فلما كانت الليلة ٦٢٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية صارت مُقِيمة في الغابة وهي حزينة القلب والفؤاد، وصارت تُرضِع ولدها مع ما حصل لها من غاية الحزن والخوف من وحدتها، فبينما هي في بعض الأيام على تلك الحالة، وإذا هي بفرسان ورجال مشاة ومعهم بزاة وكلاب صيد، وقد حمَّلوا خيولهم من كركي وبلشون ووز عراقي وغطاس وطير ماء، ووحوش وأرانب وغزلان وبقر وحش، وفراخ النعام وتفه وذئاب وسباع، ثم دخل هؤلاء العربان في تلك الغابة، فوجدوا الجارية وابنها في حجرها تُرضِعه، فتقربوا منها وقالوا لها: هل أنت إنسية أو جنية؟ قالت: إنسية يا سادات العرب. فأعْلَموا أميرهم وكان اسمه مرداسًا سيد بني قحطان، وقد خرج إلى الصيد في خمسمائة أمير من قومه وبني عمه، فلم يزالوا يصطادون حتى وصلوا إلى الجارية ونظروها، وأعلمتهم بما جرى من أوله إلى آخِره، فتعجَّبَ الملك من أمرها وصاح على قومه وبني عمه، فلم يزالوا يصطادون حتى وصلوا إلى بني قحطان، فأخذها وأفردها بمحل ووكَّلَ بها خمس جوارٍ من أجل الخدمة، وقد أحَبَّها حبًّا شديدًا، وقد دخل عليها وواقعها فحملت على الدم، ولما انقضت شهورها وضعت غلامًا ذكرًا فسَمَّتْه سهيم الليل، فتربَّى بين القوابل مع أخيه حتى نشأ ومهر في حجر الأمير مرداس، فسلَّمَهما إلى فقيه فعلَّمَهما أمر دينهما، وبعد ذلك سلَّمَهما إلى شجعان العرب فعلَّموهما طعن الرمح وضرب السيف ورمي النشاب، فما كمَّلَا خمس عشرة سنة حتى تعلَّمَا ما يحتاجان إليه، وفاقا على كل شجيع في الحي، فكان غريب يحمل على ألف فارس وكذا أخوه سهيم الليل.
وكان لمرداس أعداء كثيرة، وكانت عربه أشجع العرب، فكلهم أبطال فرسان لا يُصطلَى لهم بنار، وكان بجواره أمير من أمراء العرب يقال له حسان بن ثابت، وهو صديقه، وقد خطب كريمة من كرام قومه، فدعا جميع أصحابه ومن جملتهم مرداس سيد بني قحطان، فأجاب وأخذ معه من قومه ثلاثمائة فارس، وترك أربعمائة فارس لحفظ الحريم، وسار حتى وصل إلى حسان، فتلقَّاه وأجلسه في أحسن مكان، وجاءت كل الفرسان لأجل العُرْس، وعمل لهم الولائم وفرح بعرسه، وانصرف العربان إلى منزلهم، فلما وصل مرداس إلى حَيِّه رأى قتيلَيْن مطروحين، والطير حائم عليهما يمينًا وشمالًا، فارتجف قلبه ودخل الحي فتلقاه غريب وهو متدرِّع بالزرد وهنَّأَه بالسلامة، فقال مرداس: ما هذا الحال يا غريب؟ قال: هجم علينا الحمل بن ماجد وقومه في خمسمائة فارس. وكان السبب في هذه الوقعة أن الأمير مرداس كان له بنت تُسمَّى مهدية، ما رأى الرائي أحسن منها، فسمع بها الحمل سيد بني نبهان، فركب في خمسمائة فارس وتوجه إلى مرداس وخطب مهدية، فلم يقبله ورَدَّه خائبًا، فصار الحمل يرصد مرداسًا حتى غاب وعزمه حسان، فركب في أبطاله وهجم على بني قحطان، فقتل جماعة من الفرسان، وهرب بقية الأبطال في الجبال، وكان غريب وأخوه قد ركبا في مائة خيَّال وخرجا للصيد والقنص، فما رجعا حتى انتصف النهار، فوجدَا الحمل وقومه ملكوا الحي وما فيه، وأخذوا بنات الحي وأخذ مهدية بنت مرداس وساقها مع السبي، فلما نظر غريب إلى هذا الحال، غاب عن الصواب وصاح على أخيه سهيم الليل وقال: يابن الملعونة، نهبوا حيَّنا، وأخذوا حريمنا، فدونك والأعداء وخلاص السبي والحريم. فحمل سهيم وغريب بالمائة فارس على الأعداء، ولم يزدد غريب إلا غيظًا، وصار يحصد الرءوس ويسقي الأبطال من المنون كئوسًا، حتى وصل الحمل ونظر إلى مهدية وهي مسبية، فحمل على الحمل وطعنه، وعن جواده قلبه، فما جاء وقت العصر حتى قتل أكثر الأعداء، وانهزم الباقون، وخلَّص غريبٌ السبيَ، ورجع إلى البيوت ورأس الحمل على رمحه، وهو ينشد هذه الأبيات:
فما فرغ غريب من شعره حتى وصل مرداس، ونظر القتلى مطروحين والطير حائم عليهم يمينًا وشمالًا، فطار عقله وارتجف قلبه، فسلاه غريب وهنَّأه بالسلامة، وأخبره بجميع ما جرى للحي بعد غيابه، فشكره مرداس على ما فعل وقال: ما خابت التربية فيك يا غريب. ونزل مرداس في سرادقه، ووقفت الرجال حوله وصار أهل الحي يثنون على غريب ويقولون: يا أميرنا، لولا غريب ما سلم أحد من الحي. فشكره مرداس على ما فعل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.