فلما كانت الليلة ٦٣١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سابور أرسل عسكره يفتشون على بنته، ولبست أمها وجواريها السواد. وأما ما كان من أمر غريب وما جرى له في طريقه من الأمر العجيب، فإنه سار عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر ظهرت له غبرة وارتفعت إلى عنان السماء، فدعا غريب بالأمير الذي يحكم على العجم، فحضر فقال له: تحقَّقْ لنا خبر هذا الغبار الذي ظهر. فقال: سمعًا وطاعةً. ثم ساق جواده حتى دخل تحت الغبار فنظر القوم وسألهم، فقال واحد منهم: نحن من بني هطال، وأميرنا الصمصام بن الجراح، ونحن دائرون على شيء ننهبه، وقومنا خمسة آلاف فارس. فرجع العجمي مسرعًا بجواده حتى وصل إلى غريب وأخبره بالأمر، فصاح غريب على رجال بني قحطان وعلى العجم وقال: احملوا سلاحكم. فحملوه وساروا، فقابلتهم العربان وهم ينادون: الغنيمة! الغنيمة! فصاح غريب وقال: أخزاكم الله يا كلاب العرب. ثم حمل وصدمهم صدمةَ بطلٍ صنديد وهو يقول: الله أكبر، يا لدين إبراهيم الخليل عليه السلام. ووقع بينهم القتال، وعَظُم النزال، ودار السيف وكثر القيل والقال، ولم يزالوا في حرب حتى ولَّى النهار وأقبل الظلام، فانفصلوا من بعضهم وتفقَّدَ غريب القوم، فوجد المقتول من بني قحطان خمسة رجال، ومن العجم ثلاثة وسبعين، ومن قوم الصمصام ما يزيد على خمسمائة فارس. ثم نزل الصمصام، ولم يطب له طعام ولا منام، ثم قال لقومه: عمري ما رأيت مثل قتال هذا الصبي؛ لأنه تارة يقاتل بالسيف وتارة بالعامود، ولكني أبرز له غدًا في حومة الميدان، وأطلبه إلى مقام الضرب والطعان، وأقطع هؤلاء العربان.
أما غريب فإنه لما رجع إلى قومه لاقَتْه الملكة فخرتاج باكيةً مرعوبة من هول ما جرى، وقبَّلَتْ رجله في الركاب وقالت له: لا شُلَّتْ يداك ولا شمتت عداك يا فارس الزمان، والحمد لله الذي سلَّمَك في هذا النهار، واعلم أنني خائفة عليك من هذه العربان. فلما سمع غريب كلامها ضحك في وجهها وطيَّب قلبها وطمَّنها وقال لها: لا تخافي يا ملكة، فلو كانت الأعداء ملء هذه البيداء؛ لَأفنيتهم بقوة العليِّ الأعلى. فشكرته ودعت له بالنصر على الأعداء. ثم إنها انصرفت إلى جواريها، ونزل غريب فغسل يديه وما عليه من دم الكفار، وباتوا يتحارسون إلى الصباح، ثم ركب الفريقان وطلبوا الميدان ومقام الحرب والطعان، فكان السابق للميدان غريب، فساق جواده حتى قرب من الكفار وصاح: هل من مبارز يخرج لي غير كسلان؟ فبرز إليه عملاق من العمالقة الشداد من نسل قوم عاد، ثم حمل على غريب وقال: يا قطاعة العرب، خذ ما جاءك وأبشِرْ بالهلاك. وكان معه دبوس حديد وزنه عشرون رطلًا، فرفع يده وضرب غريبًا، فزاغ عنه فغاص الدبوس في الأرض ذراعًا، وقد انثنى العملاق مع الضربة، فضربه غريب بالعامود الحديد، فشقَّ جبهته فخرَّ صريعًا وعجَّلَ الله بروحه إلى النار.
ثم إن غريبًا صال وجال وطلب البراز، فبرز له ثانٍ فقتله، وثالثٌ وعاشرٌ، وكلُّ مَن برز له قتله، فلما نظر الكفَّار إلى قتال غريب وضَرْبه، زاغوا منه وتأخروا عنه، ونظر أميرهم إليهم وقال: لا بارَكَ الله فيكم، أنا أبرز له. فلبس آلة حربه وساق جواده حتى ساوى غريبًا في حومة الميدان وقال له: ويلك يا كلب العرب، هل بلغ من قدرك أن تبارزني في الميدان وتقتل رجالي؟ فجاوبه غريب وقال: دونك والقتال، وخذ ثأر مَن قُتِل من الفرسان. فحمل الصمصام على غريب، فتلقَّاه بصدر رحيب وقلب عجيب، فتضارب الاثنان بالعمودين حتى حيَّرَا الفريقين ورمقتهم كلُّ عين، وقد جالا في الميدان وضربا بعضهما ضربتين؛ فأما غريب فإنه خيَّب ضربة الصمصام في الحرب والاصطدام، وأما الصمصام فسقطت عليه ضربة غريب فخسفت صدره وأوقعته في الأرض قتيلًا، فحمل قومه على غريب حملة واحدة، وحمل غريب عليهم وصاح: الله أكبر، فتَحَ ونصَرَ وخذَلَ مَن كفر بدين إبراهيم الخليل عليه السلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.