فلما كانت الليلة ٦٢٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مرداسًا لما رجع إلى حيِّه وأقبل عليه رجاله، أثنوا على غريب، فشكره مرداس على فعله، ولما نظر غريب الحمل سبى مهدية خلَّصها منه وقتله، فرمت غريبًا بسهام لحظها، فوقع في شَرَك هواها، وصار قلبه لا ينساها، وغرق في العشق والغرام، وفارقه لذيذ المنام، ولم يلتذ بشراب ولا طعام، وصار يركض جواده ويصعد الجبال وينشد الأشعار، ويرجع آخر النهار وقد لاح عليه آثار العشق والهيام، فأفشى سره لبعض أصحابه، فشاع في الحي جميعه حتى وصل إلى مرداس، فبرق ورعد، وقام وقعد، وشخر ونخر، وسبَّ الشمس والقمر، وقال: هذا جزاء مَن يربي أولاد الزنا، ولكن إن لم أقتل غريبًا ركبني العار. ثم إنه استشار رجلًا من عقلاء قومه في قتل غريب وأظهر سرَّه عليه، فقال له: يا أمير، إنه بالأمس خلَّصَ بنتك من السبي، فإنْ كان لا بد من قتله فاجعله على يد غيرك، حتى لا يشك أحد فيك. فقال مرداس: دبِّرْ لي حيلة في قتله، فما أعرف قتله إلا منك. فقال: يا أمير، ارصده حتى يخرج إلى الصيد والقنص، وخذ معك مائة خيَّال، واكمن له في المغارة وغافله حتى ينتهي، فاحملوا عليه وقطِّعوه، وحينئذٍ تبرأ من عاره. فقال مرداس: هذا هو الصواب.
واختار مرداس من قومه مائة وخمسين فارسًا عمالقة شداد، وأوصاهم وحرَّضَهم على قتل غريب، ولم يزل يرقبه حتى خرج غريب ليصطاد وقد بعد في الأودية والجبال، فذهب بفرسانه الأنجاس، وكمنوا لغريب في طريقه حتى يرجع من الصيد فيخرجون عليه ليقتلوه. فبينما مرداس وقومه كامنون بين الأشجار، وإذا بخمسمائة من العمالقة هجموا عليهم فقتلوا منهم ستين وأسروا التسعين وكتفوا مرداسًا، وكان السبب في ذلك أنه لما قُتِل الحمل وقومه انهزم الباقون، ولم يزالوا في هزيمتهم حتى وصلوا إلى أخيه وأعلموه بما جرى، فقامت قيامته وجمع العمالقة واختار منهم خمسمائة فارس، طول كل واحد منهم خمسون ذراعًا، وتوجه لطلب ثأر أخيه، فوقع بمرداس هو وأبطاله، وجرى بينهم ما جرى. فلما أسروا مرداس وقومه، نزل أخو الحمل وقومه وأمرهم بالراحة وقال: يا قوم، إن الأصنام هوَّنَتْ علينا أخذ الثأر، فاحتفظوا على مرداس وقومه حتى أمضي بهم وأقتلهم أشنع قتلة. فنظر مرداس روحه مربوطًا، وندم على ما فعل وقال: هذا جزاء البغي. ونام القوم فرحانين بالنصر، ومرداس وأصحابه مربوطون، وقد يئسوا من الحياة وأيقنوا بالوفاة.
هذا ما كان من أمر مرداس، وأما سهيم الليل فإنه دخل على أخته مهدية وهو مجروح، فقامت له وقبَّلَتْ يديه وقالت له: لا شُلَّتْ يداك ولا شمتت عداك، فلولا أنت وغريب ما خلصنا من السبي والأعداء، واعلم يا أخي أن أباك ركب في مائة وخمسين فارسًا وهو يريد قتل غريب، وقد علمت أن غريبًا خسارة في القتل؛ لأنه صان عرضكم وخلَّصَ أموالكم. فلما سمع سهيم هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلامًا، ولبس آلة حربه وركب جواده، وطلب المكان الذي يصطاد فيه أخوه، فوجده اصطاد شيئًا كثيرًا، فتقدَّمَ إليه وسلَّمَ عليه وقال: يا أخي، هل تسرح ولا تُعلِمني؟ فقال غريب: والله ما منعني من ذلك إلا أني رأيتُك مجروحًا، فقصدت راحتك. فقال سهيم: يا أخي، خذ حذرك من أبي. ثم حكى له ما جرى وأنه خرج في مائة وخمسين فارسًا يريدون قتله، قال له غريب: الله يرمي كيده في نحره. ورجع غريب وسهيم طالبين الديار، فأمسى عليهما المساء وسارا على ظهور الخيل حتى وصلا الوادي الذي فيه القوم، وسمعا صهيل الخيل في ظلام الليل، فقال سهيم: يا أخي، هذا أبي وقومه كامنون في هذا الوادي، فتنحَّ بنا عن هذا الوادي. وكان غريب قد نزل عن جواده وألقى لجامه لأخيه وقال له: قف مكانك حتى أعود إليك. وسار غريب حتى رأى القوم، فلم يجدهم من حيِّهم، وسمعهم يذكرون مرداسًا ويقولون: ما نقتله إلا في أرضنا. فعرف أن مرداسًا عمه مربوطًا معهم فقال: وحياة مهدية ما أروح حتى أخلص أباها ولا أشوش عليها. ولم يزل يفتش على مرداس حتى وقع به وهو مربوط في الحبال، فقعد بجانبه وقال له: سلامتك يا عمي من هذا الذل والاعتقال. فلما نظر مرداس غريبًا خرج عقله وقال: يا ولدي، أنا في جيرتك، فخلِّصْني بحق التربية. فقال له غريب: إذا خلَّصْتُك تعطيني مهدية؟ فقال له: يا ولدي، وحق ما أعتقد هي لك على طول الزمان. فحَلَّه وقال له: امضِ نحو الخيل، فإن ولدك سهيم هناك. فعند ذلك انسلَّ مرداس حتى وصل إلى ولده سهيم، ففرح به وهنَّأه بالسلامة، ولم يزل غريب يحل واحدًا بعد واحد حتى حل التسعين فارسًا، وصار الكل بعيدًا عن الأعداء، وأرسل غريب إليهم العدد والخيول وقال لهم: اركبوا وتفرجوا حول الأعداء وصيحوا، ويكون صياحكم: يا آل قحطان. وإذا صحا القوم فابعدوا عنهم وتفرَّقوا حولهم. وصبر غريب إلى الثلث الأخير من الليل وصاح: يا آل قحطان. وصاح قومه كذلك: يا آل قحطان. صيحة واحدة، فجاوبتهم الجبال حتى تخيل للأعداء أن القوم قد هجموا عليهم، فخطفوا سلاحهم جميعًا ووقعوا في بعضهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.