التوت والنبوت
١
بموت فتح الباب صحت الحارة من حلمها الوردي، ارتطمت بصخرة الواقع، انطوت على أحزانها، تكاثف ظِل حميدة السفاح حتى حجب نور الشمس.
لم يبقَ من صفوة ذرية الناجي إلا بنات فردوس أرملة سماحة ذي الوجه القبيح وبِكرِيُّها ربيع سماحة الناجي. أمَّا البنات فقد ذُبن في عامة أهل الحارة، وأمَّا ربيع فقد نشأ فقيرًا، ولم تكن أمه تملك مالًا يُذكر، فعمل في محل البنان، ومارس حياةً غايةً في البساطة. رغم ذلك كان يُعد خير آل الناجي. لم يستدِر ذلك رحمة أحد؛ فعلى تعلُّق الحرافيش بسير عاشور وشمس الدين وفتح الباب، فقد أضمروا الاحتقار والمقت لسائر آل الناجي لخيانتهم لعهد جدهم العظيم، ولانخراطهم في سلك المجرمين والبلطجية.
وقد أراد ربيع أن يتزوَّج من أسرة كريمة، ولكن طلبه رُفض، فأدرك أن أصله لا يُغني عن فقره وتفاهة عمله، وإن الفقر يفضح معايب يسترها الثراء عادة؛ مثل انتمائه إلى سماحة ذي الوجه القبيح، وجلال المجنون، وزهيرة السفاحة، وزينات الشقراء الداعرة، ونور الصباح العجمي الغانية. سلسلة صدئة من الدعارة والإجرام والجنون؛ لذلك غشيته كآبة ثقيلة ممتدَّة فقرَّر أن يُمضي حياته أعزب متسربلًا بالوحدة والكبرياء. وماتت فردوس هانم بعد أن جاوز الخمسين، فاضطُر إلى أن يقيم في شقة صغيرة من حجرتَين وحيدًا. ولم يُطق الوحدة المطلقة، وضاق بإهمال بيته الصغير فبحث عمن يقوم بخدمته، فجاءه أولاد الحلال بأرملة في الثلاثين من آل الناجي تُدعى حليمة البركة. وجدها جادَّةً وأمينةً مقبولة الصورة، قوية الشخصية رغم فقرها، فكانت تنظِّف البيت وتُعِد الطعام، ثم تذهب للمبيت في بدرومها. ومع الأيام مالت نفسه إليها فرغب أن يتخذ منها خليلة، ولكن المرأة أبت ذلك في حزم وقالت له: سأذهب يا سيدي ولكني لن أعود.
وجد نفسه وحيدًا بائسًا كما كان أو أشد بأسًا، ولم يَعُد في وسعه أن يتحمَّل الوحدة والحرمان العاطفي، إلى خوف من المرض والموت، وحنين إلى الذرية، فعرض على المرأة الزواج وسرعان ما قبلت وهي سعيدة. هكذا تزوَّج ربيع سماحة الناجي من حليمة البركة بعد أن عبر الخمسين بثلاث سنوات. وسعد بحياته الزوجية، ووجد في شريكته سيدة بيت حازمة، ورعة مُتديِّنة، فخورًا بانتمائها إلى الناجي، مسحورةً بأمجاد الأسرة الأصيلة، وأنجب منها ثلاثة؛ فائز وضياء وعاشور. ومات ربيع، وبِكرِيُّه فائز في العاشرة، وضياء في الثامنة، وعاشور في السادسة. مات دون أن يترك لأسرته مليمًا واحدًا.
٢
تُركت حليمة البركة لتواجه الحياة وحيدة. كان أهلها من الحرافيش فقرَّرت أن تعتمد على نفسها، مستعينةً بالعزيمة لا بالدموع. انتقلت إلى بدروم مُكوَّن من حجرة ودهليز. باعت فائض الأثاث البسيط. استغلَّت مواهبها في بيع المخلَّل والمفتقة والخدمة كبلانة ودلالة. لم تولع بترديد الشكوى والحسرة على الماضي، وواجهت زبائنها بوجه مشرق كأنه سعيد، ولم تخلُ من أحلام عذبة عن مستقبل مجهول.
أدخلت أبناءها الكُتَّاب، وعند السن المناسبة عمل فائز سواق كارو، وضياء شيالًا في محل النحاس. وهانت شدة الحياة قليلًا، ولكن لم تزل تُطالَب حليمة بالعمل وقد بلغت الخمسين.
وكان فائز أول من واجه الحياة من أسرته. وجدها معاديةً معاندة، وأنه يؤاخَذ فيها على جرائم أجداد وجدات لم يعرفهم. كان طويلًا نحيلًا، بارز الأنف، ضيق العينَين، قوي الشدقَين، وكان يزدرد السخريات ويكبت مشاعره ويمضي في عمله. عرف عن أمه جانبًا مضيئًا من تاريخ الأسرة، ولكنه عرف جانبها المظلم في الحارة بين الناس. في البيت تلقَّن معاني الزاوية والسبيل والكُتَّاب والحوض، وفي الخارج دهمه مغزى المئذنة العملاقة المجنونة. وهذه الدور الرائعة التي كانت مقامًا لأجداده، ثم أصبحت مساكن للتجار والوجهاء الأغراب. كم يتأمَّلها بغرابة ويحلم! كم يتخيَّل تلك الأيام الخوالي! ولا يخلو دماغه منها حتى وهو ينخز الحمار لينطلق بالكارو في أرجاء الحي العتيق. إذن فهذه هي الدنيا، ولكن كيف ينبغي أن نتعامل معها؟
٣
وأعلن سخطه على مسمع من أمه وأخوَيه، فقالت له حليمة: كان جدك عاشور وليًّا!
فقال فائز بحِدة: مضى زمن المعجزات، أمَّا الدُّور فهي في قبضة الآخرين.
فقالت الأم بحرارة: من الحرام جاءت وفي سبيل الحرام هلكت.
فهتف بتذمُّر كالمحتج: الحرام!
– اقنَع بنصيبك، ماذا تريد؟
– ما أنا إلا خادم حمار، وما أنتِ إلا خادمة أوغاد.
فقالت باعتزاز: نحن نعمل ونحن شرفاء.
فقهقه. وكان قد طاف بالبوظة قبل رجوعه وشرب قرعتَين.
٤
واشتغل عاشور الابن الأصغر صبيًّا لغنام يُدعى أمين الراعي، تعهد إليه الأُسر بما تملك من ماعز، فيسرح بها في الخلاء تمرح وتنعم بالشمس والهواء والأعشاب، وذلك نظير أجر معلوم. بذلك ارتاح بال حليمة البركة؛ فقد أصبح أبناؤها الثلاثة عُمَّالًا يُرزقون، ووهبتها الحياة بسمةً صافية. ومضت الحياة بمسَرَّاتها الصغيرة وأحزانها المألوفة حتى بلغ فائز العشرين من عمره.
وسألته أمه في ساعة صفاء: متى تكمل دينك يا بني؟
فابتسم ابتسامةً غامضةً وقال: صبرك يا أمي وما صبرك إلا بالله.
٥
ولم يرجع فائز من مشاويره في ميعاده المألوف. مضى أكثر الليل ولم يرجع. ذهب عاشور إلى البوظة يبحث عنه، وتشمَّم ضياء أخباره في الغرز، ولكن لم يُعثر له على أثر. وفي الصباح مضت حليمة البركة إلى المعلم موسى الأعور صاحب الكارو مستطلعةً عن خبر ابنها فوجدته قلقًا ساخطًا، وقال لها: لا خبر عنه.
فانزعجت الأم وقالت: نذهب إلى القسم؟
فقال المعلم: ولا خبر عنه في القسم.
ثم تمتم بحنق: فلْننتظر والله المستعان!
ومضى يوم في قفا يوم، القلوب مشتعلة وفائز لا يعود.
وصاح المعلم موسى الأعور: سرقه ورب الكعبة، سرق الكارو واختفى، ولكن له الويل!
وهتفت بركة في جزع: ألم تجرِّب أمانته طوال تلك الأعوام؟!
فقال بغضب: إنه مؤذٍ كثعبان.
٦
وبكت حليمة طويلًا كما بكى ضياء وعاشور. وتعاقبت الأيام والأسابيع والأشهر. لم يَعُد يشك أحد في الهارب وجريمته. وقال حسونة السبع الفتوة الجديد ساخرًا: كانوا يسرقون الدُّور الفخمية فأصبحوا يسرقون الكارو!
ولجأ موسى الأعور إلى الشيخ جليل العالم شيخ الزاوية وعم يونس السايس شيخ الحارة فأفتيا بأن على ست حليمة وابنَيها ضياء وعاشور أن يؤدوا ثمن العربة والحمار إلى موسى الأعور. وأدَّت الأسرة الثمن مقسَّطًا وهي حزينة وصابرة.
٧
وقعت حادثة لا تُعتبر غريبةً بمقايس ما يقع في الحارة، ولكنها هزَّت قلوب الأسرة هزًّا. كانت حليمة تُقدِّم كافة الخدمات لدار الفتوة حسونة السبع بلا مقابل، بلا كلمة شكر. حتى هنا لا غرابة ولا تعجُّب؛ فقد كان حسونة من أفظع الفتوات الذين سيطروا على الحارة وأذلوها. كان يستغل حتى أفقر الفقراء. وكان يجادل بيده وقدمه لا بلسانه، وينشر الرعب مع الهواء. وكان على شراسته وقوته حَذِرًا كثعلب. هو الذي أوجب على جميع أتباعه بأن يستأثروا لأنفسهم بزقاق لا يُقيم فيه أحد غيرهم ليتجنَّبوا مؤامرةً كالتي دُبِّرت للفتوات أيام فتح الباب. وهو نفسه شيَّد داره في نهاية الزقاق.
