فلما كانت الليلة ٥٨٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الولد لما أذهب المال الذي خلفه له أبوه ولم يَبْقَ منه شيء، رجع إلى بيع العبيد والجواري والأملاك، وأنفق جميع ما كان عنده من مال أبيه وغيره، فافتقر حتى صار يشتغل مع الفَعَلَة، فمكث على ذلك مدة سنة. فبينما هو جالس يومًا من الأيام تحت حائط ينتظر مَن يستأجره، وإذا هو برجل حسن الوجه والثياب قد دَنَا من الشاب وسلَّمَ عليه، فقال له الولد: يا عم، هل أنت تعرفني قبل الآن؟ فقال له: لم أعرفك يا ولدي أصلًا، بل أرى آثارَ النعمة عليك وأنت في هذه الحالة. فقال له: يا عم، نفذ القضاء والقدر، فهل لك يا عم يا صبيح الوجه من حاجة تستخدمني فيها؟ فقال له: يا ولدي، أريد أن أستخدمك في شيء يسير. قال له الشاب: وما هو يا عم؟ فقال له: عندي عشرة من الشيوخ في دار واحدة، وليس عندنا مَن يقضي حاجتنا، ولك عندنا من المأكل والملبس ما يكفيك، فتقوم بخدمتنا، ولك عندنا ما يصل إليك من الخير والدراهم، ولعل الله يرد عليك نعمتك بسببنا. فقال له الشاب: سمعًا وطاعة. ثم قال له الشيخ: لي عليك شرط. فقال له الشاب: وما هو شرطك يا عم؟ قال له: يا ولدي أن تكون كاتمًا لسرنا فيما ترانا عليه، وإذا رأيتنا نبكي فلا تسألنا عن سبب بكائنا. فقال له الشاب: نعم يا عم. فقال له الشيخ: يا ولدي، سِرْ بنا على بركة الله تعالى. فقام الشاب خلف الشيخ إلى أن أوصله إلى الحمام فأدخله فيه، وأزال عن بدنه ما عليه من القشف، ثم أرسل الشيخ رجلًا فأتى له بحلة حسنة من القماش فألبسه إياها، ومضى به إلى منزله عند جماعته، فلما دخل الشاب وجدها دارًا عالية البنيان، مشيدة الأركان، واسعة بمجالس متقابلة وقاعات، في كل قاعةٍ فسقيةٌ من الماء عليها طيور تغرد، وشبابيك تطل من كل جهة على بستان حسن في تلك الدار، فأدخله الشيخ في أحد المجالس فوجده منقوشًا بالرخام الملون، ووجد سقفه منقوشًا باللازورد والذهب الوهَّاج، وهو مفروش ببسط الحرير، ووجد فيه عشرة من الشيوخ قاعدين متقابلين، وهم لابسون ثياب الحزن يبكون وينتحبون، فتعجَّبَ الشاب من أمرهم وهَمَّ أن يسأل الشيخ، فتذكَّر الشرط فمنع لسانه.
ثم إن الشيخ سلَّمَ إلى الشاب صندوقًا فيه ثلاثون ألف دينار، وقال له: يا ولدي أنفق علينا من هذا الصندوق وعلى نفسك بالمعروف، وأنت أمين، واحفظ ما استودعتك فيه. فقال الشاب: سمعًا وطاعةً. ولم يزل الشاب ينفق عليهم مدة أيام وليالٍ، ثم مات واحد منهم فأخذه أصحابه وغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه في روضة خلف الدار، ولم يزل الموت يأخذ منهم واحدًا بعد واحد إلى أن بقي الشيخ الذي استخدم الشاب، فاستمر هو والشاب في تلك الدار وليس معهما ثالث، وأقاما على ذلك مدة من السنين. ثم مرض الشيخ، فلما يئس الشاب من حياته أقبل عليه وتوجَّعَ له، ثم قال له: يا عم، أنا خدمتكم ولا كنت أقصِّر في خدمتكم ساعةً واحدة مدة اثنتي عشرة سنة، وإنما أنصح لكم وأخدمكم بجهدي وطاقتي. فقال له الشيخ: نعم يا ولدي، خدمتنا إلى أن توفيت هذه المشايخ إلى الله عز وجل، ولا بد لنا من الموت. فقال الشاب: يا سيدي، أنت على خطر وأريد منك أن تُعلِمني ما سبب بكائكم، ودوام انتحابكم وحزنكم وتحسركم؟ فقال له: يا ولدي، ما لك بذلك من حاجة، ولا تكلِّفني ما لا أطيق، فإني سألتُ الله تعالى ألَّا يبلي أحدًا ببليتي، فإن أردتَ أن تسلم مما وقعنا فيه فلا تفتح ذلك الباب — وأشار إليه بيده، وحذَّره منه — وإن أردتَ أن يصيبك ما أصابنا فافتحه؛ فإنك تعلم سببَ ما رأيتَ منَّا، لكونك تندم حيث لا ينفعك الندم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.