شمس الدين
١
في ظل العدالة الحنون تُطْوَى آلامٌ كثيرةٌ في زوايا النسيان. تزدهر القلوب بالثقة وتمتلئ برحيق الموت. ويسعد بالألحان من لا يفقهُ لها معنًى، ولكن هل يتوارى الضياء والسماء صافية؟
٢
لأول مرة تستيقظ فُلة فلا ترى عاشور جنبها يَغُطُّ في نومه. قلقت عيناها المثقلتان بالنوم وانقبض صدرها. استعاذت بالله من همسات الغيب في القلب العاشق، وأسفر عالمها العذب عن خلاء. أين الشابُّ العجيبُ البالغُ الستينَ من عمره، القوي النشيط الفاحم الشعر؟ هل غلبه النوم في سهرته الليلية أمام التكية؟
ونادت شمس الدين حتى فتح عينَيه متذمِّرًا. طالعها بوجهه الجميل متسائلًا، فقالت له: أبوك لم يرجع من سهرته!
ولمَّا استوعب قولها أزاح عنه الغطاء ونهض بجسمه الرشيق المائل إلى الطول، وبقلقٍ غمغم: ماذا حدث؟
فقالت تتحدَّى هواجسها: لعل النوم قد غلبه.
تجلَّت رشاقته أكثرَ وهو يرتدي جِلبابه، ووسامته المكلَّلة ببراءة الشباب الأول. ومضى وهو يقول: كيف يطيب السهر في فجر الخريف؟!
٣
في الجو نسيم رطيب، وذيول شابورة تتلاشى في المجهول، وفي الجنبات تتدفَّق حياة البشر. عمَّا قليلٍ سيلقى أباه. سيجده مستلقيًا بلا غطاء. سيعاتبه بما له عليه من دالَّة.
واخترق القبو إلى الساحة. سبقته عيناه وهو يتأهَّب لملحمة اللقاء، ولكنه وجد المكان خاليًا. جال ببصره فيما حوله في صمت وقهر. الساحة والتكية والسور العتيق ولا أثر لإنسان. في هذا الموضع يجلس العملاق عادة، فأين ذهب؟!
وألقى على التكية نظرةً حانقة. هي شاهد لا يدلي بشهادته. وتساءل مرةً أخرى: «أين ذهب؟!»
٤
لعله يجد الجواب عند غسَّان أو دهشان أقوى مساعدَين للرجل، ولكنهما تلقَّيَا السؤال بعجب، وقالا إنه يذهب إلى الساحة قُبيل منتصف الليل فيمكث ساعةً أو أكثر، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر. وسأل شمس الدين: ألم يكُن هناك ميعاد به ارتبط؟
فنفيا علمهما بأي شيء عدا ما ذُكر.
وبعد تردُّد قصد شيخ الحارة محمود قطائف فتلقَّى الرجل الخبر بدهشة، وراح يفكِّر ويفكِّر، ثم قال: لا تقلق لغياب الأسد، عذره معه، وسيرجع قبل الضحى.
٥
وخذلت فُلةَ إرادتُها فهتفت: أفزع إليك يا ربي من قلبي ومخاوفه!
وجلس شمس الدين بين رجال أبيه في القهوة يتناقشون وينتظرون، ينظرون نحو القبو تارة، ونحو مدخل الميدان تارةً أخرى. وانتشرت سحائب الخريف مفضَّضةً بالنور المستتر. وانتصف النهار ولم يَظهر لعاشور أثر. عند ذلك تفرَّق الرجال في شتى الأنحاء وراء شهادة أو خبر. وعرفت الحارةُ الواقعة فاشتعلت بها، وشُغِلت بها عن الرزق والكدح.
٦
ونما الخبر إلى الأعيان والتجار فدهمهم الذهول، وتفشَّى في جوِّهم سحرٌ كالمعجزة. أجل؛ فعندما تستحكم القبضة ولا يوجد منفذ واحد للأمل، تؤمن القلوب القانطة بالمعجزة. ولولا الإشفاق من خيبةٍ عاجلةٍ لأسدلوا الستائر وجهروا بالشماتة والفرح. ماذا يُنقذهم من سطوة الجبار وشبابه المتجدِّد وإرادته الحديدية إلا معجزة؟! فَلْيدم الغياب، ولتُطوَ الأسطورة، ولْينقلب الوضع إلى الأبد!
وسعى درويش الخمار إلى محمود قطائف وسأله: أين ذهب الرجل؟
فقال شيخ الحارة بنبرة ساخرة: وهل أنا على الغيب مطلع؟
فحرَّك درويش رأسه الأبيض وتمتم: ثمة احتمالٌ لا يجوز أن يغيب وهو ضعفه المباغت أمام النساء!
فابتسم محمود قطائف بازدراءٍ ولم يعلِّق، فواصل الآخر: كنت أحسب له للبقاء مائة سنة!
– فغمغم شيخ الحارة: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
٧
وهبط المساء، وساقت أمواج الليل برودةً غيرَ متوقعة، ولم يظهر لعاشور الناجي أثر. وغشيت الكآبة القهوة والبوظة والغرز. ولم ينم من أسرته أو رجاله أحد. وتأوَّهت فُلة قائلة: ما أكثرَ الرجالَ وما أقلَّ الحيلة.
فتساءل شمس الدين بحزن: هل أغفلنا بابًا أو تهاونَّا في عمل؟
فتركَت دموعها تسيل وقالت: قلبي رفض من بادئ الأمر أن يُخدَع بالأمل.
فصاح بحَنَق: إني عدو القلوب الضعيفة المتشائمة! ما كان أبي لعبةً ليُختطف، ولا كان غِرَّا ليمضي إلى شَرَك بلا حذر، وما يحزنني إلا انسداد السبل.
٨
وفي ضحى اليوم التالي اجتمع رجال عاشور في القهوة، بينهم شمس الدين وفُلة، وانضمَّ إليهم محمود قطائف شيخ الحارة وحسين قفة إمام الزاوية. لفَّتهم الحيرة جميعًا وغصَّت قلوبهم بالنُّذُر. وساورتهم مخاوف ولكن لم يجرؤ أحد على التصريح بما يساوره. وقال دهشان: معلمنا لم يخرج عن عاداته مرةً طوال عشرين سنة.
فقال الشيخ حسين قفة: في الأمر سر!
فقال غسان: لا يُخفي عنا سرًّا.
وقالت فُلة: ولا عني من باب أولى.
فتساءل حسين قفة: ألَا يكون قد انضمَّ إلى التكية؟
فارتفع أكثر من صوت يقول: خيال لا يقبله عقل!
فقال محمود قطائف: قلبي يحدِّثني بأنه سيظهر فجأةً كما اختفى فجأة.
فقالت فُلة بنبرة باكية: لا يوجد أمل!
وعند ذاك صاح دهشان: لعله الغدر!
وخفقت القلوب وتطاير من الأعين الشرر، فعاد دهشان يقول: حتى الأسد يجري عليه الغدر.
فصاح محمود قطائف: الصبر الصبر يا رجال، لا يوجد بحارتنا كارهٌ واحدٌ لخير من حملت الأرض.
– يوجد كارهون وغادرون!
– احذروا الفتنة واصبروا، والله شهيد.
٩
وكان درويش يقدِّم قرعةً لسكير فقبض الرجل على ذراعه وهمس في أذنه: سمعت الرجال وهم يقولون إنه لا يغدر بعاشور إلا درويش!
ففزع الخمَّار وهُرِع إلى دكان محمود قطائف وأفضى إليه بما سمع وهو يرتعد من الذعر، حتى ضاق به شيخ الحارة وقال له بحِدة: لا تفعل كالنساء.
– كيف أُتَّهم وأنا لا أغادر البوظة ليلًا ونهارًا؟!
فتفكَّر شيخ الحارة مليًّا وقال له: اهرب، لم يَعُد أمامك إلا الهرب.
وقد اختفى درويش زيدان فجأة، فلم يَعُد يُعرَف إن كان هرب أم قُتل، ولم يسأل أحد عنه، وتجاهله محمود قطائف تمامًا، وما لبث أن حلَّ محله عليوة أبو راسين بياع المنزول وكأن درويش لم يكن.