وقد حدث أن تأخَّرت حليمة في صنع صفيحة مفتقة بسبب وعكة طارئة، ولمَّا ذهبت بها إلى الدار لعنها بعنف وصفعها. ورجعت المرأة دامعة العينَين، ولكنها أخفت الخبر عن ابنَيها ضياء وعاشور. غير أن ضياء كان يتردَّد أحيانًا على البوظة، وفي مرة سأله زين علباية الخمار: ألم تعلم بما حدث للست الوالدة؟
هكذا تلقَّى ضياء الإهانة، ثم قذف بها داميةً في قلب عاشور. وتلظَّى ضياء بالغضب، ولكن شرره لم يجاوز جدران البدروم، أمَّا عاشور فغاص في الحزن حتى قمة هامته. كان قويًّا ومُهذَّبًا. غطَّى تهذيبه على قوته فواراها عن الأعين.
وكان نبيل الرأس غليظ القسمات غامق السمرة، وفي وجنتَيه بروز وفي فكَّيه صلابة. ولم يُطِق البقاء في البدروم مع أحزانه فخرج إلى الظلام، مسوقًا بقوة خفية نحو ساحة التكية، نحو خلود جده عاشور. جلس القرفصاء دافنًا رأسه بين ركبتَيه في جو جامد لا يتنفَّس، تسبح فيه الأناشيد وحدها. أصغى طويلًا وغمغم: ما أشد ألمي يا جدي!
وناجته الأناشيد بلغتها الغامضة:
في مهر رخت روز مرا نور تماندست
وزعمر مرا جز شب ديجور نماندست
٨
واستقرَّت الإهانة في الأعماق؛ فهي لا تُهضم ولا إلى الخارج فتقذف. وكان عاشور ينمو نموًّا فذًّا كشجرة توت، يذكر هيكله المتمادي في العملقة وملامحه الغليظة الجذابة بما قيل في وصف جده عاشور. أصبح منظر راعي الغنم جديرًا بلفت الأنظار. وخافت حليمة أن تُثير قوته هواجس الوحش حسونة السبع فحذَّرته قائلة: تناسَ قُوتك. تظاهر بالجبن فهو أرحم. ليتني ما سميتك بعاشور!
ولكن الفتى كان فطنًا، مستغنيًا بفطنته عن التحذير. وكان يمضي طيلة نهاره في الخلاء بين الماعز بصحبة معلمه أمين الراعي. لم يظهر قط في البوظة أو الغرزة أو القهوة. لم يستعمل قوته قط إلا في المثابرة والصبر. أجل مزَّقته الإهانة. غضب حتى تخيَّل أركانَ الحارة وهي تُهدم ويُبعث من في القبور، ولكنه لم يتهوَّر، ضبط نفسه، لم يتجاهل القوة الغشوم المتربِّصة الحذرة القاسية ونبابيتها المتأهِّبة، وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخي الظلام، ويذوب في الأناشيد. وتساءل مرةً في حيرة: ترى أيدعون لنا أم يصبُّون علينا اللعنات؟
وتساءل مرةً أخرى في أسًى: من ذا يحل لنا هذه الألغاز؟
وتنهَّد طويلًا، ثم استطرد: إنهم يغلقون الأبواب لأننا غير أهل لأن تفتح في وجوهنا الأبواب!
وكان يجد ضياء في البدروم صاخبًا بالغضب. ومرةً قال ضياء: لولا أننا صرنا حرافيش ما تعرَّضت أمنا للإهانة!
فقال له عاشور: حرافيش أم وجهاء لا يهم، ستُدرك الإهانةُ دائمًا من يتقبَّلها!
– ماذا علينا أن نفعل؟
فصمت عاشور مليًّا، ثم تمتم: لا أدري يا أخي!
٩
خافت حليمة عواقب الأفكار المحتدمة، فقالت ببساطة وصراحة: ما أصابني لا يُعَد إهانةً في حارتنا!
وصمَّمت على أن تجتاز بهما تلك المحنة ففكَّرت جادةً في تزويجهما. لقد فقدت فائز وها هو الزمن يمضي مسرعًا بلا أمل. سيبعث الزواج وثباتٍ جديدةً في هذه الحياة الراكدة. سيجعل منهما رجلَين أكثر تعقُّلًا، وأشد حذرًا، وأبعد عن المغامرات الفاتكة. وسألتهما: ما رأيكما في بنت الحلال؟
ورحَّبا بارتياح. كانا فقيرَين مكبوتَين فرحَّبا. وقالت حليمة: ننتقل إلى بدروم أكبر يسعنا جميعًا فهو للمعيشة أوفر.
ووقع اختيار المرأة على فتحية وشكرية ابنتَي محمد العجل العلاف بحظيرة المعلم موسى الأعور. ولم يكن أحدٌ منهما قد رأى فتاته، ولكنهما كانا يغليان بوقدة الشباب، ويتوثَّب خيالهما الجامح لمعانقة أي أنثى.
هكذا قُرئت الفاتحة.
١٠
وجاء إلى الحارة فتًى غريب. نطق وجهه بالعافية، رفل في عباءة بنية، انتعل مركوبًا أحمر، طوَّق رأسه بلاثة من الشاهي المنمنم، في يده مسبحة من الكهرمان. أول من رآه كان زين علباية الخمَّار. لم يعرفه إلا حين ابتسم فهتف الخمار: من؟ فائز بن ربيع الناجي!
وتطلَّعت إليه الأعين، غير أنه مضى من تَوِّه إلى القهوة، إلى أريكة حسونة السبع. انحنى فوق يده فلثمها، ثم وقف ممتثلًا. قال حسونة وهو يتفحَّصه: ما شاء الله ها قد رجع الهارب!
فقال فائز: مصير الحي إلى أصله!
فقال حسونة السبع بلهجة ذات مغزًى: آثار الشطارة بادية عليك.
فقال فائز بخشوع: هذا من فضل ربي.
ودخل القهوة عند ذلك موسى الأعور، وفي أعقابه دخل شيخ الحارة يونس السايس، وهتف موسى: في ساحة فتوتنا يتحقَّق العدل.
فنهره الفتوة قائلًا: لا تنهق كالحمار.
فقال الرجل: باع العربة والحمار ثم تاجر بمالي!
فسأل الفتوة فائز: ماذا فعلت بماله؟
فقال فائز: ورأس الحسين لقد سُرقت الكارو وأنا نائم؛ لذلك هربت.
فقال موسى: كذاب! من أين لك هذا الجاه؟
– العمل والحظ وفضل ربي.
فتمتم يونس السايس: قضية طريفة حقًّا.
فقال فائز: إنه مالي، لو كنت لصًّا ما رجعت، وما أرجعنى إلا حرصي على تسديد ديوني.
وقدَّم للفتوة صُرةً وهو يقول: عامان مضيا بلا إتاوة.
تناولها الفتوة. ابتسم لأول مرة. قال فائز: من أجلك يا معلم جئت أولًا، ولأرى أهلي أخيرًا!
قال حسونة السبع: لص؟ لا يهم، ولكنك فهلوي، إني أصدقك؟
فتساءل موسى الأعور: وأنا يا معلم؟
فقال يونس السايس: لقد قبضت ثمن الكارو والحمار من ست حليمة البركة.
فقال موسى الأعور: ماله في الواقع هو مالي أنا.
فقال حسونة السبع: من حق موسى صرة مثل صرتي.
فلم يتردَّد فائز فقدَّم للفتوة صُرةً أخرى. فطرب الرجال بالحكم العادل فهتفوا معًا: اسم الله عليه، اسم الله عليه.
ولكن حسونة السبع أبقى الصرة الجديدة في قبضته، على حين تجلَّت في عينَي موسى الأعور نظرة يائسة. قال الفتوة يخاطب فائز: آن لك أن تذهب إلى أهلك.
١١
أمام البدروم وجد حليمة في انتظاره. لدى بلوغ الخبر إليها خرجت إلى الطريق. كأنه حلم أو خرافة أو معجزة، ولكنه على أي حال سعادة تفوق الاحتمال. ضمَّته إلى صدرها وأجهشت في البكاء وظلَّت تردِّد: الشكر لك يا رب! الشكر لك يا رب!
واجتمع شمل الأسرة عقب عودة ضياء وعاشور. امتزجت الدهشة بالسعادة مرةً أخرى. لبث فائز بينهم في الحجرة الصغيرة كماسة في كوم من الهشيم. يشع منه نور، ويسيل أمل يتجلَّى المستقبل على ضوئه في صورة خلَّابة لم يحلم بها أحد. تغيَّرت أحاسيس الأسرة، خُلقت خلقًا جديدًا. مضى فائز يقول: الناجح محسود، ستفتعل حولي الأقوال، ولكني بريء والله شهيد.
فقالت حليمة بحرارة: قلبي يصدِّقك.
ما الحكاية؟ بكل إيجاز لقد سُرقت الكارو وأنا نائم. تحيَّرت، قرَّرت الهرب، لعله كان قرارًا خاطئًا ولكنه ما حصل.
تركَّزت عليه الأبصار بقلوب مرحة مستعدة للتصديق. قال: هِمت على وجهي أيامًا بلا عمل حتى انتشلني خواجا. الحكاية طويلة. عملت عنده خادمًا وسواقًا، حميته من تحرُّش بعض الأراذل، تعلَّمت على يدَيه سر العمل، ثم جاءني الحظ ببسمته العذبة، لا بد من الحظ، ربحت ورقة نصيب، قرَّرت أن أعمل لحسابي، صادفني نجاح فاق كل تقدير.
