مقدمة الترجمة العربية

«ثمَّة مشاكل أبدية تهمُّ الناس دائمًا، ولكي نفهم هذه المشاكل، ليس من الخطأ تذكُّر ما حدث البارحة، ومنذ فترة غير بعيدة، وما حدث في الماضي السحيق.»

غريغوري غورين،
«انْسَوْا هيروسترات»
في «البيت الذي شيَّده سويفت» يقاوم غريغوري غورين إغراء مَسْرَحَة حياة الهجَّاء العظيم جوناثان سويفت، على الرغم مِن أن حياة هذا الأخير حافلة بالكثير من الأحداث الدرامية، إلا أن غورين لا يتركنا دون أن يقدم لنا بعض الإشارات والإلماعات إلى ما حدث في حياة سويفت، ودون أن يحيلنا إلى مراجع واقعية مثل عبارات نطقها سويفت أو أبيات شِعرية مشهورة من قصيدته «موت الدكتور سويفت»، والتي أخذ منها غورين عنوان مسرحيته، ومثل مرض منْيير السمعي العصبي الذي جعل من سويفت ذلك المريض العاجز البائس في أواخر سِنِي عمره، وليس هذان سوى مثالين وحسب، وبالتالي، فإن من الممكن في الحال تسكين أية مخاوف مضمرة لدى اختصاصيي الأدب الإنجليزي أو دارسي سويفت الذين يرغبون في رؤية ما في حياة سويفت من دراما وهي تُمثَّل على خشبة المسرح. ويبقى مهمًّا تمامًا، على أية حال، فهْم حياة سويفت وعصره ومؤلفاته، وعلى الأقل من بينها كتابه الأهم والأروع «رحلات جوليفر»، وذلك من أجل استيعاء مسرحية غورين هذه والتمتع بتعامله الفذ مع حياة سويفت وشخصيات عصره ومؤلفاته. ولهذا فقد رأينا من الضروري أن نقدم تلخيصًا لحياة سويفت وأعماله وعرضًا وافيًا لكتابه «رحلات جوليفر» الذي يركِّز عليه غورين في مسرحيته هذه تركيزًا شديدًا.

(١) جوناثان سويفت: حياته وأعماله

يُعدُّ جوناثان سويفت (١٦٦٧–١٧٤٥م) أعظم كاتب ساخر أنجبته إنجلترا في تاريخ أدبها الطويل. وهو لا يزال إلى اليوم، وبعد مرور أكثر من قرنين على وفاته، موضع اهتمام الدارسين والباحثين والقرَّاء على حدٍّ سواء. ولا يزال صدى كتاباته يتردد في بقاع الأرض الواسعة. فأينما وجدت الحروب والظلم والاستغلال والفساد والنفاق على المستوى السياسي العام، والغرور والوضاعة والجمود والجشع والحماقة على المستوى الفردي، تظل كتاباته محتفظة بحيويتها وعصريتها، وما دام الإنسان يعيش تحت وطأة القوى المدمِّرة التي تنذر بفَناء الجنس البشري فسيجد القارئ في أدب سويفت تلك الأفكار والمشاعر التي تجيش في صدره، والتي تتلخص بالاشمئزاز والغضب من السلوك الأحمق اللاأخلاقي. فلا غرابة إذن أن كتابه رحلات جوليفر (١٧٢٦م)، وهو أشهر مؤلفاته، قد أصبح كتابًا عالميًّا تُرجِم إلى جميع لغات العالم تقريبًا، كما تُرجِم إلى ثمانٍ وعشرين لغة من لغات الاتحاد السوفييتي السابق.

وُلد سويفت لأبوَينِ إنجليزيين في أيرلندا، وأمضى هناك الجزء الأكبر من حياته التي يمكن وصفها بأنَّها هروب مستمر من أيرلندا وعودة مستمرة إليها، وكأنَّ هذا الهارب محكوم بقدرٍ لا يتغير. تلقَّى سويفت دراسته في كلية «ترنتي» في «دبلن»، ولكنه اكتسب معرفته الواسعة من مكتبه «موربارك» في «صاري» حيث عاش لبضع سنوات وهو يعمل سكرتيرًا للسير «وليم تمبل»، السياسي المتقاعد ذي الاهتمامات الثقافية، وهكذا كان لدى سويفت هناك الوقت للمطالعة، وتجريب باعه في الكتابة. وكانت محاولته الأولى في «القصيدة البذارية» التي تميزت بواقعية حادة استكملها في أعماله التالية مثل «وصف وابل المطر»، «وصف الصباح»، «موت الدكتور سويفت»، «غرفة ملابس السيدة»، «مختارات شعرية». ولقد كره سويفت عمله كشخص تابع غير مستقل، فهرب عائدًا إلى أيرلندا لأول مرة عام ١٦٩٤م. وفي عام ١٦٩٥م أصبح من رجال الدين، وفي تسعينيات ذلك القرن، «السابع عشر»، كان قد كتب مؤلَّفين هامين نشرهما عام ١٧٠٤م، وهما:

  • (١)
    معركة الكتب Battle of the books: وهو ملحمة ساخرة منوَّعة من الجدل القائم وقتئذٍ حول الأدبين؛ المعاصر الحديث، والكلاسيكي القديم، وهو موضوع شغل بال الكثيرين في إنجلترا وفرنسا في القرن السابع عشر.
  • (٢)
    حكاية برميل A Tal of a Tub: وهو مؤلَّف وصفه سويفت بأنه تعريض بسوء استخدام الإنسان للمعرفة والدين إلى درجة قضت على قيمتهما. ويشرح سويفت معنى العنوان في مقدمة كتابه فيقول: «من عادة البحارة، عندما يهاجم حوت السفينة، إلقاء برميل في البحر باتجاه الحوت يشغله عن السفينة.» وكذلك فإنَّ قصة سويفت كُتبت لتلهِيَ النقَّاد عن مهاجمة نقاط الضعف في الكنيسة ولتسخَرَ من التطور التاريخي للمذاهب المسيحية. وتظهر في هذا الكتاب نظرة سويفت الثاقبة، كما أنه يطوِّر فيه تلك الموضوعية المميزة التي تسم الكثير من أعماله.
هذان المؤلفان أكسبا سويفت إعجاب رؤسائه في الكنيسة الأيرلندية أيام كانت الموهبة الأدبية والفكرية جوازًا للوصول إلى أعلى المراكز في الدولة. وهكذا كلفته الكنيسة بمهام خاصة في إنجلترا عند حكومة الأحرار whigs أولًا، ثم عند حكومة المحافظين Tories التي انضم إليها فيما بعد. ولقد أصبح سويفت ذا نفوذ كبير في لندن أثناء حكم المحافظين من عام ١٧١٠م حتى وفاة الملكة «آن» عام ١٧١٤م. لكنه عاد إلى دبلن كعميد لكاتدرائية «سانت باتريك» عند سقوط حكومة المحافظين، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من حياته السياسية.
كانت هذه السنوات الأربع، من عام ١٧١٠–١٧١٤م، أهم فترة في تجربة سويفت السياسية، وقد كتب باستفاضة عن وجهة نظره الشخصية بصدد تلك الفترة الحاسمة من تاريخ إنجلترا، معبِّرًا عن آماله ومخاوفه في يوميات لأستيلا Journal To Stella، حيث يصوِّر شخصًا، ما هو إلا سويفت نفسه، وفتاة، ليست سوى أستير جونسون التي أحبها وأبدى تجاهها عاطفة أصيلة، وإن يكن في ذلك بعض الشك. ومن المحتمل أن تكون أستير جونسون هي ابنة وليم تمبل غير الشرعية. ويظن بعض النقَّاد أنها أصبحت زوجة سويفت. وهي في كل الأحوال كانت صديقة له طيلة الوقت، ومن أجلها كتب من لندن يومياته التي تكشف عن مقدار الإخلاص في قلب إنسان كثيرًا ما تمَّ تصنيفه كمبغض لبني البشر.
كانت لندن آنذاك في حالة من الغليان السياسي إثر سقوط وزارة الأحرار التي يتزعمها «غدلفن» والتي حلَّت محلَّها وزارة المحافظين بزعامة «هارلي» و«ستجن» بعد الانتخابات العامة التي أسفرت عن حصول المحافظين على أغلبية ساحقة وسيطرتهم الكاملة على مجلس العموم، كما كانت الدعوة إلى السلام مع فرنسا، المتحاربة مع إنجلترا وحليفاتها منذ بداية حكم الملكة «آن» عام ١٧٠٢م، على وشْك النجاح. وفي هذه الأثناء كان سويفت على اتصال دائم بعدد كبير من السياسيين الناقمين على الأوضاع السائدة. وسرعان ما طلب «هارلي» مقابلته، ووعده بمساندة الكنيسة الأيرلندية، وتلك هي المهمة التي سبق لسويفت أن أخفق في إنجازها مع حكومة الأحرار، وكان فشله أحد الأسباب العديدة التي بددت أمله في الحزب الذي عمل معه، ودافع عن سياسته، فانصرف عن الأحرار، وهاجم دوق مارلبورو الذي شنَّ الحرب ضد فرنسا، وأصبح من أعوان حكومة المحافظين الجديدة التي رحَّبت به لأهمية الدور الذي يستطيع أن يلعبه بقلمه. وهكذا عمل سويفت رئيسًا لتحرير صحيفة «الممتحن» وأصبح كاتب الحزب الرئيسي ومستشاره الأدبي. وعندما تحركت الحكومة لإنهاء الحرب بتوقيع معاهدة «أترخت» ألَّف كتيِّبًا بعنوان سلوك الحلفاء The Conduct of The Allies، وهو من أقوى حجج العصر السياسية وأكثرها شعبية، ساند فيه سياسة حكومة المحافظين مدافعًا عن معاهدة السلم مع فرنسا. كما ألَّف في هذه الفترة مجموعة من الكتب مثل رسالة حول امتحان السر الرباني، إلغاء المسيحية، ملاحظات حول معاهدة الحدود، الروح العامة عند الأحرار. وكافأته حكومة «هارلي» على خدماته بتعيينه عميدًا لكاتدرائية «سانت باتريك»، وهو مركز اعتبره سويفت، عن حقٍّ، أقلَّ بكثير مما يستحق بعد المجهود الذي بذله في تأييده للحكومة.
وبموت الملكة «آن» وتولي «جورج الأول» (من أسرة هانوفر) عرش إنجلترا سقطت حكومة المحافظين وفَقَد سويفت، بعودة الأحرار، الأملَ في مركز رفيع في الدولة. فعلى أثر فرار «بلينغ بروك» إلى فرنسا وسجن «أوكسفورد» في قلعة لندن (وهما وزيران من المحافظين وصديقان حميمان لسويفت) اضطر سويفت إلى الإقامة في كاتدرائيته في دبلن. وباستثناء زيارتين قصيرتين لأصدقائه في إنجلترا، بقي حتى آخر أيامه في أيرلندا التي اعتبرها منفًى سياسيًّا وفكريًّا، وإن لم يكفَّ عن نشاطه فيها وإنما كانت قد بدأت المرحلة الثانية لنفوذه السياسي في عشرينيات القرن الثامن عشر، وذلك عندما ناصر الشعب الأيرلندي في مطالبه ودافع عن البرلمان الأيرلندي ضد وزارة الأحرار برئاسة «روبرت وولبول». وأصبح سويفت معبود الشعب الأيرلندي الذي أَطلَق عليه اسمَ «الوطني الأيرلندي» و«العميد العظيم». ويُحكَى أنه عندما أراد «وولبول» أن يُلقي القبض على سويفت في أيرلندا نصحه أعوانه بأنه لن يستطيع ذلك إلا إذا أرسل جيشًا من عشرة آلاف جندي للقيام بتلك المهمة؛ لأن الأيرلنديين سوف يقطعون «وولبول» إربًا إربًا في شوارع دبلن. ولقد جاء كتاب سويفت الرائع رحلات جوليفر ثمرةً لهذه المرحلة الثانية من حياته السياسية، وهذا ما سنأتي على ذِكره في حينه.
إذن، في عام ١٧١٤م انهار عالم سويفت من حوله وانسحب من الحياة العامة شاعرًا بالهزيمة والفشل والإحباط. وبعد فترة من الاكتئاب الغامر والإحساس بأنه «سوف يموت في منفاه مثل الفأر المسموم في جحره»، لم يلبث أن استعاد حيويته وثقته بنفسه وأصبح، كما سبق له أن كان، «العميد الفَطِن» و«الرفيق المتحضِّر» في مجتمع أيرلندا المتأخِّر. غير أنَّ سنوات عديدة قد مرَّت قبل أن يستعيد الطاقة الفائضة اللازمة للعمل الإبداعي، وقبل أن ينتقل إلى مرحلة من الإنتاج الأدبي تختلف عمَّا سبق من حيث روعة التفكير والأداء وعمقهما. وفي السنوات ما بين ١٧٢٠–١٧٢٩م لمع سويفت، لا ككاتب ذي اهتمامات واسعة ومهارة في الشِّعر والجدل المنثور والفكر الساخر فحسب، وإنَّما كفنان أديب ينتمي إلى عالم أرحب. وأخذ ينمي صداقات جديدة في أيرلندا، كما أخذ يراسل أصدقاءه القدامى في إنجلترا، وبدأ نجمه يتألق مرة أخرى، وظهر في أوج عظمته كمؤلف ﻟ رسائل درايبر (١٧٢٤م) ورحلات جوليفر (١٧٢٦م) واقتراح متواضع (١٧٢٩م)، هذا الكتاب الساخر بقسوة والمائج بالغضبِ؛ غضبِ الإنسان الذي نظر حوله وتأمَّل فلم يعجبه ما رأت عيناه، فصبَّ جام غضبه على ذوي الأملاك الغائبين عن أرضهم تاركين مسئولياتهم تجاهها وتجاه مستأجريها … الأثرياء الذين ينفقون أموالًا طائلة في شراء البضائع الأجنبية غير مبالين بنتائج ذلك على وطنهم … الكاثوليكيين والبروتستانت بسبب صراعاتهم، وعلى الفقراء ذاتهم لاستكانتهم لوضعهم المهين، فكل هؤلاء قد تسببوا بطريقة أو بأخرى في أن تَصِل البلاد إلى ما آلت إليه من فقر وضَعةٍ وبؤس، ومن ثَمَّ فإن بطل كتابه يتقدَّم باقتراح يعرض فيه فكرة ذبح الأطفال الرضع من أبناء الفقراء عند إتمامهم العام الأول لكي يتم تقديمهم كطعام فاخر للأغنياء، ويجادل صاحب الاقتراح مبينًا أن تلك هي أفضل وسيلة يتجنب بها هؤلاء الأطفال آلام الحياة … إلخ. كل ذلك بأسلوب ساخر عميق وعنيف في الوقت ذاته. وهذا الكتاب، مع رحلات جوليفر وتوصيات للخدم وكادينوس وفانيسا وغيرها، ينتمي إلى هذه الفترة الثانية المتألقة من حياة سويفت ونشاطه.
ولقد برز سويفت كشخصية مميزة في المجتمع الأيرلندي حتى وصل إعجابُ الشعب به وحبُّه له إلى حد العبادة، ولم يكن سويفت مجرد كاتب سياسي يتأمل بسخرية أخطاء الإنسان ونقاط ضعفه، وإنما كان أيضًا مفكرًا مثقفًا جالَس عظماء وكتَّاب عصره، وإنسانًا رقيقًا حنونًا في الوقت ذاته. وإذا ما كان البعضُ قد اعتبره مبغضًا لبني البشر، فإن ذلك مجافٍ للصواب. فلعله كان متكبرًا متعجرفًا، لكنَّ هذا كان ناجمًا عن إدراكه المخيف لعدم توافق الإنسان مع خصائصه، وممارسته سلوكًا مخالفًا لها. وسويفت، ببصيرته النفَّاذة، لم يقبل أن يكتم أو يخفي شيئًا من اتهاماته للإنسان برفض العقل والخير كطريق في الحياة. وإذا كان متعجرفًا كشخص، فإنه كان متواضعًا في فلسفته. ومن أهم خصائص هذا التواضُع وضوح نثره، ذاك الوضوح المصطبغ بنشاط عقلي شديد، بل بنشاط العقل الأكثر حيويةً في ذلك القرن. وإذا ما كان الناس قد مالوا إلى الاعتقاد بأن سويفت كان قد فقد قواه العقلية وأصيب بلوثة جنون فإن ذلك كان بسبب ما اعتبروه تشاؤمًا قاتمًا في نظرته إلى الإنسان وخاصة في كتابه الرابع من رحلات جوليفر، أي رحلة جوليفر إلى بلاد «الهوينوهُمز».

(٢) رحلات جوليفر

رحلات جوليفر عمل مأساوي، أو هو، على وجه التحديد، عمل أقرب إلى المأساوية من أي عمل أدبي آخر ظهر في القرن الثامن عشر. وتكمُن المأساة في اللاعقلانية، كما يراها سويفت، التي تسود حياة الإنسان في جميع تصرفاته وسلوكه. فلقد بنى سويفت عقيدته — وهو ابن العصر الأغسطي أو «عصر العقل»، كما سُمِّي — على العقل وقيمته الأساسية في السلوك البشري، وثار عندما افتقده في صميم الإنسان. ورحلات جوليفر تعبير عن غضب الكاتب من حماقات الإنسان ورذائله، وعن شعوره الغامر بالقصور المأساوي لدى بني البشر.
ومع ذلك، فإن الكتاب من روائع الأدب الهزلي، ومن الخطأ اعتباره نتاج يأس قاتم. ورغم أن الغضب والاحتقار والاشمئزاز أساس جميع كتابات سويفت الساخرة، إلا أنه كتبها تحت تأثير اعتقاده الراسخ بأن رؤية الذات ومعرفتها على حقيقتها ستؤدي في نهاية الأمر إلى السلوك السليم. وكان هدفه من كتابة رحلات جوليفر، وكما قال هو نفسه، «إصلاح العالم»، الأمر الذي يوحي بالأمل لا بالتشاؤم. ويؤكد ذلك أيضًا روح الفكاهة المرحة المتوغلة في الرحلات والتي تنفي ما أصرَّ عليه عدد من النقاد مِن أنه نتاج عقل مريض على شفا الجنون. ففي هذه الروح دليل قاطع على صحة سويفت العقلية والروحية عندما كتب الرحلات. أما مرضه فلم يُصِب به إلا بعد ظهور الكتاب بسبعة عشر عامًا. والهزل والمرح والفكاهة في رحلات جوليفر، كلها تخدم السخرية، والتي هي هدف سويفت الأساسي؛ فالسخرية أشد شراسة من الهزل في هدفها الأخلاقي لأنَّها تقيس السلوك الإنساني بمقارنته مع النموذج المثالي وليس العادي، وترفع أمام ناظري القارئ مرآة تعكس فيها صورة مشوهة مبالغًا فيها لحياته، لا يلبث — إن كان على قدرٍ من الوعي — أن يكتشِف فيها صورته هو. ويكون وقع الصدمة بمقدار الهوة التي تفصل بين المقاييس الأخلاقية التقليدية وبين السلوك الواقعي.