١٠
ومضت الأيام لا تحمل بصيصًا من أمل. تسير بطيئةً ثقيلةً مسربلةً بالكآبة. ويئس كل قلب من أن يرى من جديد عاشور الناجي وهو يمضي بهيكله العملاق، يكبح المتجبِّرين ويرعى الكادحين وينشر التقوى والأمان.
وترتدي فُلة الحِداد، ويبكي شمس بلا حساب، ويغرق الأعوان في الحزن والتفكير. وقد اعتقد قوم أن درويش غدر بالرجل في مجلس السماع، ثم سحبه إلى القرافة فدفنه في قبر مجهول. وأصرَّ الناس رغم اليأس على أنه سيرجع ذات يوم هازئًا من كافة الظنون. ومن شدة الحزن تصوَّر آخرون أن اختفاءه كرامة من كرامات الأولياء.
ومضى سحر العادة القاسي يفعل فعلَه بالخطب، يعاشره ويألفه ويهوِّنه، ويدفعه في تيار الأحداث اللانهائية فيذوب في عبابها.
لقد اختفى عاشور الناجي.
ولكن الزمن لن يتوقَّف وما ينبغي له.
١١
وكان لا بد من اختيار فتوة جديد للحارة قبل أن ينفرط نظامها أو تدوسها أقدام الحارات المتربِّصة. وانحصر الاختيار بين غسان ودهشان باعتبارهما أقوى الرجال وألصقهما بالناجي، ولم يُلتفت إلى شمس الدين لحداثة سنه ونعومة مظهره. وانحاز رجال لكل رجل، فتقرَّر اتِّباع ما يُتَّبع عادةً في هذه الأحوال؛ وهو أن يتصارع المتنافسان في صحراء المماليك، ثم يُتوَّج الفائز فتوةً للحارة.
تلقَّت فُلة تلك الأنباء، ورأت شمس الدين وهو يرتدي جلبابه استعدادًا لشهود المعركة ضمن الأتباع، ففاضت دموعها وراحت تندب حظها. وضاق الشاب بذلك فقال: لا يمكن أن تعيش الحارة بلا فتوة.
فتساءلت بحِدة: وهل تخلف القطط الأسود؟
– لا حيلة أمام قضاء الله.
– سوف ترتد الفتونة إلى عهد البلطجة والطغيان.
فقال الشاب بحرارة: ليس من اليسير النكوص عن تراث الناجي.
فتنهَّدت وقالت وهي تخاطب نفسها: أمس كنت رغم الفقر السيدة، ومن الغد سأكون الأرملة الحزينة المهجورة، أبتهل للمجهول بلا أمل، أحلم بالفراديس المفقودة، أنزوي عند الأفراح، أخاف الظلام، أحذر الرجال، أتجنَّب النساء، ولا صديق إلا الإهمال والنسيان.
فقال بعتاب: ولكنني لم أمُت بعدُ يا أمي!
– فليمدَّ الله في عمرك حتى تلعن الحياة، ولكنه تركك يافعًا، سواق كارو، لا مال ولا جاه، ولا عملقة تضمن لك الفتونة.
فتمتم في كآبة: آن لي أن أذهب، أستودعك الحي الذي لا يموت.
وتأبَّط عصا أبيه العجراء وذهب.
١٢
نشأ شمس الدين في مسكن متقشِّف؛ فلم يعرف من الحياة إلا البساطة والكدح. لم تحتفظ ذاكرته بصورة واحدة من دار البنان السامقة. وكان عاشور يتملَّى وجهه الوسيم، المقتبس من وجه أمه، ويقول باسمًا: لن يصلح هذا الولد للفتونة.
وأرسله إلى الكُتَّاب، وسكب في قلبه أعذب ألحان الحياة، ولم يهمِل جانب القوة فعلَّمه ركوب الخيل واللعب بالعصا والمصارعة، وإن لم يفكِّر أبدًا في إعداده للفتونة. ولمَّا درج شمس الدين في الوعي بنفسه وبما حوله، أدرك سطوة أبيه غير المحدودة، وسرعان ما ارتطم بالتناقض الحاد بين «عظَمَته» وبين حياته الفقيرة الكادحة. وقال له مرةً عند قدوم عيد: أريد يا أبي أن أرتدي عباءةً ولاثة.
فقال عاشور بحزم: ألَا ترى أن أباك لا يرتدي إلا الجلباب؟
وكانت فُلة تضيق بالحياة مثل ابنها، وكانت تقول لعاشور على مسمع من شمس الدين: لو أخذت من الإتاوات ما يضمن لك حياةً كريمةً ما لامك أحد.
فيقول لها عاشور: بل عليك أن تربي الدجاج لتهَبي حياتَنا شيئًا من اليسر المشروع. ثم يقول مخاطبًا شمس الدين: لا قيمة لبريقٍ في هذه الحياة بالقياس إلى طهارة الضمير وحب الناس وسماع الأناشيد!
ودرَّبه على الكارو، وتبادلا العمل عليها، ولمَّا شارف الستين تركها له أكثر الوقت. وكان شمس الدين يعجَب بأبيه ويجلُّه، ويحِن في الوقت ذاته إلى الحياة السائغة، ويؤيِّد أحيانًا أماني أمه الجميلة، وبدافعٍ من هذه الرغائب الكامنة قَبِل بسلامة نية «عيديةً» قدَّمها له صاحب الوكالة، فبادر إلى شراء عباءة ولاثة ومركوب، وخطر مزهوًّا بها صباح يوم العيد. وما إن رآه عاشور حتى أخذه من تلابيبه إلى البدروم، ثم لطمه لطمةً دار بها رأسه، وصاح به: يتسلَّلون إليَّ من ثغرة ضعفك بعد أن أعيتهم إرادتي الصلبة!
وألزمه بِرد الملابس إلى البائع، ثم بِرد العيدية إلى صاحب الوكالة. وأدرك شمس الدين أنه لا قِبَل له بغضب أبيه، وخجل من نفسه، وخذلته أمه فلم تجرؤ على الدفاع عنه أو الوقوف إلى جانبه.
– ولكن الحب — لا العنف — كان ما يربط شمس الدين بأبيه، فكان تلميذه ونجيَّه وصديقه، وتشبَّع بكلماته وبمثاله وبتقواه ونزوعه إلى الألحان والنجوم، ومضى بالكارو فخورًا، وقاهرًا لنزعات الضعف التي تومض بين الحين والحين في أعماقه.
ورغم الفقر كان الحب والإجلال يحفَّان بهم حيثما ذهبوا، فهل يستمر الحال كما كان؟
ها هي أمه ترنو إلى الغد بأعين طافحة بالهواجس!
١٣
في صحراء المماليك الوحشية المترامية لاح الرجال كحَفنة من رمال. أرض الهاربين وقُطَّاع الطرق، مأوى الجن والزواحف، مقبرة العظام المطمورة. غسان يتقدَّم هلالًا من رجال، يقابله غير بعيد دهشان ورجاله. الأعين تترامق تحت أشعة شمس محرقة، وتتلقَّى من لظى الرمال جحيمًا. الخلاء المحيط يرنو بعينٍ باردةٍ ساخرةٍ قاسيةٍ منذرًا المنهزمَ بالضياع الأبدي.
أقبل شمس الدين هادئًا، اختار موقفه في مركز بين الجماعتَين، معلنًا حياده، ومعلنًا في الوقت ذاته استعداده للانضواء تحت راية المنتصر. ورفع يده تحيةً وقال بصوته الجَهْوري الخشن الذي لم يرِث عن عاشور سواه: سلام الله على رجال حارتنا.
فتمتمت شفاه جافة من التحفُّز والإصرار: سلام الله على ابن العظيم الطيب.
وتذكَّر شمس الدين أن أحدًا من الفريقَين لم يسعَ إلى ضمِّه إليه ولا إلى نيل بركة أمه. أجل ففي ميدان الصراع الوحشي لا يُكترَث بالنساء ولا باليافعين.
وانضمَّ شعلان الأعور إلى موقف شمس الدين وهو فتوة متقاعد بالكبر، ويقوم من الجماعة مقام الناصح الأمين. قال شعلان يمهِّد للمصارعة: سيبدأ الصراع بين غسان ودهشان، فلْيتذكَّر كل واحدٍ من الجماعة واجبه.
وحرَّك يده محذِّرًا وواصل: يلزم كلٌّ مكانه، يرضى بما يقع، وخَرْق العهد معناه الضياع للجميع.