وسأله عاشور باهتمام: ما عملك بالضبط يا أخي؟
– ليس من اليسير شرحه، هل سمعت شيئًا عن السمسرة والمضاربة؟ حسن، لا دكان لي ولا محل، نعقد الصفقات في الطريق، في المقاهي. إنها أمور مُعقَّدة، سنعود إليها بتفصيل أكثر، ولكنني لن أشرككما فيها، لقد رسمت للمستقبل صورةً محدودةً ومتنوعةً ومضمونة.
فتورَّدت الوجوه من البهجة وعذوبة الحلم، ولاذت بالصمت والابتهال، فمضى يقول: إرادة الله العلي القدير أن يعود آل الناجي إلى مركزهم المرموق!
فتساءل عاشور هامسًا: تعني الفتونة يا أخي؟
فضحك قائلًا: لا، لا، أعني الوجاهة والأبهة!
فقال ضياء بإشراق: ما أجمل هذا!
– يجب أن تتغيَّر هذه الحياة الضحلة، لن نكون بعد اليوم من الحرافيش، لا راعي غنم ولا شيال، هي إرادة الله العلي القدير.
فهتفت أمه: إنك ثمرة حبي ودعائي.
فقال بجدية بالغة: علينا أن نفكِّر فيما ينبغي عمله بلا تردُّد؛ فإن نشاطي يتطلَّب مني رحلات بلا نهاية!
١٢
وحلَّت تغيُّرات حاسمة مثل تغيُّرات الفصول الأربعة. ما بين يوم وليلة تحوَّلت حليمة البركة إلى ست بيت فلا خدمة ولا بيع. استقال ضياء من محل النحاس، كما استقال عاشور من رعي الأغنام. انتقلت الأسرة إلى شقة مؤقَّتة مكوَّنة من أربع حجرات، والأهم أنه شرع في تشييد دار للأسرة في خرابة أمام بنك الرهونات، واشترى فائز وكالة الفحم تاركًا إدارتها لأخوَيه، فجلس ضياء وعاشور في حجرة الإدارة، رافلين في العباءة الفضفاضة، ناشرين من أعطافهما شذا المسك والعنبر.
تداخل الحلم في الحقيقة، وتداخلت الحقيقة في الحلم، وانبهرت الأعين وشخصت الأبصار. عند استبدال الثياب الفاخرة بالأسمال البالية شعر الأخوان بذهول ورهبة، ثم بسعادة مسكرة. خرجا إلى الطريق كأنهما يخوضان معركة. شدَّ منظرهما الأبصار، أحدق بهما أناس من الحرافيش والصغار.
انهال عليهما طوفان متضارب من السخريات والبركات والعبث والجد والغمز والتهنئات. وما إن ارتفع الضحى حتى فاز الجاه بامتيازاته واستقرَّ في مركزه.
وسلَّم الجميع بقضاء المقادِر. وكم من قلوب أحرقها الحسد! وكم من قلوب دوَّخها الانبهار! وكم من قلوب ثملت بآمال مجهولة!
ووقف جليل العالم شيخ الزاوية ويونس السايس شيخ الحارة يتناجيان. قال يونس وهو يرمق عاشور: يقال إن هذا الفتى يشابه جده الأول.
فقال جليل: ثمة فرق هو ما بين الذهب الخالص والنحاس المطلي بالذهب!
١٣
واعترضت الطريق المنبسط عقبة كالحة، هي قراءة فاتحة شكرية وفتحية!
فرضَت نفسها عليهم من أول يوم. وقال ضياء لأمه معاتبًا: لمَ تسَرَّعت يا أمي؟
فلم تدرِ حليمة بمَ تجيب. لم تعد سعيدةً بالخطوبة ولا مُتحمِّسةً لها، ولكنها تكره عادةً أن تفعل ما تخجل منه، كما أنَّ تقوى الله تملأ قلبها. وتمتمت: قسمة ونصيب!
فسالها بحِدة: ماذا؟
فقالت باستسلام: يقول المثل «خذوهن فقيرات يغنكم الله».
– ولكن الله قد أغنانا من قبل أن نأخذهن!
– ألم يكونا قدم السعد؟
فتمتم ضياء في ضيق: إنه لعبث!
ولبث عاشور صامتًا مُتجهِّمًا. إنه لم يعد سعيدًا بالخطوبة، ولكنه يكره عادةً أن يفعل ما يخجل منه — مثل أمه — تملأ التقوى قلبه. سألته حليمة: وأنت يا عاشور؟
فأجاب مغلوبًا: لقد قرأنا الفاتحة.
– فهتف ضياء: كلا، إنه قرار مؤسف لا يسر، ولكن كلا ثم كلا.
فقالت حليمة بحزم: افعل ما تشاء، بنفسك، ولا تعتمد عليَّ.
١٤
وقابل ضياء ربيع الناجي عم يونس السايس شيخ الحارة فرجاه أن يحمل اعتذاره إلى محمد العجل. وتأمَّل شيخ الحارة وجه ضياء الصغير وقسماته الدقيقة ووسامته الشاحبة بلا معنى، وقال في نفسه إنه وغد حقًّا بالصورة والمضمون، ولكنه قال له مداهنًا: إنه لعدل ما تفعل، ولن يلومك عليه إلا حاسد أو حاقد.
فقال ضياء مداريًا خجله: ما باليد حيلة.
وعاشور، ماذا عنه؟
فقال ضياء بحنق: إنه طيب أحمق!
فضحك يونس السايس وقال: ستمتدحه ألسنة وهي تسخر من سذاجته!
١٥
وأثار فسخ خطوبة ضياء عاصفةً من السخط والتهكُّم أسهم فيها الطيِّبون بطيبتهم، والحاقدون بحقدهم وحسدهم. وغطَّت نذالة ضياء على شهامة عاشور، فسرعان ما تجوهلت وانصبَّت اللعنات على الأُسرة الخائنة التي تتجسَّد قسوتها وأنانيتها في أمثلة حية، وتذوب قداستها في أساطير غابرة لم يشهدها أحد.
وكان المعلم عاشور ربيع الناجي ماضيًا إلى وكالة الفحم عندما ترامى إليه صوت غليظ ينادي بنبرة آمرة: عاشور!
رأى الفتوة حسونة السبع متربِّعًا فوق أريكته وسط نفر من أتباعه، فمضى إليه بلا تردُّد، وأدَّى التحية اللائقة. ولم يدعُه الفتوة للجلوس وقال له متحديًا: إنكم أنذال يا آل الناجي!
أدرك عاشور ما وراء ذلك من سبب، وعجب لمَ لم يوجِّه سبه إلى أخيه. أدرك أنه يمتحن رجل الأسرة العملاق القوي. سرعان ما لاذ بنصيحة أمه ودهائه الفطري، فقال بأدب: ليغفر الله الذنوب!
– بسرعة تنسَون أصلكم، تنسَون الجنون والدعارة، أليس محمد العجل أشرف منكم؟
فقال عاشور كاظمًا انفعالاته: إنه رجل شريف، وعمَّا قريب سأنضم إلى أسرته.
– كلا.
– ولكنه الحق.
– رفض الرجل النبيل أن تسعد إحدَى ابنتَيه على حساب الأخرى.
– ولكن خطوبتي لم تُفسخ!
– بل فُسخت من ناحيته، وها أنا أبلغك بقراره.
فصمت عاشور متجهِّمًا، فقال الفتوة: عليكم أن تعوِّضوه عمَّا أصابه.
– نفعل ما يراه فتوتنا صوابًا.
١٦
وانقشعت السحابة المثقلة بالحقد والمرارة والندم. ومضت الأيام مترقرقةً بالسعد والإقبال. غدت وجاهة ضياء وعاشور عادةً يوميةً مألوفة. واستقرَّت الدار الفاخرة أمام بنك الرهونات. وحمل الدوكار حليمة البركة إلى مشاويرها. أمَّا فائز ربيع الناجي صاحب الجاه وباعثه فكان يزور أهله ويتفقَّد ملكه على فترات متباعدة.
١٧
وعشقت الأسرة الجاه واستنامت إليه. عاشور نفسه فرح في أعماقه بفسخ خطوبته، وبخاصة أن فسخها لم يحمله إثمًا. وسعد بحياة النعيم فاعتبر أخاه فائز معجزةً من معجزات الأُسرة وعبقريةً من عبقرياتها. وكان يتطلَّع بشغف إلى أقمار الأسر في العربات؛ إذ كان يحب الجمال كما يحب التكية، وكما يحب مجد أسرته الحقيقي الذي عبق الماضي بشذاه الطيب النقي. وكان يُغدق بلا حساب على الفتوة وشيخ الحارة، وجدَّد الزاوية والسبيل والحوض والكُتَّاب، وتصدَّق على الحرافيش. وفيما يتعلَّق بالحرافيش قالت له أمه: لا تُثِر مخاوف حسونة السبع، دعهم لي فإني أستطيع أن أوزِّع الصدقات في الخفاء!
ووافق عاشور إذ كان يعلم أن ثورة الحرافيش لا تُمحى من ذاكرة الفتوات!
ولعل ضياء كان أسعد الجميع. عشق الجاه بشغف وشراهة، نعم بالكبرياء في حجرة الإدارة، بالترف في دار الناجي الفاخرة، بالكارتة والدوكار. هام بالثياب الأنيقة والأطعمة الفريدة، اقتنى أجود أنواع البوظة والحشيش والأفيون والمنزول، عبد في أعماقه أخاه فائز، كما عبد رجال الأسرة الأخيار منهم والأشرار على السواء، وكان يقول متباهيًا: المهم أن تخرق المألوف!
ولعل حليمة كانت أقرب الأسرة إلى القصد، ولكنها أيضًا نعمت بالعز والجاه. وفي المواسم كانت تهرِّب الصدقات إلى الحرافيش، وغمرت أم فتحية وشكرية بخيرها حتى نسيت المرأة الإساءة وصارت من أقرب المقرَّبات إليها.