وسويفت الذي «لم يستَطِع أن يغفِرَ للإنسان أبدًا كونه حيوانًا ثدييًّا فقاريًّا وروحًا خالدة معًا»، على حد تعبير «ألدوس هكسلي»، رفض تعريف الإنسان بأنه حيوان «عاقل» وعرفه بأنه حيوان «ذو قدرة على العقل»، وكان قد كتب في خِطَاب إلى صديقَيه «بوب» و«بولينغ بروك» قائلًا: «أقول مع ذلك إنني لا أكره الجنس البشري، بل إنكم أنتم الآخرون الذين تكرهونه، لأنكم تريدون الإنسان حيوانًا عاقلًا، وتَغضَبُون لخيبة أملكم فيه. أمَّا أنا فلم أقبل ذلك التعريف أبدًا، وفكرت في تعريفٍ آخرَ خاصٍّ بي.» فهو يتألم لأنَّ الإنسان لا يستغل قدراته العقلية أحسن استغلال، بل يتصرفُ كأنه أقل بكثير من مستواه العقلي والخلقي مما أراده الله. لقد أراد سويفت أن يكتشف حقيقة الإنسان وطبيعته من خلال تجاربه الخاصة ومعرفته بسلوك معاصريه، فجاءت الصورة التي رسمها تحفة خالدة.

تنتمي رحلات جوليفر إلى «عصر العقل»، هذا العصر الذي كان من أكثر العصور ملاءمة للأدب الساخر، حيث ساعد الإيمان السائد آنذاك بالطبيعة والعقل على انتشاره، لدرجة أنَّ النِّصف الأول من القرن الثامن عشر أصبح العصر الذهبي لذلك النوع من الأدب. كما تنتمي هذه الرحلات إلى نوع خاص من أدب الرحلات المتصل بالتراث الأدبي الفكري الأوروبي، الذي دفع بعض الكتَّاب والمفكرين إلى خلق رؤًى لمجتمعات غريبة، إما أسطورية وإما مثالية، بهدف دراسة الفكر السياسي المعاصر، فهذا ما فعله «روجر بيكون» و«توماس مور» وسيرانودي برجراك … بل وقبلهم «أفلاطون» أيضًا.
ورحلات جوليفر سلسلة من «الجمهوريات المثالية» ومجموعة من «الرحلات الفلسفية» تتسم تارة بالواقعية وتارة بالخيال المبالغ فيه. والكتاب أيضًا رحلة استكشاف ساخرة في خفايا الطبيعة البشرية، يكشف عن دخائلها من خلال ملاحظات الرحالة جوليفر، وعن ظواهرها من خلال النظم السياسية والاجتماعية للبلاد التي يسافر إليها وسلوك سكانها؛ فأسفار جوليفر رحلة أو تجربة ذهنية تنتقل بالقارئ من حالة الرضا التام الذي يرتكز على الجهل إلى حالة الرفض التام الذي ينبع من اكتشاف الحقيقة المؤلمة اللاذعة المختفية وراء الخداع والوهم اللذين كان يعيش فيهما.

وجوليفر الرحَّالة الذي اختاره سويفت كي يسرد تفاصيل مغامراته، هو شخصية مستقلة، يجب ألَّا نخلط بينها وبين المؤلِّف كما حدث مع كثير من النقاد. وجوليفر نموذج للرجل الإنجليزي العادي المتوسط الحال ماديًّا، وغير المتميِّز عقليًّا، واسع الحيلة وشجاع، وصاحب فضائل جمَّة، لكنه يقع في كثير من الأحيان فريسة لخداع النفس وأنصاف الحقائق. إنه أقرب إلى ذهن القارئ، وقد اختاره سويفت كأداة لتأمل المجتمع البشري الأوروبي، وخاصة الإنجليزي في القرن الثامن عشر الذي تنتمِي إليه الشخصية. ولقد حرَص سويفت على تقديمه بدرجة من الواقعية تُمكِّن القارئ مِن التماهي معه، إلا أنَّه تماهٍ محدود وليس كاملًا، وما يتحكم في درجته إنما هو أداة السخرية التي تدفع بالقارئ إلى الفصل بينه وبين جوليفر. وعند ذلك يجد القارئ نفسه ناقدًا لجوليفر وناقدًا لذاته في الوقت نفسه نظرًا لتماهيه السابق معه في بعض نواحي تفكيره وسلوكه. ويبقى أن نقول إن جوليفر بين بلاد الأقزام هو غيره في بلاد المردة، ذلك أنه أداة يستخدمها الكاتب ليشوِّه بها رؤيتنا لأنفسنا وللواقع، مثل المرآة المعوجَّة التي تعكس الأشياء على نحو ملتوٍ، كما أنَّه وسيلة للانتقال بالقارئ بين المواقع الاستكشافية التي يستطيع منها أن يشرف على دخائل الطبيعة البشرية.

يزور جوليفر في رحلاته أربعة بلدان مختلفة هي على التوالي:

  • (١)

    ليليبت: بلد الأقزام.

  • (٢)

    بروبدنجناج: بلد المردة.

  • (٣)

    لابوتا وجاراتها، بلنباربي، وجلبدبريب، ولجناج بلاد العلوم والسياسة المجرَّدتين.

  • (٤)

    بلد الهوينوهُمز التي تحكمها الأحصنة العاقلة ويقطنها أفراد الياهو، الإنسان الحيوان.

وكل زيارة لبلد من هذه البلدان تواجه جوليفر بمواقف لم يسبق له أن مرَّ بها.

(٢-١) رحلة إلى ليليبُت

يتَّخذ سويفت أساسًا لسخريته في رحلته الأولى، كما في التي تليها، المقارنة بين الحجمين الكبير جدًّا والصغير جدًّا. حيثُ يكتشِف جوليفر عدم تناسبه مع الظروف المحيطة به. ويجد سويفت فكرة «سلسلة الوجود الهائلة» إلهامًا لرؤيته في هاتين الرحلتين، فضلًا عن الرحلة الرابعة، ذلك أنَّ الفكرة القائلة بأن الإنسان يحتلُّ مكانًا وسطًا في سلسلة الوجود كانت فكرة مألوفة أيام سويفت، وكان الكثير من الناس يعتقدون أن الوجود قد نُظِّم بإتقان ودقة على شكل درجات في «سلسلة وجود هائلة» ابتداءً من الخالق الذي يتبعه عدد لا يُحصى من الكائنات الروحانية والذهنية المجرَّدة، إلى الإنسان والكائنات الحيوانية والأشكال المجهرية مِن الحياة، حتى ينتهي إلى لا شيء. ويشغل الإنسان في هذه «السلسلة» وضعًا لا يعرف فيه الراحة؛ لأنه يشارك لدرجة محدودة الكائنات الذهنية السامية في عقلها، بينما يُشارك — إلى درجة غير محدودة — الحيوانَ في غرائزه الحسية؛ فالإنسان «حلقة الوصل» و«نقطة الالتقاء» بين العقل والحس.

