فلما كانت الليلة ٦١٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جودرًا لما ضربه خدَّام الكنز ورموه خارج الباب وانغلقت الأبواب، وجرى النهر كما كان أولًا، قام عبد الصمد المغربي، وقرأ على جودر حتى أفاق وصحا من سكرته، فقال له: أي شيء عملت يا مسكين؟ فقال له: أبطلت الموانع كلها، ووصلت إلى أمي ووقع بيني وبينها معالجة طويلة، وصارت يا أخي تخلع ثيابها حتى لم يبقَ عليها إلا اللباس. فقالت لي: لا تفضحني، فإن كشْفَ العورة حرام. فتركتُ لها اللباس شفقةً عليها، وإذا بها صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه. فخرج لي ناس لا أدري أين كانوا، ثم إنهم ضربوني علقة حتى أشرفت على الموت، ودفعوني ولم أدرِ بعد ذلك ما جرى لي. فقال له: أَمَا قلتُ لك لا تخالف؟ قد أسأتني وأسأت نفسك، فلو خلعَتْ لباسَها كنَّا بلغنا المراد، ولكن حينئذٍ تقيم عندي إلى العام القابل لمثل هذا اليوم. ونادى العبدين في الحال، فحلَّا الخيمة وحملاها، ثم غابا قليلًا ورجعا بالبغلتين، فركب كلُّ واحدٍ بغلةً ورجعا إلى مدينة فاس، فأقام عنده في أكل طيِّب، وشرب طيب، وكل يوم يُلبِسه حلة فاخرة، إلى أن فرغَتِ السنة وجاء ذلك اليوم، فقال له المغربي: هذا هو اليوم الموعود فامضِ بنا. قال له: نعم. فأخذه إلى خارج المدينة، فرأيَا العبدين بالبغلتين، ثم ركبَا إلى أن وصلَا عند النهر، فنصب العبدان الخيمة وفرشاها، وأخرج السفرة فتغديا، وبعد ذلك أخرج القصبة والألواح مثل الأول، وأوقد النار وأحضر له البخور وقال له: يا جودر، مرادي أن أوصيك. فقال له: يا سيدي الحاج، إن كنتُ نسيت العلقةَ أكون نسيتُ الوصية. فقال له: هل أنت حافظ الوصية؟ قال: نعم. قال: احفظ روحك، ولا تظن أن المرأة أمك، وإنما هي رصد في صورة أمك، ومرادها أن تغلطك، وإن كنتَ أول مرة طلعت حيًّا فإنك في هذه المرة أن غلطت يرمونك مقتولًا. قال: إن غلطت أستحق أن يحرقوني.
ثم إن المغربي وضع البخور وعزم فنشف النهر، فتقدَّمَ جودر إلى الباب وطرقه فانفتح، وأبطل الأرصاد السبعة إلى أن وصل إلى أمه، فقالت له: مرحبًا يا ولدي. فقال لها: من أين أنا ولدك يا ملعونة؟ اخلعي. فجعلت تخادعه، وتخلع شيئًا بعد شيء حتى لم يبقَ غير اللباس. فقال: اخلعي يا ملعونة. فخلعت اللباس، وصارت شبحًا بلا روح، فدخل ورأى الذهب كيمانًا، فلم يعتنِ بشيء، ثم أتى المقصورة ورأى الكهين الشمردل راقدًا متقلدًا بالسيف، والخاتم في أصبعه، والمكحلة على صدره، ورأى دائرة الفلك فوق رأسه، فتقدَّمَ وفكَّ السيف وأخذ الخاتم ودائرة الفلك والمكحلة وخرج. وإذا بنوبة دقَّتْ له وصار الخدام ينادون: هنيت بما أُعطيت يا جودر. ولم تزل النوبة تدق إلى أن خرج من الكنز، ووصل إلى المغربي، فأبطل العزيمة والبخور، وقام وحضنه وسلَّمَ عليه، وأعطاه جودر الأربع ذخائر، فأخذها وصاح على العبدين، فأخذا الخيمة وردَّاها ورجعا بالبغلتين فركباهما، ودخل مدينة فاس، فأحضر الخرج وجعل يطلع منه الصحون، وفيها الألوان وكملت قدامه سفرة، وقال: يا أخي يا جودر، كُلْ. فأكل حتى اكتفى وفرغ بقية الأطعمة في صحون غيرها، ورد الفوارغ في الخرج.