١٨
وظلَّ نداء خفي يدعو عاشور إلى ساحة التكية ليطرب مع الأناشيد، كما كان يدعوه أحيانًا إلى الخلاء حيث كان يرعى الأغنام. وكانت سعادته سماءً تظهر في جنباتها قطع السحاب، وأحيانًا تركض حتى تُخفي وجه الشمس، وقد يدهمه في أعذب اللحظات قلق غامض فيفتَرُّ حماسه ويتساءل عمَّا يعنيه ذلك.
ولاحظَت حليمة ذلك فقالت له مرة: ما أضيع الرجل بلا زوجة يسكن إليها!
فقال بارتياح خفي: هو ذلك، ولكنه ليس كل شيء!
فسأله ضياء: ماذا تريد أكثر من ذلك؟
فقبَّل يده ظهرًا وبطنًا، ولكنه قال لنفسه إن إهانة الفتوة تستكن في جوفه مثل خنجر، وإنه لا يدري بأي وجه يلقى جده عاشور؟ وإن سعادته ينقصها شيء جوهري. تساءل: لمَ يساور القلق إنسانًا وهبه الله النعمة والكمال؟
فأجابت أمه بلا تردُّد: إنه الشيطان يا بني!
– حقًّا إنه الشيطان، ولكن أي شيطان؟!
١٩
وأعجِب الشقيقان ضياء وعاشور بفتاتَين من أعرق الأُسر، فخطب ضياء سلمى الخشاب كريمة صاحب وكالة الخشب، كما خطب عاشور عزيزة العطار كريمة أكبر عطار في الحارة. وتبدَّى فائز في حفل الخطوبة في أُبهة ملك الملوك.
ومضت الأيام مترقرقةً بالسعد والإقبال.
٢٠
وفي ذات ليلة جاء فائز في غير ميعاده.
كانت الأسرة مجتمعةً في قاعة الجلوس، وثمة مدفأة كبيرة من النحاس تشتعل جمراتها. كانت الأم تسبح، وعاشور يدخِّن البوري، وضياء ينسطل، على حين عزفت في الخارج ريح باردة منذرة بالمطر.
جاء فائز في غير ميعاده؛ إذ كان يجيء عادةً — إذا جاء — في الضحى مستعرضا أُبهته ودوكاره. هبَّ الجميع لاستقباله. وسرعان ما لاحظوا أن معجزة الأسرة فاتر النظرة متجهِّم الوجه. جلس على ديوان. أزاح العباءة عن منكبَيه رغم شدة البرد. تساءلت بقلق: ما لك؟
فتمتم في خمول: لا شيء.
– بل يوجد شيء يا بني!
فقال بلا مبالاة: وعكة.
وصمت وهو محط الأنظار فتجلَّى وجهه بالتصلُّب الذي كان يطالعهم به قديمًا قبل أن ينتصر على الحياة. قامت حليمة وهي تقول: أغلي لك كراوية.
وتمتم ضياء: وتنام!
وأسبل جفنَيه مليًّا، ثم قال: لا مفر في بعض الأحيان من أن يحن الإنسان إلى بيته.
فقال عاشور: شتاء هذا العام لعين.
ألعن ممَّا تتصوَّرون.
– وأنت تعمل بطاقة تفوق احتمال البشر.
فردَّد بغموض: احتمال البشر.
فقال ضياء: للإنسان حق في الراحة.
فقال بتسليم: قرَّرت أن أحظى براحة عميقة.
وساد الصمت. ثم ما لبث أن نهض قائلًا: سآوي إلى فراشي.
ومضى إلى مخدعه.
وجاءت حليمة بقدح الكراوية فمضت في إثره.
كان الشمعدان يضيء المخدع، وكان فائز راقدًا فوق الفراش بملابسه.
قالت حليمة: لمَ لم تغيِّر ملابسك؟
وسرعان ما سقط القدح من يدها، وصرخة ممزَّقة انطلقت من فيها.
٢١
وقفوا يحدِّقون بأعين تطفح بالذهول والجنون.
فائز شاخص البصر، ملقى الوجه بلا حول كأنه متجمِّد منذ ألف عام، يسراه مُدلَّاة من حافة الفراش الوثير، تتكوَّن تحتها بحيرة من دم فوق السجادة الشيرازي، وثمة خنجر منطرح فوق القفطان الكموني، ذو مقبض ذهبي.
جرى ضياء يفتش تحت الديوان والفراش والصوان في الحجرة المغلقة النوافذ وهو يصيح: مستحيل! ما معنى هذا؟!
وهتفت حليمة بصوت مبحوح: ليدركنا سيد الرسل!
وصرخ عاشور: الحلاق!
وغادر الحجرة بسرعة جنونية. وراحت حليمة تُصوِّت، فصاح بها ضياء: إنه حي!
فصرخت: انتهى، لمَ فعلت بنفسك هذا يا بني؟!
سرعان ما جاء الحلاق، تبعه يونس السايس والشيخ جليل العالم، ثم رجال ونساء من آل الخشاب وآل العطار.
وتراجع الحلاق وهو يتمتم: سبحان من له الدوام!
اجتاحت الدار الأنيقة عاصفة من الجنون.
٢٢
قُبيل منتصف الليل جاء رجال السلطة، فباشروا التحقيق مع الأهل والخدم، وتفحَّصوا الأمكنة بدقة وعناية بالغة.
سأل المأمور: ما تفسير ذلك في تقديركم؟
فقالت حليمة: حتى أمس كان أسعد خلق الله.
– أتعرفون أعداءً له؟
– كلا.
– ماذا كان يعمل؟
– كان رجل أعمال وسمسرة ومضاربات.
– أين مكان عمله؟
– لا مكان محدَّد له، له دار في الدرَّاسة عند مشارف الجبل.
– ماذا تعرفون عن شركائه وعملائه؟
– لا شيء البتة!
– كيف كان ذلك؟
– هو الحق بلا زيادة ولا نقصان!
٢٣
أُعلن أن فائز ربيع الناجي قد انتحر لأسباب لم يكشف التحقيق عنها بعد.
ورغم انتحاره فقد شُيِّع في جنازة جليلة ودُفن إلى جوار شمس الدين.
ومضت أيام المأتم الثلاثة والأسرة في الذهول لا تدري شيئًا عن كارثتها الكبرى.
٢٤
لماذا انتحر فائز ربيع الناجي؟
ظلَّ التساؤل يشد قلوب الأسرة، يقرع وعيهم المترع بالحزن والذهول.
وها هي السلطة — كما يؤكِّد يونس السايس شيخ الحارة — جادة في البحث والتحري. ولكن كيف خيَّم عليهم الجهل حتى اللحظة الأخيرة؟ كيف أصابهم العمى فلم يرَوا شعاعًا واحدًا من النور؟ كان يغيب طويلًا، ويحتفظ بكافة أسرار عمله لنفسه، ولكن زياراته المتقطِّعة المتباعدة كانت تملأ الدار بهجةً وسرورًا وأملًا متواصلًا في الحاضر والمستقبل. حتى آخر زيارة كان شخصًا آخر، ماذا غيره؟ كيف صار الموت بغيته وملاذه؟!
وولولت حليمة قائلة: لقد حلَّت بنا اللعنة.
وتساءل ضياء: ما السر؟ أكادُ أن أُجن!
فقال عاشور: لن يكشف السر عمَّا يسر؛ فالناس لا ينتحرون بلا سبب.
٢٥
وتلاقت أفكار الشقيقَين على تفقُّد دار الراحل كقراءة أُولى لأسراره ومعاملاته ومصادر أمواله. وتمَّ الاتفاق بينهما وبين السلطة على ذلك. كانت دارًا ضخمةً ذات فناء مترامٍ من ناحية الجبل. ولفت الأنظار كثرة المخادع الوثيرة، ومخازن الخمور والمخدِّرات، وغزارة التحف والرياش. ولمَّا فُتحت الخزائن وُجدت خاليةً تمامًا. لا عقد ولا خطاب ولا دفتر ولا مليم واحد.
وتبادل الشقيقان نظراتٍ حائرة. تساءل عاشور: ما معنى هذا؟
وتساءل ضياء: أين ثروة المرحوم؟
وسأل عاشور المحقِّق: هل عرفتم جديدًا من الأمر؟
فأجاب الرجل: لن يُفلت منا خيط من الحقيقة.
٢٦
رجع ضياء وعاشور من رحلتهما الاستكشافية الخائبة مذهولَين. اشتدَّ اللغز غموضًا واكتنفته سحب دكناء فتوزَّعت القلوب الهواجس. حقًّا لقد أمَّن لهما شقيقهما الحياة قبل أن يذهب؛ فهما وأمهما الوارثون لوكالة الفحم ولدارَين رائعتَين، ولكن ماذا عن ثروة فائز، وماذا عن حياته المبهمة؟!
وتفكَّر ضياء، ثم قال: لعله فقد ثروته فانتحر.
فقال عاشور معترضًا: ولمَ ينتحر وهو ما زال مالك الوكالة والدارَين؟
فهزَّ ضياء رأسه في حيرة وتمتم: تُرى لمَ ينتحر المنتحرون؟!
٢٧
واستأثر انتحار فائز باهتمام السكارى في البوظة. تساءل زين علباية الخمَّار: لمَ ينتحر رجل مثل فائز؟
فقال يونس السايس شيخ الحارة: ليس بسبب الإفلاس؛ فقد ترك ثروةً تجعله من كبار أغنياء الحارة.
فقال له زين علباية بلهجة تحريض: لا شك أن عندك معلومات باعتبارك من رجال السلطة.