لم ينبِس أحد. ظلَّ الخلاء يرنو بنظرته الباردة القاسية الساخرة، ونعق غرابٌ في القبة الصافية، فعاد شعلان الأعور يقول: للفائز الحق، وعلى الجميع الطاعة وأولهم الخاسر.
استسلمت الجباه المبلَّلة بالعرق للمقادِر ولم تعترض، فخاطب شعلان غسان متسائلًا: تتعهَّد بالطاعة إذا الآخر انتصر؟
فقال غسان: أتعهَّد والله شهيد.
– وأنت يا دهشان؟
– أتعهَّد والله شهيد.
فقال شعلان: اللمسة كافية لتقرير النصر، والحذر الحذر من عنفٍ لا يُورِّث إلا الضغينة.
واتسعت الدائرة فاقتصرت الحلقة على غسان ودهشان. جسمان متينان يلعبان بالنبُّوت لعب الحواة ويتحفَّزان. وثب غسان إلى الأمام فانقضَّ عليه دهشان. الْتحم النبُّوتان وتحاورا برشاقةٍ ومكرٍ ودهاء. يجهد كلٌّ للنفاذ إلى ملمس، فيقابَل بالصدِّ والردِّ والإفلات، ويستحرُّ الهجوم والحذر والإصرار، وتُبارك الشمس النضال بجحيمها المستعر.
وبحركة خاطفة مباغتة يعمى الحذر فيلمس نبُّوت غسان ترقوة دهشان.
وتهتف جماعته بحماسٍ متقد: غسان! غسان! اسم الله عليه!
وتراخى دهشان وهو يلهث ويتجرَّع الأسى. ومدَّ له غسان يده وهو يقول: نعم الأخُ أنت!
فشدَّ عليها دهشان وهو يتمتم: ونعم الفتوة أنت!
وردَّدت الأفواه بنبرة منغومة: اسم الله عليه! اسم الله عليه!
ودار غسان حول نفسه في رشاقة وسعادة وهو يتساءل: هل من معترض؟!
استبقت الحناجر إلى المبايعة. ولمَّا هدأت العاصفة ارتفع صوت يقول: إني أعترض يا غسان.
١٤
انجذبت الأنظار نحو شمس الدين في ذهول. كان يقف بقامته الرشيقة المائلة للطول، رافعًا وجهه الوسيم، وبشرته بأشعة الشمس تحترق. تمتم غسان: أنت يا شمس الدين؟!
فأجابه بثبات: نعم يا غسان!
– أتطمع حقًّا في الفتونة؟
– هي واجبي ومصيري.
فقال شعلان الأعور بإشفاق: أبوك نفسه لم يُعِدك لها!
– تعلمت أشياء، وعرفت أشياء لا يستثمرها مثل فتوة!
– الخير وحده لا يكفي!
فلعب شمس الدين بنبُّوت أبيه في رشاقة خلَّابة، فصاح غسان: يعز عليَّ أن أُسيء إليك.
– لندع النبُّوت يتكلَّم!
– إنك غلام يا شمس الدين!
فقال بإصرار: إني رجلٌ من صلب رجل.
فرفع غسان وجهه إلى السماء تحت النار المندلعة وصاح: عفوك يا عاشور ومعذرة!
لم يرتح أحدٌ لِما يجري. الْتوَت الشفاه بالامتعاض، وتبدَّت نظرة الخلاء أبرد وأقسى وأسخر ممَّا كانت.
وبدأ شمس الدين المعركة فتلاقى الخصمان، وتفجَّرت معجزة في اللحظة الأولى فتسلَّل نبوت شمس الدين إلى ساق غسان والتصق. وقف غسان ذاهلًا، وخُيِّل إلى كثيرين أنه استهان بخصمه فحدث ما حدث. المعركة لم تبدأ فكيف هكذا تنتهي؟ وتمادى غسان في ذهوله، ولم يهتِف أحد. ومدَّ شمس الدين يده وهو يقول: نعم الأخُ أنت!
فتجاهل غسان يده، وتوثَّب بين حاجبَيه الغضب. وصاح شعلان الأعور مشفقًا ومحذِّرًا: غسان امدد يدك!
فهتف غسان: إنها ضربة حظ وقَدَر.
– ولكن شاء الله أن ينتصر.
فهتف غسان بإصرار: النبُّوت حكم فاصل لمتماثلَين في القوة، ولكن شمس الدين عود أخضر ما أيسر أن ينكسر، أم تريدون أن تكونوا لقمةً سائغةً لكل حارة، ولعبةً بيد كل فتوة مقتدر؟!
عند ذاك رمى شمس الدين نبُّوته، ونضا عنه ملابسه إلا ما للعورة يستر، ووقف بقامته الرشيقة المتألِّقة بلعاب الشمس ينتظر.
وابتسم غسان ابتسامة ثقة، وفعل مثل صاحبه وهو يقول: سوف أحميك من شر نفسك.
وتقاربا خطوةً فخطوةً حتى التصقا تمامًا، ولفَّ كل منهما ذراعه حول الآخر. وشدَّ كلٌّ بما فيه من عزم وإصرار وقوة حتى انتفخت منه العضلات ونفرت العروق. انغرزت الأقدام في الرمال، وتعملقت إرادةٌ صلبةٌ تروم اعتصار الخصم وتصفية ماء حياته. وحملقت الأعينُ في ذهولٍ وتوقَّعت لدمٍ أن ينفجر. وتتابعت الثواني منصهرةً في الأتون الملتهب. وانحبست الأنفاسُ فلم تُسمع نَأْمة واحدة. حتى تلاقى حاجبا غسان في عبوسة حاقدة. وبدا متحدِّيًا للمستحيل والقدر، أو أنه يغالب الغرق، ويدافع المجهول ولو بالجنون. ويطلق الحقد الأعمى على اليأس الزاحف، ويتخاذل رغم الإصرار والكبرياء والغضب، ويتخبَّط وتترنَّح ساقاه، ويتهاوى في العجز ويشهق، فلا يرحمه شمس الدين حتى تسقط ذراعاه وتتداعى رِجلاه وينهدم.
ويقف شمس الدين لاهثًا غارقًا في العرق، ويغلب صمت الذهول، حتى يمضي شعلان الأعور إليه بملابسه وهو يقول: نعم الفتى، ونعم الفتوة!
وتنطلق الحناجر هاتفة: اسم الله عليه! اسم الله عليه!
وصاح دهشان: ها قد بُعِث عاشور الناجي!
فقال شعلان الأعور: اسمه الجديد شمس الدين الناجي.
وظلَّ الخلاء محيطًا متراميًا مثابرًا على جلاله وتعاليه.
١٥
وكانت الحارة تنتظر زفة الفتوة الجديد. راهن كثيرون على غسان، كما راهن كثيرون على دهشان، ولكن لم يخطُر ببال أحد الفتى المليح شمس الدين. ولمَّا ترامت الأخبارُ ذُهِل الجميع، وسرعان ما انقلب الذهول فرحةً شاملة. فرح الحرافيشُ ورقصوا وقالوا إن هذا يعني أن عاشور حيٌّ لم يمت.
وتساءل محمود قطائف بامتعاضٍ شديد: هل رجع عصر المعجزات؟!
واستُقبل شمس الدين بالبهجة والأفراح، وحتى فُلة زغردت رغم الحِداد.
واستمع شيخ الحارة إلى القصة كما رواها شعلان الأعور بكآبة دفينة، وراح يتساءل: تُرى هل يمتدُّ عهد التجهُّم والفقر؟!
١٦
وقال شمس الدين لأمه فُلة مزهوًّا: كنت أُعِد نفسي لذلك.
فقالت بابتهاج: حتى أبوك لم يصدِّق.
فقال بجدية: ما أشقَّ أن يكون مثلي خليفةً لأبي.
فقالت بدهاء: لا تنسَ عدوك غسان، ولكن بيدك أن تملك قلوب رجالك!
فتجهَّم وجهه وقال: إني اليوم الأمل فلا خاب الأمل.
فقالت بإغراء: الاعتدال سيد الأخلاق.
فقال بإصرار: إني اليوم الأمل فلا خاب الأمل.
