عاشور الناجي

الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش

١

في ظلمة الفجر العاشقة، في الممرِّ العابر بين الموت والحياة، على مرأًى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طُرِحت مناجاةٌ متجسِّدة للمعاناة والمسرَّات الموعودة لحارتنا.

٢

مضى يتلمَّس طريقه بطرف عصاه الغليظة، مرشدتِه في ظلامه الأبدي. مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني. بين مسكنه عند مشارف القرافة وبين الحارة يخوض أشقَّ مرحلةٍ في طريقه إلى الحسين وأعذبَها. على غير المعهود تناهى إلى أذنَيه الحادَّتَين بكاءُ وليد. لعله دويٌّ أكبرُ من حجمه في ساعة الفجر. الحقُّ قد جذبه من سكرة الرؤى ونشوة الأناشيد. في هذه الساعة تهيم أمهاتٌ بأطفالهن! ها هو الصوت يشتدُّ ويقترب، وعمَّا قليلٍ سيحاذيه تمامًا. وتنحنح كي لا يقعَ ارتطامٌ في مشهد الفجر. وتساءل متى يكفُّ الطفل عن البكاء ليرتاحَ قلبه ويعاودَ خشوعه. الآن صار البكاء ينخُس جنبه الأيسر. تباعد يمنةً حتى مسَّت كتفه سور التِّكية، وتوقَّف قائلًا: يا حرمة، أرضعي الطفل!

ولكن لم يُجِبه أحد، وتواصل البكاء، فهتف: يا حرمة! يا أهل الله!

فلم يسمع إلا البكاء. ساور الشك قلبه فولَّت البراءة المغسولة بماء الفجر، واتجه نحو الصوت بحذرٍ شديد جاعلًا عصاه لصق جنبه. انحنى قليلًا فوق الصوت، مدَّ راحته برحمةٍ حتى مس سبَّابته لفافة. هو ما توقَّعه القلب. جال بأصابعه في طيَّاتها حتى لامس وجهًا طريًّا متشنِّجًا بالبكاء. هتف متأثِّرًا: تُدفن القلوبُ في ظلمة الإثم.

وصاح بغضب: لعنة الله على الظالمين.

وتفكَّر قليلًا ولكنه قرَّر ألَّا يهملَه ولو فاتته صلاة الفجر في الحسين. النسمة باردة في هذه اللحظة من الصيف، والزواحف شتَّى، والله يمتحن عبده بما لا يجري له في حُسبان. وحمله برفق، ثم عزم على الرجوع إلى مسكنه ليُشاور زوجته في الأمر. وترامت إليه أصوات آدميين لعلهم ذاهبون إلى صلاة الفجر، فسعل منبِّهًا، فجاءه صوت يقول: سلام الله على المؤمنين!

فأجاب بهدوء: سلام الله عليكم.

وعرف المتكلِّم صوته فقال: الشيخ عفرة زيدان؟ ماذا أخَّرك؟

– إني راجعٌ إلى البيت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

– سلامتك يا شيخ عفرة!

فقال بعد تردُّد: عثرت على وليد تحت السور العتيق.

وانداحت همهمةٌ بين الرجال حتى قال أحدهم: اللعنة على الآثمين.

وقال ثانٍ: اذهب به إلى القِسم!

وسأله ثالث: ماذا أنت فاعلٌ به؟

فقال بهدوءٍ لا يناسب المقام: سوف يهديني الله إلى مشيئته.

٣

انزعجت سكينة لدى رؤيتها زوجَها الشيخ على ضوء المصباح المرفوع بيسراها، وتساءلت: ماذا أرجعك كفى الله الشر؟!

وسرعان ما رأتِ الوليدَ فهتفت: ما هذا يا شيخُ عفرة؟

– عثرتُ عليه في الممر.

– يا رحمة الله!

تناولت الوليد برقَّة، جلس الشيخ على كنبةٍ بين البئر المغطاةِ والفرنِ وهو يغمغم: لا إله إلا الله!

راحت سكينة تهدهد الطفل، ثم قالت بحنان: إنه ذكر يا شيخُ عفرة!

فحرَّك رأسه صامتًا، فقالت باهتمام: يلزمه غذاء.

– وما درايتك بذلك وأنت لم تُنجبي ذكرًا ولا أنثى؟!

– أعرف أشياء، ومن يسترشد يجد من يرشده. ماذا أنت فاعلٌ به؟

– نصحوني بأن أذهب به إلى القِسم.

– هل يرضعونه في القِسم؟! لننتظرْ حتى يظهرَ من يبحثُ عنه.

– لن يبحث عنه أحد.

وتجلَّى صمتٌ مفعمًا بالانفعالات حتى تمتم الشيخ عفرة زيدان: أليس من الخطأ أن نبقيه أكثر ممَّا ينبغي؟

فقالت بحماسٍ وحرارة: الخطأ خطأ من ضيَّعه.

ثم قالت وهي تتلقَّى إلهامًا بالرضا: لم يبقَ لي أملٌ في الإنجاب!

فحسر العمامة عن جبهته البارزة مثل قبضة الجندرة وتساءل: فيمَ تفكِّرين يا سكينة؟

فقالت ثملةً بإلهامها: يا سيدنا الشيخ، وهبني الله رزقًا فكيف أرفضه؟

مسح بمنديله عينَيه المطبقتين ولم ينبِس، فقالت بظفَر: أنتَ نفسك تريد ذلك.

فتجاهلها يقول متشكِّيًا: فاتتني صلاة الفجر في الحسين.

فقالت بثغر باسِم وعيناها لا تفارقانِ الوجه المحتقِن: الضوء شقشق والله غفور رحيم.

وقام الشيخ عفرة زيدان ليصلي، على حين هبط من السلَّم درويش زيدان مُثقلَ الجفونِ من أثر النوم وهو يقول: جوعان يا امرأة أخي.

ورأى الوليد فذُهل كما ينبغي لغلام في العاشرة من عمره وتساءل: ما هذا؟

فأجابته سكينة: رزق من الله العليِّ القدير.

فرَنا إليه مليًّا، ثم تساءل: ما اسمه؟

فتردَّدت المرأة، ثم غمغمت: ليكن اسمُ أبي اسمًا له؛ عاشور عبد الله، ولْيشمله الله ببركته ورضوانه.

وارتفع صوت الشيخ عفرة بالتلاوة.

٤

وتتابعت الأيام على أنغام الأناشيد البهيجة الغامضة، وذات يوم قال الشيخ عفرة زيدان لشقيقه درويش: بلغتَ العشرين من عمرك فمتى تتزوَّج؟

فأجاب الفتى بفتور: عندما يشاء الله.

– إنك حمَّال قوي، والحمَّال ذو رزقٍ موفور.

– عندما يشاء الله.

– ألَا تخشى على نفسك من الفتنة؟

– الله يحفظ المؤمنين.

فحرَّك المقرئ الضرير وجهه يمنةً ويسرةً وقال بأسف: لم تنتفع بالكُتَّاب ولم تحفظ من كتاب الله سورةً واحدة!

فقال بامتعاض: العمل هو ما يُحاسَب عليه، وإني أحصل على رزقي بعرق الجبين.

فتفكَّر الشيخ مليًّا وقال: في وجهكَ ندوب فما شأنُها؟

فأدرك درويش أن امرأة أخيه قد وشت به، فرمقها مقطِّبًا وهي عاكفةٌ على إشعال الفرن بمساعدة عاشور، فقالت باسِمة: أتتوقَّع منِّي يا درويشُ أن أُخفي عن أخيك ما يضرُّك؟

وسأله الشيخ عفرة معاتبًا: أتقلِّد أهل العنف والشر؟

– أحيانًا يتحرَّش بي أهل الشر فأدافع عن نفسي.

– يا درويش، لقد نشأتَ في بيت خدمة القرآن؛ شرفه وعزَّته، ألَا ترى إلى سلوك أخيك الطيب عاشور؟

قال بحِدة: ليس عاشور بأخي!

لاذ الشيخ بالصمت مستاءً.

وكان عاشور يتابع الحديث باهتمام فَصُدم، صدمةٌ متوقَّعة على أي حال، إنه يفعل ما بوسعه ولا يدَّعي أكثر ممَّا له؛ يقوم بتنظيف البيت، وشراء الحوائج من السوق، ويمضي كل فَجر بوليِّ نعمتِه إلى الحسين، ويملأ الدلو من البئر، ويُشعل الفرن، وعند الأصيل يجلس عند قدمَي الشيخ فيحفِّظه ما يتيسَّر من القرآن، ويلقِّنه آداب السلوك والحياة. الحق أن الشيخ أحبَّه ورضي عنه، وكانت سكينة ترمقه بإعجاب وتقول: سيكون فتًى طيبًا وقويًّا.

فيقول الشيخ عفرة زيدان: لتكن قوتُه في خدمة الناس لا الشيطان.

٥

جادت السماء ببركاتها على عاشور، فسعد به قلب الشيخ عفرة زيدان عامًا في إثر عام، بقدر ما سخط على درويش شقيقه وربيبه. لِم يا ربي وقد نشآ في حظيرة واحدة؟ ولكن درويش نأى عن ظل الشيخ سعيًا وراء الرزق بعد أن رفض التعلُّمَ قلبُه. انطلق إلى العالم غلامًا طريًّا فتربَّى في أحضان المرارة والعنف قبل أن يستقيم عوده، قبل أن تتشرَّب روحه بالصلابة والنقاء. أمَّا عاشور فتفتَّح قلبُه أوَّلَ ما تفتَّح للبهجة والنور والأناشيد، ونما نموًّا هائلًا مثلَ بوابةِ التكية؛ طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرةِ توت، رأسه ضخم نبيل، قسَماته وافية التقطيع، غليظةٌ مترعةٌ بماء الحياة. تبدَّت قوتُه في تفانيه في العمل، وتحمُّله لمشاقِّه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفي تمام من الرضا والتوثُّب. وأكثر من مرَّةٍ قال له الشيخ: لتكن قوتك في خدمة الناس لا في خدمة الشيطان!

وذات يوم أعلن الشيخ رغبته في أن يجعل منه مُقرئًا للقرآن مثلَه، فضحك درويش ساخرًا وقال معلِّقًا على رغبة شقيقه: ألَا ترى أن هيكله الضخم جديرٌ بأن يلقِي الرعب في قلوب المستمعين؟!

ولم يحفل الشيخ بتعليق درويش، ولكنه اضطُر إلى العدول عن رغبته عندما وضح له أن حنجرة عاشور لا تُسعفه بحال، وأنها عاجزة عن تطويع النغم، لا حَظَّ لها من الحلاوة والمرونة وكأنها بخشونتها ترنُّ في جوف قبو، فضلًا عن قصوره عن حفظ السور الطويلة.

وقنع عاشور بعمله كما قنع بحياته، وظنَّ أنه سيبقى بالفردوس حتى آخر الأجل، وصدَّق ما قيل له من أن الشيخ تكفَّل به بعد وفاة والدَين طيبَين مقطوعَين من شجرة، وحمد الله الذي قدَّر ولطف، فرعاه برحمة لا يستظل بمثلها مأوًى آخر في الحارة. وفي ذات الوقت رأى الشيخ عفرة أنه استأثر به مدةً كفت لتعليمه وتهذيبه، وأنه آن له أن يرسله لتلقُّن حرفةٍ من الحرف، غير أن حتم الأجل كان أسرع؛ فمرض الشيخ بحُمَّى لم تنفع في علاجها الوصفات الشعبية، فانتقل إلى جوار ربه، ووجدت سكينة نفسها بلا موردٍ أو قدرةٍ على العمل، فرحلت إلى قريتها بالقليوبية. كان الوداع بينه وبين سكينة مؤثِّرًا ودامعًا. قبَّلته ورقَته ومضت، وسرعان ما شعر بأنه وحيد، في دنيا بلا ناس، اللهم إلا سيده العنيد درويش زيدان.

وأسبل جفنَيه الغليظَين متفكرًا. شعر بأن الخلاء يلتهم الأشياء، وأنه يودُّ أن يتسلَّق شعاع الشمس، أو يذوبَ في قطرة الندى، أو يمتطي الريح المزمجرةَ في القبو، ولكن صوتًا صاعدًا من صميم قلبه قال له إنه عندما يحلُّ الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال.

٦

تفحَّصه درويش وهو مقرفص على كَثَب من الفرن منكسرَ القلب. يا له من عملاق! له فكَّا حيوان مفترس، وشاربٌ مثل قرن الكبش. قوةٌ بلا حيلةٍ ولا عملٍ ولا رزق. من حسن الحظ أنه لم يتعلَّم حرفة، ولكنه لا يمكن الاستهانةُ به. تُرى لمَ لا يحبُّه؟ تذكِّره صورتُه المغروسة في الأرض بصخرةٍ مدبَّبةٍ تعترض الطريق، بهَبَّةٍ من هبَّات الخماسين المثقلةِ بالغبار، بقبرٍ يتجلَّى في الأعياد متحديًا، يجب الانتفاعُ به، عليه اللعنة!

سأله دون أن ينظر نحوه: كيف ستحصل على لقمتك؟

ففتح عينَيه العميقتَين العسليَّتَين وقال باستسلام: في خدمتك يا معلم درويش.

فقال ببرود: لست في حاجة إلى خدمة أحد.

– عليَّ أن أذهب.

ثم مستدركًا في رجاء: هلَّا تركتني آوي إلى البيت الذي لا أعرف سواه؟

– إنه بيت لا فندق.

تبدَّت فُوَّهة الفرن خامدةً مظلمة، وندَّت عن الرفِّ خشخشة رِجل فأرٍ ترتطم بأعواد الثوم الجاف.

وسعل درويش، ثم سأله: أين تذهب؟

– دنيا الله واسعة.

فقال متهكِّمًا: ولكنك لا تعرف عنها شيئًا، وهي أقسى ممَّا تتصوَّر.

– سأجد على أي حال عملًا أرتزق منه.

– جسمك أكبر عائق، لن يقبلك بيت، ولا معلم حرفة، ثم إنك تقترب من العشرين!

– لم أستغلَّ قوتي قطُّ فيما يضر.

فضحك عاليًا وقال: لن تحوز ثقة أحد؛ الفتوة يظنك متحديًا، والتاجر يحسبك قاطع طريق.