وعزَّ على يونس أن يُعلن إفلاسه، فقال بنبرة الحذر: إنهم يكتشفون جميع من كانت لهم صلة بالرجل.
عند ذاك قال حسونة السبع الفتوة مُتهكِّمًا: هناك سبب أقوى من الإفلاس.
واتجهت إليه الرءوس بكل إجلال فقهقه قائلًا: الجنون! في دمائهم جنون موروث عن رجال ونساء، حتى كبيرهم الأول المقدَّس ألم يكن لقيطًا ولصًّا؟!
٢٨
ومضت حياة آل الناجي ثقيلةً كئيبة. أُجِّل الزفاف بطبيعة الحال، وواصل ضياء وعاشور حياتهما اليومية وقد انطفأت في نفسَيهما جذوة الإبداع والسعادة، أمَّا حليمة البركة فقد اعتزلت في جناحها، تجتر الأحزان وتتعزَّى بالعبادة.
٢٩
وذات مساء — وكان الشتاء ما زال يسفع الحارة بسياطه — جاء عم يونس السايس إلى الدار، يسير بين يدَي مأمور القسم وقوةٍ من المخبرين. اجتمع المأمور وشيخ الحارة بالأسرة في قاعة الاستقبال، وسرعان ما سأل المأمور: لمن وكالة الفحم والداران؟
فأجاب ضياء: كانت ملك المرحوم وعنه ورثناها.
– إليَّ بوثائق الملكية.
ذهب ضياء ثم رجع بصندوق فضي متوسِّط الحجم، فمضى المأمور يطالع الوثائق، ثم ردَّد عينَيه بين حليمة وابنَيها وقال: كل شيء ملك للغير.
لم يفقه أحد معنًى لقوله، ولم تعكس وجوههم أي أثر، فقال يونس السايس: جميع ما في حوزتكم من تجارة وعقار ملك للغير، لم يكن ملكًا لفائز، وبالتالي لا حق لكم فيه.
صرخ ضياء: ما معنى ذلك؟!
فقال شيخ الحارة: الأمر لله، عليكم أن تسلِّموا الدار والوكالة في الحال.
– في الأمر خطأ ولا شك!
– لقد باع فائز كل شيء، وقدَّم المالك الجديد المبايعة وهي صحيحة لا شك فيها!
تساءل عاشور بذهول: أحقًّا ما تقول؟
فقال المأمور بهدوء وحزم معًا: لم نأتِ في هذه الساعة للمزاح.
– إنه فوق ما يتصوَّر العقل!
– ولكنه الواقع الذي لا شك فيه.
فتساءل ضياء بفزع: إذن فأين ثمن البيع؟
– علم ذلك عند الله والمنتحر.
وسكت المأمور لحظات، ثم استدرك: لعله كان بيعًا صوريًّا، ولعله تمَّ خلال مقامرة جنونية. التحقيق ماضٍ في سبيله القذر!
وقال ضياء: فوق ما يتصوَّر العقل!
وقال عاشور: إنها جريمة تُسمَّى السرقة!
فتساءل المأمور: لمَ انتحر بدل أن يبلغ عن السرقة؟
في الأمر جريمة يا حضرة المأمور.
– بل سلسلة من الجرائم! ولكن لا بد أولًا من التفتيش!
٣٠
لبثت الأسرة تنتظر مهيضةً تحت حكم الإعدام. رجع المأمور وهو يقول سلسلة من الجرائم، الجرائم البشعة. هلمُّوا معنا.
تساءلت حليمة بصوت متهدِّج: إلى أين؟
– إلى القسم.
وقال يونس السايس ملاطفًا: لا بد من استكمال التحقيق.
تساءل عاشور: أنحن متهمون؟
قال المأمور بحزم: صبرك، وما صبرك إلا بالله.
٣١
جرى التحقيق طويلًا مرهقًا، وعلى ذمته حُجزت الأسرة في سجن القسم أسبوعًا، ولكن ثبت بالدليل وشهادة الشهود أنه لم توجد علاقة بينهم وبين عمل فائز السري الخارجي، فثبتت براءتهم وأُطلق سراحهم فرجعوا إلى الحارة، ثلاثة يركبهم الخزي والعار لا مأوى لهم.
٣٢
وكانت الحقائق قد سبقتهم إلى الحارة مثل رائحة عفنة. عرف الكبير والصغير، الصديق والعدو، أن فائز بدأ مغامرته ببيع الكارو، أنه استثمر ماله في الدعارة والقمار والبرمجة والمخدرات. وكان يقامر بثروات خيالية، وفي حال الخسران كان يستدرج الغريم مستعينًا بالنساء والمخدرات فيقتله ويستولي على النقود، ثم يواربه في فناء داره. وفي آخر مقامرة خسر أمواله جميعًا، ثم اضطُر إلى المقامرة بأملاكه في شكل عقد بيع صوري فخسرها أيضًا. ولم يتمكَّن من قتل غريمه الذي فرَّ بروحه وماله. ولمَّا خسر كل شيء، وأصبح سره مهدَّدًا بالانفضاح انتحر. وقد تلقَّى رجال الأمن رسالةً من مجهول لعله كان شريكا، وهي التي دلَّت السلطة على سر الجرائم ومدافن الضحايا. هكذا كُشف الغطاء عن سر فائز المفزع، نجاحه وانتحاره!
٣٣
رجعوا إلى الحارة، ثلاثة يركبهم الخزي والعار لا مأوى لهم. غدت حكايتهم نادرة الشامتين ومفزع المتخيِّلين. وأضرم نارها السبع وعلباية والعجل. وبقوة الحقد أمطرتهم الأفواه بصقًا والأكف صفعًا حتى هرولوا نحو القبو، ومنه تسلَّلوا إلى الممر، ثم استقرُّوا في القرافة.
وأراد الشيخ جليل شيخ الزاوية أن يتشفَّع لهم فقال: لاتزر وازرة وزر أخرى.
فصاح به حسونة السبع: اسكت يا كافر وإلا شنقتك بشال عمتك!
وكان آل الخشاب وآل العطار في مقدمة من تبرَّأ منهم.
٣٤
أقامت الأسرة المطاردة في حجرة الرحمة بمدفن شمس الدين. في الجيوب قروش معدودة، وفي القلوب أسًى جديد أنساهم أحزان الموت والإفلاس. تحجَّرت الأعين، حتى عينا حليمة البركة، جلسوا متقاربين، يُنشدون النجاة من تلاصقهم، ويستدفئون بنبضات قلوبهم الشامل، وريح الشتاء تزمجر بين شواهد القبور. وإذا بضياء يصيح: الكلاب!
فقالت حليمة برجاء: فلنفكِّر بحالنا!
فقال ضياء بمرارة وسخرية: لم يبقَ أمامنا إلا أن نعمل ترابية.
فقالت الأم: معاشرة الجثث أطيب.
وتساءل عاشور بذهول: أقضي علينا حقًّا بهجر حارتنا؟
فقال له أخوه: ارجع لتغسل وجهك مرةً أخرى ببصاقهم!
فقال عاشور بتحدٍّ: سنعيش حياتنا على أي حال.
– لنرجع إلى التسوُّل.
وكانت الريح تزمجر في الخارج بين شواهد القبور.
٣٥
وفي اليوم التالي دخلوا في حال جديدة من الحزن امتازت بالهدوء والركود.
قالت حليمة البركة: لا وقت لدينا نضيعه.
فعلَّق ضياء على قوله بأنه لا وقت لديهم ولا مال ولا صديق ولا شيء، فتساءلت: أين يجدر بنا أن نذهب؟
فأجاب ضياء: بلاد الله لا حدود لها.
أمَّا عاشور فقال: لنبقَ في المدفن غير بعيدين عن حارتنا حتى يتاح لنا الرجوع.
تمتم ضياء بازدراء: الرجوع؟!
– أجل، لا بد من الرجوع ذات يوم، وأكثر من ذلك، لا حياة لنا إلا في حارتنا.
فحسمت حليمة الخلاف قائلة: لنبقَ هنا بعض الوقت على الأقل.
عند ذاك قال ضياء: لم أنَم ليلةً أمس. فكَّرت حتى سمع الأموات نبضات فكري، صدَّقت عزيمتي على قرار.
– ما هو؟
– ألَّا أبقى هنا.
فتجاهلته أمه وقالت: عن نفسي أعود إلى ممارسة مهنتي السابقة في أطراف الحي البعيدة.
فقال عاشور: سأسرح بفاكهة.
تضايق ضياء من تجاهلهما رأيه، فراح يؤكِّده قائلًا: سأذهب ولو اضطُررت إلى الانفصال عنكما.
فسألته أمه: أين؟ وماذا تفعل؟
فقال مواصلًا انفعاله: لا أدري، سأتحدَّى الحظ والقدر.
فتسألت بحزن: كما فعل الآخر؟
فصاح بإصرار: كلا! توجد سبل أخرى.
– أعطني مثلًا؟
– لست نبيًّا.
وقال له عاشور برقة: ابقَ معنا فما أحوج بعضنا إلى بعض.
فقال بإصرار نهائي: كلا، لقد قُضي الأمر.
٣٦
ودَّع ضياء أمه وأخاه وذهب. دمعت عينا حليمة وهي تودِّعه، ولكن لم يكن ثمة متسع للحزن. واستقبلت وعاشور حياة معاناة شاقة. سرحت بالمفتقة والمخلِّل كالمتسوِّلات، وسرح عاشور بالفاكهة، عملاقًا يحمل مقطفًا. كأنما قد تعاهدا على الصبر وتجنُّب الشكوى وعدم نبش ذكرى ما مضى، ولكن الماضي لم يُقتلع من أعماقهما. ذكرى الدار ذات الأجنحة، والعيش الرغيد، وأُبهة الدوكار وحجرة الإدارة، ذكرى العباءة الفضفاضة والمسبحة القهرمانية وروائح المسك والعنبر والكلمات الطيبة، وعزيزة العطار باليشمك والابتسامة الهائمة، وإقبال يونس السايس مداهنًا وقوله المأثور في الصباح: «صبحك الله بالسعادة يا من يشرق النور من جبهته.» آه يا فائز ماذا فعلت بنفسك وبنا؟!