١٧
ومضت الأيام هازجةً بالأفراح، وآمن الناس بأن عاشور الناجي لم يمُت. وكان غسان يسهر في البوظة فيسكر ويغنِّي:
وذات مرة قال له شعلان الأعور: ألم تشبع من هذا الموَّال؟! عليك أن تنقِّي قلبك.
فقال دهشان: إنه يفتحه للشياطين.
فقال غسان بغلظة: إنك لا تغفر لي انتصاري عليك يا دهشان.
– عليك اللعنة، بل عاملتُك بالأصول.
– لولا الحقدُ ما رحَّبتُ بفتونة غلام!
فتساءل دهشان بحَنَق: ألم ينتصر بكل جدارة؟
وعند ذاك تساءل عليوة أبو راسين الخمار: قلبي يحدِّثني بأن فتوتنا الجديد سيكون من زبائني الكرام.
فقهقه غسان وقال: أحلق شاربي لو فعل، ولن نحظى منه إلا بالفقر.
فصاح شعلان الأعور: لن تمرَّ الليلة على خير!
فقال غسان ساخرًا: هذيان سكران يا شعلان. ستمرُّ الليلة مثل كل ليلة، ومثل الليالي السعيدة الغابرة التي شهدت ست الستات وهي تخطر بين السكارى بجمالها الفتَّان!
ورماه دهشان بالقرعة فأصاب صدره وصرخ في وجهه: يا وغد!
ووقف غسان متحديًا، فوثب شعلان نحوه وقال له بحزم: لا حياة لك في هذه الحارة!
فأدرك خطأه رغم سكره، وغادر البوظة وهو يترنَّح.
١٨
ولم يفكِّر أحد في إبلاغ شمس الدين بما قيل عن أمه. قال شعلان لدهشان: لا عِلم للفتى بذلك التاريخ القديم.
فقال دهشان: ولكن من حقِّه علينا أن نبلغه بتمرُّد غسان.
وصمَّم شمس الدين على حسم الأمر بالسرعة الواجبة، فقصد غسانَ في مجلسه بالقهوة. وقف أمامه بوجه يموج بالغضب، وسأله: يا غسان هل يمكن أن تخلص لي كما أخلصتَ لأبي؟
فقال غسان: لقد عاهدتك على ذلك.
– ولكنك كاذب وغير أمين.
– لا تصدِّق الوشاة.
– أصدِّق المخلصين.
ومال نحوه وهو يقول: لن تكون بعد اليوم من رجالي.
ولم يُرَ غسانُ بعد ذاك اللقاءِ في الحارة.
١٩
لم يتغيَّر شيءٌ من عهد عاشور الناجي. خلفَه شمس الدين راعيًا للحرافيش، شاكمًا للسادة والأعيان. وثابَر الفتوة على عمله سواقًا للكارو، كما اشتغل كل رجل من رجاله بحرفته. ولم يتخَلَّ عن شقته الصغيرة مسكنًا، وسدَّ أذنه دون همسات أمه المتوسِّلة. امتلأت أعطافه بالعظمة الحقيقية، وروى ظمأ قلبه بحب الناس وإعجابهم، وسرعان ما صار من رُوَّاد الزاوية وأصدقاء الشيخ حسين قفة. ومن أموال الإتاوات جَدَّد أثاث الزاوية، ورحَّب باقتراح للشيخ حسين قفة فأنشأ كُتَّابًا جديدًا فوق السبيل.
ولم يغفل عن مسئوليته حِيال الحارة والناس أبدًا. شعر بثقل الأمانة وخطورتها شأن المخلصين من الرجال. ولا شك أن فتوات الحارات المجاورة قد استردُّوا أنفاسهم باختفاء العملاق المهيب، وراحوا يتحرَّشون ببعض الباعة المتجوِّلين من أبناء الحارة. فلكي يؤكِّد قوته وينفض عنها شبهات الظنون، ولكي يُثبت أن ملاحته ورشاقته لا يُنْقِصان من فتونته، قرَّر أن يتحدَّى أقوى الفتوات وهو فتوة العطوف. وتحيَّن فرصةَ زفَّةٍ عطوفيةٍ فتعرَّض لها في ميدان القلعة، فدارت بين الفريقَين معركة حامية انتصر فيها انتصارًا حاسمًا اجتاحت أنباؤه الحارات جميعًا، فأيقن كلُّ من داعبه أملُ التحدي أن شمس الدين لا يقِل عن عاشور قوةً وبأسًا.
هكذا حافظت الحارة على نظامها المثالي في الداخل، وعلى سمعتها خارج نطاقِ الميدان.
٢٠
رغم ذلك رجع شمس الدين من معركة العطوف مبلبل الخاطر. الزوبعة الثمِلة بالقوة والنصر تتشرَّب بالأتربة والقاذورات. لقد قال له فتوة العطوف وهو يتوثَّب للالتحام: أقدِم يا ابن الزانية! أقدم يا ابن عاهرة خمارة درويش!
وملأ سبابه الأسماع. هلَّل له رجاله وزمجر الآخرون. أهو محض سبابٍ ممَّا تتفتَّح به المعارك؟ أم هو تاريخ يعلمه الجميع ويجهله هو بحكم حداثة سنه؟
وخلا إلى شعلان الأعور وسأله عمَّا يعنيه الرجل، فقال له شعلان بحِدة: نباحُ كلبٍ جريح!
وقال له أيضًا: إن امرأةً يختارها عاشور الناجي زوجةً له ووعاءً لذريته لا يمكن أن ترتقي إليها شبهة من الشبهات.
واطمأنَّ قلبه، ولكن لفترةٍ قصيرة. لم يستردَّ الصفاء. وهامت في صدره الهواجس مثل السحائب في اليوم المطير. وفي وقت راحته جعل يسترِقُ النظرات إلى فُلة. إنها في الأربعين أو دون ذلك، مليحة ملاحةً فائقة، صغيرةُ الجسم، رشيقةٌ فاتنة. عيناها تنفثان سحرًا خالصًا. تقيةٌ محترمةٌ وذات شخصيةٍ مؤثِّرة. لا يمكن أن يتصوَّر ذلك، والويل لمن تسوِّل له نفسه اقتحامَ محرابِها! كم تعلَّق بها لدرجة الهوس، حتى قال له عاشور الناجي يومًا: الرجل الحق لا يتعلَّق بأمه مثلما تفعل.
واستصحبه معه وهو صغير، فكان يأكل وينام فوق الكارو، ودار في فلك أبيه منتزَعًا من الأحضان الدافئة.
تُرى ماذا شهدت خمارة درويش؟ هل يوجد رجال يعرفون من خفايا أُمِّه ما لا يمكن أن يعرف؟!
وغمغم بغضب: الويل لمن تسوِّل له نفسه اقتحام محرابها!
٢١
وذات يوم رأى وجهًا أرجعه سنواتٍ إلى عهد الطفولة. كان يمضي بالكارو نحو الميدان فاعترضته معركةٌ عجيبةٌ ناشبةٌ بين فتاةٍ وفتًى؛ كانت الفتاة تثب كالنمر فتلطمُ الفتى، تبصق على وجهه، قاذفةً إياه بسيل من الشتائم، وهو يتفادى من هجماتها، يرد الشتائم بأقبحَ منها، والناس من حولهما يتفرُّجون ويتضاحكون.
ولمَّا رأى الناس شمس الدين حيَّوه، وتوقَّفت المعركة، فهرب الفتى، وراحت الفتاة تلتقط مُلاءتها من الأرض وتلتفُّ بها وهي ترامقه في حياء.
أعجِب شمس الدين بحيويتها، ونضارة وجهها، ومرونة جسدها. ورأَته يرنو إليها فقالت معتذرة: قلَّ أدبه يا معلمنا فأدبته.
فتمتم باسِمًا: أحسنتِ، ما اسمُك؟
– عجمية.
ثم بمزيد من الحياء: ألَا تذكرني يا معلم؟
وتذكرها فجأةً فقال بدهشة: بلى، كنا نلعب معًا.
– ولكنكَ لم تتذكَّرني.
– تغيَّرتِ كثيرًا، أنت ابنة دهشان؟
فحنت رأسها وذهبت.
ابنة معاونه دهشان، ولكن لَشَدَّ ما تغيَّرت.
وأشعلت حواسَه فتدفَّق شبابه مثل أشعة الظهيرة.