ولقد استخدم سويفت صورة الإنسان هذه، في موقعه الوسط من «سلسلة الوجود الهائلة»، كوسيلة للفكاهة والتهكُّم والسخرية، وهو يضطرنا مُتلهِّفِين إلى تتبُّع أهل ليليبُت وهم يحلون المشاكل التي يواجهونها عند اكتشافهم وجود «الرجل الجبل» (جوليفر) في بلدهم والذي يجب أن ينقلوه إلى وسط المدينة ويُحضِروا له الطعام ويصنعوا له سريرًا. كما أننا نجد تسليةً في وصف حيرةِ هذه الكائنات الصغيرة التي لا يزيد طولها عن ٦ بوصات وهم يتفحصون الأشياء التي يعثرون عليها في جيوب جوليفر — المشط وقطع النقود والمنديل والنشوق — دون أن يفهموا ماهيتها، وكذلك الساعة التي تبدو لهم بمثابة آلة هائلة «… ينبعث منها صوتٌ لا ينقطع مثل صوت طاحونة المياه» فاستنتجوا أنها «إمَّا حيوان غير معروف أو الإله الذي يعبده»، لكنهم يميلون إلى الرأي الأخير حيث أكد لهم جوليفر «أنَّه قلما يفعل شيئًا دون أن يستشيرها وقد سمَّاها الوصي، وقال إنها تشير إلى الوقت المحدَّد لكل فعل في حياته». كما يتمتَّع القارئ بطريقة استيلاء جوليفر على أسطول «بليفسكو»، البلد المعادية لليليبُت، وسحبه السفن وراءه في البحر ممسكًا بيدٍ واحدة بالخيوط التي ربطها بها، فبدت قطع الأسطول التي تهدد كيان الأقزام مِثل لعب الأطفال، وثمة مشهد العرض العسكري المقام على سطح منديل جوليفر المنصوب على أعمدة وكأنه ساحة رهيبة. كما يستغل سويفت التناقض في الموقف بين المارد والأقزام لإثارة الضحك، مثلما يفعل عندما يشير إلى الشك الذي يساور القزم «فليمناب» بوجود علاقة غرامية بين زوجته وجوليفر المارد.

بيد أن صغر حجم أهل ليليبُت يؤكد نوعًا آخر من الضآلة هي الضآلة الأخلاقية التي تبدو في غرور إمبراطور ليليبُت «الجبار، بهجة الكون ورعبه، الذي تمتد ممتلكاته خمسة آلاف «بلاس روج» — أي بقُطرٍ طوله حوالي اثني عشر ميلًا — حتى أطراف الكرة الأرضية. ملك الملوك، الذي هو أطول من أبناء البشر، ويصل رأسه إلى الشمس في علوِّها، وتصل قدماه إلى مركز الأرض. والذي يرتعد لمجرد إيماءة من رأسه أمراء الكون. لطيف كالربيع، مريح كالصيف، مثمر كالخريف، ومرعب كالشتاء». ومع ذلك فإن عبث ذلك الكائن الدُّمية لا يغيب عنَّا منذ أول مرة يراه فيها جوليفر وقد وقف مختالًا بسيفه في يدِه وخوذته الذهبية على رأسه وكلاهما مرصَّع بالجواهر الثمينة، فجوليفر يُضطَرُّ، لكي يراه عن قرب، إلى الاستلقاء على جنبه حتى يصبح وجهه موازيًا لوجهه. وهو يضعه في قبضته عدة مرات منذ تلك المقابلة.

وتبدو سخرية سويفت أكثر وضوحًا عندما تظهر المقارنة بين ليليبُت ومجتمع إنجلترا المعاصر. ومِن أشهر مشاهد المقارنة الساخرة مشهد الألعاب البهلوانية التي يؤديها المتقدمون للوظائف المرموقة في الدولة. وهم يتنافَسون عليها بالرقص على حبل مشدود محاولين الاحتفاظ بها، «فالفائز الأول الذي لا يهوي على الأرض يرقى إلى الوظيفة. وكثيرًا ما يصدر الأمر للوزراء الأوائل أنفسهم باستعراض مهاراتهم لإقناع الإمبراطور بأنهم ما زالوا محتفظين بها.»

ثم ينتقل سويفت إلى لعبة أخرى لا تؤدَّى إلا في مناسبات خاصة، ولا يُسمَح لأحد سوى الإمبراطور والإمبراطورة ورئيس الوزراء أن يستمتعوا بها. والحركات فيها أكثر تنوعًا، ومن بينها حركة «الزحف تحت العصا» التي توحي بالرياء والنفاق والخنوع الذي يتطلبه الحاكم لإبداء رضاه نحو أصحاب المهارات، والتي يخلع عليهم عند تأديتها أحزمة خاصة ليست سوى خيوط «واحد أزرق، والآخر أحمر، والثالث أخضر» على التوالي، «وقلما تصادف شخصًا عظيمًا في هذا القصر إلا وقد تحلَّى بهذه الأحزمة». وعندما يتبين القارئ أن هذه الأحزمة تمثِّل أعلى الأوسمة التي يمنحها ملك إنجلترا للذين يتمتعون بحظوته، يبدأ القارئ بالتساؤل عن أوجه الشبه الأخرى بين ليليبُت والمجتمع الإنجليزي، وعن مدى التطابق بين شخصيات القصر في ليليبُت والمجتمع الإنجليزي، وعن مدى التطابق بين شخصيات القصر في ليليبُت وبين الملكة آن والملك جورج الأول وابنه أمير ويلز الذي أصبح فيما بعد جورج الثاني، وعن مدى التطابق بين شخصيتَي فليمناب وروبرت وولبول رئيس الوزراء أو الوزير الأول كما سُمِّي في ذلك الوقت، الذي استمرت رئاسته لوزارة الأحرار سنين طويلة، والذي صوره سويفت كأكثر الرجال حذقًا في الرقص على الحبل لطول بقائه في الحكم. ويتبين القارئ أيضًا أن دولة بليفسكو في حربها مع ليليبُت تمثل فرنسا في حربها مع إنجلترا. وفي إشارة سويفت إلى الخدمات التي أداها جوليفر لإمبراطور ليليبُت في حربه مع بليفسكو تذكرة بالخدمات التي أداها سويفت نفسه للقصر والوزارة دون أن يَلقَى من أيِّهما اعترافًا بالجميل، مما يُفسِّر قول جوليفر في نهاية الرحلة الأولى عندما يتآمر البلاط والوزراء ضده: «ولذلك قررت ألا أضع ثقتي بعد اليوم في أمير أو وزير.»

ولكن هذه الرحلة أعمق بكثير من أن تكون هجومًا عنيفًا مبنيًّا على تجربة شخصية محضة، أو محاولة للأخذ بالثأر ممن خذلوا طموح سويفت؛ فالكتاب كله، وبالذات الرحلتان الأولى والثانية، هجوم ساخر على الإنسان بوصفه حيوانًا سياسيًّا واجتماعيًّا. وهذه الرحلة تكشف عن التفاهة والافتقار إلى المبادئ عند هذا الإنسان. وهي تمتد إلى أبعد من الشخصيات التاريخية والطقوس السياسية مِن «قفز» و«زحف» إلى القضايا السياسية والدينية التي شغلت بال العصر فيجسدها سويفت في صورة حية عندما يرمز إلى حِزبَي المحافظين والأحرار اللذين كانا في صراع محتدم باسمَي «الترامكسانز» (Tramecksans) و«السلامكسانز» (Slamecksans) أو بحزبَي «الكعوب العالية» (High Heels) و«الكعوب المنخفضة» (Low Heels). فقد دفع حزب الأحرار إنجلترا إلى سلسلة من الحروب التجارية الدامية والمكلفة، أمَّا حزب المحافظين فقد نجح خلال فترة حكمه القصيرة في توقيع اتفاقية السلام التي غيَّرت مِن معالم أوروبا ومهدت طريق الاستقرار في إنجلترا. لكن الأوضاع كانت أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فمؤيدو المحافظين كانوا من مُلَّاك الأرض والمحافظين في الدين والاقتصاد والزراعة والقيم العامة، بينما كان حزب الأحرار من المساندين للطبقة التي بُني عليها ثراء المجتمع الإنجليزي — أي طبقة التجار البرجوازيين المنشقين عن الكنيسة الإنجليزية والتقدميين في فلسفتهم الاقتصادية وآرائهم الأخلاقية وقيمهم. وكان الأحرار من أنصار أسرة هانوفر الملكية، بينما كان المحافظون من أنصار الملك جيمس الثاني المخلوع الذي فرَّ إلى فرنسا، أي أنهم كانوا من مساندي القوى التي تهدد الأمة بحرب أهلية.

ورغم خطورة هذه القضايا التي كان يتوقف عليها مستقبل إنجلترا ونظام الحكم فيها، فقد تعمَّد سويفت … أن يُظهِرها بمظهر تافهٍ عابث، فهو يقول عن ميل الملك جورج الأول إلى حزب الأحرار وعن تردد ولي العهد في اتجاهاته السياسية: «إن الكعب الإمبراطوري أكثر انخفاضًا من كعوب أيٍّ من أعضاء حاشيته بمقدار درٍّ (وحدة قياسية في ليليبُت اخترعها سويفت) على الأقل … ونلاحظ أن ولي العهد يميل إلى حدٍّ ما إلى أصحاب الكعوب العالية، ومِن الواضح أن واحدًا مِن كعبَيه يبدو أكثر ارتفاعًا من الآخر، مما يجعله يعرج في مشيته.»