ثم بهدوء وعمق: ستهلك جوعًا إذا لم تعتمد على قوَّتك.

فقال بحرارة: أهَبُها عن رضًا لخدمة الناس والله شهيد.

– لا فائدة من قوتك إن لم تغسل مخَّك من الغباء!

فمدَّ إليه بصرًا حائرًا، ثم قال: شَغِّلني حمَّالًا معك.

فقال ساخرًا: لم أشتغِل حمَّالًا ساعةً واحدةً من حياتي.

– ولكن …

– دعك ممَّا قلت، أَكان بوسعي أن أقول غيره؟

– فما عملُك يا سيدي؟

– صبرك، سوف أفتح لك باب الرزق، لك أن تدخل ولك أن تذهب.

ترامى من القرافة صوات يشي بتشييع جنازة، فقال درويش: كلُّ من عليها فانٍ.

فقال عاشور وقد نفد صبره: إني جوعان يا معلم درويش!

فمدَّ له يده بنكلة وهو يقول: إليك آخر هبة مني.

غادر عاشور البيت والمغيب يهبط على القبور والخلاء. أمسيةٌ من أماسي الصيف، وثمة نسمةٌ رقيقةٌ تتهادى حاملةً أخلاط التراب والريحان. مضى في الممرِّ حتى بلغ ساحة التكية. بدا لعينَيه القبو مظلمًا، وترامت أشباح أشجار التوت من فوق الأسوار. تصاعدت الأناشيد بغموضها فصمَّم على طرح الهمِّ جانبًا وقال لنفسه: لا تحزن يا عاشور؛ فلك في الدنيا إخوةٌ ليس لعدِّهم حصر.

ومضى تلاحقه الأناشيد:

أي فروغ ماء حسن
إز روى رخشان شما
ابروى خوبي از جاه
رنخسدان شما

٧

امتلأ عاشور بأنفاس الليل. انسابت إلى قلبه نظرات النجوم المتألِّقة. هفَت روحه إلى سماء الصيف الصافية. قال ما أجدرها ليلةً بالعبادة؛ كي يجثوَ فوق الأعتاب، كي يناجي رغبات نفسِه الكظيمة، كي ينادي الأَحِبَّة وراء سياج المجهول.

وثمة شبحٌ يقف منه على بعد شبرَين يعكِّر عليه صفوه، ويشدُّه إلى عالم القلق، فرفع صوته الأجشَّ متسائلًا: ماذا تنتظر يا معلم درويش؟

فلكزه درويش في صدره وهمس بحنق: أخفِض صوتك يا بغل!

كانا يلبدان وراء تعريشةٍ عند طرف القرافة بمشارف الصحراء. الجبل في أقصى اليمين والقبور إلى اليسار. لا نَأْمَة، لا عابرَ سبيل، حتى أرواح الموتى مستكنَّة في مقرٍّ مجهول. في تلك الساعة من الليل، والخواطر تتجسَّد في الظلمة كالنُّذُر، ويخفق القلب الطيب في غير ما ارتياح، همس عاشور: نوِّرني نوَّر الله قلبك.

فنهره هامسًا: انتظر، أليس عندك صبر؟

ثم وهو يميل نحوه: لا أُطالبك بعمل، سأقوم بكل شيء، عليك أن تحمي ظهري إذا اقتضى الأمر حماية.

ولكني لا أدري عمَّا تنوي شيئًا.

– اسكت، سيكون لك الخيار.

وتمخَّض جانب الصحراء عن نَأْمَة. وحمل الهواءُ عطرَ حي، وارتفع صوتٌ موسوم بالشيخوخة يقول: توكَّلي على الله.

وعند القرب وضح أن العجوز يمتطي حمارًا. وعندما حاذاهما تمامًا وثب عليه درويش. ذُهِل عاشور وتحقَّقت مخاوفه. لم يرَ شيئًا بوضوح، ولكنه سمع صوت درويش وهو يقول متوعِّدًا: هاتِ الصرَّةَ وإلا …

فتردَّد صوت مرتعشًا بالكِبَرِ والذُّعْر: الرحمة … خفِّف قبضتك!

اندفع عاشور إلى الإمام بلا وعيٍ وهتف: دعْهُ يا معلمي!

صرخ به درويش: اخرس!

– قلت لك دَعْه!

وطوَّقه بذراعَيه وحمله بلا جهد، فضربه الآخر بكوعه قائلًا: الويل لك!

لم يتحرَّك في درويش بعد ذلك إلا لسانه، أمَّا عاشور فخاطب العجوز قائلًا: اذهب بسلام!

حتى إذا اطمأنَّ إلى نجاة الرجل أطلق درويش وهو يقول معتذرًا: اغفر لي خشونتي.

فصاح به: أيها اللقيط الجاحد!

– لقد أنقذتك من شر نفسك.

– أيها البغل الخسيس المخلوق للتسوُّل.

– فليسامحك الله.

– أيها اللقيط القذر.

فصمت عاشور محزونًا، فعاد الآخر يقول: لقيط، ألَا تفهم؟ هذه هي الحقيقة.

– لا تستسلم للغضب، لقد قال الشيخ المرحوم كلمته.

فقال بحقد: الحقيقة هي ما أقول، لقد وجدك في الممرِّ مهجورًا من أُمٍّ فاسقة!

– رحم الله الطيبين.

– بشرفي ورحمة أخي إنك لقيط ابن حرام! لماذا يتخلَّصون من وليد بليل؟!

فاستاء عاشور وصمت، فراح درويش يقول: ضيَّعت جُهدي! أغلقْتَ باب الرزق في وجهك، إنك قويٌّ ولكنك جبان، وهاك الدليل.

وهوى بكفِّه على وجهه بجامع قوته، فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقَّاها في حياته، وصاح درويش بجنون: أيها الجبان الرِّعديد!

عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجَّه من راحته الكبيرة ضربةً إلى رأس معلِّمه هوى على أثرها فاقدَ الوعي. لبث يصارع غضبته حتى تراخت للسكون. أدرك خطورة ما أقدم عليه. غمغم: غفرانك يا شيخ عفرة.

انحنى فوق الرجل فحمله بين يديه. مضى به يشق سبيله بين القبور حتى دخل به البيت. أنامه على الكنبة. أشعل المصباح. مضى ينظر إليه في قلق وإشفاق. تتابعت دقائق ثقيلة حتى فتح عينَيه وحرَّك رأسه.

تطاير من عينَي درويش شررٌ ينم على التذكُّر. ترامقَا مليًّا في صمت. خُيِّل إلى عاشور أن عفرة وسكينة حاضران ينظران في وجوم.

غادر عاشور البيت مغمغمًا: توكَّلت على خالق السموات والأرض.

٨

هام عاشور على وجهه. مأواه الأرض، هي الأُم والأب لمن لا أُمَّ ولا أبَ له. يلتقط الرزق حيثما اتفق. في الليالي الدافئة ينام تحت سور التكية، في الليالي الباردة ينام تحت القبو. ما قاله درويش عن أصله قد صدَّقه. طاردته الحقيقة المرَّةُ وأحدقت به. لقد عرف من حقائق الدنيا على يد درويش في ليالٍ ما لم يعرفه طيلة عشرين عامًا في كنف الشيخ الطيب عفرة زيدان. الأشرار معلِّمون قساةٌ وصادقون. خطيئة أوجدته، توارى الخُطاة، ها هو يواجه الدنيا وحده، ولعله يعيش الآن ذكرى مُحرقةٍ في قلب مُؤرَّق.

ومن شدة حزنه استمع إلى أناشيد التكية بحب. معانيها المترنِّمة تختفي وراء ألفاظها الأعجمية كما يختفي أبواه وراء وجوه الغرباء. وربما عثر ذات يوم على امرأة أو رجل أو معنى، وربما فكَّ ذات يوم رمزًا، أو أرسل دمعةَ رضًا، أو تجسَّدت إحدى رغائبه في مخلوق حنون. ويتأمَّل الحديقة بأشجارها الرشيقة الحانية، ووجهها المعشوشب، وعصافيرها المعشِّشة الشادية، ويتأمَّل الدراويشَ بعباءاتهم الفضفاضة، وقاووقاتهم الطويلة، وخطواتهم الخفيفة.

وساءل نفسه مرة: لماذا يقومون بالخدمة كالفقراء؟ لماذا يقومون بالكنس والرش والسَّقي؟ أليسوا في حاجة إلى خادم أمين؟!

– البوابة تناديه، تهمس في قلبه أن اطرق، استأذِن، ادخلْ، فُز بالنعيم والهدوء والطرب، تحوَّل إلى ثمرة توت، امتلئ بالرحيق العذب، انفث الحرير، وسوف تقطفك أيدٍ طاهرةٌ في فرح وحبور.

وملكه الهمس الناعم فمضى إلى الباب المغلق وهتف بخشوع وأدب: يا أهل الله.

وكرَّر النداء مرات.

إنهم يتوارَون، لا يردُّون، حتى العصافيرُ ترمقه بحذر، يجهلون لغته ويجهل لغتهم. الجدول كفَّ عن الجريان، الأعشاب توقَّفت عن الرقص، لا شيء في حاجة إلى خدماته.

فتر حماسه، انطفأ إلهامه، جلَّله الحياء، عاتب نفسه، عنَّف عشقه، شدَّ على إرادته، قبض على شاربه الشامخ، قال لنفسه: لا تجعل من نفسك حديثَ كلِّ من هبَّ ودب.

وتراجع وهو يقول: انصرف عن الذين يرفضون يدك لأنهم في غير حاجة إليها، وابحث عمَّن هم في حاجة إلى خدماتك.

ذهب وجاء وراء اللقمة. يجد زفافًا فيتطوَّع للخدمة، أو يصادف مأتمًا فيتطوَّع أيضًا. يتقدَّم لمن يريد حمَّالًا أو رسولًا، يرضى بالمليم أو بالرغيف أو حتى بكلمة طيبة.

وصادفه رجلٌ رَبْعة قبيحُ الوجه كأن أصله فأر، فناداه قائلًا: يا ولد!

فذهب إليه عاشور بأدب واستعداد للخدمة فسأله: ألَا تعرفني؟

فأجابه مرتبكًا: اعذر غريبًا جهَلك.

ولكنك من أبناء حارتنا؟

– ما عشت فيها إلا منذ قريب.

– كليب السماني من رجال فتوتنا قنصوه.

– تشرَّفنا يا معلم.

وتفحَّصه مليًّا، ثم سأله: تنضم إلينا؟

فقال عاشور بلا تردُّد: لا قلب لي على ذلك.

فضحك كليب ساخرًا ومضى وهو يقول: جسم ثور وقلب عصفورة!

وكان يرى حمير المعلم زين الناطوري وهي ترابط في الحظيرة عقب يوم طويل في قضاء المشاوير، يتطوَّع بتنظيفها وتقديم العلف لها وكنس الفناء ورشِّه على مرأًى من المعلم، ثم يذهب دون أن يسأله شيئًا.

وذات يوم ناداه المعلم زين وسأله: أنت صبي المرحوم الشيخ عفرة زيدان؟

فأجاب بخشوع: نعم، رحمه الله رحمةً واسعة.

– بلغني أنك رفضت الانضمام لرجال الفتوة قنصوه؟

– لا مأرب لي في ذلك.

فابتسم المعلم وعرض عليه أن يعمل عنده مكاريًا، ومن فوره قَبِل وقلبه من الفرحة يرقص.

ومضى بحماره متحمِّسًا لعمله بكل قواه وحيويته، وكلما مضى يومٌ اطمأنَّ المعلم إلى سلوكه وأدبه وتقواه، وأثبت عاشور بدوره أنه أهل للثقة.

وكان وهو يعمل في فناء البيت يتجنَّب النظر إلى الناحية التي يُحتمل أن يلمح فيها زوجة المعلم، ولكنه رأى ابنته زينب وهي ذاهبةٌ إلى الطريق فخانه طرفه لحظاتٍ خاطفةً ولكنها جديرة بالندم. وتفشَّى الندم أكثر عندما اجتاحته شعلة ألهبت الصدر والجهاز الهضميَّ واستقرَّت في الجوهرة الحمراء المشعة للرغبة الجامحة. غمغم وهو ثَمِل بنشوةٍ دسمةٍ نهِمة: ليحفظنا الله!

ولأول مرة يردِّد اسم الله بطرف لسانه وفكره مشدود إلى غيره؟ وحضرته تجاربه الجنسية البدائية المحدودة في رجفة من الحيرة والقلق والغربة.

واقتنع المعلم زين الناطوري بمزاياه كحارس أمين فسأله: أين تسكن يا عاشور؟

فأجاب ببساطة: سور التكية أو تحت القبو.

– يسرُّك ولا شك أن تنام في الحظيرة؟

فأجاب بسرور: نعمةٌ أشكرها لك يا معلم.

٩

يستيقظ في الفجر. إنه يألف ظلمتَه المشعشعة بالبسمات، ودبيبَ أهل التقوى والفجور، وأنفاسَ الكون النقية المسربلةَ بالأحلام. ينفض عن قلبه صورة زينب المتحدية ويصلِّي. يلتهم رغيفًا مع الزيتون المخلَّل والبصل الأخضر. يربت على ظهر حماره، ثم يسوقه أمامه نحو الميدان مستقبلًا يوم الرزق والعمل. يفيض بحيوية متدفِّقة، يمتلئ بثقة غير محدودة في قدرته وصبره وامتلاكه للمجهول، تكتنفُه دُوامةٌ تكاد تقتلعه من جذوره، دائمًا تتقدَّمه زينب فتغلبه بنداءٍ غامض. وجهُهَا مشوبٌ بشحوب، أنفُها بارز، شفتاها غليظتان، جسمها صغير ومدمج، ولكنها تستمد تأثُّرها عليه من مصدر مسحور، دائمًا تُشعل جذوةً في أعماقه، وأحيانًا لا يرى الحمار وراكبه.