حتى جلال المجنون لم يقتل ويدفن الجثث. ما هذه اللعنة التي تطارد ذرية صاحب الولاية والمعجزة؟
ودأب على قضاء وقت راحته في الخلاء حيث رعى الغنم، حيث لجأ عاشور صاحب العهد وتلقَّى النعم، ذلك الجد الذي أحَبَّه وآمن بعهده، وعبد خيره وقوته. أليس هو مثله حبًّا في الخير وامتلاكًا للقوة؟ ولكن ماذا فعل كلاهما بخيره وقوته؟ أمَّا الجد فقد حدثت على يدَيه المعجزة، وأمَّا هو فيسرح بالخيار والقثاء والرطب.
وفي الليل دأب على التسلُّل إلى ساحة التكية. يتلفَّع بالظلام ويستضيء بضوء النجوم، يردِّد البصر بين أشباح التوت والسور العتيق، يقتعد مكان الناجي ويصغي إلى رقصات الأناشيد. ألَا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟
متى إذن يفتحون الباب أو يهدمون الأسوار؟ يريد أن يسألهم لماذا ارتكب فائز جرائمه. حتى متى تشقى حارتنا وتُمتهن؟ لمَ ينعم الأنانيون والمجرمون؟ لمَ يُجهض الطيبون والمحبون؟ لمَ يَغُط في النوم الحرافيش؟
هذا والجو يمتلئ بالأناشيد:
ديدي كه بار جز جور وستم نداشت
بشكست عهد وز غم ماهيج غم نداشت
٣٧
وقالت حليمة لنفسها إنه يبدو دائمًا منشغل البال، شارد اللب، فيمَ يحلم يا تُرى؟ هل يمكن أن تمضي الحياة في معاناة متصلة بلا نسمة ترطِّبها؟ وسألته بحنان: ماذا يشغلك يا عاشور؟
فلم يجِب، فتساءلت: ألَا يحسن بنا أن نجد لك زوجةً تؤنس وحشتك؟
فقال باسمًا: ما نجد اللقمة إلا بشق الأنفس.
– إذن فهناك ما يكدِّر صفوك؟
فقال بصدق: كلا يا أمي.
فلتصدِّقه ولكن ماذا يشغله؟ في باطنه حياة كاملة مجهولة؛ لذلك تشعر بالغيرة كما تشعر بالخوف.
٣٨
وضاق بأسراره ذات ليلة. كان الوقت ربيعًا وقد طاب الجلوس في مكان غير مسقوف من المدفن. وانبسطت السماء متبرِّجةً بما لا يُحصى من نجومها.
كانا يتناولان عشاءً من المش والخيار. وقال عاشور: أتساءل أحيانًا عمَّا يفعل ضياء.
فتنهَّدت حليمة وتمتمت: إنه نسينا تمامًا.
وغرق عاشور في الصمت فلم يسمع إلا صوت تمطُّقه ونباح الكلاب عند مشارف القرافة. ثم عاد يقول: أخاف أن يفعل كما فعل فائز من قبل.
فقالت الأم محتجَّة: لقد ضرب لنا المرحوم مثلًا لا يمكن أن يُنسى.
– ولكننا ننسى دائمًا يا أمي.
– أهذا ما يشغلك يا عاشور؟
فحنى رأسه بالإيجاب في ضوء هلال شاحب. مضى يتساءل: لمَ سقط فائز؟ لمَ جُن جدنا جلال؟ لم يفترَّسنا حسونة السبع؟
– أليس عندنا من الهم ما يكفي؟
– إنه هم واحد متصل الحلقات.
فاستعاذت حليمة بالله وقالت: اسمه الشيطان.
– أجل، ولكن لمَ يغرِّر بنا بلا عناء؟
– إنه ينهزم أمام المؤمنين.
ورجع للصمت وقد فرغ من العشاء وراح يدخِّن جوزةً من المعسِّل، ونباح الكلاب في اشتداد حتى انقلب في بعض خيوطه إلى عواء. وقال بغتة: إليكِ رأيي يا أمي؛ الشيطان ينتصر بالتسلُّل من نقاط الضعف فينا.
فاستعاذت بالله من الشيطان الرجيم، فواصل عاشور قائلًا: إليك رأيي أيضًا؛ حُبَّان يشكِّلان أضعف ما فينا؛ حب المال، وحب السيطرة على العباد.
فتمتمت حليمة: لعلهما شيء واحد.
– ربما، المال والسيطرة.
– حتى عهد جدك انتكس …
فردَّد بغموض: جدي!
فحدَّجته بنظرة متسائلة، فتساءل بدوره: ماذا كان ينقصه؟
– ينقصه؟!
– أعني لماذا انتكس؟
– لم يكن الذنب ذنبه.
فتمتم بعجلة: طبعًا.
ولكنه تساءل في سره عمَّا كان ينقصه، عمَّا أفشل سعيه النبيل عقب وفاته أو عقب وفاة شمس الدين. ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وُجد الصواب مرةً فيمكن أن يوجد مرةً أخرى. وإذا كان قد انتكس بعد وجوده فيمكن أن نضمن له حياةً لا تعرف الانتكاسة.
وعادت حليمة تتساءل: أليس لديك من الهم ما يكفيك وزيادة؟!
٣٩
كلا، لم يقنع بما لديه من هم. وكيف يقنع من أدمن الوجود كل يوم ساعةً في الخلاء وساعةً أو ساعتَين في ساحة التكية؟! كيف يقنع من ينطوي صدره على جذوة دائمة الاشتعال؟ كيف يقنع من تؤرِّقه الأحلام الملوَّنة؟ كيف يقنع من بات يعتقد بألَّا جد له إلا عاشور الناجي؟
ورسم فوق رمال الخلاء طريقًا، وتخيَّله على ضوء النجوم في ساحة التكية. وناجاه في تجواله ومنامه، حتى تجسَّد له كالسور العتيق قوةً وصلابةً وجلالًا.
٤٠
وتلكَّأ طويلًا في سوق الدرَّاسة. في سوق الدرَّاسة يتصعلك كثيرون من حرافيش الحارة. لقد كان يتجنَّبه لذلك السبب، ومن أجل ذلك يتلكَّأ اليوم في جنباته. ومرَّ أمام تجمُّعاتهم وهو ينادي مترنِّمًا بالخيار. سرعان ما عرفه بعضهم. هتف هاتفهم: المعلم عاشور!
وسخر صوت قائلًا: أخو السفاح يسرح بالخيار!
وأقبل عاشور نحوهم يحمل البشاشة في قسماته الغليظة. مدَّ يده وهو يقول: أترفضون هذه اليد مثل الآخرين؟
فصافحوه بحرارة وقال أحدهم: عليهم اللعنة!
وقال ثانٍ: ما وجدنا منك إلا الخير.
– وأمك الطيبة كيف حالها؟
فقال عاشور: برؤياكم رجعَت روحي الشاردة إلى وطنها.
وقضى بينهم ساعةً سعيدةً مترعةً بالحنين والبهجة. ومنذ ذلك اليوم لم ينقطع قط عن سوق الدرَّاسة.
٤١
بلقاء الحرافيش اشتعلت النار في كِيانه كله. تجمَّعت قواه الحيوية كلها، ودقَّت جدرانَ قلبه تريد أن تنطلق. لا يمكن أن ينام من تضطرب جوانحه بهذه القوة كلها. إنه يتحدَّى المجهول كما تحدَّاه فائز من قبل، وكما يتحدَّاه ضياء اليوم، ولكنه يشق طريقًا آخر، ويتطلَّع إلى آفاق أبعد. إنه يواجه المجهول ويصافحه ويرمي بنفسه في خِضمه. كأنما كتبت عليه المغامرة والمقامرة وركوب المستحيل. إنه يحمل سرًّا عجيبًا. ينبذ الأمن والسلامة، ويعشق الموت وما وراءه. ولقد رأى في منامه من اعتقد أنه عاشور الناجي. ورغم أنه كان يبتسم فقد سأله بنبرة عتاب واضحة: بيدي أم بيدك؟
وكرَّرها مرَّتَين فوجد عاشور نفسه يجيبه وكأنما أدرك ما يسأل عنه: بيدي!
فظلَّ الناجي باسمًا، ولكنه توارى كالغاضب مخلفًا وراءه الخلاء. وتساءل عاشور لدى استيقاظه عمَّا عناه جده بسؤاله، وعمَّا عناه هو بجوابه، وتحيَّر طويلًا ولكن قلبه امتلأ بإلهام التفاؤل والإقدام.
٤٢
وذات يوم طرح هذا السؤال على الحرافيش في سوق الدرَّاسة: ماذا يُرجع حارتنا إلى عهدها السعيد؟
وأجاب أكثر من صوت: أن يرجع عاشور الناجي.
فتساءل باسمًا: هل يرجع الموتى؟
فأجاب أحدهم مقهقهًا، قال بثبات: لا يحيا إلا الأحياء.
– نحن أحياء ولكن لا حياة لنا.
فسأل: ماذا ينقصكم؟
– الرغيف.
فقال عاشور: بل القوة!
الرغيف أسهل منالًا.
– كلا!