أمَّا القضية التي أثارت جدلًا طويلًا حول المسيحية والانشقاق الديني في إنجلترا، والتي كانت من القضايا الهامة في عصر سويفت، فقد صوَّرها بالأسلوب الساخر نفسه مقللًا في الظاهر من خطورتها. لقد حوَّل سويفت الصراع الديني المرير بين الكاثوليك والبروتستانت والعداوة بينهما إلى مشكلة «كسر البيضة»، كما سمَّاها، وتتلخص المشكلة في السؤال «هل من الأفضل كسر البيضة من القمة العريضة أم من القاع الضيق؟» وسمَّى الكاثوليك «أتباع القمة العريضة» (Big Endians) والبروتستانت «أتباع القاع الضيق» (Little Endians). وبهذا فإن القضية التي قاست منها إنجلترا سنين طويلة والتي أدت إلى اضطهاد ديني وثورة قلبت نظام الحكم مِن ملكي إلى جمهوري، تبدو في الرحلة إلى ليليبت سخيفة تافهة نتيجة للصورة التي تظهر عليها. وتنحصر سخرية سويفت في السبب العابث الذي قدَّمه كتفسير للاضطهاد الديني الذي أدى إلى موت آلاف المواطنين الكاثوليك، وهو رفض «أتباع القمة العريضة» الإذعان لكسر بيضتهم من «القاع الضيق».

ويقع سويفت في تناقض في الفصل السادس من هذه الرحلة حيثُ يتغلب المفكر لديه على الفنان، إذ نرى جوليفر عائدًا من رحلته شخصيةً مِثالية تقدُّمية راجعةً من بلد مثالي وحاملةً معها أخبار هذا البلد الذي فاق بلاده في النُّظم السياسية والتعليم والأخلاق، فبدلًا مِن أن تسنَّ ليليبت «القوانين لحماية الملكية الفردية وتثير في الأفراد الخوف من القانون وتجبرهم على الإذعان له، فإنها تشجع الناس على الفضيلة ونظمها، وتكرِّم أولئك الذين يحترمون القانون وتعاقب الخارجين عنه. وتهدف الأنظمة والقوانين في الدولة إلى إقناع المواطن بأن السلوك الفاضل في متناول الجميع وفيه مصلحة للجميع، وهم يعتقدون أن كل إنسان يستطيع التحلي بالصدق والعدل والاعتدال وما إليها مِن صفات. وبناءً على ذلك فإن حكم البلاد ليس أمرًا عسيرًا ولا يتطلب مهارة فائقة.»

وإذن فإن الرحلة إلى ليليبت تتحوَّل إلى شكل جديد من أشكال أدب الرحلات «اليوتوبية» فتتناول النواحي التي تبعث على الإعجاب بالأنظمة والقوانين والتربية والتقاليد الموجودة في ليليبت، والتي تفتقر إليها إنجلترا. ومِن الملحوظ أنَّ النقد السياسي والاجتماعي والتعليمي الموجَّه إلى إنجلترا هو أساسًا نقد أخلاقي.

وعندما حاول سويفت أن يعطي تفسيرًا لهذا التناقض، جاء التفسير واهنًا، ومفاده أن الأنظمة المثالية والسلوك الشريف والأخلاق الطيبة، التي وصفها جوليفر، ما هي إلا أثر باهت من آثار الماضي التي اندثرت بمرور الزمن عندما تعرَّض أهالي ليليبت لقوى الفساد.

وتنتهي الرحلة مرةً ثانيةً بصورةٍ غير مشرِّفة لأهالي ليليبت بفسادهم ونفاقهم وخداعهم وقسوتهم وشرِّهم، بينما يبدو جوليفر ليس أكبر حجمًا وحسب، وإنما أعظم خُلقًا وسلوكًا من أهلها الذين لا يتناسب صغر حجمهم مع مدى خطورتهم واتساع شرورهم؛ فعند رفض جوليفر القضاء على بليفسكو قضاءً مبرمًا، بعد أن ساعد أهل ليليبت ضدها، يُتَّهم بالخيانة ويُحكم عليه بالموت ثم يُخفف الحكم إلى فقء عينيه وتركه يموت جوعًا، فيُقرِّر جوليفر عندئذٍ الهرب لأن بقاءه فيه خطورة على حياته وقد يعرِّضه دفاعه عن نفسه إلى تدمير ليليبت وهو لا يرضى لنفسه ذلك الفعل القاسي. وهكذا يجمع حاجياته ويهرب أولًا إلى بليفسكو ومن ثَم يُبحِر على مركب إلى إنجلترا، وقد ملأ جيوبه بنماذج من سكان ليليبت الصغار الذين يسببون إثارة واهتمامًا كبيرَين في إنجلترا، ويؤكدون حقيقة ما يرويه جوليفر عن رحلته.

(٢-٢) رحلة إلى بروبدنجناج

في بروبدنجناج، جوليفر هو القزم، ومكانه في أسفل السلسلة «ناظرًا إلى أعلى» كما ينظر القزم إلى المارد، بينما كان في الرحلة الأولى في أعلى السلسلة «ناظرًا إلى أسفل» كما ينظر المارد إلى القزم. وتفوُّق أهل بروبدنجناج ليس تفوقًا في الحجم وحسب، وإنما يبدو في نهاية الرحلة تفوقًا أخلاقيًّا أيضًا، وهذا هو التفوق الحقيقي.

يجعل سويفت حقل القمح مكان أول لقاء بين جوليفر والمردة، بين سنابل القمح التي تُشبه الغابة في كثافتِها، وذلك ليؤكد الشبه بين جوليفر القزم والحيوان الصغير، الذي يحاول أن يفرَّ هاربًا حين يشعر بمنجل الفلاحين في موسم الحصاد. وعندما تراه امرأة الفلاح تعتقد أنه فأر أو عنكبوت فتصرخ وتتراجع.

وتطغى روح الفكاهة على الجزء الأول من الرحلة فتكثر المواقف الفكاهية المبنية على فكرة النسبية في الحجم (في أحد المشاهد يكاد الطفل المارد أن يبتلع رأس جوليفر، وفي مشهد آخر يلقي مهرج البلاط القزم بجوليفر في صحن من القشدة حيث يكاد يغرق لولا أنه يجيد السباحة، كما أنه يقع في أسر قردة تصر على إطعامه معتقدة أنه أحد أبنائها … إلخ). ونحن في هذه المواقف الفكاهية لا نجد أي أثر للسخرية.

بَيد أن هذه الرحلة لا تستمرُّ طويلًا على مستوى الفكاهة والمرح، فلا تلبث سخرية سويفت أن تطفو على السطح من جديد فيستخدم المردة الطيبين من أجل توجيه ضربة قوية إلى غرور الإنسان، عندما يقدِّم لأول مرة في الرحلات الشعور بالاشمئزاز من الجسد الآدمي، هذا الشعور الذي عُرِف به سويفت والذي يتضاعَف إلى درجة تجعله يسود الرحلة الرابعة إلى بلاد الهوينوهُمز. ولعل في هذا الاشمئزاز ردًّا على فلاسفة القرن الثامن عشر الذين أُعجبوا بجسم الإنسان لكماله وإبداعه اللذين يتناسبان مع وضعه في نظام الكون؛ فالجمال والقبح مسألة نسبية. ويحسم سويفت الأمر بنفوره من الجسد البشري، هذا النفور الذي هو حرب خاضها سويفت طوال حياته ضد الجسد، والذي يُعدُّ واحدًا من خصائص كتابته. وأيًّا كان التفسير الشخصي لهذه النظرة النافرة، فإن المهم هو أنه استخدمها استخدامًا فنيًّا ناجحًا ليكشف بها عن نواحي الإنسان الحيوانية، المادية منها والمعنوية.

ولا بدَّ من القول هنا إن سويفت لا يتطرق إلى الرمزية فيما يتعلق بالنفور من الجسد في رحلة بروبدنجناج، فاشمئزاز جوليفر ناجم في الواقع عن قصور في زاوية رؤيته نظرًا لضآلة حجمه؛ فهو لا يستطيع أن يرى إلا التفاصيل المكبَّرة البشعة مِن جسم المارد، بحيث يرى الجزء وليس الكل، وبذلك يفوته التناسق بالشكل الكلي وتبدو التفاصيل مشوَّهة.