٢٢
وعند مشارف الغورية رأى عيوشة الدلَّالة وهي تشير إليه فتوقَّف. تبيَّن له أنها بصحبة سيدةٍ أخرى، سيدةٍ ذاتِ بهاءٍ يلفتُ الأنظار بمُلاءتها الكريشة وعروس برقعها الذهبية، وعينَيها المكحولتَين الجميلتَين، وجسمها المدمج الريَّان. وسرعان ما اتخذت المرأتان مجلسهما فوق العربة وعيوشة تقول بنبرتها العجوز: الدرب الأحمر يا معلم.
وثب إلى مقدمة الكارو وهو يتمنَّى لو يخطف من المرأة نظرةً أخرى.
وجعلت عيوشة تقول: ما أجمل أن تسوق الكارو يا فتوتنا وأنت إن شئت أن تعيش حياة الوجهاء ما منعك مانع!
فسعد بقولها ولكنه لم ينبِس. إنه يسعد بدفء الحب، ويمتلئ بأريج العظمة الحقيقية، ويمحق بذلك خطرات الضعف والغواية. وتوقَّع أن تقول الجميلة شيئًا ولكنها لاذت بالصمت حتى غادرت العربة في الدرب الأحمر. هناك ملأ منها عينَيه، وأتبعها ناظرَيه وهي تمضي نحو رواق المشايخ.
ولبثت عيوشة بمحلها فنظر نحوها متسائلًا فتمتمت: القلعة.
مضت العربة وهو صامت. صمت رغم أنه رغب في التكلُّم. وإذا بالعجوز تسأله: ألم ترَ من قبلُ ست قمر؟
فشكر للمرأة فتحها الحديث وأجاب: كلَّا.
– هذا شأن السيدات المصونات!
– من حارتنا؟
– نعم، أرملةٌ غاية في الجمال والغنى.
فتساءل: ولمَ لا تستقل الحنطور؟
– رغبت في عربة فتوتنا!
فالتفت نحوها فقرأ في عينَيها الكليلتَين نظرةً باسمةً ماكرة. اشتعلت حواسه مرةً أخرى. استحضر صورة عجمية فتراقصت الصورتان في وجدانه وثمِل. وقالت عيوشة: أعجبتك ولا شك؟
فسألها بخشونة مصطنعة: عمَّ تسألين يا ولية؟
فقالت ضاحكة: مهنتي بيع الملابس والسعادة للناس.
فانقطع عنها في حذر.
وعند ميدان القلعة غادرت العربة وهي تقول له: للكلام بقية فلا تنسَ عيوشة.
٢٣
وتلاقت به أكثر من مرة فوق الكارو، عيوشة الدلَّالة. الغزو يطرق بابه بعنف، ولكن ضعفه الحقيقي يكمن في قلبه الفَتِي، في شبابه المتوقِّد. قمر تناوشه بأبهتها، وعجمية تناوشه أيضًا بشبابها، ولعله يتجاوز عمره اليافع في إدراك ما يعنيه زواجه من سيدة في مركز قمر، وما يعنيه زواجه من فتاة مثل عجمية. ثمة عاصفة تتوثَّب في الأفق. من المستحسن أن تقصف بوادرها وأن يخوض ضرباتها ليحظى في النهاية بالهدوء والاستقرار.
وفي جلسة المساء عقب العشاء رأى أمه في حال غير عادية. عيناها الجميلتان تبرقان بالمكر، وتنفذان إلى دُوامة هواجسه. وها هي تسأل في عتاب: ماذا يجري وراء ظهري؟
حسن. إنه يرحب بالمكاشفة، ويرغب في هتك أسرار قلبها المتمرِّد.
– عمَّ تسألين؟
فرفعت رأسها في كبرياء مَن يتعالى على الانخداع وتساءلت: أي لعبة تلعبها عيوشة الدلَّالة؟
وقال لنفسه إنه لا سرَّ يُصان في فم عيوشة المثرم. وابتسم مستسلمًا وهو يتمتم: إنها تمارس مهنتها.
فقالت بحدة: قمر في مثل سن أمك وهي عقيم!
فقال رغبةً في الإثارة ليس إلا: ولكنها جميلة وغنية!
– لم يبقَ من عمر جمالها إلا أيام، وإذا كنت ترغب حقًّا في الثراء فماذا يصدُّك عنه؟
فتساءل منكرًا: أترضَين لي خيانة عهد عاشور الناجي؟
– ولكن الإثراء عن طريق امرأة لا يقل عن ذلك عارًا!
فقال لا عن إيمانٍ ولكن تماديًا في إثارتها: لا أظن ذلك.
– حقًّا؟! إذن دعني أختَر لك عروسًا مناسِبةً من بنات الوجهاء!
– هو أيضًا إثراء عن طريق امرأة!
– ولكنه طبيعي لا شذوذ فيه، وأُصارحك بأن هذا ما يتمنَّاه قلبي! فرنا إليها بقلق وقال: إنك لا تسلِّمين بحياتنا المجيدة إلا مضطرة، أصدَّقت حقًّا أني أستهين بحب الناس وبالعظمة الحقيقية؟
– أكنت تمكرُ بأمِّك؟
– كنت أداعبها!
فقالت باستياء: لستُ أنانيةً كما تتصوَّر. أمس فقط رفضتُ يدَ سيد وجهاء الحارة!
فقطَّب منزعجًا وقد تخضَّب وجهه بالدم، فقالت: وعيوشة كانت الواسطة أيضًا!
– عليها اللعنة!
– قلت لها إن أرملة عاشور الناجي لا تقبل أن يحل محلَّهُ رجلٌ آخر.
فقال بجفاء: أقل ما يمكن أن يقال.
فقالت بتحدٍّ: قلته إكرامًا لأبيك لا خوفًا منك.
– ومن الوغد؟
– ليس وغدًا، وما طلبه مشروع.
– من هو؟
– عنتر الخشاب صاحب الوكالة!
فقال بازدراء: إنه متزوِّج ويماثلني في السن!
فهزَّت منكبَيها استهانةً وقالت: هذا ما كان! أمَّا حالنا فنحن نُجري العدل بين الناس ونظلم أنفسنا!
فقال بحزم: لقد قال أبي كلمته وما عليَّ إلا الطاعة.
وقال لنفسه إن قلبها لطَموح، إنها متمرِّدة، تُرى ما حقيقة تاريخك أيتها السيدة التي أُحبها أكثر من أيِّ شيءٍ في الوجود؟
٢٤
اعترف شمس الدين بأن أمه قويةٌ وعنيدة. اعترف أيضًا بأنه يحبها ويحترمها، لا باعتبارها أُمَّه فحسب، ولكن بصفتها أرملةَ عاشور الناجي أيضًا. أجل إن عاشور الناجي أبوه، ولكنه يمثِّل في الوقت ذاته حقيقةً أكبر من الأبوة. وهو يهيم بهذه الحقيقة أكثرَ من الأبوة نفسها، هي محور حياته. ومعقد أملِه، وسرُّ افتتانه بالعظمة الحقيقية.
لذا قرَّر أن يصيب هدفه دون مشاورة عقيمة.
مضى بصديقه دهشان إلى الساحة أمام التكية في أول الليل. كانت ليلةً من ليالي الصيف الرائقة، والحناجر تشدو بألحانها، والنجوم فوقها تتوامض في سلام.
وقال شمس الدين لدهشان: في هذا المكان الطيب كان عاشور يخلو إلى نفسه ويواصل أسمى أفكار الحياة.
فدعا دهشان لمعلمه القديم بالرحمة في السموات، فقال شمس الدين: وقد اخترته لتحل بركته بما سأطلبه منك.
فتمتم دهشان: إني رهن أمرك ولتحل به البركة.
فقال شمس الدين بهدوء: أريد ابنتك عجمية على سنة الله ورسوله!
وأُخِذ دهشان بما لم يتوقَّع فانعقد لسانه، فسأله شمس الدين بلطف: ما قولك يا دهشان؟
– يا له من شرف لم أحلم به يا معلمي!
فمدَّ له يده قائلًا: إذن فلنقرأ الفاتحة.
٢٥
ولدى رجوعه إلى بيته من الساحة مارس شعورًا أليمًا، شعور التحدي لسطوة أمه، السطوة القوية الناعمة. قال وهو يجالسها في هدوء غامض: أمي، قرأت الآن فاتحة عجمية بنت دهشان.