وفي أويقات الراحةِ يقف أمام البيت يتابع تيار السابلة. ما أكثر العاملين في الدكاكين أو وراء عربات اليد والسلال والمقاطف! وما أكثر المتشرِّدين من الحرافيش بلا عمل! من أبوه بين هؤلاء الرجال؟ من أمه بين هؤلاء النسوة؟ رحلَا عن الدنيا أم يبقيان؟! هل يعرفانه أم يجهلان؟ من الذي أورثه هذا الكائن الهائل المفعم بمعروف الشيخ عفرة زيدان؟ ويطرد عن رأسه الأفكار العقيمة المضنية، فتبادر إليه زينب زين الناطوري بندائها الغامض. وقال لنفسه: كل شيء يتحرَّك فلا بُدَّ أن تحدث أمور.

وقال لنفسه أيضًا: ليكن الطِّيب حليفي جزاء نيتي البيضاء.

وترامى إليه صوت زين الناطوري وهو يحتدم غضبًا. رآه في الفناء مشتبكًا في معركة لفظية مع أحد العملاء، وبعنفٍ صاح به: أنت لصٌّ لا أكثر ولا أقل!

فصاح العميل: احبِس لسانك القذر!

وإذا بالمعلم يصفعه فيمسك الرجل بتلابيبه. هُرِع عاشورُ إليهما وهو يهتف: وحِّدوا الله!

رمى نفسه بينهما فركله العميل وهو يسبه. ضمَّه عاشور إلى صدره بقوة حتى صرخ. تركه يفلت وهو يقول له: اذهب بسلام فهو خير لك.

سرعان ما خلا منه الفناء، وتكأكأت النساء في النافذة، وصاحت الأم: لم يبقَ إلا أن يعتدي علينا في بيتنا!

ورمق زين الناطوري عاشور بامتنان، وقال مداريًا حياءَه: الله يفتح عليك.

ومضى المعلم إلى الداخل، ولم يبقَ في النافذة إلا زينب، عاد عاشور عند موقفه عند الباب وهو يقول لنفسه: لم يبقَ إلا أن نتبادل النظرات!

واستند إلى الجدار فلمح قطَّةً تتوثَّب لتخويف كلب أسود يتنحَّى تجنُّبًا للمعركة، وقال لنفسه: حذارِ يا عاشور، هذه وصية والدَيك!

واستسلم لأنامل الأحلام الناعمة حتى حرقته أشعة الصيف.

١٠

قالت عدلات لزوجها زين الناطوري: إنك تؤكِّد أنه أهل للثقة؟

– أجل، صار لي به ابن.

فقالت بنفاد صبر: عظيم، زَوِّجْه لزينبَ …

فقطَّب زين الناطوري متفكِّرًا، ثم قال: آمل فيمن هو خيرٌ منه!

– طال الانتظار، وكلما جاء عريس لإحدى أخواتها رفضته إكرامًا لسنها، فقال باستياء: لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك.

– أصبحَت عقبةً في سبيل بناتي، وهي في الخامسة والعشرين ولا جمال لها، وطباعُها تسوءُ يومًا بعد يوم.

فكرَّر عابسًا: لو كانت من لحمك ودمك ما قلْتِ ذلك.

– ألَا يكفي أنك تثق به؟ وأنت في حاجة إلى من تثق به في كبرك.

– وزينب؟

– ستفرح، أنقذها من يأسها.

١١

سمع عاشور المعلم زين يناديه من المنظرة. ولمَّا ذهب إليه أفسح له مكانًا إلى جانبه على الأريكة الخشبية المفروشة بفروة خروف. تردَّد عاشور، ثم جلس. عند ذاك سأله المعلم برقة: ألَا تفكِّر يا عاشور في ضمان نصف دينك؟

١٢

الفرحة والنور. عندما يصير الحلم نعمةً تشدو في الأذن والقلب. عندما تشرق وجوه العباد بضياء السماح، وحتى الحشرات تمسك عن ارتكاب الأذى.

ذهب عاشور إلى حمَّام السلطان فأزال الشعر والعرق، مشَّط شعره وهذَّب شاربه، تطيَّب بالجُلَّاب، ونظَّف أسنانه بالسواك، رَفَل في جِلبابٍ أبيضَ ومركوبٍ فُصِّل خاصةً لقدمَيه الضخمتَين.

احتُفل بزفافٍ مناسبٍ في بيت الناطوري، ثم أقام العروسان في بدروم مكوَّنٍ من حجرة ودهليز يقع أمام بيت الناطوري. واندلق عاشور في الحب حتى قمة رأسه، وكان بعض أهل الفجور عقب انطلاقهم من الغرز في النصف الثاني من الليل يقرفصون في الظلام لصق شباك البدروم يتنصَّتون ويحلمون.

وأنجب مع الأيام حسب الله ورزق الله وهبة الله. وفي أثناء ذلك تُوفِّي المعلم زين وزوجه، وتزوَّجت البنات.

تمتَّع عاشور بحياة زوجية سعيدة. ظلَّ يعمل مكاريًا وأصبح مالكًا للحمار الذي وهبه إياه الناطوري ليلة زفافه. وعملت زينب من ناحيتها بتربية الدجاج وبيع البيض، فتيسَّرت المعيشة وفاح الدهليز برائحة التقلية.

وتقدَّم الأولاد صوب الشباب فعملوا في مختلِف الحرف؛ عمل حسب الله صبي نجار، ورزق الله مبيِّض نحاس، وهبة الله صبي كوَّاء بلدي. ولم يُرزق أحدُهم عملقةَ أبيه، ولكنهم كانوا أشداء لدرجة تستوجب الاحترام في الحارة.

ورغم ما عُرف به عاشور من دماثة الخلق فإن واحدًا من رجال قنصوه الفتوة لم يتحرَّش به. ولم تكُن زينب تماثله في دماثته؛ كانت عصبية، سيئة الظن، طويلة اللسان، ولكنها كانت مثالًا طيبًا للجد والاجتهاد والوفاء.

وكانت تكبره بخمس سنوات، وبقدر ما حافظ هو على حيويته وشبابه سارع إليها التغيُّر والنضوب قبل الأوان؛ على ذاك لم تُزغ له عين، ولم يزهد في حبها.

وبمرور الزمن ابتاع بنقوده ونقود زينب كارو فترقَّى من مكارٍ إلى سواق. وقالت له زينب بنبرة وعيد: كان زبائنك من الرجال، ومن الساعة لن تحمل إلا النساء!

فضحك متسائلًا: وهل يقصدني إلا زائرات الأضرحة والقبور؟!

فهتفت به: بيني وبينك ربنا!

وأحزنه أنه مضى ينسى ما حفظه من القرآن فلم تبقَ له إلا السور الصغيرة التي يتلوها في الصلوات، ولكن حبَّه الخيرَ لم يفتُر قط. وتعلمَّ أن درويش زيدان ليس الشريرَ الوحيدَ في الحياة. تعلَّم أن الحياة حافلة بالمكر والعنف ورذائل لا حصر لها، ولكنه واظب على الاستقامة ما وسعه ذلك، وكان يحاكم نفسه محاكمةً قاسيةً كلما تورَّط في خطأ. ولم ينسَ أنه استولى على جميع مُدَّخرات زينب وبعض أجور أبنائه لكي يبتاع الكارو، وأنه في سبيل ذلك قسا عليهم بعض الشيء وغضب غضباتٍ كاسرة!

وكان يشاهد ما يُصيب بعض جيرانه من عنَت الفتوة ورجاله، فيكظم غيظه ويُطَيِّب خاطر المظلومين بكلماتٍ لا تغني، ويدعو للجميع بالهداية، وحتى قال له جارٌ ذات يوم: إنك لقوي يا عاشور، ولكن ماذا أفدنا من قوتك؟!

علامَ يلومه الرجل؟! علامَ يحرضه؟ أليس حسبه أنه رفض الانضمام إلى الطغاة؟ أليس حسبه أنه لا يستغل قوته إلا فيما ينفع الناس؟!

رغم ذلك هفت في ضميره الوساوس كما يهفو الذباب في يوم قائظ، وقال إن الناس لا يرونه بالعين التي يرى بها نفسه، وتساءل في حزن: أين صفاء البال؟ أين؟!

١٣

كان يتربَّع في الساحة أمام التكية مودِّعًا الغروب، مستقبلًا المساء، ينتظر انسيابَ الأناشيد ونسمةً من نسائم الخريف معطَّرةً بالبرد والأسى، تنزلق من فوق السور العتيق، تشدُّ بذيلها طيفًا من أطياف الليل. بدا عاشور متخمًا بالسكينة ولم تَشِب له شعرةٌ واحدة. كان يحمل فوق كاهله أربعين عامًا وكأنها هي التي تحمله في رشاقة الخالدين.

همسة في باطنه جعلته يحوِّلُ عينَيه نحو ممرِّ القرافة فرأى رجلًا يخرج منه يسير في تكاسل. لم يستطِع أن يسترد عينَيه، عرفه في بقية ضوء المغيب، دقَّ قلبه، وخمد سروره. أقبل الرجل نحوه حتى وقف أمامه حاجبًا عنه التكية، ومضى ينظر إليه باسمًا.

تمتم عاشور: درويش زيدان!

قال درويش معاتبًا: هلَّا بدأت بالتحية؟ مساء الخير يا عاشور!

فنهض باسطًا يده وهو يقول بنبرة محايدة: أهلًا بك يا درويش.

– لم أتغيَّر كثيرًا فيما أظن.

مؤسف هذا الشبه بينه وبين المرحوم عفرة، ولكن غلظت قسماته وتحجَّرت، قال: بلى.

فحدجه بنظرة ذات معنًى وقال: رغم أن كل شيء يتغيَّر!

فتجاهل عاشور ملاحظته متسائلًا: أين غبتَ طوال ذاك العمر؟

فقال باستهانة ساخرة: في السجن!

ورغم أنه لم يُدهش فقد هتف: السجن!

– الجميع أشرار ولكني سيئ الحظ!

– الله غفور رحيم.

– عرفت أن أحوالك رائعة؟

– الستر لا أكثر من ذلك.

فقال باقتضاب: إني في حاجة إلى نقود.

تضايق عاشور، ولكنه دسَّ يده في صدره فاستخرج ريالًا، أعطاه له قائلًا: إنه قليل ولكنه كثير بالقياس إلى حالي.

تناوله بوجه مكفهر وقال بنبرة ذات مغزًى: لنقرأ الفاتحة على روح أخي عفرة.

فقرأها، ثم قال: لم أنقطع عن زيارة قبره.

فسأله بجرأة: هل أجد عندك مأوًى حتى أقف على قدمي؟

فبادره قائلًا: لا مكان في حجرتي لغريب.

– غريب؟!

فقال بإصرار وجُرأة: لولا ذكرى مولاي ما مددت لك يدي!

فقال بقُحَّة: أعطني ريالًا آخر وسوف أسدِّد ديني عند الميسرة.

فلم يضِن عليه بالنقود وهو من الضيق في غاية.

ومضى درويش نحو القبو صامتًا، على حين تهادى من التكية صوت عذب يُنشد:

زكريه مردم جشم نشسته در خونست

١٤

رأى عاشور وهو ينطلق بالكارو جماعةً تتجمهر في خرابة على كَثَبٍ من مدخل الحارة، وعندما اقترب منهم وضح له أنهم عُمَّال بناء يحدِّقون بأكوام من الصفائح والأخشاب وسعف النخل، ورأى بينهم درويش زيدان. انقبض صدره وقال إن الرجل يشيد لنفسه مأوى. وصاح به درويش حين مرَّ به: إني أبذل ما في وسعي لخدمتكم.

فقال له بجفاء: حسن أن يكون للإنسان بيت.

– بيت؟!

وضحك درويش ضحكةً عالية، ثم واصل: سيكون بيت من لا بيت له!

١٥

وقال حسب الله لأبيه عاشور: وضح الأمر، الرجل يبني بوظة!

فذُهل عاشورُ متسائلًا: خمارة؟!

فقال رزق الله: الجميع يقولون ذلك.

فهتف عاشور: ربَّاه. لقد أسهمَت نقودي في بنائها!

فقال هبة الله: إنما الأعمال بالنيات.

– والحكومة؟

– أخذ الرخصة ولا شك.

فقال عاشور محزونًا: حارتنا لم يُشيَّد بها سبيلٌ للعطشى ولا زاوية للمصلين بعد، فكيف تقام بها بوظة؟!

وافتتح البوظة قنصوه الفتوة ورجاله، فزادت كآبة عاشور وتمتم: وأيضًا وجد الحماية!

١٦

ثمة ضجةٌ وراء شباك البدروم. ما هذا؟ ألَا تكفُّ هذه الحارةُ عن الشجار؟ عاشور فوق الكنبة الوحيدة بالحجرة يحتسي قهوته، والمصباح لم يُشعل بعد. ضلفة الشباك ترتعش بهبَّةٍ من أنفاس الشتاء الباردة، وزينب عاكفةٌ على كَيِّ ملابس بالجندرة. رفعت زينب رأسها وقالت بانزعاج: هذا صوت رزق الله!

– الأولاد يتشاجرون؟!

وهُرِعت زينب إلى الخارج، وسرعان ما جاءه صوتها وهي تصيح: يا مجانين احتشموا!

وثب عاشور ناهضًا. في لحظة كان يقف وسط أبنائه. صمتوا ولكن الغضب لم يتلاشَ من وجوههم. هتف: ما شاء الله!

لاحت منه نظرةٌ إلى الأرض فرأى مخطَّط سيجة مبعثرة فوق حصوات اللعب، فتساءل بحِدة: تلعبون أم تقامرون؟

لم يُجِبه أحد. اشتعل غضبًا. تساءل: متى تصيرون رجالًا؟

وجذب إليه حسب الله قائلًا: أنت الأكبر، أليس كذلك؟

وفغمته رائحةٌ غريبةٌ تتناثر من فيه فجزع. جذب الآخرين وتشمَّم أنفاسهم. آه، فلتُخسف الأرض بمن عليها!

– سكارى؟! يا كلاب!

وراح يعصر آذانهم وعضلاتُ وجهه تموج بسحب حمراء. وتجمَّع غلمان يتفرَّجون، فهتف حسب الله متوسِّلًا: فلندخل البيت.

فصاح بصوته الأجَش: تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله.

وشدَّته زينب من ذراعه وهي تقول: لا تجعلنا جُرسةً بين الأوباش.

فاستسلم ليدها وهو يقول: هم … هم الأوباش!

فهمست بحدة: ليسوا أطفالًا.

– لا خير فيهم ولا فيك.

– البوظة لا تفرغ من الناس!