وكذلك فإن جوليفر يفشل في تطبيق النظرة الشاملة على أخلاقيات أهل بروبدنجناج، فيفوته أيضًا مستواهم الأخلاقي الرفيع. وهنا تتكشَّف سخرية سويفت اللاذعة في هذه المرحلة، حيث يبدو جوليفر ضئيل الجسم وضعيف الخلق عندما يتباهى بإنجازات بلاده السياسية والتعليمية ونظامها الحزبي الرائع، وهي الأمور التي يعتبرها ملك بروبدنجناج عن حقٍّ فاشلة تمامًا. ويلخص سويفت في مشهد ساخر وِجهة نظر الملك، حيث يمسك بجوليفر بين الإبهام والسبابة ويربت عليه برقة مستفسرًا بتهكم عن ميوله السياسية فيسأله «وهل أنت من حزب الأحرار، أم من حزب المحافظين؟» وكأنه يلقي سؤاله على حشرة صغيرة. ومع ذلك فإن سويفت لا يبني نقده لمجتمع جوليفر على المبالغة في مثالية مجتمع بروبدنجناج؛ فالمردة لا يختلفون عن البشر إلا في حجمهم، وهم مَزيجٌ من الخير والشر، من الحكمة والحماقة، ويتصفون بالطيبة لكنهم قساة في بعض الأحيان. وهكذا نرى أن سويفت يُصوِّر كيف يطوف الفلاح المارد بجوليفر في أنحاء البلاد جريًا وراء المكاسب من خلال عرضه على الأهالي مقابل مبلغ من المال كما يفعلون في السيرك، دون مراعاة للإرهاق الذي يسببه لجوليفر ذي البنية الضعيفة. وأهل بروبدنجناج يمتازون، كصفات عامة ورئيسية، بالبساطة والتواضع والأمانة وحُسن المعاملة. وأهم من هذا أنهم يحبون السلام ويكرهون الحرب، ولا يسعون إلى المجد الزائف، وإنما يبتغون الحياة الهادئة غير المعقدة. ويمثل ملكهم الصفات التي يُعجَب بها سويفت؛ «التفهُّم الممتاز والعقل والحصافة»، ويتخذه سويفت حكمًا على المجتمع الإنجليزي والأوروبي الذي يفخر به جوليفر، ومقياسًا للزيف الأخلاقي الذي يدافع عنه دون وعي. ومِن خلال وجهة نظر هذا الملك العاقل يبدو جوليفر قزمًا في قصوره الخُلقي كما هو في ضآلته الجسدية. وعندما يسأل الملك جوليفر تقديم تقرير عن نظام الحكم والسياسة والتعليم والتربية في بلاده، يُقدِّم له جوليفر ذلك باعتداد وحماسة عاليين، لتبدأ بعدئذٍ أسئلة الملك الواضحة التي تحوي إشارة إلى الجواب، إلى أن يأتي النقد اللاذع والضربة القاضية في نهاية المشهد عندما ينطق الملك بحكمة بعد أن يكون القارئ قد انتقل بتعاطفه إلى وجهة نظر الملك السليمة الصائبة: «لقد ذُهِل الملك تمامًا للتقرير التاريخي الذي قدمته له عن أحوالنا خلال القرن الماضي. واعترض عليه قائلًا إنها ليست إلا سلسلة من المؤامرات والتمرُّد وجرائم القتل والمذابح والثورات والنفي. وكلها من أسوأ آثار الجشع والحزبية والانشقاق والنفاق والغدر والقسوة والحنق والكراهية والحسد والشهوة والنكاية والطموح.»

ولا يسع الملك إلا أن يستنتج مما قاله جوليفر أن أهل بلاده في مجموعهم «جنس دنيء مقيت من الحشرات، بل إنهم أبغض ما سمحت له الطبيعة في أي زمن من الأزمنة أن يزحف على وجه الأرض.»

ولا تنتهي سخرية سويفت عند هذا الحد، حيث يكشف جوليفر في حواره التالي مع الملك عن نواقِصَ خطيرةٍ فيه تجعله نموذجًا للجنس البشري المدمِّر البغيض الذي أشار إليه الملك في تعليقه، فيظهر جوليفر في أصغر حجمه وأقصى دناءته عندما يعرض على الملك هدية ثمينة يعتقد أنه لا يمكن لأحد بقواه العقلية أن يرفضها، وهذه الهدية هي «سر اكتشاف البارود». فيأتي ردُّ فعل الملك معاكسًا لما كان ينتظره جوليفر، إذ يرتاع الملك للتفاصيل الفظيعة التي رواها جوليفر، ويعتبره مجردًا من الإنسانية لأنَّه يروج تلك الأفكار الرهيبة ويحرِّم عليه ذِكر الموضوع كليةً: «لقد ارتاع الملك للوصف الذي قدمته لتلك الآلات الفظيعة، وللاقتراح الذي عرضته عليه. ولقد تعجَّب كيف تستطيع حشرة عاجزة دنيئة مثلي (هكذا كان تعبيره) أن تفكر بهذا الأسلوب الوحشي وكأنه شيء عادي، دون أن تُبدِي أي تأثر على الإطلاق لمشاهد الدم والخراب التي رسمتها كنتيجة طبيعية لتلك الآلات المدمرة … أمَّا مِن جهته هو فقد صرخ مؤكِّدًا أن الاكتشافات الجديدة في الفن والطبيعة هي أكثر الأشياء التي تُدخل السرور إلى قلبه …»

وإذن فإن أهل بروبدنجناج في هذه الرحلة هم أيضًا ممثلون للبشرية بما فيها مِن عيوب ومحاسن؛ فالملك كائن ذكي وعاقل وفاضل، وتمثل أخلاقيته أحسن ما في الإنسان من إيجابيات، ومع ذلك فهو ليس نموذجًا مثاليًّا فوق مستوى البشر.

إن القارئ لا يجد أية صعوبة في مطابقة وجهة نظره مع وجهة نظر الملك والعزوف عن وجهة نظر جوليفر. وتتلخص رحلة بروبدنجناج بأنها هجوم عنيف على سلوك ودوافع الإنسان الجنونية، ودفاع عن السلوك الأخلاقي في جميع نواحي الحياة.

(٢-٣) رحلة إلى لابوتا وبلنباربي وجلبدبريب ولجناج

في الرحلة الثالثة يسخر سويفت من بلاد فشلت في الاعتراف بالبديهة التي مفادها أن هدف العلم والتكنولوجيا يجب أن يكون أولًا وأخيرًا الفائدة التي تعود على الإنسان. كما يكشف سويفت عمَّا لا بد أن يحدث في مجتمع أُطلِقَ فيه العنان للاتجاه النظري البحت. والسخرية هنا أكثر شمولًا؛ إذ هي موجَّهة إلى المواقف والأنظمة المعاصرة وإلى السياسيين ورجال العلم ومطوِّري الزراعة والمخترعين والمكتشفين، وليست موجَّهةً إلى أشخاص أو سياسة بالذات. ويمكن القول باختصار: إن سويفت يسخر هنا من سوء استخدام الإنسان لعقله، هذا السوء الواضح في الاتجاه إلى الفصل بين العلم واحتياجات الإنسان. ففلاسفة لابوتا، ومعناها الجزيرة الطائرة، تائهون في تجريدات الرياضيات والموسيقى والفلك، وبدلًا من أن تتبع الرياضيات الأشكال الطبيعية للأشياء، فقد شكَّل اللابوتانيون الأشياء لتتفق مع الرياضيات، وأُعجبوا بالنساء لا لجمالهن وإنما للتشابه بين أجسامهن وبين أشكال معينة. وطبقوا أسلوبًا رياضيًّا معقدًا في حياكة الملابس، فجاءت غير متناسقة مع مقاييس أجسامهم. وهم منقطعون عن العالم المادي تمامًا. ويرمز سويفت إلى ذلك بصورة رجل ذي عين مصوَّبة إلى داخله والعين والأخرى إلى السماء. وهم يكرسون كل جهودهم لأبحاث عابثة في محاولة ﻟ «غزل خيوط العنكبوت» و«استخراج أشعة الشمس من الخيار» و«تليين الرخام لصنع وسائد صغيرة من أجل حفظ الدبابيس» «واستخراج الحرير الملون من الذباب» و«اكتشاف طريقة للبناء من أعلى إلى أسفل». وهم إلى ذلك لديهم «المنبِّهون»؛ أي المرافقون الذين ينبِّهون الباحثين إلى ما لا يسمعونه أو ما لا يرونه، والذين «يحملون في أيديهم قِربًا منفوخة تحوي الفول اليابس أو الحصى الصغيرة الحجم ينفخون بها قُرب أذن الباحث الذي يرافقونه». وليس هذا سوى تصوير ساخر للهوة الشاسعة بين «عقل» أهل لابوتا وحواسهم.

ولابوتا الجزيرة الطائرة هي أيضًا صورة حية لما يحدث حين تتركَّز السلطة السياسية في أيدي مجموعة من البشر غير العمليين الميَّالين إلى التجريب والعفوية، والبعيدين في تفكيرهم عن احتياجات البشر الأولية. وتبدو مآسي هذا النوع من الحكم وخطورته عندما يزور جوليفر «بلنباربي» التي تحكمها لابوتا فيظهر لنا كيف أن الجزيرة الطائرة عديمة الصلة بالبلاد التي تحكمها وتستغلها، وسويفت يشير هنا بالذات إلى حكم إنجلترا الظالم لأيرلندا.

وموقف جوليفر في هذه الرحلة هو موقف الرجل العاقل المتزن الذي يتعجب مما يراه، وهو يلعب دور المتفرج الذي يتعجب مما يراه، وهو يلعب دور المتفرج الذي يلاحظ ويسجل دون أن يتفاعل أو يتأثر. وفي الوقت نفسه فإن سخرية سويفت لا تمس القارئ فتفقده احترامه لنفسه وإنما يقف هو الآخر خارج نطاق ذلك العالم المصاب بلوثة الجنون. بَيد أن السخرية لا تلبث أن تأخذ لونًا أشد قتامة، وشكلًا أكثر عمقًا، ويدخل القارئ مع جوليفر مِن جديد عالم الأوهام وخداع النفس في الرحلة إلى «لجناج».