وللحظة لم تفهم فُلة شيئًا، ثم رنت إليه في ذهول: ماذا قلت؟!
فقال بإباءٍ داخلي: قرأت فاتحة عجمية بنت دهشان.
– مزاحٌ من جديد؟
– هي الحقيقة يا أمي.
فتساءلت محتجَّة: أمَا كان يجب أن تشاورني قبل أن تفعل؟
– بنت مناسبة وأبوها رجل مخلص.
– أبوها رجل مخلص ولكن أمَا كان يجب أن تشاورني؟
فقال بهدوء: إني أعرف رأيك مقدَّمًا وهو مستحيل.
فتمتمت محزونة: يا للخسارة!
فتساءل باسمًا: ألَا أستحق تهنئةً طيبة؟
وتردَّدت قليلًا، ثم اقتربت منه فلثمت جبينه وتمتمت: فليبارك المولى خطواتِك.
٢٦
واستأذن شيخ الحارة محمود قطائف في مقابلة شمس الدين. وتذكَّرت فُلة خطوةً مثل هذه في العهد القديم، فغمغمت «عليه اللعنة». فاستقبله شمس الدين فأجلسه إلى جانبه على الكنبة الوحيدة في الحجرة. ورغم تجاوزه الستين بدا متمتِّعًا بالصحة والحيوية، وأقدر على الصمود لضآلة جسمه وخفته. وقدَّمت فُلة القهوة وقد لفَّت رأسها بخمار أسود، وجاملته قائلة: كيف حالك يا معلم محمود؟
فدعا لها الرجل بالصحة والبركة وقال: ليتك تشرِّفين مجلسنا بحضورك لننتفع برأيك!
فتبادلت فُلة نظرةً مع شمس الدين، ثم جلست على حافة الفراش؟ وتوثَّب شمس الدين للاستماع وهو لا يتوقَّع خيرًا. كان يَعُد محمود قطائف بين كارهيه المكظومين، مثل الأعيان، ومن فقدوا بفتونته الجاه والسيطرة. وقال شيخ الحارة: الحلم سيد الأخلاق، والكمال من شيم القادرين.
فهزَّ شمس الدين رأسه دون أن ينبِس، فواصل الرجل: بكل أمانة يا معلم شمس الدين إني مُفوَّضٌ من الأعيان للحديث معك.
– ماذا يريدون؟
– لهم رغبةٌ شريفةٌ صادقةٌ في الاحتفال بزفافك.
فقال شمس الدين ببساطة: سيجري زفافي في نطاق قدرتي كسواق كارو.
– ولكنك فتوة الحارة أيضًا؟
– لن يغيِّر ذلك من وضعي كما تعلم.
– إنك فتوة الجميع، فتوة الأعيان، كما أنك فتوة الحرافيش، ومن حق كل فريق أن يحتفل بك بطريقته وفي نطاق قدرته.
والتفت شيخ الحارة نحو فُلة وسألها: ما رأيك يا ست أم شمس الدين؟
فأجابت فُلة بدهاء: الكريم يقبل التكريم ولكنَّ الرأيَ رأيُه.
فقال محمود قطائف بارتياح: بالحق دائمًا تنطقين.
وتجهَّم وجه شمس الدين فقال: كيف أقبل تكريم أناس أعلم أنهم يكرهونني؟
– كلا لا أحد يكره العدل، ولكنهم يرغبون في تصفية الجو.
– إنه لن يصفو بالألاعيب، وإني أخمِّن أن عندك الكثير فهاتِ ما عندك. فتحرَّج محمود قطائف مليًّا، ثم قال: إنهم يقولون إن جميع الناس يتمتَّعون بالعدل والكرامة عدا الأعيان وأصحاب النشاط الحقيقي، فهل هذا من العدل؟!
ها هي جيوش الظلام تتحرَّك. تريد أن تطمس قبساتِ النور في زوايا الحارة وأزقَّتها. يتوهَّمون أن شمس الدين صبيٌّ يافعٌ تخلب لُبَّه الزينة كما تخلب لُبَّ أمِّه الجميلة. فارفع عصا عاشور العجراء واهْوِ بها على نبضات الفتنة والغرور والإغراء.
وتساءل بخشونة: ألَا يعيشون في أمان وراحة بال؟
– حلمك يا معلم، لمَ لا تؤخذُ الإتاواتُ إلا منهم؟
– هم وحدهم القادرون.
– ولكن الناس تفسِّر ذلك على هواهم ويستهينون بهم!
فقال بغضب: إنهم يأبَون إلا الرفعة لأنفسهم والدونية للآخرين.
فصمت محمود قطائف مليًّا، ثم قال: من حقهم أن يطالبوا باحترام يكافئ أعمالهم.
– ماذا تعني؟
– ماذا كانت تكون حارتنا لولاهم؟ دورهم زينة، أسماؤهم نجوم في الحي، من حوانيتهم يتدفَّق الغذاء والكساء لحارتنا، ومن أموالهم شيِّدت الزاويةُ والحوضُ والسبيلُ والكُتَّابُ الجديد، ألَا يكفي ذلك كله؟!
فاحتدَّ شمس الدين غاضبًا وقال: لولا أبي ما انتفع بأموالهم أحد، انظر إلى نُظَرائهم في الحارات الأخرى ماذا يفعلون؟!
فلاذ شيخ الحارة بالصمت مرةً أخرى، بدا متردِّدًا، فقالت فُلة: تكلَّم، ما على الرسول إلا البلاغ.
فتشجَّع محمود قطائف قائلًا: إنهم يرَون أنهم مظلومون، كما يرَون أنك ورجالك مظلومون أيضًا. يقولون إن منزلة الفتوة الحقيقية بين الأعيان، وإن الأعيان فضَّلهم الله درجاتٍ على الناس، ولن ينتقص ذلك من حق الفقير في العدل!
فصاح شمس الدين: وضح الأمر يا شيخ الحارة، إنهم يُغرونني بنبذ العهد والارتماء في أحضان البلطجة.
– معاذ الله!
– هي الحقيقة وإنك لتؤمن بما أقول.
– معاذ الله يا معلم.
– إليك رأيي النهائي …
فقاطعه واقفًا وهو يقول بتوسُّل: بل فكِّر في الأمر قليلًا. لا أطالبك إلا بتأجيل الحكم حتى تفكِّر. ومرق من الحجرة كالهارب.
٢٧
اختفى محمود قطائف تاركًا خلفه رائحةَ تبغٍ وعرق، وترك صمتًا تتلاقى فيه النظرات وتتباعد. وثمة تناحر بين الفتى وأمِّه، بين الفتى وغرائزه، وزينة الدنيا ذات رائحةٍ نفَّاذةٍ ينجذب إليها لحلِّ الأهواء المكبوتة. في هذه الحجرة الحقيرة تضطرم أحلام باللآلئ والنعيم والضجعة الطيبة. همسات النفس يحمرُّ لها الوجه خجلًا؛ أمه الجميلة المتمرِّدة ذات الالتفاتة الساحرة، جمالها مجهول النسب يتجسَّد ضعفه البغيض المستتر.
وقال لها متحديًا: الفتوة كما تعلَّمت هو حامي الحارة وراعيها وكابحُ قوى الشرِّ فيها.
فقالت ساخرة: وهو لا يتميَّز عن أيِّ متسولٍ فيها!
فقال بحرارة: أمي، كوني معي لا عليَّ!
– إني معك دومًا والله شهيد.
فهتف منقضًّا على أمه ونفسه معًا: أريد أن أكون جديرًا باسم الناجي وعهده.
فقالت أمه بظفر: عاشور لم يتردَّد عن وضع يده على دار البنان الخالية!
فقال غاضبًا: العبرة بالخاتمة!
– بل أعطانا في كل حالٍ مثلًا يحتذى.
فقال بازدراء: سيجيء زمن نُلصِق فيه بعاشور العظيم كلَّ خلجة ضعفٍ تضرب في نفوسنا.
٢٨
مشى شمس الدين بحذاء الحمار مُطمئنًّا ومثخنًا بالجراح. طالما رأى الشعاع يسيل مبتهجًا عقب الغيوم الممطرة. لا خجل من الضعف إذا المرء عليه انتصر. وما معنى القوة إذا لم تستوِ فوق خلجات الخَوَر. فانهَل من رحيق الحياة السامي النابع من علو الهمم.