فانحطَّ على الكنبة وهو يتمتم: يا للخسارة! لا فائدة تُرجى منك.

أشعلَت المصباح ووضعته داخل الكُوَّة، ثم قالت بنبرة لطيفة: إني أعمل أكثر منك، لولاي ما ملكت الكارو وما اشتعل لك كانون.

فقال بضجر: لم يبقَ منك إلا لسانٌ مثل السوط.

فهتفت بحدة: ذبل الشباب في خدمتكم.

– لا بُدَّ من تأديبهم.

– ليسوا أطفالًا وسيذهبون.

إنها تعلم أن الخصام سيتلاشى سريعًا، وأن الكلمات القارصة والهمسات العذبة تمتزج في قدح واحد.

وفكَّر عاشور في أمر أولاده بقلق.

لم يُفلح أحدهم في الكُتَّاب، لم يجد أحد منهم عنايةً من والدَيه لانشغالهما بعملهما المتواصل، لم يحظَوا بما حظِي هو به في كنف الشيخ عفرة، تشرَّبُوا بعنف الحارة وخرافاتها وغابت عنهم فضائلها، حتى قوته لم يرثها أحدٌ منهم. لم يتعلَّق أحدهم به أو بأُمه، حبُّهم سطحي متقلِّب، قلوبهم متمرِّدة من قديم وإن لاذت بالصمت. لا موهبة ولا ميزة. سيظلون صبيان ولن يترقَّى أحد منهم إلى درجة معلم أبدًا، وها هم يُهْرعون إلى البوظة عند أول إشارة، ولن يقفوا عند حد.

قال بحزن: لن يجيئنا منهم إلا ما يكدِّر القلب.

فقالت بتسليم: إنهم رجال يا معلم!

١٧

مرةً وهو مقبل بالكارو فيما أمام الخمارة تصدَّى له درويش قائلًا: مرحبًا.

لم يتجاهله هذه المرة، رغم مقته له لم يتجاهله. شدَّ اللجام فتوقَّف الحمار عن السير، ووثب واقفًا أمام درويش وقال له بحزمٍ: هذا العمل لا يليق بذكرى أخيك.

فابتسم درويش متهكِّمًا وقال: أليس خيرًا من قطع الطريق؟

– إنه سيئ مثله.

– معذرةً فإني أحب المغامرات.

– بحارتنا من الشر ما يكفي وزيادة.

– البوظة كما أنها تضاعف من شر الشرير، فإنها تضاعف من طيبة الطيب، شرِّف وجرِّب.

– عليها اللعنة.

عند ذاك لمح داخل البوظة مخلوقًا يمر بسرعة من جانب إلى جانب، فذُهل متسائلًا: النساء أيضًا؟

– لعلك رأيت فُلة؟

لم يكُن رأى منها شيئًا ذا دلالة فسأله: هل يجيئك نساء أيضًا؟

– كلا إنها بنت يتيمة تبنَّيتها.

ثم مواصلًا بلهجةٍ ذات مغزًى: أنت لا تتصوَّر أني قادر على فعل الخير، ولكن أليس تبَنِّي لقيطةٍ خيرًا من بناء زاوية؟

تلقَّى الغمزة صابرًا وسأله: ولماذا تجيء بها إلى الخمارة؟

– لتكسب رزقها بعرق جبينها!

فغمغم آسفًا: لا فائدة.

ووثب إلى مقدم الكارو وهو يصيح «حا»، فمضى الحمار مرسلًا بحدواته طقطقاته الموسيقية.

١٨

لم يعُد عاشور يرى من النهار إلا غباره، ولا من الليل إلا ظلامه، وكلما أقدم على عَطْفَة توقَّع عثرةً ليست في الحسبان، وترف عينَيه فيغمغم اللهم اجعله خيرًا. تُرى هل أصاب البنيان شدخٌ يتعذَّر ترميمُه؟

وكان يستنيم إلى مضجعه عقب منتصف الليل عندما ترامى إليه صوت يزعق من وراء النافذة: يا معلم عاشور، يا معلم عاشور.

هُرِع إلى الشباك ففتحه وهو يغمغم «الأولاد!» فرأى شبحًا منحنيًا فوق القضبان، سأله: ماذا هناك؟

– أدرِك أولادك! إنهم يتقاتلون في البوظة بسبب البنتِ فُلة!

وهتفت زينب: ابقَ أنت ودعني أذهب إليهم.

فأزاحها عن طريقه، دسَّ قدمَيه في المركوب، انطلق مثلَ عاصفة.

١٩

ملأ هيكله فراغ الباب. اتجهت نحوه أبصار السكارى المطروحين على الجانبَين. وثب نحوه درويش وهو يهتف: سيهدم أولادك المكان!

رأى هبة الله ملقًى على الأرض بلا حيلة. رأى حسب الله ورزق الله مشتبكَين في صراعٍ حقود، على حين انطرح السكارى غيرَ مبالين. صاح بصوت فظيع: تأدَّب يا ولد!

انفصل الشابان وهما ينظران نحو مصدر الصوت برعب. بظهر كفه لطم الأول فالثاني فتهاويا فوق الأرض الترِبة العارية. وقف يقلِّبُ عينَيه في الوجوه متحديًا فلم ينبِس أحد. قذف درويش بنظرة متحجِّرة وصاح به: ملعون أنت وملعون جحرك الموبوء!

عند ذاك ظهرت فُلة لا يدري من أين جاءت وتمتمت: إني بريئة!

وقال درويش: إنها تقوم بالخدمة ولكن أولادك طمعوا فيها!

فصاح به: اخرس يا قوَّاد!

فتراجع درويش قائلًا: سامحك الله.

– في قدرتي أن أهدم هذه البؤرة فوق رءوسكم.

تقدمت فُلة خطوةً حتى مثلت أمامه تمامًا وقالت: إني بريئة!

قال لها بخشونة وهو ينتزع عينَيه منها: اغربي عن وجهي.

دفع بأولاده المترنِّحين إلى الخارج بعنف واحدًا في إثر واحد. عادت فُلة تتساءل: ألَا تصدِّق أني بريئة؟

انتزع عينَيه منها مرةً أخرى هاتفًا: بل شيطانة صغيرة من صنع شيطان كبير!

وغادر المكان وهو يتجنَّب النظر إليها.

في ظلام الحارة تنفَّس بعمق. شعر بأن سراحه قد أطلق، وأنه تملَّص من قبضة شريرة. الظلام كثيف لا عين له. أحَدَّ بصره ليعثر على أشباح أولاده ولكنهم ذابوا. هتف: حسب الله!

لا شيء سوى الصمت والظلام. بصيص ضوء ينساب من القهوة هناك ولا شيء بعد ذلك. قلبه يحدِّثه أنهم لن يرجعوا. سيهجرون مهدهم وسلطانه، سيتراءَون في المستقبل كالغرباء. لا أبناء يلتصقون بأصولهم في هذه الحارة إلا أبناء الوجهاء.

شعر وهو يشق طريقه في الظلام بأنه يودِّع الطمأنينة والثقة. ها هو تيار مضطرب يلفه في دُوامته، وهو يساوره الخوف كما يساوره النوم. وقال لنفسه إن البنت بهرتهم بجمالها. وقال أيضًا إن البنت بهرتهم بجمالها الفتَّان، لماذا لا يتزوَّج الحمقى؟ أليس الزواج دينًا ووقاية؟

٢٠

في انتظاره كانت زينب أمام الباب. اهتدى إلى مسكنه بضوء مصباحها الموضوع على عتبة المدخل، سألته بلهفة: أين الأولاد؟

فتساءل بوجوم: ألم يرجعوا؟

فتنهَّدت بصوت مسموع، فتمتم: لتكن إرادة الله.

وهو يجلس على الكنبة قالت له بحِدة: كان يجب أن تَدَعَني أذهب!

– تذهبين إلى البوظة في خِضَم السكارى؟!

– ضربتهم، ليسوا أطفالًا، ولن يرجعوا إلى البيت.

– يتسكَّعون يومًا، ثم يرجعون.

– إني أعرف بهم منك.

فلاذ بالصمت فواصلَت تسأله: وما هذه الفلة التي رمانا بها درويش؟

تجنَّب النظر إليها وقال بازدراء: فيمَ تسألين؟ بنت تقيم في خمارة!

– جميلة؟

– داعرة.

– جميلة؟

فقال بعد تردُّد: لم أنظر نحوها.

فقالت متأوِّهة: لن يرجعوا يا عاشور.

– لتكن إرادةُ الله.

– ألَا تسمع عمَّا يفعل الشبان؟

فلم ينبِس، فقالت: علينا أن نتسامح مع الأخطاء.

فتساءل بذهول: حقًّا؟!

وتبدَّت لعينَيه ناضبةً شاحبةً طاعنةً في السن مثل جدار الممرِّ العتيق، فتمتم: إني أرثي لك يا زينب.

فقالت بحدة: سنتبادل الرثاء كثيرًا.

– على أي حال فليسوا في حاجة إلينا.

– بغيرهم لا أنفاس في البيت تتردَّد.

– إني أرثي لك يا زينب.

أسندَت رأسها إلى راحتها وتمتمت متشكية: لديَّ عملٌ في الصباح الباكر.

– جرِّبي النوم.

– في هذه الليلة؟

فقال بضجر: في أي ليلة!

– وأنت؟!

فقال بتصميم: الحق أني بحاجة إلى نسمة هواء في الخارج!

٢١

الظلام مرةً أخرى. يتجسَّد في القبو، يغطِّي المتسوِّلين والصعاليك، ينطق بلغة صامتة. يحتضن الملائكة والشياطين، فيه يختفي المرهق من ذاته ليغرق في ذاته. إن قدر الخوف على أن ينفذ من مسام الجدران فالنجاة عبث.

٢٢

خرج من القبو إلى الساحة. انفرد بأناشيد التكية والجدار العتيق والسماء المُرَصَّعةِ بالنجوم. جلس القرفصاء دافنًا وجهه بين ركبتَيه. منذ نيِّفٍ وأربعين عامًا تسلَّلت به أقدام خاطئة لتواريَ خطيئتها في ظلمة الممر. كيف وقعت تلك الخطيئة القديمة؟ أين؟ في أي ظروف؟ ألم يكن لها ضحيةٌ سواه؟ تخيَّل، إن استطعت، وجهَ أُمِّك الحالم ووجه أبيك المحتقن، استعد، إن استطعت، كلمات التغرير المعسولة، استحضر اللحظة الحاسمة التي تقرَّرت بها مصائر. كان يقف إلى جانبهما ملاك وشيطان، ولكن الرغبة تهزم الملائكة. تخيَّل صورة أُمِّك، لعلها مثل! لكي تحتدم المعركة لا بُدَّ من بشرة صافية وعينَين سوداوَين مكحولتَين وقسمات دقيقة مثل البراعم. لا بُدَّ من الرشاقة والسحر وعذوبة الصوت. وقبل ذلك لا بد من القوى الخفية المتدفِّقة المناسبة الغادرة المغتصبة بلا ضمير. والطُّعم الفوَّاح تضعه الحياة في الفخ وتنتظر، وتودِّع ذلك كله خمسة عشر عامًا من عمر البشر.

لذلك دقَّ باب الأناشيد ولكنه لم ينفتح. الحق كان بوسعك أن تدفعه بقوتك ولكنك لم تُرِد. ومن يتزوَّج الحياة فلْيحتضن ذريتها المعطرة بالشبق، ولكن لا مفرَّ من أن تعترف بأن ما يحدث لا يمكن أن يُصدَّق، وأن تعاني إحساس المطارَد إذا سبق. فالبسمة قدر، والدمعة قدر، وها هو مخلوق جديد يولد مكلَّلًا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمرُ الفتن.

وثقل رأسه فغفا.

رأى الشيخ عفرة زيدان أمام قبره. حمله بين يدَيه فسأله في جزع: إلى القبر يا مولاي؟

ولكنه مضى به إلى الممر، ومن الممرِّ إلى الساحة، ومن الساحة إلى القبو، واستيقظ على شيء.

فتح عينَيه فسمع صوت زينب وهي تقول: هذا ما خمَّنته، تنام حتى مطلع الفجر؟

نهض فزعًا. أسلم لها يده. مضيَا صامتَين.

٢٣

ما يدرون إلا وهيكله العظيم يملأ باب البوظة.

اختلجَت الجفون الثقيلة، وترددَّت التساؤلات تحت غيوم الأعين: ماذا جاء يفعل؟

– مطاردة أولاده؟

– لا تتوقَّعوا من ورائه مسرة!

مسح المكان ببصره حتى وجد فراغًا في الجناح الأيسر فمضى إليه وتربَّع هناك في هدوء تستَّر به على ارتكابه. هُرِع إليه درويش قائلًا: خطوة عزيزة.

ثم وهو يبتسم: فلْيُعنِّي الله على التصديق!

تجاهله تمامًا، وفي الحال جاءت فُلة تسعى بالقرعة وقرطاس الترمس المدعوك بالشطة. أسبل جفنَيه وتذكَّر قصة الطوفان. نحَّى القرعة جانبًا، وأدَّى الثمن بلا كلام. وجعل درويش يراقبه بحيرة، ثم همس له وهو يهمُّ بالابتعاد: نحن في الخدمة أيًّا تكن!

سرعان ما نسيه الآخرون، أمَّا فُلة فساءلت نفسها عمَّا يُزهِّده في الشراب. اقتربت منه مرةً أخرى وقالت وهي تومئ إلى القرعة: إنها جيدة فوق الوصف!

فحنى رأسه فيما يشبه الشكر. وقال لها أحد السكارى: ابعدي عنه يا بنت.

فرجعت ضاحكةً وهي تقول بصوت مسموع: ألَا ترى أنه يشبه الأسد؟!

قطرت السماء فرحةً من أفراح الطفولة، ولكن عضلات وجهه تصلَّبت أكثر، ولم تَعُد ملابسه تحجب عُرْيه عن الأعين. واختصر طريق حياته بين زاوية الممرِّ وهذا المجلس بالبوظة، ما عدا ذلك طُوِي وتلاشى في نغمة جديدة غامرة. وسرعان ما استنام إلى الهزيمة جذلانَ بإحساس الظفر.

