فلما كانت الليلة ٥٩٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمر زوجته أن تعذب الحارسة بالنار والضرب الشديد، عذَّبتها بأنواع العذاب، فلم تقرَّ بشيء، ولم تتهم أحدًا، فبعد ذلك أمر بسجنها وأن يجعلوها في القيود فحُبِست، ثم إن الملك جلس يومًا من الأيام في وسط القصر والماء محدِّق به وزوجته بجانبه، فوقعت عينه على طير وهو يسحب ذلك العقد من شق من زوايا القصر، فصاح على جارية عنده فأدركت ذلك الطير وأخذت العقد منه، فعلم الملك أن الحارسة مظلومة، فندم على ما فعل معها، وأمر بإحضارها، فلما حضرت أخذ يقبِّل رأسها، ثم صار يبكي ويستغفر ويتندَّم على ما فعل معها، ثم أمر لها بمالٍ جزيلٍ، فأَبَتْ أن تأخذه، ثم سامحته وانصرفت من عنده، وأقسمت على نفسها أنها لن تدخل منزل أحد، وساحت في الجبال والأودية، وصارت تعبد الله تعالى إلى أن ماتَتْ.
حكاية الحمامتين
وبلغني أيضًا أيها الملك من كيد الرجال أن حمامتين ذكرًا وأنثى جمعا قمحًا وشعيرًا في عشهما أيام الشتاء، فلما كان في زمن الصيف ضمر الحب ونقص، فقال الذكر للأنثى: أنتِ أكلتِ ذلك الحب. فصارت تقول: لا والله ما أكلت منه شيئًا. فلم يصدقها على ذلك وضربها بأجنحته ونقرها بمنقاره إلى أن قتلها. فلما كان زمن البرد عاد الحب كما كان على حاله، فعلم الذكر أنه قتل زوجته ظلمًا وعدوانًا، وندم حيث لا ينفعه الندم، فنام في جانبها ينوح عليها ويبكي تأسُّفًا، وامتنع من الأكل والشرب وضعف ولم يزل ضعيفًا إلى أن مات.
حكاية الأمير بهرام وجارية الملك الدتما
وبلغني أيضًا من كيد الرجال والنساء حكاية أعجب من هؤلاء كلهم. فقال لها الملك: هاتِ ما معك. فقالت: اعلم أيها الملك أن جارية من جواري الملك ليس لها نظير في زمانها في الحُسْن والجمال، والقَدِّ والاعتدال، والبهاء والدلال، والأخذ بعقول الرجال، وكانت تقول: ليس لي نظير في زماني. وكان جميع أولاد الملوك يخطبونها فلم ترضَ أن تأخذ واحدًا منهم، وكان اسمها الدتما. وكانت تقول: لا يتزوجني إلا مَن يقهرني في حومة الميدان والضرب والطعان، فإن غلبني أحد تزوَّجْتُه بطيب قلبي، وإن غلبتُه أخذت فرسه وسلاحه وثيابه، وكتبت على جبهته: هذا عتيق فلانة. وكان أبناء الملوك يأتون إليها من كل مكان بعيد وقريب، وهي تغلبهم وتعيبهم، وتأخذ أسلحتهم وتسمهم بالنار؛ فسمع بها ابن ملك من ملوك العجم يقال له بهرام، فقصدها من مسافة بعيدة، واستصحب معه مالًا وخيلًا ورجالًا، وذخائرَ من ذخائر الملوك حتى وصل إليها، فلما حضر عندها أرسل إلى والدها هدية سنية، فأقبل عليه الملك وأكرمه غاية الإكرام. ثم إنه أرسل إليه مع وزرائه أنه يريد أن يخطب بنته، فأرسل إليه والدها وقال له: يا ولدي، أما ابنتي الدتما فليس لي عليها حكم؛ لأنها أقسمَتْ على نفسها أنها لا تتزوج إلا مَن يقهرها في حومة الميدان. فقال له ابن الملك: وأنا ما سافرت من مدينتي إلا على هذا الشرط. فقال له الملك: في غدٍ تلتقي معها.
فلما جاء الغد أرسل والدها إليها واستأذنها، فلما سمعت تأهَّبَتْ للحرب ولبست آلة حربها، وخرجت إلى الميدان فخرج ابن الملك إلى لقائها وعزم على حربها، فتسامعت الناس بذلك، فأتت من كل مكان، فحضروا في ذلك اليوم، وخرجت الدتما وقد لبست وتمنطقت وتنقبت، فبرز لها ابن الملك وهو في أحسن حالةٍ وأتقن آلةٍ من آلات الحرب، وأكمل عدة، فحمل كلُّ واحد منهما على الآخر، ثم تجاولا طويلًا واعتركا مليًّا، فنظرت منه من الشجاعة والفروسية ما لم تنظره من غيره، فخافت على نفسها أن يخجلها بين الحاضرين، وعلمت أنه لا محالةَ غالبها، فأرادت مكيدته وعملت له الحيلة، فكشفت عن وجهها، وإذا هو ضوء من البدر؛ فلما نظر إليها ابن الملك اندهش فيه وضعفت قوته وبطلت عزيمته، فلما نظرت ذلك منه حملت عليه واقتلعته من سرجه، وصار في يدها مثل العصفور في مخلب العقاب، وهو ذاهل في صورتها لا يدري ما يُفعَل به، فأخذت جواده وسلاحه وثيابه، ووسمته بالنار، وأطلقت سبيله. فلما أفاق من غشيته مكث أيامًا لا يأكل ولا يشرب ولا ينام من القهر، وتمكَّنَ حب الجارية في قلبه، فصرف عبيده إلى والده، وكتب له كتابًا أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده حتى يظفر بحاجته أو يموت دونها. فلما وصلت المكاتبة إلى والده حزن عليه، وأراد أن يبعث إليه بالجيوش والعساكر، فمنعه الوزراء من ذلك وصبَّروه.
ثم إن ابن الملك استعمل في حصول غرضه الحيلة، فجعل نفسه شيخًا هَرِمًا، وقصد بستان بنت الملك؛ لأنها كانت أكثرَ أيامها تدخل فيه، فاجتمع ابن الملك بالخولي وقال له: إنني رجل غريب من بلاد بعيدة، وكنت مدة شبابي خولي وإلى الآن أُحسِنُ الفلاحة وحفظ النبات والمشموم ولا يُحسِنه أحد غيري. فلما سمعه الخولي فرح به غاية الفرح، فأدخله البستان ووصى عليه جماعة، فأخذ في الخدمة وتربية الأشجار، والنظر في مصالح أثمارها، فبينما هو كذلك يومًا من الأيام وإذا بالعبيد قد دخلوا البستان ومعهم البغال عليها الفرش والأواني، فسأل عن ذلك فقالوا له: إن بنت الملك تريد أن تتفرج على ذلك البستان. فمضى وأخذ الحلي والحلل التي كانت معه من بلاده وجاء بها إلى البستان، وقعد فيه، ووضع قدامه شيئًا من تلك الذخائر، وصار يرتعش ويُظهِر أن ذلك من الهِرَم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.