وأمام دكان محمود قطائف شدَّ اللجام فتوقَّفت العربة.
وهُرِع إليه الرجل متلهِّفًا، فتخطَّاه بنظرةٍ باردةٍ وقال بحزم: عاشور الناجي لم يمُت!
٢٩
وكان شمس الدين ماضيًا نحو مسكنه ليلًا عندما اعترضه شبح امرأة. همست: مساء الخير.
– عيوشة! ماذا جاء بك؟
– هلَّا تبعتني إلى حجرتي؟
خفق قلبه. خاف الدعوة. ثار فضوله. اشتعل شبابه. مضى وراءها صاغرًا.
٣٠
همست العجوز وهي تتقدَّمه في الدهليز: أمرك عجيب!
– ماذا؟
– ألَا يحق لنا أن نسأل لمَ يُرفض البدر في تمامه؟
فتحت باب الحجرة فارتمى ضوء المصباح على الأرض. تنحَّت من أمامه وهي تدفعه بيدها. رأى ست قمر جالسةً على حافة الفراش، وهو الموضع الوحيد الصالح للجلوس، مبرقعةً ملفوفةً في مُلاءتها، غاضَّةً البصرَ من الحياء.
وقف يرنو إليها في غاية من الانفعال.
وتساءلت عيوشة من موقعها فوق العتبة: هل بلغك عنا ما يسوء؟
فأجاب بارتباك: أبدًا.
– هل في جمالنا نقص أو عيب؟
فقال والحذر يسري في حواسه: معاذ الله.
– هل هوَّن من شأننا البوحُ بسرنا؟
فغمغم بأصوات مغضوضة وجفَّ ريقه.
وأغلقت العجوز الباب فدفعت به إلى الحافة.
وتمتمت قمر بصوت لا يكاد يُسمع: إني خجلى، لا أدري ماذا صنعت بنفسي.
فقال ببلاهة: كل خير.
– لا تسئ بي الظن.
وتهاوى تحت دفعة طوفانٍ فالتهمت الغريزة الكون كله، وأذعن لمشيئة القوة الملكية المزهوَّة بالاستهتار والخُيَلاء والعمى.
وهمست قمر وهي تقاوم مقاومةً لا معنى لها: لا تسئ بي الظن.
٣١
وجد شمس الدين نفسه في الدهليز مرةً أخرى. عقب إغلاق الباب وراءه. سبح الظلام في المكان وتسرَّب إلى حنايا نفسه. أخلفت النار رمادًا خانقًا وزفرت الدنيا فتورًا وأسًى.
وعند نهاية الدهليز رأى شبح عيوشة على ضوء النجوم الباهت. همست له وهو يمضي: الأمل في شهامة الرجال لا يخيب.
فتجهَّم حانقًا ومضى مثقلًا بالأسى.
٣٢
لقد أخطأ ولكن خطأ الآخرين أفدح. وهو مبلبل البال ولكنها امرأةٌ داهية. لن يقع في الشَّرَك كأبله. لن يقامر بمعدِنه النفيس، ولو تحمَّل ألمًا وكدرًا. إن قوى الظلام تتآمر عليه، كما تتآمر عليه أمه ونزعات ضعفه، ولكنه جدير بخوض المعارك.
٣٣
وزُفَّت عجمية دهشان إلى شمس الدين الناجي.
وتصدَّى له شعلان الأعور وهو يقول: هذه ليلة يطيب فيها الخروج على الأصول.
ومضى به إلى غرزة خليل سكر، ومن الغرزة مضى به إلى بوظة عليوة أبو راسين.
وسارت الزفة التقليدية تجوب أطراف الحي يتقدَّمها الطبل والزمر، وتحدِّق بها النبابيت. لم يعترضها معترض، وبها رسخت مهابة الفتوة الأكبر.
ورأى شمس الدين أنه يطير بلا توقُّف، وعند كل محطة تهزه نشوة سرورٍ وإلهام. وباركه عاشور الناجي وهو يمتطي مُهرًا أخضر. وهزجت له الملائكة فوق سطح السحاب. وانفتح باب التكية وتدفَّق منه اللحن الملكي وثمار التوت.
أمَّا عجمية فقد حُمِلت على هودجٍ مكلَّلٍ بالستائر المزركشة.
واستقبلتها فُلة بوجهٍ مشرقٍ وقلبٍ كئيب.
٣٤
في الصباحية جلس على أريكته المختارة بمدخل القهوة.
لمح عيوشة تتسلَّل نحوه، ثم تقرفص تحت يمينه. حجبت سحابة ضوء الشمس. همس الصوت المثرم: ألف نهار أبيض!
فشكر، فاستدركت: ولو أني لم أشهد الفرح!
فقال بخمول: دعوتك مباحة في جميع الأفراح.
– على أي حال نتوقَّع أن يشملنا عدل فتوتنا كالآخرين!
– أيُّ ظلمٍ تشكين؟
– إني أدافع عن ضعف سيدة جليلة.
فقال بامتعاض: أنت الغاوية!
– هل تصح الغواية على القوي الأمين؟!
فتمتم متكدِّرًا: عليك اللعنة.
فنهضت لتذهب وهي تقول: لن نملَّ انتظارَ العدل.
٣٥
وتمرُّ الأيام.
تزمجر زوابع أمشير، ثم تعقبها رياح الخماسين. تتراكم السحب، ثم يسفر بَحر الصفاء الأزرق.
من أول شهر ينشب صراع حام بين فُلة وعجمية، يستحرُّ ويستفحل بلا أمل في سلام، وتنجب العروس ولدًا بعد ولد، ويتجاهل شمس الدين الصراع. يشفق من مساندة المظلوم كما يشفق من زجر الظالم. ثبت له أن دخول معركة آمن من الدخول بين امرأتَين متعاديتَين. وتبدَّت فُلة عنيدةً شرسةً لا ترحم، كما تبدَّت عجمية قويةً سليطةَ اللسانِ متوحشةً عند الغضب، رغم مزاياها النافعة في النشاط والتفاني في العمل والإخلاص للزوج والولد.
وسمع ذات يوم فُلة تعيِّر زوجته بجد لص، وما يدري إلا وعجمية تصيح بها «يا ربيبة البوظة». عند ذاك فقد صوابه وصفع زوجه صفعةً كادت تُفقدها الحياة.
ومضى إلى ساحة التكية منفردًا بنفسه في الظلام. لم يسمع الألحان ولا رنا إلى نجم. انصهر في نار باطنه الموقدة. هي الحقيقة بلا مراء. يعرفها الأعداء والأصدقاء. لولا سطوته لتغنَّى بها الكارهون. هي حكايتهم المفضَّلة وراء الأبواب المغلقة. إنه يعانق الجنون. يعانق الجنون ويرفض أن يحتقر أمه. لو لم تكُن بريئةً وفاضلةً ما تزوَّج منها عاشور الناجي. اقترانها بعاشور شهادة أبدية بفضلها وخلقًا جديدًا لها. الويل لمن تسوِّل له نفسه المساس بها. ولكن تبقى بعد ذلك الحقيقة قرحةً دامية. وقد جاء الوباء ليُهلك أي رجل من العابثين بها. ولكن تبقى الحقيقةُ قرحةً دامية. قدح الحياة حتى في أسعد أحوالها لا يخلو من كدر وسم. الويل الويل للحزن والكدر.
ومن شدة أساه حمل السور العتيق المترامي فوق عاتقه.
٣٦
رغم كل شيء اعتبرته أمه متهاونًا في حقها، واستسلمت للغضب فرمته بطعنة مفاجئة. انتهزت فرصة غياب عجمية في الخارج وقالت له بجرأةٍ سافرة: قرَّرت أن أتزوَّج!
فذُهل شمس الدين ورماها بنظرة متأجِّجة وهو يتساءل: ماذا؟!
– قرَّرت أن أتزوَّج!
– إنك تمزحين.
– بل هو الجد.
فصاح: هو الجنون.
– لا جنون فيما الله به أذن.
فصرخ بغضب: لن يقع ذلك وأنا حي!
وصار عنتر الخشاب غريمه فأهانه وهدَّده، حتى اضطُر الرجل إلى لزوم داره، وراح يقول لأصحابه: انظروا ماذا يفعل الفتوة العادل؟!
وقال أيضًا: إنه يتحدَّى شريعةَ اللهِ ذي الجلال.