ووقفت فُلة بين الأوعية الفخارية ترنو إليه باهتمام، على حين اقتحم الباب حسب الله ورزق الله وهبة الله.

سرى التوقُّع في ثنايا الخمول واشرأبَّت الأعناق. هتف حسب الله: سلام الجدعان.

ولمح أباه فتشنَّج حلقه وجمد، وخمد حماس رزق الله وهبة الله. وقفوا لحظةً مذهولين، ثم استداروا فتلاشَوا كشيء لم يكُن. وارتفعت ضحكة هازئة. ونظرت فُلة نحو درويش فلم ينبِس، ولكن تجلَّى الضيق في وجهه.

٢٤

احتجَّت قسمات زينب وسألته: وهل يستمر ذلك إلى الأبد؟

فتساءل عاشور في قهر: ما الحيلة؟

– عظيم أن تصدهم عن البوظة، ولكن بأي ثمن؟

فحرَّك رأسه الكبير بحيرة صامتًا، فهتفت بحدة: النتيجة أنك بِتَّ الزبونَ الدائمَ عند درويش!

٢٥

كان يمضي بالكارو عندما مرقت فُلة من باب الخمارة فاعترضت طريقه. شدَّ اللجام وهو يقول لنفسه: «لتدركني رحمة السماء.» ودون كلمة وثبَت إلى الكارو برشاقة. تربَّعت وهي تحبك مُلاءتها حولها، وكانت سافرة الوجه. نظر إليها مستفهمًا، فقالت بعذوبة: وَصِّلني إلى مرجوش.

وظهر درويش باسِمًا وهو يقول: في رعايتك، وحسابها عندي.

رأى خيوط العنكبوت ولكنه لم يبالِ. طرب حتى ثمل. هرس تراثه تحت حوافر الحمار. سارت الكارو وظهره ينصهر بالسخونة.

وإذا بصوتها يقول: لو أنصفت نفسك لكنت الفتوة.

فامتلأ بشاشةً وتساءل: أترينني شريرًا؟

فضحكت برِقةٍ وتساءلت بدورها: وما جدوى الخير مع أناس لا خير فيهم؟

– ما زلتِ صغيرة.

فقالت بنبرة لاذعة: لم أُعامَل كصغيرةٍ قط.

فتجهَّم وجهه مقطِّبًا. وحتى تلك اللحظة لم تغِب عن عينَيه النظرات المتطلِّعة إلى حمله الثمين، ووجد نفسه يسألها: لماذا تذهبين إلى مرجوش؟

ولمَّا لم تُجِبه ندم على ما فرَّط منه، وطلبت منه التوقُّف عند مدخل مرجوش، ثم قالت: تمنَّيت لو كان المشوار أطول.

ثم وهي تهمُّ بالذهاب: ولكن الليل ليس ببعيد!

ربت على عنق الحمار وهمس في أذنه: انتهى صاحبك.

٢٦

مع أول شعاع للشمس اقتحم باب البوظة. استيقظ درويش صاخبًا محتجًّا، ثم ذُهِل لمرآه، ثم تساءل: ماذا وراءك؟

فأقامه بيده وحدَّجه بنظرة هائجة وتمتم: لا بُدَّ ممَّا ليس منه بُد.

– ماذا جاء بك يا عاشور؟

فقال بغلظة: إنك خبيث وشرير وتعرف كل شيء.

فدعك درويش قفاه وهو يطالعه بعينَيه المحمرتَين وتمتم: هذا وقت الرزق!

فقال ملقيًا بنفسه في اليم: قرَّرت أن آخذها.

فقال باسمًا: لكل شيء وقته!

فقال باستسلام نهائي: على سنة الله ورسوله!

اتسعت عينا درويش من وقع المفاجأة وراحا يترامقان في صمت حتى تمتم: ما معنى هذا؟

– لست كما تظن.

– أجننت يا عاشور؟!

– ربما.

فكساه الفتور وقال: إني لا أستغني عنها!

– سوف تستغني عنها يا درويش!

– هل فكَّرت في العواقب؟

– لا دخل للتفكير في ذلك!

فتساءل في خبث: ألَا تعلم أنه ما من رجل …

وقاطعه صوت فُلة وافدًا من فوق أريكتها ممَّا قطع بمتابعتها للحديث وهو يقول: ماذا تريد أن تقول؟ لو كان في حاجةٍ إلى شهادتك لسألك!

فثار درويش وصاح: ستصير أُحدوثة الصغير والكبير.

فصاحت فلة: إنه قادر على حماية ما يملكه.

فانقضَّ عليها فلطمها حتى صرخت، فوثب عاشور نحوه وطوَّقه بذراعَيه وشدَّ حتى صاح متأوِّهًا: أنا في عرض النبي!

فتركه وهو يزمجر غاضبًا، فتهاوى درويش على الأرض وهو يصرخ: في ألف داهية.

٢٧

جرى عاشور مع عزمته بجرأة مستهترة، حتى حزنه لزينبَ وذكرياتها لم يوقفه. وقال لها حاني الرأس: قضاء الله لا حيلة لنا فيه.

فنظرَت إليه ببراءة مستطلعةً فقال: سأتزوَّج من أخرى يا زينب!

وصُعقت المرأة. ذُهلت تمامًا وطارت من رأسها عصافير مصوصوة وصاحت: أنت الرجل الطيب!

فقال بخشوع: قضاء الله.

فصرخت: لم تتمحَّكون باسم الله؟! لمَ لا تعترف بأنه الشيطان؟ ترميني قشرةً وتذهب؟!

فقال بتوكيد: مصونة جميع حقوقك!

فصاحت وهي تشرق بالدمع: لي الله وحده يا غادر يا خائن العيش والملح!

٢٨

زُفَّت فُلة إلى عاشور في حفل صامت. استأجر لها بدرومًا في طرف الحارة من ناحية الميدان. وسعد الرجل بزواجه حتى خُيِّل لمن يراه أنه رجع إلى شبابه الأول.

٢٩

واجتاح خبر الزواج الحارة كالنار. تساءل كثيرون: ألم يكُن بوسعه أن يفعل مثل الآخرين؟!

وقال حسب الله: إذن كان يصدُّنا نحن أبناءَه ليستولي هو عليها!

وضاعف من أثر الخبر ما عُرِف به عاشورُ من الطيبة والاستقامة. أهكذا يقع الناس الطيبون؟ أين الوفاء لزينب؟ وأين الوفاء لزين الناطوري؟ من الذي جعل منه مالك كارو بعد أن كان مكاريًا؟ ومن الذي انتشله من التشرُّد فجعله مكاريًا؟

وكان عاشور يقول مدافعًا عن نفسه: لولا أنني عاشور ما تزوَّجتها!

وتمضي الأيام وهو يزداد سعادةً وامتنانًا، واستهانةً بالأقاويل. وتعلَّقت به فُلة تعلُّقًا لم يحلُم به. صمَّمت على أن تثبت له أنها ست بيت مطيعة، بعيدة كل البعد عمَّا يثير غيرته. وممَّا جعلها أثيرةً عنده أكثر أنه وجدها — مثله — مجهولة الأب والأم. وبسببٍ من شدة حبها له تسامح مع جهلها بكثير من الشئون النافعة، كما تسامح مع كثير من العادات السيئة. ومن أول الأمر أدرك أنها بلا دين إلا الاسم، وبلا أخلاق، وأنها تتبع في مسيرتها الغرائز وملابسات الحياة، فتساءل متى يجد وقتًا لِيُلقِّنها ما ينقصها حقًّا في الحياة؟ الحب وحده ما يحفظها ولكن متى يكفي ذلك؟

ولم ينقطع عن زينب، ولم يغمط لها حقًّا. ومضت هي تألف الحياة الجديدة، وتعاشر جرحها معاشرة التسليم، فلا تكدِّر زياراته بمكدِّر.

وجعل درويش يراقب الأمور ويقول بحقد: العقرب تعبده، ما زالت تعبده، فمتى تلسعه؟

وتمضي الأيام فتحبل فُلة، ثم تنجب ذكرًا يسمِّيه أبوه «شمس الدين»، ويفرح به عاشور فرحةً كبرى كأنما هو بكريُّه.

وتمضي أيام صفاء وسعادة لم يجدهما عاشور فيما سلف من عمره.

٣٠

ماذا يحدث بحارتنا؟

ليس اليومُ كالأمس، ولا كان الأمسُ كأول أمس. أمر خطير طرأ. من السماء هبط أم من جحيم الأرض انفجر؟ وهل تجري هذه الشئون بمحض الصدف؟ ومع ذلك فالشمس ما زالت تشرق وتقوم برحلتها اليومية، والليل يتبع النهار، والناس يذهبون ويجيئون، والحناجر تشدو بالأناشيد الغامضة.

ماذا يحدث بحارتنا؟

وجعل يراقب شمس الدين الثمِل بالانهماك في الرضاع ويبتسم، رغم كل شيء فهو يبتسم. وقال: ميت جديد، ألَا تسمعين الصوات؟

فتساءلت فُلة: بيت من يا تُرى؟

فمدَّ بصره من خلال قضبان النافذة متصنِّتًا، ثم تمتم: لعله بيت زيدون الدخاخني!

فقالت فُلة بقلق: ما أكثر أموات هذا الأسبوع!

– أكثر ممن يموتون عادةً في عام!

– وقد يمر العام بلا ميت واحد.

ولم تهدأ ثائرة الطارئ الجديد.

وكان عاشور ماضيًا بالكارو عندما اعترضه درويش وقال له: الأقاويل كثيرة، ألم تسمع شيئًا يا عاشور؟

– عمَّ تتحدَّث؟

– يتحدَّثون عن قيء وإسهال مثل الفيضان، ثم ينهار الشخص ويلتهمه الموت.

فتمتم عاشور بامتعاض: ما أكثر ما يقال في حارتنا!

– أمس أصيب زبون عندي بذلك حتى لوَّث المحل.

فرمقه بازدراء، فعاد درويش يقول: حتى بيوت الأعيان لم تسلم، ها هي ذي حرم البنان تُوفِّيت صباح اليوم!

فقال عاشور وهو يمضي: إذن فهو غضب الله!

٣١

تفاقم الأمر واستفحل.

دبَّت في ممر القرافة حياة جديدة. يسير فيه النعش وراء النعش. يكتظ بالمشيِّعين، وأحيانًا تتتابع النعوش كالطابور. في كل بيت نُواح. بين ساعة وأخرى يُعلَن عن ميت جديد. لا يفرِّق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير، قوي وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل. إنه يطارد الخَلق بهِراوة الفناء. وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار. ولهجت أصوات معوجة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين.

ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته، فهُرِع الناس إليه من البيوت والحوانيت.

وبوجه مكفهر راح يقول: إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة.

وسيطر الصمت والخوف، فتريَّث قليلًا، ثم مضى يقول: اسمعوا كلمة الحكومة.

أنصت الجميع باهتمام. تُرى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟!

– تجنَّبوا الزحام!

فترامقوا في ذهول. حياتهم تجري في الحارة، والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنَّبون الزحام؟ ولكنه قال موضِّحًا: تجنَّبوا القهوة والبوظة والغرز!

الفرار من الموت إلى الموت! لشد ما تتجهَّمنا الحياة!

– والنظافة، النظافة.

تطلَّعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتلبِّدة.

– اغلوا مياه الآبار والقِرَب قبل استعمالها. اشربوا عصير الليمون والبصل.

ساد الصمت، وظَلَّ ظِلُّ الموت ممتدًّا فوق الرءوس حتى تساءل صوت: أهذا كلُّ شيء؟

فقال حميدو بنبرة الختام: اذكروا ربكم وارضَوا بقضائه.

رجع الناس إلى البيوت والدكاكين واجمين، وتفرَّق الحرافيش في الخرابات وهم يتبادلون الدعابات الساخرة، ولم يتوقَّف موكب النعوش ساعةً واحدة.

٣٢

دفعه القلق إلى الساحة في جوف الليل. الشتاء يطوي آخر طية في ردائه. الهواء منعش لين القبضة. النجوم متوارية فوق السحب. في ظلمة داجية تهادت الأناشيد من التكية في صرحها الأبدي. لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حلَّ بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترامَ إلى آذانكم نُواح الثكالى؟ ألم تشاهدوا النعوش وهي تُحمل لصق سوركم؟

رنا عاشور إلى شبح البوَّابة، إلى هامتها المقوَّسة، بإصرار حتى دار رأسه. تضخَّمت البوابة وتعملقت حتى غابت هامتها في السحب. ما هذا يا ربي؟ إنها تتمخَّض عن حركة بطيئة دون أن تبرح مكانها. تتموَّج وقد تنقض في أي لحظة. وشمَّ رائحةً غريبةً لا تخلو من نفحة ترابية. إنها تتلقَّى من النجوم أوامر صارمة. جرَّب عاشور الخوف لأول مرة في حياته. نهض مرتعدًا. مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت. تساءل في أسًى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟!

٣٣

أشعل المصباح فرأى فُلة نائمة، وشمس الدين لا يبدو من الغطاء إلا شعر رأسه. جمالها مستسلم لسطوة النوم. ثغرها مُفتَرٌّ بلا بسمة. منديلها منسحب وخصلات شعرها نافرة. دقَّ الرعب أبواب رغبته الغافية. تمطَّى نداء مثل لسان من لهب. جُنَّ بالشهوة فاندفع بلهوجة المطارد. همس باسمها حتى فتحت عينَيها. نظرت إليه منكرةً حتى عرفته. فقهت وقفته ونظرة عينَيه، فتزحزحت من تحت الغطاء بارزة، وتثاءبت، وابتسمت، وتساءلت: ماذا دهاك في الليل؟

ولكنه من شدة الانفعال صمت. امتلأ صدره العريض بالعنف والأسى.

٣٤

نام ساعتَين.

رأى في وسط الحارة الشيخ عفرة زيدان. هُرِع نحوه مجذوبًا بالأشواق. كلما تقدَّم خطوةً سبق الشيخ خطوتَين. هكذا اخترقا الممرَّ والقرافة نحو الخلاء والجبل. وناداه من أعماقه ولكن الصوت في حلقه انكتم.

واستيقظ في غايةٍ من القهر.