فسأله صوت: إنك قوي عملاق فهل تطمح إلى الفتونة؟
وقال آخر: ثم تنقلب كما انقلب وحيد وجلال وسماحة!
وقال ثالث: أو تقتل كما قتل فتح الباب.
فقال عاشور: حتى لو صِرت فتوةً صالحًا فما يجدي ذلك؟
– نسعد في ظلك!
قال آخر: لن تكون صالحًا أكثر من ساعة!
فتساءل عاشور: حتى لو سعدتم في ظلي فماذا بعدي؟
– ترجع ريمة لعادتها القديمة.
وقال رجل: لا ثقة لنا في أحد، ولا فيك أنت!
فابتسم عاشور قائلًا: قول حكيم.
وقهقه الحرافيش فعاد عاشور يتساءل: ولكنكم تثقون في أنفسكم!
– وما قيمة أنفسنا!
فتساءل عاشور باهتمام: أتحفظون السر؟
– نحفظه من أجل عيونك!
فقال عاشور بجدية: لقد رأيت حلمًا عجيبًا، رأيتكم تحملون النبابيت.
وقهقهوا طويلًا، ثم قال رجل مشيرًا إلى عاشور: هذا الرجل مجنون ولا شك؛ لذلك فإني أحبه.
٤٣
طرق طارق باب حجرة الرحمة. كان عاشور يجالس أمه عقب العشاء متدثرَين ببطانيتَين اتقاء برد الشتاء القارس. وفتح عاشور الباب فرأى على ضوء المصباح وجهًا يعرفه، وسرعان ما هتف: أخي ضياء!
وثبت حليمة البركة وضمَّته إلى صدرها. ذابوا دقائق في حرارة، ثم أفاقوا فجلسوا على الشلت يتبادلون النظرات. تجلَّى ضياء بعباءته الغامقة ومركوبه الأخضر ولاثته المنمنمة. تجلَّى بادي الصحة والسعادة. وانقبض قلب عاشور وثارت هواجسه. وختمت حليمة على ظنونها بابتسامة وحنان. وخرج ضياء من الصمت القصير قائلًا: ما أطول الأيام!
ثم وهو يضحك: وما أقصر الأيام!
وتمتمت حليمة البركة وقد اغرورقت عيناها: نسيتنا تمامًا يا ضياء.
فقال ضياء بلهجة جمعت بين التشكِّي في ظاهرها والظفر في أعماقها: كانت الحياة شاقةً فوق ما يتصوَّر العقل.
وآن أوان التحدُّث عن «الحاضر»، ولكن حليمة وعاشور أحجما بادئ الأمر عن الخوض فيه. ذكَّرهما المنظر بمنظر سابق لا يمحى من الذاكرة، واستحوذ عليهما قلق خفي. وقرأ ضياء أفكارهما فقال: أخيرًا أخذ الله بيدنا!
فتمتمت حليمة تملُّصًا من حرج الصمت: الحمد لله.
وطالعته بوجه مستطلع، فقال بهدوء: إني اليوم مدير أكبر فندق ببولاق!
ونظر نحو عاشور متسائلًا في مرح: ما رأيك؟
فقال عاشور بصوت لا حياة فيه: عظيم!
– إني أقرأ ما يدور بخاطرك!
فتساءل عاشور: أليس الأمر مثيرًا؟
– ولكنه عادي جدًّا، ومختلف جدًّا عن مأساة المرحوم.
– ذلك ما أتوقَّعه.
– لقد عملت في الفندق خادمًا، ثم عملت كاتبًا لمعرفتي القراءة والكتابة، ثم حصل استلطاف بيني وبين كريمة صاحب الفندق.
سكت مليًّا ليغرز أقواله إلى عمق معقول، ثم واصل: خفت أن أطلب يدها من أبيها فأخسر كل شيء. ولكن وافاه الأجل، تزوَّجنا، أصبحت مدير الفندق وصاحبه الفعلي.
وتمتمت الأم: ليكتب الله لك التوفيق.
فرنا إلى عاشور مليًّا، ثم تساءل: أخالجك شك في أقوالي؟
فقال عاشور بعجلة: كلا.
– إن مأساة فائز لا تريد أن تمحى من ذاكرتك.
– لا يمكن أن تمحى أبدًا.
– لقد سلكت طريقًا آخر.
– الحمد لله.
– تصدِّقني؟
– نعم.
فقال باعتزاز: لدى إقبال الدنيا سرعان ما تذكَّرت أمي وأخي.
فقالت حليمة البركة: ليحفظك الله.
– ذلك أنني لم أتخلَّ عن حلم قديم.
فتساءل عاشور: حلم قديم؟
– أن نرجع إلى حارتنا، أن نسترد جاهنا، أن نتلقَّى تحيات من بصقوا في وجوهنا.
فقال عاشور بحزم: تخلَّ عن حلمك يا أخي.
– حقًّا؟ ماذا تخاف؟ إن سحر النقود يصنع المعجزات.
– لقد فقدنا الاحترام الحقيقي حتى ونحن أغنياء.
فتساءل باستياء: ما الاحترام الحقيقي؟
هل يفضي إليه بحلمه أيضًا؟ ولكنه لم يجِد فيه أي ثقة.
يمكن التفاهم مع الحرافيش، أمَّا هذا الشخص الناجح المتهوِّر فلا تفاهم معه.
أجاب بأسًى: هو ما فقدناه من قديم.
رفع ضياء منكبَيه استهانةً وقال بضيق: على أي حال آن لكما أن تودِّعا هذه الحياة مع الأموات.
فقال عاشور بحزم: كلا.
– كلا! ترفض معونتي؟
– نعم.
– إنه الجنون بعينه.
– المال مال زوجتك ولا شأن لنا به.
– إنك تجرحني.
– معذرةً يا ضياء، دعنا فيما نحن فيه.
– ما زلت تسيء بي الظن!
– كلا، أعتقد أني واضح تمامًا.
فقال باستياء بادٍ: لن أترك أمي.
فقالت حليمة بعَجلة: إنك ابن طيب، ولكنني لن أهجر أخاك.
– أنت أيضًا تسيئين بي الظن!
– معاذ الله، ولكني لن أهجره، دَع الأمور للزمن.
– حتى متى تقيمين في مدفنٍ بين الأموات؟!
– لم نعد كما كُنا فقراء دقة، حالنا تتحسَّن يومًا بعد يوم.
فقال بقوة: بوسعي الآن أن أرجعكما مكرَّمين إلى حارتنا.
فقالت حليمة متوسِّلةً بحرارة: دَع الأمور للزمن.
حنى ضياء رأسه متمتمًا: يا لها من خيبة أمل!
٤٤
وعقب انصراف ضياء قالت حليمة: صددناه بعنف يا عاشور.
فقال بإصرار: لم يكن من الأمر بُد.
– ألم تثق بأقواله؟
– لا.
– إني أصدِّقه.
– إني على يقين من انحرافه.
– من ذا الذي لا يتعظ بعد مأساة فائز؟
– نحن، ما تاريخ أسرتنا إلا سلسلة من الانحرافات والمآسي والدروس الضائعة.
– ولكني أصدِّقه.
– كما تشائين.
وتفكَّرت قليلًا، ثم قالت: حتى أسرارك لم تأتمنه عليها؟
فقال عاشور بأسف: لا، إنه لا يؤمن بما أومن به.
– ألم يكن من المحتمل أن ينضم إليكم؟
فقال عاشور بهدوء: إنه لا يؤمن بما أومن به.
حقًّا لقد جاء ضياء في وقت غير مناسب؛ إذ كان عاشور يتوثَّب — بعد عناء طويل — للخطوة الحاسمة.
٤٥
وذات يوم عجيب، والحارة تعاني حياتها اليومية المألوفة الكئيبة، والشتاء يولِّي مودِّعًا، انحدر من تحت القبو رجل. عملاق الهيكل، يرفل في جلباب أزرق وطاقية بنية وبيده نبوت. سار بهدوء وثقة كأنه راجع من غيبة ساعة لا بضع سنين. رآه أول من رآه محمد العجل فمدَّ إليه عينَيه بذهول وتمتم: من؟ عاشور!
فقال له عاشور بهدوء: سلام الله عليك يا عم محمد.
سرعان ما شخصت إليه الأبصار بدهشة، من الدكاكين والنوافذ وأرجاء الحارة شخصت إليه. لم يُلقِ بالًا إلى أحد، وشَقَّ طريقه إلى المقهى.
وكان حسونة السبع متربِّعًا فوق أريكته، وفي حاشيته جلس يونس السايس شيخ الحارة والشيخ جليل العالم شيخ الزاوية. دخل عاشور المقهى فاتجهت نحوه الأعين في ذهول. أمَّا هو فمضى إلى ركن وهو يقول: السلام عليكم.
لم يسمع ردًّا. وواضح أن الفتوة انتظر منه تحيةً خاصةً مشفوعةً باستعطاف، ولكنه مضى إلى مقعد بلا مبالاة وجلس. سرعان ما توقَّع الناس أحداثًا. ولم يطِق السبع صبرًا فسأله بخشونة: ماذا أرجعك يا ولد؟
فأجاب بهدوء: لا بد يومًا أن يعود الإنسان إلى حارته.
فصاح به: ولكنك طُردت منها منبوذًا ملعونًا.
فقال عاشور بهدوئه المطمئن: كان ظلمًا ولا بد للظلم من نهاية.
فتدخَّل الشيخ جليل قائلًا: تقدَّم إلى فتوتنا واسأله العفو.
فقال عاشور ببرود: لم أجئ لطلب العفو.
فهتف يونس السايس: ما عرفناك مغرورًا ولا وقحًا.
فقال بسخرية: بالصدق نطقت.