ثم إن المغربي عبد الصمد قال: يا جودر، أنت فارقتَ أرضك وبلادك من أجلنا، وقضيتَ حاجتنا، وصار لك علينا أمنية، فتمنَّ ما تطلب، فإن الله تعالى أعطاك، ونحن السبب، فاطلب مرادك ولا تستحِ فإنك تستحق. فقال: يا سيدي، تمنيتُ على الله، ثم عليك، أن تعطيني هذا الخرج. قال: هات الخرج. فجاء به، قال: خذه فإنه حقك، ولو كنتَ تمنيتَ غيره لأعطيناك إياه، ولكن يا مسكين هذا ما يفيدك غير الأكل، وأنت تعبت معنا ونحن وعدناك أن نُرجِعك إلى بلادك مجبور الخاطر، والخرج هذا تأكل منه، ونعطيك خرجًا آخَر ملآنًا من الذهب والجواهر، ونوصلك إلى بلادك فتصير تاجرًا، واكْسُ نفسَك وعيالك، ولا تحتاج إلى مصروف، وكُلْ أنت وعيالك من هذا الخرج؛ وكيفية العمل به أنك تمد يدك فيه وتقول: بحقِّ ما عليك من الأسماء العظام يا خادم هذا الخرج، أن تأتيني باللون الفلاني. فإنه يأتيك بما تطلبه، ولو طلبتَ كلَّ يوم ألف لون. ثم إنه أحضر عبدًا ومعه بغلة، وملأ به خرجًا عينًا بالذهب، وعينًا بالجواهر والمعادن، وقال له: اركب هذه البغلة والعبد يمشي قدامك، فإنه يعرِّفك الطريق إلى أن يوصلك إلى باب دارك، فإذا وصلتَ فخذ الخرجين وأَعْطِه البغلة فإنه يأتي بها، ولا تُظهِر أحدًا على سرك، واستودعناك الله. فقال له: كثر الله خيرك. وحطَّ الخرجين على ظهر البغلة وركب، والعبد مشى قدامه، وصارت البغلة تتبع العبد ذلك النهار وطول الليل، وثاني يوم في الصباح دخل من باب النصر، فرأى أمه قاعدة تقول: شيئًا لله. فطار عقله، ونزل من فوق ظهر البغلة، ورمى روحه عليها، فلما رأته بكت، ثم إنه ركَّبَها ظهر البغلة، ومشى في ركابها إلى أن وصل إلى البيت، فنزَّلَ أمه وأخذ الخرجين، وترك البغلة للعبد، فأخذها وراح لسيده لأن العبد شيطان والبغلة شيطان.
وأما ما كان من جودر، فإنه صعب عليه كون أمه تسأل، فلما دخل البيت قال لها: يا أمي، هل أخواي طيبان؟ قالت: طيبان. قال: لأي شيء تسألين في الطريق؟ قالت: يا ابني من جوعي. قال: أنا أعطيتُكِ قبل ما أسافر مائةَ دينار في أول يوم، ومائة دينار ثاني يوم، وأعطيتُكِ ألفَ دينار يوم أن سافرتُ! فقالت له: يا ولدي، قد مكرَا بي وأخذاها مني. وقالَا: مرادنا أن نشتري بها سببًا. فأخذاها وطرداني، فصرت أسأل في الطريق من شدة الجوع. فقال: يا أمي، ما عليك بأس حيث جئتُ، فلا تحملي همًّا أبدًا؛ هذا خرج ملآن ذهبًا وجواهر والخير كثير. فقالت له: يا ولدي، أنت مسعد، الله يرضى عليك ويزيدك من فضله، قم يا بني هات لنا عيشًا، فإني بائتة بشدة الجوع من غير عشاء. فضحك وقال لها: مرحبًا بك يا أمي، فاطلبي أي شيء تأكلينه وأنا أحضره لك في هذه الساعة، ولا أحتاج لشرائه من السوق ولا لمَن يطبخ. فقالت: يا ولدي، ما أنا ناظرة معك شيئًا؟ فقال: معي في الخرج من جميع الألوان. فقالت: يا ولدي كل شيء حضر يسد. قال: صدقتِ، فعند عدم الموجود يقنع الإنسان بأقل الشيء، وأما إذا كان الموجود حاضرًا؛ فإن الإنسان يشتهي أن يأكل من الشيء الطيب، وأنا عندي الموجود، فاطلبي ما تشتهين. قالت له: يا ولدي عيشًا سخنًا وقطعة جبن. فقال: يا أمي، ما هذا من مقامك؟ فقالت له: أنت تعرف مقامي، فالذي من مقامي أَطْعِمْني منه. فقال: يا أمي، أنتِ من مقامك اللحم المحمَّر، والفراخ المحمرة، والأرز المفلفل، ومن مقامك المنبار المحشي، والقرع المحشي، والخروف المحشي، والضلع المحشي، والكنافة بالمكسرات والعسل النحل والسكر والقطايف والبقلاوة.