وقال لنفسه أن ليس هذا لغير سبب. وفكَّر طويلًا، وعندما نضح الشباك بلون الفجر تلقَّى عزمته، ونهض مرحًا بعزمته. أيقظ فُلة. بكى شمس الدين. غيَّرت لفَّته ودسَّت برفق ثديها الثري في ثغره، ثم التفتَت إلى الرجل تعنِّفه.

مسح على شعرها بحنان وقال: حلمت حلمًا مذهلًا.

فقالت مُحتَجَّة: لم أشبع من النوم.

فقال بجديةٍ غير متوقَّعة: علينا أن نهجر الحارة بلا تردُّد.

فرمقته غير مصدِّقة، فعاد يقول: بلا تردُّد.

فتساءلت مقطِّبة: ماذا حلمت يا رجل؟!

– أبي عفرة أراني الطريق.

– إلى أين؟

– إلى الخلاء والجبل!

– إنك ولا شك تهذي.

– بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت.

– وهل الموت يعاند يا عاشور؟

فقال وهو يحني رأسه في حياء: الموت حق والمقاومة حق.

– ولكنك تهرب!

– من الهرب ما هو مقاومة!

فتساءلت في قلق: وكيف نعيش في الخلاء؟

– الرزق في الساعدَين لا في المكان.

فتنهَّدت قائلة: سيضحك الناس من جهلنا!

فقال بوجوم: لقد جفَّت ينابيع الضحك.

فأجهشت في البكاء، فتساءل في قلق: هل تتخلَّين عني يا فُلة؟

فقالت وهي تنتحب: لا أحد لي سواك، سوف أتبعك.

٣٥

اجتمع عاشور بأسرته الأولى، زينب وحسب الله ورزق الله وهبة الله، وباح لهم بحلمه وعزمته، ثم قال: لا تتردَّدوا فالوقت ثمين.

ذُهلوا جميعًا وارتسم في وجوههم الرفض، وقالت زينب ساخرة: ها هي وسيلة جديدة لتجنُّب الموت!

وقال حسب الله: أرزاقنا هنا، ولا مجال لنا سواه.

فقال عاشور غاضبًا: لنا سواعدنا، ولنا أيضًا الكارو والحمار.

فسأله هبة الله: ألَا يوجد الموت في الخلاء يا أبي؟

فقال عاشور وهو يزداد غضبًا: علينا أن نبذل ما في وسعنا وأن نقدِّم الدليل للمولى على تعلُّقنا ببركته.

فهتفت زينب: أفسدت البنتُ عقلَك!

فقلَّب وجهه في وجوههم وتساءل: ما قولكم؟

فأجابه حسب الله: عفوًا يا أبي، نحن باقون ولْتكُن مشيئة الله!

هام عاشور في حزن عميق، ثم غادر المكان.

٣٦

رفع شيخ الحارة حميدو رأسه عن مكتبه ليرى عاشور واقفًا أمامه مثل الطود، فسأله بحدة: ماذا تريد يا عاشور؟

وقبل أن يجيبه عاشور قال: حدَّثني ابنك حسب الله عمَّا عزمت، ولله في خلقه شئون!

فقال عاشور بهدوء عجيب: جئتك لتدعو الناس إليه بنفسك فهم أجدر أن يسمعوا لك!

فصاح شيخ الحارة: أجُننت يا عاشور؟! أتفهم أنت خيرًا من الحكومة؟!

– ولكن.

فقاطعه بحِدة: حذارِ أن تعطِّل الأرزاق وتنشر الفوضى.

– لقد رأيت الموت والحلم!

– هذا هو الجنون بعينه! الموت لا يُرى، ونصف الأحلام مصدرها إبليس!

– إني رجل طيب يا معلم حميدو.

ألم تذهب يومًا إلى البوظة لتُنقذ أبناءك من امرأة، ثم وقعت أنت في هواها واستأثرت بها لنفسك؟

فقال بغضب: لقد أنقذتها من الشر، ثم إنني لا أبرِّئ نفسي من الذنوب.

فصاح شيخ الحارة: افعل بنفسك ما تشاء، ولكن لا تغرِّر به أحدًا وإلا أبلغتُ عنك القسم!

٣٧

هاجر عاشور في الفجر، وتحرَّكت به الكارو نحو القبو كما تفعل في مواسم القرافة. تربَّعت فوق سطحها المترجرج. فُلة محتضنة شمس الدين، أمامها بقجة مكتظة، وراءها أجولة من الفول السوداني وبلاليص من الليمون والزيتون المخلَّل، وزكائب من العيش المقدَّد. ولمَّا خلصت العربة إلى الساحة استقبلتها تراتيل آخر الليل وهي تشدو:

جز آستان تو أم درجهان بناهي ينست
سر مرا بجز أين در حواله كاهي ينست

استمع عاشور إليها بحزن، ثم دعا لحارته بالهداية من أعماق قلبه.

واخترق الممرَّ الطويل، ثم شقَّ سبيلَه بين القبور، قبور لا تكاد تُغلق حتى تُفتح ثانية، ثم انتهى إلى الخلاء. غمره تيار خفيف بارد، منعش وودود، ولكنه قال: احبكي الغطاء حولك وحول الولد.

فقالت متشكية: لا حيَّ موجود.

– الله موجود.

– أين نقف؟

– عند سفح الجبل.

– هل نتحمَّل جوَّه؟

– أقوى ممَّا تتحمَّله التلال، وتوجد ثمة كهوف.

– وقُطَّاع الطريق؟!

فقال هازئًا: فلْيقدم من كُتب عليه الهلاك!

وراحت الكارو تتقدَّم والظلام يخف. تذوب الظلمة في ماء وردي شفاف فتتكشَّف عوالم في السموات والأرض. تنساب منها ألوان عجيبة متداخلة حتى اصطبغ الأفق بحُمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها في زُرقة القبة الصافية، وأطلَّ من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى. وتراءى الجبل شاهقًا، رزينًا، صامدًا، لا مباليًا. هتف عاشور: الله أكبر!

ونظر نحو فُلة وقال مشجِّعًا: انتهت الرحلة.

ثم وهو يضحك: بدأت الرحلة!

٣٨

قضى عاشور وأسرته في الخلاء ما يقارب الستة الأشهر.

لم يكُن يغادر موقع الكهف إلا ليحضر ماءً من حنفية الدرَّاسة، أو يبتاع علفًا للحمار، أو بعض الضرورات في نطاق ما يملك من مدخر قليل. واقترحت فُلة أن تبيع قرطها الذهبي ولكنه رفض. وأخفى عنها أسباب زهده؛ لقد جاءته والقرط في أذنَيها فهو من مال حرام جاء!

وتبدَّت الحياة في الأيام الأولى نزهةً ومغامرةً ورياضة، ولم تشعر بخوفٍ في ظل زوجها الجبار. وسرعان ما تبدَّت خاليةً مُضجرةً لا تُحتمل. ماذا؟! هل جئنا نحسب الزمن بدبيبه المتتابع فوق جلودنا؟ هل جئنا لنعدَّ حبات الرمال والنجوم الساهرة؟

وقالت له فُلة: حتى الجنة لا تطاق بلا ناس وبلا عمل.

فلم يعترض ولكنه قال: نحن مطالبون بالصبر.

وقت طويل من وقته مضى في العبادة، ووقت طويل مضى في تذكُّر أسرته هناك وأهل حارته، حتى قال لزوجه مرة: ما أحببتُ الناس قط كما أُحِبُّهم اليوم.

وكان يحظى بنصيبه من النوم في النهار ويسهر الليل بطوله. وترامت تأمُّلاته حتى شعر شعورًا عجيبًا بأنه عمَّا قريب سيسمع أصواتًا ويرى أشباحًا. بات صديقًا للنجوم وللفجر، وقال إنه من ربه قريب، لا يحجزه عنه شيء، وإنه لا يدري لمَ يستسلم أهل حارته للموت، ولا لمَ يقرُّون بعجز الإنسان؟ أليس الإقرار بعجز الإنسان كفرًا بالخالق؟ واشتبك في أحاديث صامتة لا نهاية لها مع ماضيه، الشيخ عفرة، ست سكينة، الناطوري، زينب، وأحاديث حميمة حزينة مع حسب الله ورزق الله وهبة الله. حسب الله كان مرشَّحًا دائمًا لصداقته فيا للخسارة! رزق الله لا خير فيه ولكنه ذكي. أمَّا هبة الله فمتعلِّقٌ بأمه بدرجة لا تليق. على ذلك فهو يقرُّ بأنهم خير من كثيرين من أضرابهم، ودعا لهم ولأُمِّهم طويلًا. ولاحت له حارته مثلَ جوهرةٍ غارقةٍ في الوحل. إنه الآن يحبُّها حتى بسوءاتها، ولكن ثمة فكرةٌ تتسلَّل إليه خلال عباداته المتواصلة بأن الإنسان يستحق ما يعانيه! الوجهاء والحرافيش ودرويش يدورون حول محور منحرف يرغب حقيقةً في القبض على سِرِّه الماكر العسير، وها هو الله يعاقبهم جميعًا كأنما قد ضاق بهم! ورغم ذلك يثمل الفجر بغبطته الوردية، ويرقص شعاع الضياء في مرح أبدي! إنه على وشك أن يسمع أصواتًا، ويرى أشباحًا، إنه يتمخَّض عن ميلاد جديد.

٣٩

وثمة فرصةٌ سنحت ليملأ قلب فُلة بالإيمان. إنها امرأة صغيرة جميلة لا دين لها، لا تعرف الله ولا الأنبياء ولا الثواب ولا العقاب. يحفظها في هذه الدنيا المرعبة حبُّها وأمومتُها. حسن، إنه يلقى عناءً في تعليمها، ولولا ثقتُها فيه ما صدَّقت كلمةً واحدةً ممَّا يقول. تحفظ سور الصلاة في عناء. يغلبها الضحك فتخرج من الصلاة، وتصلِّي اتقاءً لغضبه واستجلابًا لمرضاته.

وسألته ببراءة: لماذا ترك الله الموت يفتك بالناس؟

فأجابها بعنف: من يدري؟ لعلهم في حاجة إلى تأديب.

فقالت مداعبة: لا تغضب مثل الله.

– متى تهذِّبين ألفاظك؟

– عظيم، ولمَ خُلِقنا بهذا القدْر من السوء؟

فضرب الرمل براحته وتساءل: من أنا حتى أجيبَك نيابةً عنه عزَّ وجل؟

ثم برجاء: علينا أن نؤمن به فقط، علينا أن نضع قوتنا في خدمته.

فانسحبت من الحديث جملة، وهتفت متشكية: الأيام تمرُّ والوحدة ثقيلة أفظع من الموت.

فحوَّل عنها ناظريه في صمت. إنها تُنذر بالتمرُّد. هل تغادره هاربةً بشمس الدين؟ وماذا يبقى له في الحياة؟

شمس الدين سعيد. يزحف فوق الرمل، يجلس ليعبث بالحصى، يعرف النوم ولا يعرف الملل، ينضج في الهواء والشمس، يجد غذاءه الطبيعيَّ متوافرًا. الحمار أيضًا سعيد. يأكل، ينعم براحة كبيرة، يهش الذباب بذيله، يهيم في ملكوته مزوَّدًا بصبر لا نهائي، ويرمقه عاشور بعطف وتقدير. إنه صاحبه ورفيقه ومصدر رزقه، وبينهما مودة راسخة.

٤٠

وتمضي الأيام. يقتربون من حافة الانهيار.

وذات يوم قال لها عقب عودته من الدرَّاسة: يقولون هناك إن الهلاك يولِّي مدبرًا.

فصفَّقت فُلة وصاحت: لنرجعْ في الحال!

فقال بحزم: بل ننتظر حتى أتحقَّق من الخبر.

٤١

رجعت الكارو تشق طريقها بين القبور في الهزيع الأخير من الليل. طفحت قلوب أصحابها بالسعادة تحت النجوم، وانتفضت بأماني النجاة. ولمَّا انعطفت إلى الممرِّ واستقبلتها الأناشيد دمعت الأعين، وقالت الأناشيد إن كل شيء سيكون كالعهد به.

ها هي الحارة مستغرقةٌ في النوم، الإنسان والحيوان والجماد. عجيبة في سُباتها كما هي عجيبة في يقظتها، ولسوف تتندَّر به طويلًا. عند مسكن زينب توقَّف قلبه ولكنه أشفق من إزعاجهم، وأجَّل ارتباكه ساعتَين. من القلوب انسابت قُبلات تلثم الجدران والأديم والخدود وترقص بالطرب. الموت لا يُجهز على الحياة وإلا لأجهز على نفسه، ولكن ثمة شعور بالندم والخجل.

وضمَّتهم أخيرًا حجرتهم فامتلأت خياشيمهم برائحة التراب والعطَن، وبادرت فُلة تفتح النافذة وهي تقول: كيف يلقاك الناس يا عاشور؟

فقال بتحدٍّ كاذب: كلٌّ يعمل بإيمانه.

٤٢

قبع وراء قضبان النافذة يترقَّب بصبر انطواء آخر ذيول الظلام. ها هو أول ضياء يتطامن فوق الجدران. ها هي معالمها تتحدَّد كوجه صديق قديم. من أوَّل قادمٍ يكون؟ لعله اللبَّان أو خادم من بيوت الوجهاء، سيجيبه بصوت يمزِّق الصمت، وليلقَ من السخرية حظَّه المقسوم. ها هو النور يشعشع في الحارة، وحتى دكان الفول لم يفتح.

تراجع متململًا وهو يقول: الظاهر أن تعاليم الحكومة قد غيَّرت من عادات حارتنا.

ودسَّ قدمَيه في المركوب قائلًا: سأذهب لزيارة الأولاد.

٤٣

انطلق في خلاء بين أبواب ونوافذ موصدة، إلى بدروم زينب. دفع الباب فانفتح، وجد نفسه في حجرة خالية عبقة برائحة محزنة. الفِراش كما هو مغطًّى بطبقة من التراب، والكنبة الوحيدة عليها أشياء كالخِرَق البالية، والمقعد الخشبي مقلوب على مسنده، وتحت الفراش تكوَّمت الحلة والأطباق والكانون ومقطف مملوء بالفحم إلى منتصفه. والسحارة ليست خالية، توجد بها المُلاءة وجلباب ومشط ومرآة ومنشفة.