ففي هذه الرحلة يبني سويفت سخريته مرةً أخرى على موقف خيالي خُرافي، ذلك أن لجناج هي بلد اﻟ «سترلدبغز» (Struldbuggs)، أي الخالدين، الذين يشكلون نسبة صغيرة من سكان تلك البلاد. وكما هو الحال في جميع رحلات جوليفر، فإن سويفت يصوِّر الفكرة المجردة، وهي هنا فكرة الخلود، في صورة مجسدة ملموسة «فالخالدون يولدون ببقعةٍ حمراءَ مميزة فوق العين اليسرى، وتتحول هذه البقعة في مراحل متأخرة إلى اللون الأخضر، ثم الأزرق، وفي نهاية الأمر إلى الأسود.» وعندما يسمع جوليفر بهؤلاء «الخالدين» يسيطر عليه حلم الخلود الواهم الذي يجد فيه سعادة وحكمة لا حدود لهما. لكن الرجل الذي تحدث إليه جوليفر من «الخالدين» يبتسم ابتسامة المشفق على سذاجة جوليفر، ويأخذ في وصف حياة اﻟ «سترلدبغز» كما هي في الواقع وليس كما تصورها جوليفر. يقول هذا الرجل إنهم يعيشون حياة طبيعية حتى سن الثلاثين، ثم تبدو عليهم علائم الكرب والغم حتى سن الثمانين، وعندئذٍ لا تظهر عليهم حكايات المسنين وضعفهم عامةً وحسب، بل تظهر إلى جانبها صفات أخرى تنشأ من «المصير المريع»، أي الحياة الأبدية التي تنتظرهم. فهم لا يتصفون بالعناد وضيق الخلق والطمع والاكتئاب والغرور والثرثرة فقط، وإنما يتصفون أيضًا بفقدان المشاعر الطبيعية نحو الآخرين، ويحسدون صغار السن على ملذاتهم، كما يحسدون الموتى على تحرُّرهم من حياةٍ أصبحت كريهة إليهم. وهم يتذكرون بشكل غير دقيق الأشياء المتعلقة بشبابهم وكهولتهم فقط. أما أولئك الذين هم أسعد حظًّا فلا يتذكرون شيئًا على الإطلاق. وفي سن الثمانين يُعتَبرون أمواتًا بنظر القانون، أما في التسعين فيفقدون حواسهم وتستمر أمراضهم، ويحرمهم فقدان الذاكرة من سلوى القراءة. وباندثار لغة الأكبر سنًّا منهم يصبحون غرباء وسط أهلهم، وبهذا يعيشون في وحدة أزلية قاتلة. و«أقوى المشاعر التي تسيطر عليهم هي الحسد والرغبات العميقة. لكن الأشياء التي يبدو أنهم يوجهون ضدها مشاعر الحسد أساسًا هي رذائل الأصغر سنًّا، وموت الأكبر سنًّا. فعندما يتأمَّلون الأول يجدون أنفسهم منقطعين عن أي احتمال للمتعة، وعندما يرون جنازة الآخر يندبون ويتبرمون لأن غيرهم رحل إلى مأوًى للراحة لا أمل لهم فيه أبدًا.»

وينتهي كل هذا بجوليفر إلى أن يتحرر من أوهامه ويستيقظ من أحلامه ويتعلم أن الحياة تجربة صعبة وجادة، وأن الإنسان محدود في إمكانياته وقدراته.

(٢-٤) رحلة إلى بلاد الهوينوهُمز

يبدو سويفت في أوج عظمته كأديب ساخر في الرحلة الأخيرة إلى بلاد الهوينوهُمز، وهي الرحلة التي هاجمها النقاد بعنف لأنهم أساءوا فهْم معناها، وكان ثاكري (١٨١١-١٨٦٣م)، الروائي والناقد الفيكتوري الشهير، واحدًا من أولئك الذين أغضبتهم الرحلة إلى درجة أنه نصح مستمعاته من السيدات، في محاضرة ألقاها عن سويفت في لندن، «بالامتناع عن قراءتها لأن سويفت رجل فاجر تمامًا، يائس، مجنون، وعواطفه وحشية، وقوته التي يتباهى بها وضيعة. وهو وصمة للحيوان كما يستحق أن يكون فعلًا. والجهل أحسن من «العقل»، الذي يتشدق به.» ويصف ثاكري الأسلوب الذي يستخدمه سويفت في هذه الرحلة بأنه «أسلوب «الياهو» الذي يسخر منه سويفت نفسه». ويتابع: «إنه وحش مريع يصرخ ويزمجر ضد الإنسانية … قذر في فكره، ساخط، هائج وبذيء». والواقع أن الرحلة تترك مثل هذا التأثير على كثير من القراء إذ إنها تصيبهم في كبريائهم كبشر؛ فالسخرية هنا لم تعد مجرد هجوم على سلوك الإنسان المعاصر وحياته الاجتماعية ونُظُمه السياسية، وإنما هي أكثر شمولًا، تتناول جشع الإنسان ودناءته وكبرياءه وأوهامه وتصرفاته الحمقاء في كل زمان ومكان.

ولا شك أن أثر الصدمة يرجع إلى كلٍّ مِن صورَتي الهوينوهُم «الحصان العاقل الناطق» والياهو «الإنسان الحيوان»، اللتين يُقارِن بينهما جوليفر الإنسان. وهكذا نجد جوليفر هنا بين «العقل» و«الحس» المجسدين في الهوينوهُم والياهو على التوالي، بعد أن كان في ليليبت وبروبدنجناج بين المارد والقزم.

والهوينوهُمز كائنات لا علاقة لها بالجياد إلا في مظهرها الخارجي. وهي مخلوقات تبعث على الإعجاب في تلاؤمها التام مع العالم الطبيعي. إنها هادئة لطيفة عاقلة متزنة في أسلوب حياتها وسلوكها، صادقة لا تتحدث عن أشياء غير موجودة، لا تعرف الكذب ولا تحتوي لغتها على أية كلمة بهذا المعنى، وإنما هي تعبر عنه ﺑ «الشيء غير الكائن». والفضيلة عند الهوينوهُمز هي المعرفة، وأساس تفكيرهم هو العقل والمنطق. وبلادهم تشبه إلى حدٍّ كبير الكمال الذي تصوَّره أفلاطون في «جمهوريته» المثالية التي يحكمها الفلاسفة.

أما الياهو، وهو أقوى رمز وَرَدَ في أي عمل من أعمال سويفت، فهو نقيض العقل، أي إنه يرمز إلى العنصر الحيواني، في الإنسان، تلك الناحية غير المستنيرة، وغير المتطورة، وغير العاقلة في الجنس البشري. ويشعر جوليفر باشمئزاز لا حدَّ له عندما يرى الياهو القبيح ظاهرًا وباطنًا. فشكله الظاهر القبيح المقزز بالشعر الكثيف الذي يغطي جسده، ومخالبه الطويلة التي يستخدمها في التسلق على الأشجار، ما هي إلا انعكاس لأخلاقيته المنكرة الكريهة. فهو جشع، حانق، حسود، غيور، مغرور، بليد، عبد للشهوة ولغريزة التملك، خاوٍ فكريًّا وعقليًّا وعاطفيًّا. إنه أسير طبيعته الفاسدة وشهوانيته، وعلاقته ببني جنسه علاقة عدائية لأن رغباته لا تعرف الاعتدال.

وهذه المقارنة بين الهوينوهُم والياهو، بين العقل والحس المجرَّدَين، ليست مقارنة بين نوعين مختلفين من البشر، فالهوينوهُم أو الياهو لا يرمزان إلى الإنسان على الإطلاق. وإنما الذي يرمز إليه هو جوليفر الذي يشارك في طبيعة كلٍّ من الهوينوهُم والياهو طرفي النقيض. والحيلة التي يلجأ إليها سويفت في هذه الرحلة هي الفصل بين العنصرين الأساسيين اللذين يتحدان في الإنسان ذي الطبيعة الثنائية، وذلك كي يتمكن جوليفر مِن أن يتأمل كلًّا منهما في جوهره. ويحكم جوليفر منذ الوهلة الأولى بنفور من الياهو وإنكاره قرابته له وبانجذابه نحو الهوينوهُمز وادعائه القرابة لهم. وتكمن سخرية سويفت في نظرة كلٍّ من الياهو والهوينوهُم إلى جوليفر، فبينما لا يجد جوليفر أي شبه بينه وبين الياهو، نجد أن الهوينوهُمز يرون هذا الشبه واضحًا، بل يندهشون عندما يبدي جوليفر ما يدل على العقل والقدرة على الكلام مثلهم، فهو بالنسبة إليهم ليس إلا ياهو، وللتأكد من ذلك فإن بعضهم يضع جوليفر جنبًا إلى جنب مع ثلاثة من الياهو بقصد المقارنة. وتكون الصدمة المروِّعة عندما تنجلي الحقيقة لجوليفر شيئًا فشيئًا فجسم الياهو جسم إنسان كامل، مع بعض الاختلافات في حجم الأعضاء كالشفة والوجه والأنف، ولكنها اختلافات تشترك فيها جميع الأمم المتوحشة، أما يداه فتمثلان يدي جوليفر إذا ما تجاهلنا طول الأظافر وخشونة راحة اليد وكثافة الشَّعر على ظهرها، والأقدام كذلك. ويكتشف أحد الهوينوهُم ذلك عندما يرى جوليفر نائمًا وقد خلع ملابسه، كما وهو يستحم في النهر حيث تراه أنثى شابة من الياهو فيثير فيها رغبة شهوانية باعتباره واحدًا من أبناء جنسها، فتقفز إلى النهر وتعانقه بعنف ولا يستطيع أن يتخلص منها إلا حين ينقذه أحد خدم الهوينوهُمز. وبعد هذه التجربة يصبح من المستحيل أن ينكر جوليفر حقيقته «الياهووية» أو يخفيها.

