فلما كانت الليلة ٦٣٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سابور ملك العجم قال لكبراء قومه: اشهدوا عليَّ أني زوَّجْتُ ابنتي فخرتاج لولدي غريب. فعند ذلك صافحه وصارت زوجته، فقال له غريب: اشرط عليَّ مهرًا أحمله إليك، فإن عندي في حصن صاصا مالًا وذخائرَ لا تُحصَى. فقال سابور: يا ولدي، ما أريد منك مالًا ولا ذخائرَ، ولا آخذ مهرها إلا رأس الجمرقان ملك الدشت ومدينة الأهواز. فقال: يا ملك الزمان، سوف أمضي وأجيء بقومي وأسير لعدوي وأخرب دياره. فجازاه الملك خيرًا، وانفضَّ القوم والأكابر، وظنَّ الملك أن غريبًا إذا توجَّهَ إلى الجمرقان ملك الدشت لا يعود أبدًا. فلما أصبح الصباح ركب الملك وركب غريب وأمر العسكر بالركوب، فركبوا ونزلوا الميدان، فقال لهم الملك: العبوا بالرماح وفرِّحوا قلبي. فلعب أبطال العجم مع بعضهم، ثم قال غريب: يا ملك الزمان، مرادي أن ألعب مع فرسان العجم على شرط. فقال له: وما شرطك؟ قال له: ألبس ثوبًا رفيعًا على بدني، وآخذ رمحًا بلا سنان، وأجعل عليه خرقة مغموسة بالزعفران، ويبرز لي كل شجاع ويظل رمحه بسنان، فإن غلبني فقد وهبته روحي، وإن غلبته علَّمْتُ عليه في صدره، فيخرج من الميدان. فصاح الملك على نقيب الجيش أن يقدِّم أبطال العجم، فانتخب ألفًا ومائتين من ملوك العجم واختارهم أبطالًا شجعانًا، وقال لهم الملك بلسان العجم: كلُّ مَن قتل هذا البدوي يتمنَّى عليَّ حتى أرضيه. فتسابقوا إلى غريب وحملوا عليه، وقد بان الحق من الباطل والجد من المزاح، وقال: توكَّلْتُ على الله إله إبراهيم الخليل، وإله كل شيء قدير، الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الواحد القهَّار الذي لا تدركه الأبصار. فبرز له عملاق من أبطال العجم، فما أمهله في الثبات قدامه حتى علَّمَ عليه وملأ صدره بالزعفران، ولما ولَّى لطشه غريب بالرمح على رقبته فوقع في الأرض وحمله غلمانه من الميدان، فبرز له ثانٍ فعلَّمَ عليه، وثالثٌ ورابعٌ وخامسٌ، ولم يزل يبرز له بطل بعد بطل، حتى علَّمَ على الجميع ونصره الله تعالى عليهم، وطلعوا من الميدان وقُدِّمَ لهم الطعام، فأكلوا وأحضروا الشراب وشربوا، فشرب غريب وطاش عقله، فقام يزيل ضرورة وأراد أن يعود فتَاهَ ودخل في قصر فخرتاج، فلما رأته خرج عقلها وصاحت على جواريها وقالت: اخرجن إلى مواضعكن. فتفرَّقْنَ وتوجَّهْنَ إلى مواضعهن، ثم قامت وقبَّلَتْ يد غريب وقالت: مرحبًا بسيدي الذي أعتقني من الغول، فأنا جاريتك على الدوام. وجذبته إلى فراشها واعتنقته، فاشتدت شهوته وافتضَّها وبات عندها إلى الصباح.
هذا ما جرى، والملك يظن أن غريبًا مضى، فلما أصبح الصباح دخل على الملك، فقام له وأجلسه بجانبه، ثم دخل الملوك وقبَّلوا الأرض ووقفوا ميمنة وميسرة، وصاروا يتحدَّثون في شجاعة غريب ويقولون: سبحان مَن أعطاه الشجاعة على صِغَر سنه. فبينما هم في الكلام إذ نظروا من شباك القصر غبار خيل مُقبِلة، فصاح الملك على السعاة وقال: ويلكم، ائتوني بخبر هذا الغبار. فسار فارس منهم حتى كشف الغبار وعاد وقال: أيها الملك، وجدنا تحت الغبار مائة فارس من الفرسان، أميرهم يقال له سهيم الليل. فلما سمع غريب هذا الكلام قال: يا مولاي، هذا أخي، كنت بعثتُه في حاجةٍ وأنا خارج لألاقيه. ثم ركب غريب في قومه المائة فارس من بني قحطان، وركب معه ألف من العجم، وسار في موكب عظيم، ولا عظمة إلا لله، ولم يزل غريب سائرًا حتى وصل إليه، فترجَّلَ الاثنان واعتنقَا ثم ركبا، فقال غريب: يا أخي، هل أوصلتَ قومك إلى حصن صاصا ووادي الأزهار؟ فقال: يا أخي، إن الكلب الغدَّار لما سمع أنك ملكت حصن غول الجبل، زاد به الضجر وقال: إن لم أرحل من هذه الديار يجيء غريب فيأخذ بنتي مهدية بلا صداق. ثم أخذ بنته وأخذ قومه وعياله وماله وقصد أرض العراق، ودخل الكوفة واحتمى بالملك عجيب، وهو طالب أن يعطيه ابنته مهدية. فلما سمع غريب كلام أخيه سهيم الليل كادت روحه أن تزهق من القهر وقال: وحقِّ دين الإسلام، دين الخليل إبراهيم، وحق الرب العظيم، لَأسيرَنَّ إلى أرض العراق، وأقيم الحرب فيها على ساق. ودخل المدينة وطلع غريب وأخوه سهيم الليل إلى قصر الملك وقبَّلوا الأرض، فقام الملك لغريب وسلَّمَ على سهيم، ثم إن غريبًا أخبر الملك بما جرى، فأمر له بعشرة قوَّاد، مع كل قائد عشرة آلاف فارس من شجعان العرب والعجم، فجهَّزوا حالهم في ثلاثة أيام، ثم رحل غريب وسار حتى وصل إلى حصن صاصا، فخرج له غول الجبل وأولاده ولاقوا غريبًا، ثم ترجَّلَ سعدان وأولاده وقبَّلوا أقدام غريب في الركاب، وحكى لغول الجبل ما جرى، فقال: يا مولاي، اقعد في حصنك وأنا أسير بأولادي وأجنادي نحو العراق وأخرب مدينة الرستاق، وأجيء بجميع جنودها مربوطين بين يديك في أشد الوثاق. فشكره غريب وقال: يا سعدان، نسير كلنا. فجهَّزَ حاله وفعل ما أمره، وساروا كلهم وتركوا في الحصن ألف فارس يحفظونه ورحلوا قاصدين العراق.
هذا ما كان من أمر غريب، وأما ما كان من أمر مرداس، فإنه سار بقومه حتى وصل أرض العراق، وأخذ معه هدية حسنة، ومضى بها إلى الكوفة وأحضرها قدام عجيب، ثم قبَّلَ الأرض ودعا له بدعاء الملوك وقال: يا سيدي، إني أتيتُ مستجيرًا بك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.