فلما كانت الليلة ٦٠٣
حكاية اللبن المسموم
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد لما قال لابن الملك: ردَّ الجواب يا ولدي. قال ابن الملك: إني سمعت أن رجلًا من التجار حلَّ به ضيف في منزله، فأرسل جاريته لتشتري له من السوق لبنًا في جرة، فأخذت اللبن في جرتها، وطلبت الرجوع إلى منزل سيدها، فبينما هي في الطريق إذ مرت عليها حدأة طائرة وفي مخلبها حية تعصرها به، فقطرت نقطة من الحية في الجرة، وليس عند الجارية خبر بذلك، فلما وصلت إلى المنزل أخذ السيد منها اللبن وشرب منه هو وضيوفه، فما استقر اللبن في جوفهم حتى ماتوا جميعًا؛ فانظر أيها الملك لمَن كان الذنب في هذه القضية؟ فقال أحد الحاضرين: الذنب للجماعة الذين شربوا. وقال آخَر: الذنب للجارية التي تركت الجرة مكشوفة من غير غطاء. فقال السندباد مؤدب الغلام: ما تقول أنت في ذلك يا ولدي؟ فقال ابن الملك: أقول إن القوم أخطئوا، ليس الذنب للجارية ولا للجماعة، وإنما آجال القوم فرغت مع أرزاقهم، وقدرت ميتتهم بسبب ذلك الأمر. فلما سمع الحاضرون تعجَّبوا منه غاية العجب، ورفعوا أصواتهم بالدعاء لابن الملك، وقالوا له: يا مولانا، قد تكلمت بجواب ليس له نظير، وأنت عالم أهل زمانك الآن. فلما سمعهم ابن الملك قال لهم: إني لست بعالم، وإن الشيخ الأعمى وابن الثلاث سنين، وابن الخمس سنين أعلم مني. فقال له الجماعة الحاضرون: حدِّثنا بحديث هؤلاء الثلاثة الذين هم أعلم منك يا غلام.
حكاية الأعمى وابن ثلاث وخمس سنين
فقال لهم ابن الملك: بلغني أنه كان تاجر من التجار كثير الأموال والأسفار إلى جميع البلدان، فأراد المسير على بعض البلدان، فسأل مَن جاء منها وقال لهم: أي بضاعة فيها كثيرة المكسب؟ فقالوا له: حطب الصندل، فإنه فيها يباع غاليًا. فاشترى التاجر بجميع ما عنده من المال حطب صندل، وسافر إلى تلك المدينة، فلما وصل إليها كان قدومه إليها آخر النهار، وإذا بعجوز تسوق غنمًا لها، فلما رأت التاجر قالت له: مَن أنت أيها الرجل؟ فقال لها: أنا رجل تاجر غريب. فقالت له: احذر من أهل البلد، فإنهم قوم مكَّارون لصوص، وإنهم يخدعون الغريب ليظفروا به ويأكلوا ما كان معه، وقد نصحتك. ثم فارقته، فلما أصبح الصباح تلقاه رجل من أهل المدينة، فسلَّمَ عليه وقال له: يا سيدي، من أين قدمت؟ فقال له: قدمت من البلد الفلانية. قال له: ما حملت معك من التجارة؟ قال له: خشب صندل، فإني سمعت أن له قيمة عندكم. فقال له الرجل: لقد أخطأ مَن أشار عليك بذلك؛ فإننا لم نوقد تحت القدر إلا بذلك الحطب الصندل، فقيمته عندنا هو والحطب سواء.
فلما سمع التاجر كلام الرجل تأسَّفَ وندم وصار بين مصدِّق ومكذِّب، ثم نزل ذلك التاجر في بعض حانات المدينة يقيد بالصندل تحت القدر، فلما رآه ذلك الرجل قال له: أتبيع هذا الصندل؟ كل صاع بما تريده نفسك. فقال له: بعتك. فَحَوَّلَ الرجل ما عنده من الصندل في منزله، وقصد البائع أن يأخذ ذهبًا بقدر ما يأخذ المشتري، فلما أصبح الصباح تمشى التاجر في المدينة، فلقيه رجل أزرق العينين من أهل تلك المدينة وهو أعور، فتعلَّقَ بالتاجر وقال له: أنت الذي أتلفتَ عيني فلا أطلقك أبدًا. فأنكر التاجر ذلك وقال له: إن هذا الأمر لا يتم. فاجتمع الناس عليهما، وسألوا الأعور المهلة إلى غدٍ ويعطيه ثمن عينه، فأقام الرجل التاجر له ضامنًا حتى أطلقوه، ثم مضى التاجر وقد انقطع نعله من مجاذبة الرجل الأعور، فوقف على دكان الإسكافي ودفعه له، وقال له: أصلحه ولك عندي ما يرضيك. ثم انصرف عنه، وإذا بقومٍ قاعدين يلعبون فجلس عندهم من الهم والغم، فسألوه اللعب فلعب معهم، فأوقعوا عليه الغلب وغلبوه، وخيروه إما أن يشرب البحر، وإما أن يخرج من ماله جميعًا، فقام التاجر وقال: أمهلوني إلى غدٍ. ثم مضى التاجر وهو مغموم على ما فعل، ولا يدري كيف يكون حاله، فقعد في موضع متفكِّرًا مغمومًا مهمومًا، وإذا بالعجوز جائزة عليه، فنظرت نحو التاجر فقالت له: لعل أهل المدينة ظفروا بك، فإني أراك مهمومًا من الذي أصابك. فحكى لها جميع ما جرى من أوله إلى آخره، قالت له: مَن الذي عمل عليك في الصندل؟ فإن الصندل عندنا قيمته كل رطل بعشرة دنانير، ولكن أنا أدبِّر لك رأيًا أرجو به أن يكون لك فيه خلاص نفسك، وهو أن تسير نحو الباب الفلاني، فإن في ذلك الموضع شيخًا أعمى مقعدًا، وهو عالم عارف كبير خبير، وكل الناس تحضر عنده يسألونه عمَّا يريدونه، فيشير إليهم بما يكون لهم فيه الصلاح؛ لأنه عارف بالمكر والسحر والنصب، وهو شاطر، فتجتمع الشطار عنده بالليل، فاذهب عنده واخفِ نفسك من غرمائك بحيث تسمع كلامهم ولا يرونك؛ فإنه يخبرهم بالغالبية والمغلوبة؛ لعلك تسمع منه حجَّة تخلِّصك من غرمائك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.