عند ذاك نتر حسونة السبع ساقَيه المتشابكتَين نحو الأرض وسأله منذرًا: علامَ تعتمد في رجوعك إن لم يكن على عفوي؟
فقال بصوت جهْوري: اعتمادي على الله جل شأنه.
فصاح السبع: اذهب على قدمَيك وإلا ذهبتَ على نقالة.
فوقف عاشور وشدَّ على نبوته. اندفع صبي القهوة خارجًا مناديًا رجال العصابة. هُرع الآخرون إلى الحارة خوفًا. انقضَّ السبع بنبوته، وانقضَّ عاشور بنبوته، فارتطم النبوتان بعنفِ جدار متهدِّم. ونشبت معركة غاية في الشدة والقسوة.
وجاء رجال العصابة من شتى الأنحاء فاختفى الناس من الحارة وأُغلقت الدكاكين، وامتلأت النوافذ والمشربيات.
وإذا بمفاجأة تدهم الحارة كزلزال. مفاجأة لم يتوقَّعها أحد. تدفَّق الحرافيش من الخرابات والأزقة، صائحين، ملوِّحين بما صادفته أيديهم من طوب وأخشاب ومقاعد وعِصي. تدفَّقوا كسيل فاجتاحوا رجال السبع الذين أُخذوا، وبسرعة انقلبوا من الهجوم إلى الدفاع. وأصاب عاشور ساعد السبع فأفلت منه النبوت، عند ذاك هجم عليه وطوَّقه بذراعَين، عصره حتى طقطق عظامه، ثم رفعه إلى ما فوق رأسه ورمى به في الحارة فتهاوى فاقد الوعى والكرامة.
أحاط الحرافيش بالعصابة، انهالوا عليهم ضربًا بالعِصي والطوب، فكان السعيد من هرب وفيما دون الساعة، لم يبقَ في الحارة إلا جموع الحرافيش وعاشور.
٤٦
كانت معركةً لم تُسبق بمثيل من حيث عدد مَن اشترك فيها؛ فالحرافيش أكثرية ساحقة. وفجأةً تجمَّعت الأكثرية واستولت على النبابيت فاندفعت في البيوت والدُّور والوكالات رجفة مزلزلة. تمزَّق الخيط الذي ينتظم الأشياء وأصبح كل شيء ممكنًا، غير أن الفتونة رجعت إلى آل الناجي، إلى عملاق خطير، تُشكِّل عصابته لأول مرة أكثرية أهل الحارة. ولم تقع الفوضى المتوقَّعة، التفَّ الحرافيش حول فتوتهم في تفانٍ وامتثال، وانتصب بينهم مثل البناء الشامخ، توحى نظرة عينَيه بالبناء لا بالهدم والتخريب.
٤٧
واجتمع بعاشور ليلًا يونس السايس وجليل العالم. كانا واضحي القلق، وقال شيخ الحارة: المأمول ألَّا يقع ما يقتضي تدخُّل الشرطة.
فقال عاشور في استياء: كم من جرائم ارتُكبت تحت بصرك وكانت تقتضي تدخُّل الشرطة.
فقال الرجل بلهفة: معذرة، إنك أدرى الناس بظروفنا، أوَدُّ أن أذكِّرك أنك انتصرت بهم، ولكنك غدًا ستقع تحت رحمتهم!
فقال عاشور بثقة: لن يقع أحد تحت رحمة أحد.
فقال الشيخ جليل العالم بإشفاق: لم يكبحهم في الماضي إلا التفرُّق والضعف!
فقال عاشور بثقة أشد: إني أعرفهم خيرًا منك، عاشرتهم في الخلاء طويلًا، والعدل خير دواء.
فتردَّد يونس السايس قليلًا، ثم تساءل: والسادة والأعيان ماذا يكون مصيرهم؟
فقال عاشور بقوة ووضوح: إني أحب العدل أكثر ممَّا أحب الحرافيش وأكثر ممَّا أكره الأعيان.
٤٨
ولم يتوانَ عاشور ربيع الناجي ساعةً واحدةً عن تحقيق حلمه، ذلك الحلم الذي جذب به الحرافيش إلى ساحته، ولقَّنهم تأويله في الخلاء، وحوَّلهم به من صعاليك ونشَّالين ومتسوِّلين إلى أكبر عصابة عرفتها الحارة.
سرعان ما ساوى في المعاملة بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلةً حتى ضاق كثيرون بحياتهم فهجروا الحارة إلى أحياء بعيدة لا تعرف فتوةً ولا فتونة. وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرَين؛ أن يدرِّبوا أبناءهم على الفتونة حتى لا تهِن قوتهم يومًا فيتسلَّط عليهم وغد أو مغامر، وأن يتعيَّش كلٌّ منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات. وبدأ بنفسه فعمل في بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأنقى درجات النقاء. ولم يجد الشيخ جليل العالم بُدًّا من الثناء عليه، والجهر بالتنويه بعدالته، وكذلك يونس السايس فَعل، ولكنه ارتاب في ضميرهما، ولم يشكَّ في أنهما يتحسَّران على الهبات التي كانت تتسرَّب إليهما من الأعيان، وعند توزيع الإتاوات بين أفراد العصابة الهاربة.
وما لبث الشيخ جليل العالم أن هجر الحارة فعيَّن مكانه الشيخ أحمد بركات. ولمَّا كان يونس السايس مُعيَّنًا من قِبَل السلطة فقد تعذَّر عليه هجرها، وكان يغمغم وهو منفرد بنفسه في دكانه: لم تبقَ في الحارة إلا الزبالة!
وكان يفضي بذات نفسه إلى زين علباية الخمَّار، فيتساءل الرجل في قلق: حتى متى تدوم هذه الحال؟
فيقول يونس السايس: لا أمل مع بقاء الوحش على قيد الحياة.
ثم يتنهَّد مواصلًا: لا شك أن أناسًا مثلنا تناجَوا بما نتناجى به الآن على عهد جده الأول، فاصبر وما صبرك إلا بالله.
٤٩
وجدَّد عاشور الزاوية والسبيل والحوض والكُتَّاب، وأنشأ كُتَّابًا جديدًا ليتسع لأبناء الحرافيش، ثم أقدم على ما لم يُقدم عليه أحد من قبل، فاتَّفق مع مقاول على هدم مئذنة جلال. وقد كان يصد السابقين عن ذلك خوفهم من إغضاب العفاريت التي تسكنها، ولكن الفتوة الجديد لم يخَف العفاريت، وقام وهو في الحارة عملاقًا كالمئذنة، ولكنه في الوقت نفسه مستقر للعدل والنقاء والطمأنينة. ولم يبدأ بتحدي أحدٍ من فتوات الحارات، ولكنه كان يؤدِّب من يتحدَّاه ويجعل منه عظةً للآخرين، فتهيَّأت له السيادة بلا معارك.
٥٠
واعتقدت حليمة البركة أنه آن له أن يفكِّر في ذاته. وجاءه ضياء أخوه سعيدًا، وفي نيته أن يستعيد وكالة الفحم، وأن يصير كبير الأعيان في كنف أخيه الفتوة، ولكنه لم يلقَ منه تشجيعًا، فاضطُر إلى الاستقرار في فندقه.
واقترحت حليمة عليه أن يتزوَّج قائلة: ما زال في حارتنا نفر من الأعيان الطيبين الذين لم يفرِّطوا فيها.
فتذكَّر عاشور موقف أسرتَي الخشاب والعطار بامتعاض شديد، وقال لأمه: أشعر يا أمي أنك تطمحين إلى حياة أفضل ممَّا نحن فيه.
فقالت المرأة بصدق: ليس العدل أن تظلم نفسك!
فقال بقوة محتجًّا ورافضًا: لا.
قالها بقوة. ليست قوة الرفض الحقيقي، بل قوة يداري بها ضعفًا يُحِس به أحيانًا في أعماق خواطره؛ فكم يحن أحيانًا إلى رغد العيش والجمال، كما يحلم بحياة الدُّور والمرأة الناعمة! لذلك قال لا بعنف وقوة. وقال لها: لن أهدم بيدي أعظم ما شيَّدت من بناء شامخ!
وأصرَّ أن يجيء الرفض من ذاته لا حذرًا من الحرافيش. إنه يريد أن يتفوَّق على جده نفسه. لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوةً لا تُقهر، ولقد مال مرةً جده مع هواه، وسوف يصمد هو مثل السور العتيق.
ومرةً أخرى قال بقوة: لا!
٥١
وتمَّ له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه. وتزوَّج من بهية بنت عدلات الماشطة بعد مشاهدةٍ واستقراء من جانبه. وعندما اقتُلعت مئذنة جلال من جذورها أحيت الحارة ليلة رقص وطرب. وعقب منتصف الليل ذهب إلى ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد. تربَّع فوق الأرض مستنيمًا إلى الرضا ولطافة الجو. لحظة من لحظات الحياة النادرة التي تُسفر فيها عن نورٍ صافٍ، لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان، كأن الأناشيد الغامضة تُفصح عن أسرارها بألف لسان، وكأنما أدرك لمَ ترنَّموا طويلًا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب.
•••
وسبح في الظلام صرير فرنا إلى الباب الضخم بذهول. رأى هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات، ومنه قدم شبح درويش كقطعة متجسِّدة من أنفاس الليل. مال نحوه وهمس: استَعِدُّوا بالمزامير والطبول، غدًا سيخرج الشيخ من خلوته، ويشق الحارة بنوره، وسيهب كلَّ فتًى نبوتًا من الخيزران وثمرةً من التوت، استَعِدُّوا بالمزامير والطبول.
•••
عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض على أهداب الرؤية فغاصت قبضته في أمواج الظلام الجليل. وانتفض ناهضًا ثمِلًا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
وهتفت الحناجر شادية: