن والجمال ما لا يُوصَف، فبات ليلة واحدة فرأته الجارية محظية والده، فطرق العشق قلبها، فلم تتمالك حتى رمت نفسها عليه، فقال لها الولد: إن شاء الله تعالى حين أخرج عند والدي أخبره بذلك فيقتلك. فتوجهت الجارية إلى الملك، ورمت نفسها عليه بالبكاء والنحيب، فقال لها: ما خبرك يا جارية؟ كيف سيدك أَمَا هو طيب؟ فقالت: يا مولاي، إن سيدي راوَدَني عن نفسي، وأراد قتلي على ذلك، فمنعته وهربت منه، وما بقيت أرجع إليه ولا إلى القصر أبدًا. فلما سمع والده ذلك الكلام حصل له غيظ عظيم، فأحضر عنده الوزراء وأمرهم بقتله، فقالوا لبعضهم: إن الملك صمَّمَ على قتل ولده، وإنْ قتله يندم عليه بعد قتله لا محالةَ؛ فإنه عزيز عنده، وما جاءه هذا الولد إلا بعد اليأس، ثم بعد ذلك يرجع عليكم باللوم، فيقول لكم: لِمَ لم تدبروا لي تدبيرًا يمنعني عن قتله؟ فاتفق رأيهم على أن يدبِّروا له تدبيرًا يمنعه عن قتل ولده، فتقدَّمَ الوزير الأول وقال: أنا أكفيكم شرَّ الملك في هذا اليوم. فقام ومضى إلى أن دخل على الملك وتمثَّلَ بين يديه، ثم استأذنه في الكلام فأذن له، فقال له: أيها الملك، لو قُدِّر أنه كان لك ألف ولد لم تطع نفسك في أن تقتل واحدًا منهم بقول جارية، إما أن تكون صادقة أو كاذبة، ولعل هذه مكيدة منها لولدك. فقال: وهل بلغك شيء من كيدهن أيها الوزير؟ قال: نعم.
حكاية الملك وزوجة وزيره
بلغني أيها الملك أنه كان ملك من ملوك الزمان مغرمًا بحب النساء، فبينما هو مختلٍ في قصره يومًا من الأيام، إذ وقعت عينه على جارية وهي في سطح بيتها، وكانت ذات حُسْن وجمال، فلما رآها لم يتمالك نفسه من المحبة، فسأل عن ذلك البيت، فقالوا له: هذا بيت وزيرك فلان. فقام من ساعته وأرسل إلى الوزير، فلما حضر بين يديه أمره أن يسافر إلى بعض جهات الملكة ليطلع عليها ثم يعود، فسافَرَ الوزير كما أمره الملك، فبعد أن سافَرَ تحايَلَ الملك حتى دخل بيت الوزير، فلما رأته الجارية عرفته، فوثبت قائمة على قدميها وقبَّلَتْ يديه ورجليه ورحَّبَتْ به، ووقفت بعيدًا عنه مشتغلة بخدمته، ثم قالت له: يا مولانا، ما سبب القدوم المبارك، ومثلي لا يكون له ذلك؟ فقال: سببه أن عشقك والشوق إليك أقدماني على ذلك. فقبَّلَتِ الأرض بين يديه ثانيًا وقالت له: يا مولانا، أنا لا أصلح أن أكون جاريةً لبعض خدَّام الملك، فمن أين يكون لي عندك هذا الحظ حتى صرت عندك بهذه المنزلة؟ فمَدَّ الملك يده إليها، فقالت: هذا الأمر لا يفوتنا، ولكن اصبر أيها الملك وأقِمْ عندي هذا اليوم كله حتى أصنع لك شيئًا تأكله. قال: فجلس الملك على مرتبة وزيره، ثم نهضت قائمة، وأتته بكتاب فيه المواعظ والآداب ليقرأ فيه حتى تجهِّز له الطعام، فأخذه الملك وجعل يقرأ فيه، فوجد فيه من المواعظ والحكم ما زجره عن الزنا وكسر همته عن ارتكاب المعاصي.
فلما جهَّزَتْ له الطعام قدَّمته بين يديه، وكانت عدة الصحون تسعين صحنًا، فجعل الملك يأكل من كل صحن ملعقة والطعام أنواع مختلفة وطعمها واحد، فتعجَّبَ الملك من ذلك غاية العجب، ثم قال: أيتها الجارية، أرى هذه الأنواع كثيرة وطعمها واحد! فقالت له الجارية: أسعد الله الملك، هذا مثل ضربته لك لتعتبر به. فقال لها: وما سببه؟ فقالت: أصلح الله حال مولانا الملك، إن في قصرك تسعين محظية مختلفات الألوان وطعمهن واحد. فلما سمع الملك ذلك الكلام خجل منها وقام من وقته، وخرج من المنزل ولم يتعرض لها بسوء، ومن خجلته نسي خاتمه عندها تحت الوسادة، ثم توجَّهَ إلى قصره. فلما جلس الملك في قصره حضر الوزير ذلك الوقت وتقدَّمَ إلى الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه، وأعلمه بحال ما أرسله إليه، ثم سار الوزير إلى أن دخل بيته وقعد على مرتبته، ومدَّ يده تحت الوسادة فلقي خاتم الملك تحتها، فرفعه الوزير وحمله على قلبه، وانعزل عن الجارية مدة سنة كاملة ولم يكلمها وهي لا تعلم ما سبب غيظه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.