فلما كانت الليلة ٦٢٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن غريبًا لما نظر أخاه وهو أسير في يد الغول صاح وقال: الله أكبر يا جاه إبراهيم الخليل ومحمد ﷺ. ووجَّهَ جواده إلى غول الجبل، وهزَّ العمود فطنت حلقاته وصاح: الله أكبر. وضرب غريب الغول بالعامود على صف أضلاعه، فوقع في الأرض مغشيًّا عليه، وانفلت سهيم من يديه، فما أفاق الغول إلا وهو مكتَّف مقيَّد، فلما نظره ابنه وهو أسير ولَّى هاربًا، فساق غريب جواده خلفه ثم ضربه بالعامود بين أكتافه فوقع عن جواده، فكتَّفَه عند إخوته وأبيه وأوثقوهم بالحبال وسحبوهم مثل الجمال، وساروا حتى وصلوا إلى الحصن، فوجدوه ملآنًا بالخيرات والأموال والتحف، ووجد ألفًا ومائتَيْ أعجمي مربوطين مقيَّدين، فقعد غريب على كرسي غول الجبل، وكان أصله لصاص بن شيث بن شداد بن عاد، وأوقف سهيمًا أخاه على يمينه، ووقف أصحابه ميمنة وميسرة، وبعد ذلك أمر بإحضار غول الجبل وقال له: كيف رأيت روحك يا ملعون؟ فقال له: يا سيدي، في أقبح حال من الذل والخبال، أنا وأولادي مربوطون في الحبال مثل الجمال. فقال غريب: أريد أن تدخلوا في ديني وهو دين الإسلام، وتوحِّدوا الملك العلَّام، خالق الضياء والظلام، وخالق كل شيء، لا إله إلا هو الملك الديان، وتقرُّوا بنبوة الخليل إبراهيم عليه السلام. فأسلم غول الجبل وأولاده وحسن إسلامهم، فأمر بحلهم فحلوهم من الرباط، فبكى سعدان الغول وأقبل على أقدام غريب يقبِّلها، وكذلك أولاده، فمنعهم من ذلك فوقفوا مع الواقفين، فقال غريب: يا سعدان. فقال: لبيك يا مولاي. فقال: ما شأن هؤلاء الأعجام؟ فقال: يا مولانا هذا صيدي من بلاد العجم، وليسوا وحدهم. قال غريب: ومَن معهم؟ قال: يا سيدي، معهم بنت الملك سابور ملك العجم، واسمها فخرتاج، ومعها مائة جارية كأنهن الأقمار.
فلما سمع غريب كلام سعدان تعجَّبَ وقال: كيف وصلتَ إلى هؤلاء؟ فقال: يا أمير، سرحت أنا وأولادي وخمسة عبيد من عبيدي، فما وجدنا في طريقنا صيدًا، فتفرَّقنا في البراري والقفار فما وجدنا روحنا إلا في بلاد العجم، ونحن ندور على غنيمة نأخذها ولا نرجع خائبين، فلاحت لنا غبرة فأرسلنا عبدًا من عبيدنا ليعرف الحقيقة، فغاب ساعة ثم عاد وقال: يا مولاي، هذه الملكة فخرتاج بنت الملك سابور ملك العجم والترك والديلم، ومعها ألفا فارس وهم سائرون. فقلت للعبد: بُشِّرْتَ بالخير، فليس غنيمة أعظم من هذه الغنيمة. ثم حملت أنا وأولادي على الأعجام، فقتلنا منهم ثلاثمائة فارس، وأسرنا ألفَين ومائتين، وغنمنا بنت سابور وما معها من التحف والأموال، وجئنا بهم إلى هذا الحصن. فلما سمع غريب كلام سعدان قال: هل فعلت بالملكة فخرتاج معصية؟ قال: لا وحياة رأسك وحق هذا الدين الذي دخلتُ فيه. فقال غريب: قد فعلت حسنًا يا سعدان؛ لأن أباها ملك الدنيا، ولا بد أن يجرِّد العساكر خلفها، ويخرب ديار الذين أخذوها، ومَن لا يدري العواقب، ما الدهر له بصاحب. وأين هذه الجارية يا سعدان؟ فقال: قد أفردتُ لها قصرًا هي وجواريها. فقال: أرني مكانها. فقال: سمعًا وطاعة.
فقام غريب وسعدان الغول يمشيان حتى وصلا إلى قصر الملكة فخرتاج، فوجداها حزينة ذليلة تبكي بعد العزِّ والدلال، فلما نظرها غريب ظنَّ أن القمر منه قريب، فعظَّمَ الله السميع العليم، ونظرت فخرتاج إلى غريب فوجدته فارسًا صنديدًا، والشجاعة تلوح بين عينيه تشهد له لا عليه، فقامت له وقبَّلَتْ يديه، وبعد يديه انكبَّتْ على رجليه، وقالت له: يا بطل الزمان، أنا في جيرتك، فأَجِرْني من هذا الغول، فأنا خائفة أن يزيل بكارتي، وبعد ذلك يأكلني، فخذني أخدم جواريك. فقال غريب: لك الأمان حتى تصلي إلى أبيك ومحل عزك. فدعت له بالبقاء وعز الارتقاء، فأمر غريب بحل الأعجام فحلوهم، والتفت إلى فخرتاج وقال لها: ما الذي أخرجك من قصرك إلى هذه البراري والقفار حتى أخذك قطَّاع الطريق؟ فقالت له: يا مولاي، إن أبي وأهل مملكته وبلاد الترك والديلم والمجوس يعبدون النار دون الملك الجبَّار، وعندنا في مملكتنا دير اسمه دير النار، وفي كل عيد تجتمع فيه بنات المجوس وعبَّاد النار، ويقيمون فيه شهرًا مدة عيدهم، ثم يعودون إلى بلادهم، فخرجت أنا وجواريَّ على العادة، وأرسل معي أبي ألفَيْ فارس يحفظونني، فخرج علينا هذا الغول فقتل بعضنا وأسر الباقي وحبسنا في هذا الحصن، وهذا ما جرى يا بطل الشجعان، كفاك الله نوائب الزمان. فقال غريب: لا تخافي، فأنا أوصلك إلى قصرك ومحل عزك. فدعت له وقبَّلَتْ يديه ورجليه، ثم خرج من عندها وأمر بإكرامها، وبات تلك الليلة حتى أصبح الصباح، فقام وتوضَّأ وصلى ركعتين على ملة أبينا الخليل إبراهيم عليه السلام، وكذا الغول وأولاده وجماعة غريب كلهم صلُّوا خلفه، ثم التفت غريب إلى سعدان وقال له: يا سعدان، أَمَا تفرِّجني على وادي الأزهار؟ قال: نعم يا مولاي. فقام سعدان وأولاده وغريب والملكة فخرتاج وجواريها وخرج الجميع، فأمر سعدان عبيده وجواريه أن يذبحوا ويطبخوا الغداء ويقدِّموه بين الأشجار، وكان عنده مائة وخمسون جارية وألف عبد يرعون الجِمال والبقر والغنم، وسار غريب والقوم معه إلى وادي الأزهار، فلما رآه وجد شيئًا صنوانًا وغير صنوان، وأطيارًا تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهزار يرجع بأنغام الألحان، والقمري قد ملأ بصوته الأمكنة خلقة الرحمن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.