فلما كانت الليلة ٦١٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جودرًا لما خلص أخواه من الغداء، قال لأمه: حطي الصحون في الخرج. وعند المساء دخل القاعة، وأخرج من الخرج سماطًا أربعين لونًا وطلع، فلما جلس بين أخويه قال لأمه: هاتي العشاء. فلما دخلت رأت الصحون ممتلئة، فحطت السفرة، ونقلت الصحون شيئًا بعد شيء حتى كملت الأربعين صحنًا، فتعشوا، وبعد العشاء قال: خذوا وأطعموا الفقراء والمساكين. فأخذوا بقية الأطعمة وفرَّقوها، وبعد العشاء أخرج لهم حلويات فأكلوا منها، والذي فضل منهم قال: أطعموه للجيران. وفي ثاني يوم الفطور كذلك، وما زالوا على هذه الحالة مدة عشرة أيام، ثم قال سالم لسليم: ما سبب هذا الأمر، إن أخانا يُخرِج لنا ضيافة في الصبح، وضيافة في الظهر، وضيافة في المغرب، وفي آخِر الليل يُخرِج حلويات، وكل شيء فضل يفرِّقه على الفقراء، وهذا فعل السلاطين، ومن أين أتته هذه السعادة؟ أَلَا تسأل عن هذه الأطعمة المختلفة وعن هذه الحلويات؟ وكل شيء فضل يفرقه على الفقراء والمساكين، ولا نراه يشتري شيئًا أبدًا، ولا يوقد نارًا، وليس له مطبخ ولا طباخ! فقال أخوه: والله لا أدري، ولكن هل تعرف مَن يخبرنا بحقيقة هذا الأمر؟ قال له: لا يخبرنا إلا أمنا. فدبَّرَا لهما حيلة ودخلا على أمهما في غياب أخيهما، وقالا: يا أمنا نحن جائعان. فقالت لهما: أَبْشِرَا. ودخلت القاعة فطلبت من خادم الخرج، وأخرجت لهما أطعمة سخنة، فقالا: يا أمنا، هذا الطعام سخن، وأنت لم تطبخي ولم تنفخي! فقالت لهما: إنها من الخرج. فقالا لها: أي شيء هذا الخرج؟ فقالت لهما: إن الخرج مرصود، والطلب من الرصد. وأخبرتهما بالخبر، وقالت لهما: اكتما السر. فقالا لها: السر مكتوم يا أمنا، ولكن علِّمينا كيفية ذلك. فعلَّمَتْهما وصارَا يمدان أياديهما ويخرجان الشيء الذي يطلبانه، وأخوهما ما عنده خبر بذلك. فلما علمَا بصفة الخرج، قال سالم لسليم: يا أخي، إلى متى ونحن عند جودر في صفة الخدامين، ونأكل صدقته؟ أَلَا نعمل عليه حيلة ونأخذ هذا الخرج ونفوز به؟ فقال: كيف تكون الحيلة؟ قال: نبيع أخانا لرئيس بحر السويس. فقال له: وكيف نصنع حتى نبيعه؟ فقال: أروح أنا وأنت لذلك الرئيس ونعزمه مع اثنين من جماعته، والذي أقوله لجودر تصدقني عليه، وآخِر الليل أُرِيك ما أصنع.
ثم اتفقا على بيع أخيهما، وراحا بيت رئيس بحر السويس ودخل سالم وسليم على الرئيس، وقالا له: يا رئيس، جئناك في حاجة تسرك. فقال: خيرًا؟ قالا له: نحن أخوان، ولنا أخ ثالث معكوس لا خير فيه، ومات أبونا، وخلف لنا جانبًا من المال، ثم إننا قسمنا المال وأخذ هو ما نابه من الميراث، فصرفه في الفسق والفساد، ولما افتقر تسلَّطَ علينا وصار يشكونا إلى الظَّلَمَة، ويقول: أنتما أخذتما مالي، ومال أبي. وبقينا نترافع إلى الحكام وخسرنا المال، وصبر علينا مدة، واشتكانا ثانيًا حتى أفقرنا، ولم يرجع عنا وقد قلقنا منه، والمراد أنك تشتريه منا. فقال لهما: هل تقدران أن تحتالَا عليه وتأتياني به إلى هنا، وأنا أرسله سريعًا إلى البحر؟ فقالا: ما نقدر أن نجيء به، ولكن أنت تكون ضيفنا، وهات معك اثنين من غير زيادة، فلما ينام نتعاون عليه نحن الخمسة فنقبضه ونجعل في فمه العقلة، وتأخذه تحت الليل، ونخرج به من البيت، وافعل فيه ما شئتَ. فقال لهما: سمعًا وطاعة، أتبيعانه بأربعين دينارًا؟ فقالا له: نعم، وبعد العشاء تأتي الحارة الفلانية، فتجد واحدًا منَّا ينتظركم. فقال لهما: روحَا.
فقصدَا جودرًا وصبرا ساعة، ثم تقدَّمَ إليه سالم وقبَّلَ يده، فقال له: ما لك يا أخي؟ فقال له: اعلم أن لي صاحبًا، وعزمني مرات عديدة في بيته في غيابك، وله عليَّ ألف جميلة، ودائمًا يكرمني بعلم أخي، فسلَّمْتُ عليه اليوم فعزمني، فقلت له: أنا ما أقدر أن أفارق أخي. فقال: هاته معك. فقلت: لا يرضى بذلك، ولكن إن كنتَ تضيفنا أنت وإخوتك. وكان أخواه جالسين عنده فعزمتهم، وقد ظننت أني أعزمهم ويمتنعون، فلما عزمته هو وأخويه، رضي وقال: انتظرني على باب الزاوية، وأنا أجيء بإخوتي. فأنا خائف أن يجيء ومستحٍ منك، فهل تجبر خاطري وتضيفهم في هذه الليلة؟ وأنت خيرك كثير يا أخي، وإن كنتَ لم ترضَ، فَأْذَنْ لي أن أدخلهم بيت الجيران. فقال له: لأي شيء تدخلهم بيت الجيران؟ فهل بيتنا ضيقًا وما عندنا شيء نعشيهم به؟ عيب عليك أن تشاورني، ما لك إلا أطعمة طيبة وحلويات إلى أن يفضل عنهم، وإن جئت بناس وكنتُ أنا غائبًا، فاطلب من أمك تُخرِج لك أطعمةً بزيادة. رُحْ هاتهم حلَّتْ علينا البركات. فقبَّلَ يده وراح، فقعد على باب الزاوية لبعد العشاء، وإذا بهم قد أقبلوا عليه، فأخذهم ودخل بهم البيت، فلما رآهم جودر قال لهم: مرحبًا بكم. وأجلسهم، وعمل معهم صحبة، وهو لا يعلم ما في الغيب منهم. ثم إنه طلب العشاء من أمه، فجعلت تُخرِج من الخرج وهو يقول: هات اللون الفلاني. حتى صار قدامهم أربعون لونًا، فأكلوا حتى اكتفوا، ورفعت السفرة، والبحرية يظنون أن هذا الإكرام من عند سالم، فلما مضى ثلث الليل أخرج لهم الحلويات، وسالم هو الذي يخدمهم، وجودر وسليم قاعدان إلى أن طلبوا المنام، فقام جودر ونام وناموا حتى غفل، فقاموا وتعاونوا عليه، فلم يَفِقْ إلا والعقلة في فمه، وكتَّفوه وحملوه، وخرجوا به من القصر تحت الليل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.