– هاجَروا؟ ولكن لمَ يتركونَ الملابس؟!

عبثًا حاول أن يدفع البلوى أو أن يؤجِّل تجرُّعها. ضرب جبينه براحته. تأوَّه. أجهش في البكاء. قال إنه سيعلم من الآخرين الخبر، وإنه لم يفقد بعدُ الأمل.

غادر المكان مترنِّحًا.

٤٤

اندفع في الحارة حتى مطلعها عند الميدان. يا له من صمت! ويا له من خلاء! لا بابَ مفتوحٌ ولا نافذة. تقدَّم ببطء وذهول. الخمارة مغلقة، البيوت، الوكالة، القهوة، لا نَأْمة، لا قطة، ولا كلب، لا رائحة لحياة، الدور الترِبة غارقة في نفس الفناء.

الشمس تُرسل أشعَّتها بلا جدوى، هواء الخريف يتموَّج في فتور وبلا هدف.

وصاح بصوته الأَجَشِّ الباكي: يا هوه! يا أهل الله!

فلم يُجِبه أحد. لم تُفتَح نافذة. لم يشرئبَّ رأس من جحر. ليس سوى صمت اليأس العنيد، والرعب المتحدِّي، والقهر الصليد.

اخترق القبو إلى الساحة فطالعته التكية كما هي دائمًا. رنت إليه أوراقُ التوت فرأى رحيقها يسيل دمًا. سكتت الأناشيد وتلفَّعت بطيلسان اللامبالاة. رنا إليها طويلًا والحزن يعصف بجذور قلبه ودموعه تسيل.

وبصوت كالرعد صاح: يا درويش!

خُيِّل إليه أن غصون الأشجار تميد من صوته ولكن لم يُجِبه أحد.

وراح يصيح دون توقُّف، وبلا جدوى.

وقهقه كالأبله، ثم تساءل: من ذا يسمع أناشيدكم اليوم؟ ألَا تعلمون؟

٤٥

قال لفُلة وهو يجفِّف دمعه: لا حيَّ في الحارة!

رأى في حمرة عينَيها أنها فطنت إلى الكارثة بطريقة ما. سمعها وهي تقول منتحبة: من الخلاء إلى الخلاء يا عاشور!

وراح يتأوَّه فقالت: فلْنهاجر إلى مكان معمور.

فنظر إليها بحَيرة وصمت، فتساءلت بحِدة: أنبقى في هذه القرافة؟!

فتمتم بفتور: سنتجوَّل فوق عربتنا. لن نبقى في البيت، أمَّا المأوى فلا مأوى لنا إلا هنا.

صاحت: بيت في حارة خالية؟!

فصاح بغضب: لن تبقى خاليةً إلى الأبد!

٤٦

لا حزن يدوم ولا فرح.

عاد عاشور إلى ممارسة عمله كسواق كارو، وكان يأخذ معه فُلة وشمس الدين النهار كله وشطرًا من الليل، ثم يأوون إلى البدروم في كنف الرجل العملاق.

أدرك عاشور أن الحارة أصبحت منسيةً في غمار المسئوليات التي واجهت الحكومةَ بسبب انتشار الشوطة في جميع الأحياء. لا أحد يدري به في هذا الركن الفاني ولكنهم سيأتون، يومًا ما سيأتون. سيجيء أناس من هنا وهناك، وستردَّد الأنفاس من جديد وترسل دفأها في البقاع.

وكلما خرج مبكِّرًا ليُعِد العربة جذبت عينَيه دار البنان. تعجبه هامتها الأرجوانية وضخامتها المهيبة وأسرارها المنطوية. ماذا بقي في الداخل؟ ألَا يوجد من آل البنان من يهمُّه استردادُها؟

ويرسِّخ الإغراءَ في أعماقه وينفث أحلامًا سحرية. كما اشتاق يومًا إلى الاطلاع على أسرار التكية. غير أن دار البنان قريبة ولا حي سواه في الحارة. ليس بينه وبين تحقيق الحلم إلا حركة، حركة مُغلَّفة بالأمان!

٤٧

هزَّ منكبَيه العريضَين استهانةً ودفع الباب فانفتح. التراب يغطِّي الفُسيفساء، كما يغطِّي أرض السلاملك الرخامية. التراب هو ما يسود في كل مكان. وقف عند البهو مرتاعًا. إنه ميدان يا عاشور. سقفه عالٍ جدًّا لا تبلغه رءوس الجان، في وسطه نجَفة مثل قبة الغُوري، ومن أركانه تتدلَّى القناديل. على جوانبه أرائكُ مغطاة بالسجاجيد المزركشة، كما تُغَطَّى جدرانُه بالحُصر الفاخرة وأُطر الآيات المذهبة.

ترامى إليه صوت فُلة وهي تنادي فجرى نحوها. رمقته بذهول. تساءلت: ماذا فعلت؟

فأجاب بحياء: أمنية طارئة حقَّقتَها!

– ألَا تخشى أن يعلم أصحابه؟

– لا صاحب له.

وتردَّدت تلعب بها الأهواء، ثم أشارت إلى الكارو وقالت: تأخَّرنا.

فقال بحياء أشد: إني أدعوك للمشاهدة يا فُلة.

أمضيَا النهار في التنقُّل من حُجرة إلى حُجرة، وقفا طويلًا في الحَمَّام والمطبخ، جرَّبا الجلوس على دواوين ومقاعد وأرائك. طفر الجنون من عينَي فُلة الجميلتَين. قالت: نبيت ليلتنا هنا.

صمت عاشور وهو يعاني ضعفًا أشد، فقالت: نستحم في الحمام العجيب، نرتدي ثيابًا جديدة، وننام فوق هذا الفراش. ليلة واحدة نعود بعدها إلى الكارو.

٤٨

لكنها لم تكُن ليلةً واحدة.

كانا يغادران الدار فجرًا ثم يتسلَّلان إليها مع الليل. في النهار تمضي بهما الكارو من حي إلى حي. يتناولان طعامهما عدسًا وفولًا وطعمية، وفي الليل يرفلان في الثياب القطنية والحريرية، يستريحان في السلاملك الداخلي أو فوق الدواوين، وينامان فوق فراشٍ وثيرٍ يصعد إليه بسلم قصيرٍ من الأبنوس. وتتحسَّس فُلة الستائر والوسائد والطنافس براحتَيها وتهتف: لم تكُن حياتنا إلا كابوسًا.

وتتبدَّى لهما الحارة، في الليل من المشربية ظلمةً وهياكل أشباح غارقة في التعاسة، فيُتمتم عاشور في أسًى: حكمة الله تَعِزُّ على العقول!

فتجيبه بتحدٍّ: ولكنه يهب الرزق لمن يشاء.

ويبتسم متسائلًا حتى متى يدوم هذا الحُلم؟ ولكنها كانت تفكِّر في أمور أخرى فقالت: انظر إلى التحف حولنا، لا شك أنها غالية الثمن، لم لا نبيع بعضها لنأكل مثلما نعيش؟!

فقال بإشفاق: ولكنه مال الغير.

– لا صاحب له كما ترى، هو رزقنا من الله.

وتفكَّر عاشور مليًّا. زحف عليه الإغراء كما يزحف النوم على المكدود، وصمَّم على أن يجد لأزمته حلًّا. واهتدى إلى حكمة جديدة فقال: المال حرام ما لم يُنفَق في الحلال!

فقالت متوثِّبةً للخصام: هو رزقنا يا عاشور، وما نريد إلا أن نأكل.

ومضى يذرع السلاملك حائرًا، ثم تمتم: هو حلال ما دمنا ننفقه في الحلال!

٤٩

وبمرور الأيام هان كل شيء فأصبحت إقامة عاشور وأسرته بدار البنان دائمة. سرح الحمار في الفناء الخلفي، ووُوريت الكارو في البدروم. خطر عاشور في الدار مثل الوُجهاء، بعمامة مُقلوظة وعباءة فضفاضة، وعصًا ذات مقبض ذهبي. وتجلَّت فُلة في نضارة النعيم كأجمل هانم عرفتها الحارة، أمَّا شمس الدين فكان يبول على سجاد شيرازي يقدر ثمنه بالمئات. وشاع الدفء في المطبخ، وتطايرت منه روائح اللحوم بأنواعها.

وبمضي الأيام أخذت الحياة تتسرَّب إلى الحارة. جاء حرافيش فآوَوا إلى الخرابات، وكل يومٍ يعمَّر بيتٌ بأسرةٍ جديدة. ومضت الدكاكين تفتح أبوابها. تردَّدت أنفاس الحياة، ارتفعت الحرارة، تجاوبت الأصوات، هلَّت الكلاب والقطط، عادت الديَكة تصيح في الفجر، ولم تبقَ خاليةً إلا دورُ الأغنياء.

وعُرف عاشور بوجيه الحارة الوحيد. يُشار إليه بإكبار، ويقال بإخلاص: سيد الحارة.

وشاع أنه الوحيد الذي نجا من الشوطة، فأُطلِق عليه «عاشور الناجي». وتحمَّس الجميع لإغداق الثناء عليه لجوده وإحسانه وعطفه. كان راعي الفقراء، يتصدَّق عليهم، ولم يقنع بذلك؛ فكان يشتري الحمير ويسرِّح بها العاطلين، أو يبتاع لمن يريد عملًا السلالَ والمقاطف وعربات اليد، حتى لم يبقَ عاطل واحد في الحارة عدا العجزة والمجاذيب.

الحق أنه لم يُعرف عن وجيه من قبلُ مثل ذلك؛ لذلك رفعوه إلى مرتبة الأولياء، وقالوا إنه لذلك نجَّاه الله من دون الآخرين.

وهدأ عاشور واستكنَّ ضميره الحي، وشرع في تحقيق أحلامٍ كانت تراوده من قبل، فجاء بعُمَّالٍ لتنظيف الساحة والممرِّ، وتطهيرها من تلال الأتربة والزبالة، وشيَّد حوض مياه الدواب، والسبيل، والزاوية، تلك المعالم التي رسخت في وجدان حارتنا مثل التكية والقبو والقبور والسور العتيق، وبها وبه صارت الحارة جوهرة الحيِّ كلِّه.

٥٠

ترامت إلى أذنَيه حركة غريبة آتية من ناحية الخمارة!

كان في طريقه إلى الحسين فتوقَّف. رأى عُمَّالًا يرمِّمون المكان ويُعِدُّونه لحياة جديدة. مال نحو المدخل، ثم تساءل بصوت مرتفع: لحساب من تعملون؟

فجاءه صوت من ركن مظلم إلى يمين الداخل يقول: لحسابي أنا يا سيدَ الحارة!

وبرز درويش من الظلام فتراءى أمامه. دهمته قشعريرةٌ مفاجئة مختلطة بوثبة غضب. هتف: أنت حيٌّ يا درويش!

فقال حانيًا رأسَه بامتنان: بفضلك يا سيدَ الحارة!

ورآه في حاجة إلى إيضاح، فقال بنبرةٍ لم تخلُ من سخرية: عملت بحكمتك فهاجرت إلى الخلاء، لم أكُن بعيدًا عنك طيلة الوقت.

فصمَّم على مواجهة الموقف بالقوة الضرورية فقال: لن أسمح بفتح البوظة!

– إنك سيدُ الحارة ووجيهها الأوحد، ولكنك لست القانون ولا الفتوة!

فسأله بحَنَق: لمَ لا تذهب إلى أيِّ حارةٍ أخرى؟

– هنا وطني يا سيد الوجهاء.

وتبادلا نظرةً طويلة، حتى قال درويش: بل إني أتوقَّع أن يشملني إحسانك العميم!

ها هو يخطِّط للابتزاز! وأرعشه الغضب فسحبه من يده إلى الخارج، ثم قال له: لعلي لا أستطيع أن أغلق خمارتك ولكني لن أخضع لأي تهديد.

– ولكنك تجود على كل محتاج؟!

– في سبيل الخير أعطي لا في سبيل الشر.

فقال بنبرة ذات مغزًى: إنك حُر في «مالك» يا سيد الحارة!

وضغط على «مالك» ضغطًا موحيًا، فرفع عاشور منكبَيه استهانةً وقال: قد تسوِّل لك نفسُك أن تشي بي، وأن تفشي سِري بين الناس، هذا ممكن يا درويش، ولكن أتدري ماذا ستكون عواقب ذلك؟

– تهدِّدني يا عاشور؟

– أعجنك ورأسِ الحسين حتى لا يُعرَف لك رأسٌ من قدم!

– تهدِّدني بالقتل؟!

– وأنت تعرف أنني على ذلك قادر!

– من أجل أن تستأثر بمال لست صاحبه؟

– إني صاحبه ما دُمت أُنفقه فيما ينفع الناس.

تبادلا نظرةً طويلةً مرةً أخرى. تجلَّى التخاذل في عينَي درويش، فقال ملاينا: ما أريد إلا أن تجود عليَّ مثل الآخرين.

– ولا مليم لأمثالك.

وساد صمت، فرجع عاشور يتساءل: ماذا قلت؟

فتمتم درويش بأسف: ليكن، رغم أننا أخوان فسنعيش كالغرباء!

٥١

تلقَّت فُلة الخبر بانزعاج شديد حتى تجهَّم وجهها العذب بالتعاسة، ثم قالت برجاء: غَيِّر معاملتك له، أعطِه ما يطمع فيه، أبعِد عنا شبح الغدر.

فقال عاشور مقطِّبًا: ألم يُطهِّرك هواء الخلاء من الضعف؟

فلوَّحت له بخمار من الحرير الدِّمَشقي وقالت: أخاف على هذا.

فحرَّك رأسه بحدة، فقالت: لم يَعُد الأمان كما كان يا عاشور.

فقال باستهانة: إنه شرير حقًّا ولكنه جبان.

٥٢

وأشرقت الشمس من جديد في أعقاب ليلة عاصفة باردة. ها هو دكان شيخ الحارة يفتح أبوابه، ويحل به شيخ جديد؛ عم محمود قطائف. أدرك الناس أن الحكومة أخذت تُفيق من هجمة الموت فتُعيِّن أحياءً مكان من هلك من عمالها.

وتفاءل كثيرون بالحدث، ولكنه كان ذا رَجْع مختلف في دار عاشور. انقبض قلب عاشور لا شك، وفزعت فُلة فضمَّت شمس الدين إلى صدرها وتمتمت: لا شيء يبتسم.

