فلما كانت الليلة ٥٩٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك قال لأبيه: لا بد من السفر والوصول إلى بغداد. فلما تحقَّقَ منه ذلك جهَّزَ له متجرًا بثلاثين ألف دينار، وسفَّرَه مع التجار الذين يثق بهم، ووصَّى عليه التجار. ثم إن والده ودَّعه ورجع إلى منزله، وما زال الولد مسافرًا مع رفقائه التجار إلى أن وصلوا إلى مدينة بغداد دار السلام، فلما بلغوها دخل الولد سوقها واكترى له دارًا حسنة مليحة أذهلت عقله، وأدهشت ناظره، فيها الطيور تغرد، والمجالس يقابل بعضها بعضًا، وأرضها مرخمة بالرخام الملون، وسقوفها مذهَّبة باللازورد المعدني، فسأل البواب عن مقدار أجرتها كم في الشهر؟ فقال له: عشرة دنانير. فقال له الولد: هل أنت تقول حقًّا أو تهزأ بي؟ فقال له البواب: والله لا أقول إلا حقًّا، فإن كل مَن سكن هذه الدار لا يسكنها إلا جمعة أو جمعتين. فقال له الولد: وما السبب في ذلك؟ فقال له: يا ولدي، كلُّ مَن سكنها لا يخرج منها إلى مريضًا أو ميتًا، وقد اشتهرت هذه الدار بهذه الأشياء عند جميع الناس، فلم يقدم أحد على سكناها، وقد قلَّتْ أجرتها لهذا القدر.
فلما سمع الولد ذلك تعجَّبَ منه غاية العجب وقال: لا بد أن يكون لهذه الدار سببٌ من الأسباب حتى يحصل فيها ذلك المرض أو الموت. ثم تفكَّرَ الولد في نفسه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأزال ذلك الوهم من خاطره، وسكنها وباع واشترى، ومضى عليه مدة أيام وهو مقيم في الدار ولم يُصِبْه شيء مما قاله ذلك البواب. فبينما هو جالس يومًا من الأيام على باب الدار، إذ مرت عليه عجوز شمطاء كأنها الحية الرقطاء، وهي تُكثِر من التسبيح والتقديس، وتزيل الحجارة والأذى من الطريق، فرأت الولد جالسًا على الباب، فنظرت إليه وتعجبت من أمره، فقال لها الولد: يا امرأة، هل تعرفينني أو تشبِّهين عليَّ؟ فلما سمعت كلامه هرولت إليه وسلَّمَتْ عليه، وقالت له: كم لك ساكنًا في هذه الدار؟ فقال لها: يا أمي مدة شهرين. فقالت: من هذا تعجَّبْتُ، وأنا يا ولدي لا أعرفك ولا تعرفني ولا شبَّهْتُ عليك، بل إني تعجبت من أنه لا أحد غيرك يسكنها إلا ويخرج منها ميتًا أو مريضًا، وما أشك في أنك يا ولدي مُخاطِرٌ بشبابك، هل لا طلعت القصر ولا نظرت من المنظرة التي فيه؟ ثم إن العجوز مضت إلى حال سبيلها، فلما فارقته العجوز صار الولد متفكرًا في كلامها، وقال في نفسه: أنا ما طلعتُ أعلى القصر ولا أعلم أن به منظرة. ثم دخل من وقته وساعته وجعل يطوف في أركان البيت حتى رأى في ركن منها بابًا لطيفًا معشِّشًا عليه العنكبوت بين الأشجار، فلما رآه الولد قال في نفسه: لعل العنكبوت ما عشَّشَ على هذا الباب إلا لأن المنية داخله. فتمسَّكَ بقول الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، ثم فتح ذلك الباب وطلع في سلم لطيف حتى وصل إلى أعلاه، فرأى منظرة، فجلس فيها يستريح ويتفرج، فنظر إلى موضع لطيف نظيف بأعلاه مقعد منيف يشرف على جميع بغداد، وفي ذلك المقعد جارية كأنها حورية، فأخذت بمجامع قلبه، وذهبت بعقله ولبه، وأورثته صبر أيوب وحزن يعقوب، فلما نظرها الولد وتأمَّلَها بالتحقيق قال في نفسه: لعل الناس يذكرون أنه لا يسكن هذه الدار واحد إلا مات أو مرض بسبب هذه الجارية، فيا ليت شعري كيف يكون خلاصي؟ فقد ذهب عقلي.
ثم نزل من أعلى القصر متفكرًا في أمره، فجلس في الدار فلم يستقر له قرار حتى خرج وجلس على الباب متحيرًا في أمره، وإذا بالعجوز ماشية وهي تذكر وتسبِّح في الطريق، فلما رآها الولد قام واقفًا على قدميه، وبدأها بالسلام والتحية، وقال لها: يا أمي، كنتُ بخير وعافية حتى أشرتِ عليَّ بفتح الباب، فرأيت المنظرة وفتحتها ونظرت من أعلاها فرأيت ما أدهشني، والآن أظن أني هالك، وأنا أعلم أنه ليس لي طبيب غيرك. فلما سمعته ضحكت وقالت له: لا بأس عليك إن شاء الله تعالى. فلما كلمته بذلك الكلام قام الولد ودخل الدار وخرج لها وفي كمه مائة دينار، وقال لها: خذيها يا أمي وعامليني معاملة السادات للعبيد، وبالعجل أدركيني، وإذا مت فأنت المطالبة بدمي يوم القيامة. فقالت له العجوز: حبًّا وكرامةً، وإنما أريد منك يا ولدي أن تساعدني بمعونة لطيفة فيها تبلغ مرادك. فقال لها: وما تريدين يا أمي؟ فقالت: أريد منك أن تعينني وتروح إلى سوق الحرير، وتسأل عن دكان أبي الفتح بن قيدام، فإذا دلوك عليه فاقعد على دكانه وسلِّم عليه، وقل له: أعطني القناع الذي عندك مرسومًا بالذهب. فإنه ما عنده في دكانه أحسن منه، فاشتَرِه منه يا ولدي بأغلى ثمن، واجعله عندك حتى أحضر إليك في غدٍ إن شاء الله تعالى.
ثم إن العجوز انصرفت وبات الولد تلك الليلة يتقلَّب على جمر الغضا، فلما أصبح الصباح أخذ الولد في جيبه ألف دينار وذهب بها إلى سوق الحرير وسأل عن دكان أبي الفتح، فأخبره به رجل من التجار، فلما وصل إليه رأى بين يديه غلمانًا وخدمًا وحشمًا، ورأى عليه وقارًا وهو في سعة مال، ومن تمام نعمته تلك الجارية التي ما مثلها عند أبناء الملوك. ثم إن الولد لما نظره سلَّمَ عليه، فردَّ عليه السلام، ثم أمره بالجلوس فجلس عنده، فقال له الولد: يا أيها التاجر، أريد منك القناع الفلاني لأنظره. فأمر التاجر العبد أن يأتيه بربطة من الحرير من صدر الدكان، فأتاه بها ففتحها، وأخرج منها عدة قناعات، فتحيَّرَ الولد من حُسْنها وأرى ذلك القناع بعينه، فاشتراه من التاجر بخمسين دينارًا، وانصرف به مسرورًا إلى داره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.