فظنت أمه أنه يضحك عليها ويسخر منها، فقالت له: يوه يوه، أي شيء جرى لك؟ هل أنت تحلم وإلا جننت؟ فقال لها: من أين علمتِ أني جننت؟ قالت له: لأنك تذكر لي جميع الألوان الفاخرة، فمَن يقدر على ثمنها؟ ومَن يعرف أن يطبخها؟ فقال لها: وحياتي لا بد أن أطعمك من جميع الذي ذكرتُه لك في هذه الساعة. فقالت له: ما أنا ناظرة شيئًا. فقال لها: هاتي الخرج. فجاءت له بالخرج وجسته فرأته فارغًا، وقدَّمته إليه، فصار يمد يديه، ويخرج صحونًا ملآنة، حتى إنه أخرج لها جميع ما ذكره، فقالت له أمه: يا ولدي، إن الخرج صغير وكان فارغًا وليس فيه شيء، وقد أخرجتَ منه هذا كله! فهذه الصحون أين كانت؟ فقال لها: يا أمي، اعلمي أن هذا الخرج أعطانيه المغربي وهو مرصود، وله خادم إذا أراد الإنسان شيئًا وتلا عليه الأسماء وقال: يا خادم هذا الخرج هات لي اللون الفلاني؛ فإنه يحضره. فقالت له أمه: هل أمد يدي وأطلب منه؟ قال: مدي يدك. فمدت يدها وقالت: بحق ما عليك من الأسماء يا خادم هذا الخرج أن تجيء لي بضلع محشي. فرأت الصحن صار في الخرج، فمدت يدها فأخذته، فوجدت فيه ضلعًا محشيًّا نفيسًا، ثم طلبت العيش، وطلبت كل شيء أرادته من أنواع الطعام، فقال لها: يا أمي، بعد أن تفرغي من الأكل أفرغي بقية الأطعمة في صحون غير هذه الصحون، وأرجعي الفوارغ في الخرج؛ فإن الرصد على هذه الحالة، واحفظي الخرج. فنقلت الخرج وحفظته وقال لها: يا أمي، اكتمي السر وأبقيه عندك، وكلما احتجتي لشيء أخرجيه من الخرج وتصدَّقِي، وأطعمي أخويَّ، سواء كان في حضوري أو في غيابي.
وجعل يأكل هو وإياها، وإذا بأخويه يدخلان عليه، وكان بلغهم الخبر من رجل من أولاد حارته وقال لهم: أخوكم أتى وهو راكب على بغلة وقدامه عبد، وعليه حلة ليس لها نظير. فقالا لبعضهما: يا ليتنا ما كنا شوَّشنا على أمنا، لا بد أنها تخبره بما عملنا فيها، يا فضيحتنا منه. فقال واحد منهما: أمنا شفيقة، فإن أخبرته، فإن أخانا أشفق منها علينا، وإذا اعتذرنا إليه يقبل عذرنا. ثم دخلَا عليه فقام لهما على الأقدام، وسلَّمَ عليهما غاية السلام، وقال لهما: اقعدا وكُلَا. فقعدا وأكلا وكانا ضعيفين من الجوع، فما زالا يأكلان حتى شبعا، فقال لهما جودر: يا أخويَّ، خذَا بقية الطعام، وفرِّقاه على الفقراء والمساكين. فقالا له: يا أخانا، خلِّه لنتعشى به. فقال لهما: وقت العشاء يأتيكما أكثر منه. فأخرجا بقية الأطعمة، وصار كل فقير جاز عليهما يقولان له: خذ وكُلْ. حتى لم يبقَ شيء، ثم ردَّا الصحون، فقالا لأمه: حطِّيها في الخرج. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.