فتساءل عاشور في قلق: أليس ما مضى قد مضى؟

– ولكنك تشاركني مخاوفي يا عاشور!

– ماذا جنينا؟ وجدنا مالًا بلا صاحب فأنفقناه فيما ينفع الناس.

– ألا يُنذر وجهُ ذلك الرجلِ بشر؟

فغضب عاشور وصاح: فلْنثِق بصاحب المال الأصلي جلَّ جلاله.

فهدهدت فُلة شمس الدين وقالت: أمَّا أنا فأرغب في أن يمتدَّ نهر الخير حتى يسبح فيه هذا الولد!

٥٣

وقرَّر عاشور أن يواجه التحدي بلا تسويف.

مال في طريقه إلى دكَّان شيخ الحارة ليحييه. استقبله الرجل بحرارة وهو يقول: أهلًا بسيد الحارة وراعيها.

فشاع السرور في صدر عاشور وقال: أهلًا بشيخ حارتنا!

وإذا به يقول: أتدري يا معلم أنني كنت على وشك الذهاب للقائك؟

فخفق قلبه ولكنه قال: أهلًا بك في أي وقت.

– أجدني في حاجة إلى رأي الناجي أحقِّ الناسِ بالكلام عن الحارة الهالكة.

٥٤

هكذا دخل محمود قطائف دار عاشور، وجلسا متجاورَين على ديوانٍ بالبهو، على حين توارَت فُلة وراء الباب الموارَب. احتسيا القهوة وهما يتبادلان كلمات المجاملة حتى قال الرجل: بحاجة أنا إلى رأي رجلٍ يَعده الجميع وليَّ نعمتهم!

فقال عاشور بفتور: في خدمتك يا شيخ حارتنا.

فتريَّث الرجل قليلًا، ثم قال: تكوَّنت لجنة منذ قليل لجرد دُور الأغنياء ومحسوبك عضوٌ فيها.

– ليرحم اللهُ من مات.

– وقد تبيَّن لنا أن الدُّور قد نهبت يا صاحبَ النجاة!

– ولكن لم يكُن بالحارة حي!

– ذاك ما كشف عنه الجرد.

فقال عاشور بحنق: إنه لغريب. أسأل الله أن يكون المال قد وقع في يد من يستحقُّونه!

– يستحقُّونه؟!

– أعني الفقراءَ من أبناء حارتنا.

فابتسم محمود قطائف وقال: هذه نظرية، ولكن للحكومة نظريةً أخرى.

– وما نظرية الحكومة؟

– الدُّور تُعتبر مِلكًا لبيت المال، وسوف تُعرَض للبيع في المزاد.

فحدَّجه عاشور بحِدة وسأله: وماذا عن النهب؟

فهزَّ منكبَيه قائلًا: رأت اللجنة أن تتغاضى عنه منعًا لتعريض الأبرياء للتهم!

أدرك عاشور أن اللجنة قد نهبت الدور، ورغم شعوره بالازدراء فقد استعاد الكثير من طمأنينته، وقال مداعبًا: لعل اللجنة تعمل بنظريتي يا شيخ محمود.

فقال شيخ الحارة بإشفاق: تبقى مشكلةٌ واحدة.

فتساءل عاشور بعينَيه وهو يشعر بأنه وافى شاطئ الأمان. وقال شيخ الحارة: تُريد اللجنة أن تَطَّلع على وثائق ملكيتك لهذه الدار، وبذلك تنتهي مهمتها.

اغتيل الأمانُ بطعنة غادرة، فاختطفت عينَيه نظرةٌ من الباب الموارب، وتساءل: أثمة شك في ملكيتي لها؟!

– معاذ الله، ولكنها الأوامر!

فقال بحدة بصوته الخشن: أريد أن أعرف ما تعنيه أوامرك؟

فقال محمود قطائف بصوت منخفض: اغتُصبت بعض دُور الهالكين في الأحياء المجاورة!

وغرقا معًا في صمت ثقيل مشحون بالتوجُّس والريب، حتى رفع عاشور صوته قائلًا: هبها فُقدت في فوضى الموت والهجرة!

فتمتم شيخ الحارة بأسف: ستكون ورطة أي ورطة!

فصاح عاشور غاضبًا: ورطة! … أَ لم تقنعِ اللجنةُ بما نهبت؟

فارتعد الرجل من شدة الصوت، وقال كالمعتذر: ما أنا إلا عبد الأمر.

– عندك معلومات فصرِّح بما في نفسك.

– المسألة أن عضوًا من أعضاء اللجنة أعلن بعض التساؤلات.

– عليه اللعنة!

– الوثائق تحسم كافَّة الرِّيَب.

– ولكنها ضائعة!

فقال بلين وخوف: ستكون ورطة يا معلم عاشور.

عند ذاك اقتحمت الحجرةَ فُلة ثائرةً وهتفت مخاطبةً شيخ الحارة: لندعِ اللفَّ والدوران.

فنهض الرجل مرتبكًا، فقالت بصراحة مثل ضربة نبُّوت: لن يصعب عليك صعب. فلنسوِّ الأمر فيما بيننا.

فقال الرجل بأسف: لو كان الأمر بيدي لهان!

ونهض عاشور محتدًّا وهو يقول: لتكُن إرادةُ الله.

٥٥

تحدث أمور في السر والعلانية. الحارة الغارقة في نشاطها الدائب لا تفطن لها. قليلون جدًّا من يلاحظون أشياء دون أن يُرتِّبوا عليها نتائج ذات بالٍ، والقلوب ثمِلةٌ بالآمال مؤمنةٌ بالضياء.

وذات صباح خرج عليهم عاشور الناجي مُنكس الرأس. بجسمه العملاق، ولكنه منكس الرأس ومُكبَّل اليد بقيدٍ حديديٍّ أيضًا. هو عاشور الناجي دون غيره. يحفُّ به جنود، يتقدَّمهم ضابط ويسير محمود قطائف في ذيل الموكب.

انتشر شرر الذهول الغاضب بين الناس، فشدَّهم من الدكاكين والبيوت وملأ بهم النوافذ.

– ماذا نرى؟!

– ماذا وقع للدنيا؟!

– الرجل الطيب في الحديد!

وهتف الضابط بحدة: أوسِعوا الطريق!

ولكنهم تجمَّعوا وراء الموكب وتبعوه كالظل، حتى صاح الضابط مرةً أخرى: الويل لمن يقترب من القسم!

وجعل درويش الخمار يتساءل عن معنى ما يرى ويرفض تصديقه، وبصوتٍ مرتفعٍ قصد أن يسمعه عاشور قال: ورحمة أخي ما خرجت من لساني كلمة واحدة.

وتبدَّت فُلة آيةً في الجمال والحزن، متورِّكةً شمس الدين، حاملةً بقجة، محمرَّة العينَين من البكاء.

٥٦

وكانت محاكمة عاشور من الأحداث المستعصية على النسيان. شهدها جمع غفير من الحارة، وخفقت لها القلوب. لأول مرة تُحب الحارة وتعشق. ووقف عاشور في القفص مزهوًّا بحرارة القلوب من حوله. ولعلَّ القضاة أعجِبوا بعملقته، وبصورة الأسد المرسومة في صفحة وجهه. ولم ينسَ الناس صوته الأجش وهو يقول: لستُ لصًّا، لم أعتدِ على أحد، صدِّقوني. كان الموت قد أهلك الحارة. رجعتُ من الخلاء فوجدتها خالية، وجدت الدار بلا صاحب، ألَا تستحق أن توهب للوحيد الذي نجا؟ ولم أستأثر بالمال لنفسي، اعتبرته مال الله، واعتبرت نفسي خادمًا له في إنفاقه على عباده، فلم يَعُد يوجد جائعٌ ولا مُتعطِّل، ولم يَعُد ينقصنا شيء؛ فعندنا السبيل والحوض والزاوية. لماذا قبضتم عليَّ كاللصوص؟ لماذا تعاقبونني؟

وقال الناس آمين. وحتى القضاة ابتسم باطنهم طوال الوقت، وحكموا عليه بعام واحد.

٥٧

رجعت فُلة إلى البدروم وهي لا تملك مليمًا واحدًا. وجدت رعايةً صادقة؛ جاءها الطعام، وحُمل إليها الماءُ والوقود، وعبق مسكنها بالكلمات الطيبة. وانحسارُ السترِ عن سر عاشور لم ينَل من حبِّ الناسِ له أو احترامِهم، بل لعله خلق منه أسطورةً أغنى بالبطولة والجود.

ولكنها قرَّرت ألَّا تعيش على جود المحسنين، وأن تعمل في سوق الدرَّاسة بعيدًا عن الأعين.

واعترض طريقها درويش وقال لها بخشوع: قلبي معك يا أم شمس الدين.

فقالت له بحِدة: اشمَت بنا ما تشاء يا درويش!

فقال لها بحرارة: لا دخل لي فيما كان، ومحمود قطائف شاهد على ذلك.

– ولكنه جاء على هواك.

– سامحكِ الله! ماذا أفيد من سجنه؟!

– لا تُخفِ فرحك يا درويش.

فقال مُتودِّدًا: سامحكِ الله. دَعِي الخصامَ واقبلي مشورتي.

– مشورتك؟!

– لا يصح أن تعملي في سوق الدرَّاسة وحدك.

فسألته ساخرة: عندك عمل أفضل؟!

– تحت رعايتي أفضل من العمل وحدك في سوق!

– في البوظة؟!

– مع الحفظ والصون!

فصاحت به: ملعونٌ أنت في الدارَين!

وغادرته بلا تحية.

وفي المساء ترامت إليها أنباءٌ بأنه يكوِّن عصابةً لينصب نفسه فتوةً للحارة.

٥٨

ولمَّا زارت عاشور ورأته في لباس السجن اغرورقت عيناها، وتواثب شمس الدين مرحًا حتى تلقَّى قبلةً أبيه من وراء الحاجز. وسألها عن حالها فقالت: أعمل في السوق والحال معدن.

وبدا ممتعضًا متمرِّدًا، وقال: الظلم أقبح من السجن نفسه!

وأكثر من مرة قال: لا أستحق العقاب.

وبلغت نبرته غاية الاحتجاج وهو يقول: ليس بين المساجين من يماثل درويش في شرِّه.

فقالت ساخرة: ألَا تعلم، لقد دعاني إلى العمل عنده!

– الوغد! وماذا عن شيخ الحارة؟

– يعاملني باحترام.

– وغدٌ آخر ، ولصٌّ حقيقي.

– أحمل إليك تحياتٍ لا عدَّ لها.

– مباركةٌ تحياتهم، وكم أتوقُ إلى سماع الأناشيد!

– سترجع إلى سماعها، أمَّا الزاوية والسبيل والحوض فأصبحت تذكر مقرونةً باسمك.

– بل يجب أن تُقرن باسم صاحبها الحقيقي جلَّ شأنُه.

وابتسمت فُلة بفتور، وقالت: من أخبارنا التعيسة أن درويش أصبح فتوتنا.

فقطَّب عاشور وتمتم: لن ينفعه ذلك.

وعجبت فُلة؛ فقد خُيِّل إليها أن عاشور يزداد صحةً ونضارة.

٥٩

لم ينقطع الناس عن التفكير في عاشور الناجي طيلة مدة سجنه. انتظر الحرافيش على لهف يوم عودته، وعمل آخرون لذلك اليوم ألف حساب. حصَّن درويش نفسه بالأتباع، وأغدق عليهم النقود من حصيلة الإتاوات المفروضة على العباد، وشجَّعه على ذلك محمود قطائف قائلًا: إن الكثرة تغلب الفرد مهما تكُن قوته.

وأيَّده الأعيان خوفًا من حبِّ الحارة للغائب، حتى اتفق الرأي على إخضاعه أو اغتياله.

وتتابعت الفصول، وظلَّت التكية تشدو بالأناشيد الغامضة، حتى جاء اليوم الموعود.

وتلفَّت شيخ الحارة فيما حوله وغمغم حانقًا: ما شاء الله!

رأى الأعلامَ ترفرف في أعالي الدكاكين والأسطح، رأى الكلوبات تُعلَّق، رأى الأرض تُفرَش بالرمل الفاقع، سمع موجات الأصوات وهي تهدر بتبادل التهاني. وعاد يغمغم: كل ذلك من أجل عودة لصٍّ من سجنه!

ورأى درويشَ قادمًا فسأله: هل أعددت العُدة لاستقبال الملك؟

فهمس درويش بصوتٍ مضطرب: أمَا علمت بما حدث؟

وقصَّ عليه حكاية العصابة، كيف انفضَّت من حوله وذهبت إلى الميدان لاستقبال العائد فلم يبقَ معه رجلٌ واحد. اصفرَّ وجه شيخ الحارة وتمتم: الأوغاد!

وهمس في أذن درويش: علينا أن نعيد التفكير لمواجهة الخمَاسين.

فمضى درويش وهو يقول: إنه الفتوة الجديد بلا منازع.

ومن الميدان ترامى طبل وزمر.

وفي الحال خرج إلى الحارة أهلها نساءً ورجالًا وصغارًا. وتهادت كارو من ذوات العجلات الأربع قد تربَّع في وسطها عاشور، تتقدَّمها الزفة، ويحدِّق بها رجال العصابة.

صفَّق الناس وهلَّلوا ورقصوا، ومن شدة الزحام قطعت العربة المسافة بين مدخل الحارة والزاوية في حوالي الساعة.

وتواصل الرقص والطرب حتى فجر اليوم التالي.

خاتمة

وجد عاشور الناجي نفسه فتوةً للحارة دون منازع. وكما توقَّع الحرافيش أقام فتونته على أصولٍ لم تُعرف من قبل؛ رجع إلى عمله الأول ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كل تابع من أتباعه بعملٍ يرتزق منه، وبذلك محق البلطجة محقًا. ولم يفرض إتاوةً إلا على الأعيان والقادرين لينفقها على الفقراء والعاجزين. وانتصر على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابةً لم تحظَ بها من قبل؛ فحفَّ بها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة.

وكان يسهر ليله في الساحة أمام التكية، يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعيًا: «اللهم صُن لي قوتي، وزدني منها؛ لأجعلها في خدمة عبادك الطيبين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