فلما كانت الليلة ٥٤٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما زاد تعجُّبه من الطائر الذي رآه في الجزيرة، تذكَّرَ حكايةً أخبره بها قديمًا أهلُ السياحة والمسافرون؛ وهي أن في بعض الجزائر طيرًا عظيمَ الخلقة يقال له الرخ، يزقُّ أولاده بالأفيال، فتحقَّقْتُ أن القبة التي رأيتها إنما هي بيضة من بيض الرخ، ثم إني تعجَّبْتُ من خلق الله تعالى. فبينما أنا على هذه الحالة، وإذا بذلك الطير نزل على تلك القبة، وحضنها بجناحيه، ومدَّ رجلَيْه من خلفه على الأرض، ونام عليها، فسبحان مَن لا ينام، فعند ذلك قمتُ فككتُ عمامتي من فوق رأسي، وثنيتها وفتلتها حتى صارت مثل الحبل، وتحزَّمْتُ بها، وشددت وسطي، وربطت نفسي في رجليَّ ذلك الطائر، وشددتها شدًّا وثيقًا، وقلت في نفسي: لعل هذا يوصلني إلى بلاد المدن والعمار، ويكون ذلك أحسن من جلوسي في هذه الجزيرة، وقد بِتُّ تلك الليلة ساهرًا؛ خوفًا من أن أنام، فيطير بي على حين غفلة. فلما طلع الفجر وبان الصباح، قام الطائر من على بيضته، وصاح صيحة، واقتلع بي إلى الجو وهو يعلو ويرتفع حتى ظننتُ أنه وصل إلى عنان السماء، وبعد ذلك تنازل بي حتى نزل بي إلى الأرض، وحطَّ على مكانٍ مرتفع عالٍ، فلما وصلتُ إلى الأرض أسرعتُ وفككتُ الرباط من رجلَيْه، وأنا خائف منه، ولم يدرِ بي، ولم يحس بي، وبعدها فككتُ عمامتي منه، وخلصتها من رجليه، وأنا أنتفض، ومشيت في ذلك المكان، ثم إنه أخذ شيئًا من على وجه الأرض في مخالبه، وطار إلى عنان السماء، فتأملته فإذا هو حية عظيمة الخلقة، كبيرة الجسم، قد أخذها وذهب بها إلى البحر، فتعجَّبْتُ من ذلك. ثم إني تمشَّيْتُ في ذلك المكان، فوجدتُ نفسي في مكانٍ عالٍ، وتحته وادٍ كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو لا يقدر أحد أن يرى أعلاه من فرط علوِّه، وليس لأحدٍ قدرة على الطلوع فوقه، فلمتُ نفسي على ما فعلته وقلت: يا ليتني مكثتُ في الجزيرة، فإنها أحسن من هذا المكان القفر؛ لأن الجزيرة كان يوجد فيها شيء آكله من أصناف الفواكه، وأشرب من أنهارها، وهذا المكان ليس فيه أشجار ولا أثمار ولا أنهار، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا كل ما أخلص من مصيبة أقع فيما هو أعظم منها وأشد.
ثم إني قمت وقويت نفسي، ومشيت في ذلك الوادي، فرأيت أرضه من حجر الماس الذي يثقبون به المعادن والجواهر، ويثقبون به الصيني والجزع، وهو حجر صلب يابس لا يعمل فيه الحديد ولا الصخر، ولا أحد يقدر أن يقطع منه شيئًا، ولا أن يكسره إلا بحجر الرصاص، وكل ذلك الوادي حيات وأفاعٍ، كل واحدة مثل النخلة، ومن عظم خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته، وتلك الحيات يظهرن في الليل، ويختفين في النهار؛ خوفًا من طير الرخ والنسر أن يختطفها، وبعد ذلك يقطعها، ولا أدري ما سبب ذلك؛ فأقمتُ بذلك الوادي، وأنا متندِّم على ما فعلتُه، وقلت في نفسي: والله إني قد عجلتُ بالهلاك على نفسي، وقد ولَّى النهار عليَّ فصرتُ أمشي في ذلك الوادي، وأتلفَّتُ على محل أبيت فيه، وأنا خائف من تلك الحيات، ونسيت أكلي وشربي ومعاشي، واشتغلت بنفسي، فَلَاحَ لي مغارة بالقرب مني، فمشيت فوجدت بابها ضيقًا، فدخلتُها ونظرت إلى حجر كبير عند بابها، فدفعته وسددت به باب تلك المغارة وأنا داخلها، وقلت في نفسي: إني أمنت لما دخلت في هذا المكان، وإن طلع عليَّ النهار أطلع وأنظر ما تفعل القدرة. ثم التفَتُّ في داخل المغارة، فنظرت حيةً عظيمة نائمة في صدر المغارة على بيضها، فاقشعَرَّ بدني، وأقمتُ رأسي، وسلَّمْتُ أمري للقضاء والقدر، وبت ساهرًا طول الليل إلى أن طلع الفجر ولاح، فأزحتُ الحجرَ الذي سددتُ به باب المغارة، وخرجتُ منها وأنا مثل السكران دائخ من شدة السهر والجوع والخوف، وتمشيت في الوادي. فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة عظيمة قد سقطت قدامي، ولم أجد أحدًا؛ فتعجَّبْتُ من ذلك غاية العجب، وتفكَّرْتُ حكايةً كنتُ أسمعها من قديم الزمان من بعض التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الماس الأهوال العظيمة، ولا يقدر أحد أن يسلك إليه، ولكن التجار الذين يجلبونه يعملون حيلةً في الوصول إليه، ويأخذون الشاة من الغنم ويذبحونها ويسلخونها، ويشرحون لحمها، ويرمونه على ذلك الجبل إلى أرض الوادي، فتنزل وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم تتركها التجار إلى نصف النهار، فتنزل الطيور من النسور والرخ إلى ذلك اللحم، وتأخذه في مخالبها، وتصعد إلى أعلى الجبل فتأتيها التجار، وتصيح عليها، فتطير من عند ذلك اللحم، ثم تتقدَّم التجار إلى ذلك اللحم وتخلص منه الحجارة اللاصقة به، ويتركون اللحم للطيور والوحوش، ويحملون الحجارة إلى بلادهم، ولا أحدَ يقدر أن يتوصَّل إلى مجيء حجر الماس إلا بهذه الحيلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.