ومع ذلك فقد اعترف الهوينوهُمز بأن ثمة اختلافًا بين جوليفر والياهو أساسه مظاهر العقل التي تبدو عليه. لكن هذا الاختلاف يزيد نفورهم منه بدلًا مِن أن يقرِّبه منهم. فمظهر العقل لديه ليس إلا «زيف وخداع … وهذا يجعله أحط من الياهو.»

أما جوليفر فقد بدأ بالإعجاب بالهوينوهُمز وانتهى بقبول حكمهم عليه وعلى بني البشر عامةً، ولم يعد يطيق النظر إلى نفسه فيقول: «إذا ما تصادف أن رأيت انعكاس صورتي في بحيرة أو نهر، أدرت وجهي بانزعاج، شاعرًا بالبغض نحو شخصي. إنني أحتمل مظهر الياهو العادي أكثر مما أحتمل مظهري.» ولكن، مع ذلك، لا يبدو أن سويفت قد أراد للقارئ أن يرى في الهوينوهُمز مثلًا أعلى يُحتذى، بل على العكس فإنهم قد يثيرون الضحك أحيانًا بل والنفور أيضًا. ونحن نشعر بالاشمئزاز من تفاني جوليفر في حبهم. وعندما نستمع إلى مناقشات مجلس الهوينوهُمز التي تدور حول مصير جوليفر والياهو نصطدم بحقيقة ذلك الجنس الذي يخلو من أية مشاعر إنسانية دافئة. ونتبين من نظرتهم للأشياء تصور حياة العقل وحده. وهذا التفسير الحديث لسخرية سويفت من الهوينوهُمز يتفق مع أسلوب سويفت المعروف في السخرية ورفضه الدائم إعطاء القارئ أهدافًا إيجابية واضحة لا لبس فيها. إنها صفة التركيب والأسلوب غير المباشر في سخرية سويفت، والذي كان أول من لفت الأنظار إليه هو الناقد ف. ر. ليفيز في مقال مشهور بعنوان «سخرية سويفت».

وأخيرًا، فإن رحلات جوليفر هي إبداع سويفت الإنسان الذي جمع بين صفات الياهو والهوينوهُم؛ فالغضب والغيظ والحدة والعنف والكراهية التي عبَّر عنها سويفت، كلها من صفات الياهو، ولكنه وجهها ضد أسوأ الرذائل لأنه أراد للإنسان أن يكون فاضلًا لا مجموعة مشوهة من الشرور. وإذا ما كان سويفت سوداويًّا أو متشائمًا فلأنه يترجم هذا الغضب من الإنسان بسبب كل نقائصه وقصوره عن تحقيق الكمال. ويتوسل سويفت إلى ذلك بسخرية عميقة عبقرية تقوم أساسًا على المفاجأة والنفي، فوظيفتها الأولى أن تقهر المألوف وما تعودنا عليه وتثير خوفنا وحيرتنا وتناقش مسلَّماتنا، على حد تعبير الناقد ف. ر. ليفيز. ورحلات جوليفر هي إنتاج روح متقدة وعقل متيقظ عبقري وضع تهكُّمه الساحر بأسلوب ممتع جذاب وبقوالب فنية عبقرية، ومن أجل الإنسان في النهاية على الرغم من كل شيء.

•••

وغريغوري غورين، شأنه في ذلك شأن سويفت، يفاجئنا ويقهر مألوفنا ويثير دهشتنا وتساؤلاتنا. وهو فوق كل شيء لا يخشى التنطح لمَسرَحَةِ إبداع عظيم مثل إبداع سويفت، بل ينبري له كي يعيد صياغته ويثير من جديد تساؤلات قديمة-جديدة.

ومسرحية غورين هذه هي مسرحية بالمعنى الشامل للكلمة، ونوع من اللعبة مع موضوعات وأسماء معروفة جيدًا. ومثل هذه المسرحيات ليست جديدة في القرن العشرين وإنما هي مستمدة من المسرح الفرنسي العقلاني حيث يختلط الكوميدي بالتراجيدي وإلى هذا الشكل الفني يميل غورين منذ مسرحيته الشهيرة انسوا هيروسترات.

ما الذي تمسرحه هذه المسرحيات؟ وعلامَ تدور؟ إنها تُمسرِح الحياةَ والموت والحب والكراهية والفن والفنانين، وهي في الوقت ذاته هزل وسخرية من الحياة والموت والحب والكراهية والفن والفنانين. وهي تُمسرِح أيضًا، وإلى حدٍّ بعيد، تلك الأشكال من سقط المتاع والهراء في وجودنا. ومثل هذه المسرحيات تقحم كلًّا من القرَّاء والجمهور بحيث يأخذون بأنفسهم دورًا في اللعبة الفكرية المحتدمة على خشبة المسرح لأنها محتدمة فوق مسرح الحياة.

وفي هذه المسرحية، «البيت الذي شيَّده سويفت»، يتم التعامل مع الأحداث بأسلوب «الخطف خلفًا»؛ فسويفت كتَب مؤلفاته الساخرة المتألقة اللاذعة ومرَّ زمن مديد على موضوعاتها والظروف المحيطة بها منذ أن خرجت من ذاكرته، ولكنها تظل جديرة بالملاحظة وإعادة النظر على نحو استثنائي، ولو، على الأقل، لعمق السخرية التي بثَّها سويفت فيها.

ومع ذلك فإن غورين لا يستسلم لإغراء وضع شخصية سويفت على خشبة المسرح كي تنطق بالانتقادات الساخرة العنيفة، فعبر المسرحية كلها تقريبًا يظل سويفت صامتًا. كل ما حوله محتدم أو متفجر أو تافه، وثمة أشياء سخيفة ومنافية للعقل تحصل أمام ناظريه، لكنه لا ينبس ببنت شفة، بَيد أن المسرحية بكاملها تتنفس روح سويفت؛ فهي تحيي وتبعث موضوعات وشخصيات من عمله الأعظم رحلات جوليفر، دون أن يعني ذلك أن الليليبتانيين والمردة وغيرهم الموجودين في مسرحية غورين حاضرون كما أبدعهم سويفت في الأصل، وإنما هم باعتبارهم شخصيات بخصائص جديدة مختلفة. ولمَ لا، ما دام الحدث يقع بعد كتابة سويفت لرائعته؟ لقد قال سويفت كل ما أراد قوله، أما الحياة فواصلت سيرها. وإذا لم تكن سخافات النوع البشري وجنونه وتفاهاته كلها قد استمرت، فإن الكثير منها ما يزال موجودًا، وبالشكل ذاته تقريبًا الذي سجلته فيه العبقرية الساخرة لدى سويفت.

و«البيت الذي شيَّده سويفت» ليست موضوعية إن كان المقصود أنها تستمد مادتها وموضوعاتها مِن الأحداث التي تجري الآن. بيد أنها وثيقة الصلة بالحاضر الذي تمكَّن غورين من أن يعكسه على الحياة وعلى المصير الإنساني بشكلٍ عام. ورغم أن هذه قضية خطيرة من الصعب أن يتكلم المرء عليها بالمجرد، إلا أن سويفت أجاز لنفسه أن يفعل ذلك، فلماذا لا يكون ممكنًا لأبنائه الشباب وورثته أن يتبعوا خطوات هذا المعلم العظيم؟

لقد كان من الأسهل على غورين أن يسلك سبيل تكرار الدعابات والنكات والسخرية والتهكم والهجاء مما خلَّفه لنا سويفت. لكنَّ غورين لديه ذكاؤه النفَّاذ وفكره الشامل وفطنته المتوقدة، لديه سخريته الخاصة وهجاؤه المرير، لديه عقله الواسع الفسيح، ولديه حقًّا ما يقوله لنا.

(٣) مصادر المقدمة

  • (١)

    دليل القارئ إلى الأدب العالمي، هيرلاندز/بيرسي/براون، ترجمة محمد الجورا، دار الحقائق، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م.

  • (٢)

    رحلات جوليفر، د. نور شريف، عالم الفكر. المجلد الثالث عشر، العدد الرابع، يناير - فبراير - مارس، ١٩٨٣م، وزارة الإعلام في الكويت.

  • (٣)

    جوناثان سويفت وصوت العقل المجنون، ترجمة وتعليق د. أميرة حسن نويرة، عالم الفكر، المجلد الخامس عشر، العدد الثاني، يوليو - أغسطس - سبتمبر، ١٩٨٤م، وزارة الإعلام في الكويت.

  • (4)
    Soviet Theatre. 1/1987
  • (5)
    A short History of English Literature, I for Evans, Penguin Books.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