ويتضاعف غضب شمس الدين، ويتضاعف حزنه، ويشعر بأن الأرض الطيبة تميدُ به وأنه ينحرف عن الجادة.
وتصاب فُلة بحُمَّى. تتدهور صحتها ولا تنفع معها وصفات العطار. وترنو إليه صامتة، وتعجز حتى عن البكاء، وتسلم الروح في جوف الليل.
٣٧
شعر بأنه يُقتلع من جذوره وأن الشمس لم تَعُد تشرق.
وتطايرت شائعات في الحارات المعادية بأن شمس الدين دسَّ السم لأمه ليمنعها من الزواج. وتمادَوا فقالوا إنه اكتشف علاقةً غير مشروعة بينها وبين عنتر الخشاب. وهاج شمس الدين فخاض معارك حاميةً دون أن يتحدَّاه أحد، وتمثَّل في الحي جبَّارًا لا يعرف الرحمة.
وغشيته كآبةٌ دائمةٌ مثل المرض المزمن. وتهوَّلت في خياله انحرافاته، واجترَّ مواقفه المؤسفة مع قمر وفُلة وعنتر الخشاب وعنفه الجنوني في المعارك.
وراح يقول محزونًا: إني أحمل اسم الناجي لا صفاته.
وذات ليلة اضطربت أعصابه تحت ضربات قدره فمضى كالنائم إلى مسكن عيوشة الدلالة. جلس على الفراش دون أن ينظر إليها وهي تُحملق فيه بذهول.
وقال بلا أي انفعال: إليَّ بقمر!
٣٨
وتمضي الأيام.
يكبر الأبناء ويتأهَّلون بشتى الحرف.
يموت شيخ الحارة محمود قطائف فيحل محله سعيد الفقي. يموت شعلان الأعور ويتقاعد دهشان. ويموت شيخ الزاوية حسين قفة فيحل محله الشيخ طلبة القاضي. ويموت عليوه أبو راسين فيشتري الخمارة عثمان الدرزي.
وولدت عجمية آخر العنقود «سليمان». وجاء نموه خارقًا للمألوف حتى ذكَّر أباه بعملقة عاشور؛ لذلك قرَّر أن يؤهِّله للفتونة، وأن يربيه التربية المثالية الخليقة بعهد الناجي وتقاليده.
ورغم ما عانى شمس الدين من انحرافات شخصية فإنه حافظ على نقاء فتونته للحارة. ظلَّ يعمل سواق كارو رغم سطوته وتقدُّمه في العمر. ورعى الحرافيشَ بالرحمة والعدل والحب. وعُرِف بالتقوى والعبادة وصدق الإيمان. وتناسى الناس أخطاءه، وعبدوا طيبَ خِصاله، وأصبح اسم الناجي مرادفًا عندهم للخير والولاية والبركة.
٣٩
تنساب عربةٌ مُكلَّلةٌ بالزهور والحياء. صلصلةُ عجلاتِها المدوية لا يسمعها أحد. الأذن لا تسمع إلا ما ترغب في سماعه. يتوهَّم الفحل أنه اقترن بالدنيا قران دوام، ولكن العربة لا تتوقَّف والدنيا زوج خئون.
٤٠
دأبت عجمية على صبغ شعرها بالحِنَّاء. غزاها المشيب منذ بلغت الخمسين، فلمَّا شارفت الستين لم يبقَ برأسها شعرةٌ سوداءُ واحدة. الحِنَّاء تروي الشعر بماء الغسق، وتُضفِي عليه حرارةً وشموخًا. وهي ما زالت قوية، تفيض بالحيوية، متحرِّكةً لا تهمد، تواصِلُ العمل مع الشمس وأحيانًا مع الشمس والقمر، ولم تزايلها النضارة، واكتسبت مع الأيام بدانةً فاخرة. لم يتسلَّل إلى هيكلها المتين ما يثير هواجس الحذر.
ويداعبها شمس الدين فيقول لها وهو يلحظ عجينة الحِنَّاء: ما جدوى الكذب يا ولية؟!
فتُسائله ساخرة: إذا كان الشيب علامةً صادقة فلمَ يبقَ رأسُك أسود؟
فاحم الشعر، قوي البنيان، مستمسك بالقوة والرشاقة والبهاء، إنها تُضمر نحوه حبًّا وإعجابًا بلا حدود، ومسًّا من الغيرة والخوف؛ لم يتزوَّج بأخرى، لم يرتكب إلا هفوةً عابرةً لم تتكرَّر مع عجوز في سن أُمِّه، ولكن من ذا يضمن المستقبل؟!
٤١
وذات صباح وهو يمشِّط ذؤابته حملقت عجمية في رأسه، وبفرحة لم تفلح في مداراتها هتفت: شعرة بيضاء!
التفت نحوها باهتمامٍ كما يلتفت إلى صوت النذير في المعركة. حدَّجها باستياء فقالت: شعرة بيضاء وحق النعمة!
فنظر إلى المرآة الصغيرة بيده وتمتم: كاذبة.
فاقتربت منه مركِّزةً بصرها على هدفها كالقطة عندما تنقَضُّ على الفأر. استخلصت من الذؤابة شعرةً وقالت: ها هي يا معلم.
تفحَّصها في المرآة. لا مفرَّ ولا مكابرة. كأنما في سوءٍ ضُبِط، كما ضُبِط منذ أعوام وأعوام وهو يتسلَّل إلى بدروم عيوشة. امتلأ قلبه بالاستياء والحَنَق، والخجل. وتجنَّب النظر إليها متمتمًا باستهانة: وماذا يعني هذا؟!
ومضى وهو يقول: يا لكِ من حقود!
٤٢
لم يمرَّ الاكتشاف بسلامٍ كما توقعَت. كان يتفحَّص رأسه كل صباح بتدقيقٍ واهتمام. ندمت على ما بدر منها، وقالت مداهِنة: لا علاقة البتة بين الشيب والعافية.
ولكنه كان يتساءل عمَّا بلغ من عمر: متى بلغه؟ كيف قطع ذلك الشوط الطويل؟ ألم يهزِم غسان أمس؟ وكيف هرم دهشان وبات يمشي مثل طفل؟ وأيُّ قيمةٍ لفتوة بغير قوة دائمة؟
وعادت عجمية تقول: الصحة هي ما الله نسأل.
فسألها بغيظ: لماذا تُكثرين من الحِكم الفارغة؟!
فضحكت لتهوِّن من حِدته وقالت: الصبغة لا تعجب الرجال.
فهتف: لست من الحمقى.
لأول مرة يتساءل عمَّا فات وعمَّا هو آت، ويتذكَّر الأموات، ويتذكَّر الأولياء الذين عمَّروا ألف عام، والخراب الذي يعبث بالأقوياء، وأن الغدر ليس وقْفًا على ضعف النفس والرجال، وأن هدم زفة مُسلَّحة أيسر ألفَ مرَّةٍ من صدِّ ثانية بما لا يقال، وأن البيت يُجدَّد والخرابة تُعمَّر لا الإنسان، وأن الطَّرَب طلاء قصير الأجل فوق موَّال الفراق.
وطوَّق رأسه باللاثة وسألها: أتدرين ما هو الدعاء؟
ولمَّا لم تجِبه قال: أن يسبق الأجل خَوَرَ الرجال!
٤٣
وقالت عجمية عقب ذهابه إن ما يبقى للإنسان هو الإيمان. وجاءها نعي أبيها دهشان فصرخت صرخةً ارتجَّت لها قضبان الشباك.
٤٤
بكت عجمية أباها دهشان طويلًا. جعلت تقول إن الإنسان يصبح بطول العمر عادةً محبوبةً يتعذَّر تصوُّر الدنيا بغيرها. وحزن شمس الدين لوفاة صديقه وصديق أبيه من قبل، ولكن لم يزعجه موتٌ كما أزعجه موت عنتر الخشاب صاحب الوكالة؛ فهذا رجل يماثله في السن، يقف معه في صفٍّ واحد، وتدهورت صحته بغتةً عقب شللٍ مفاجئ. ولكن الموتَ لا يهمُّه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف. إنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع. وتساءل في دهشة: ألم يُكرَّم عاشور الناجي بالاختفاء وهو في عزِّ القوة والكرامة؟!
٤٥
وجرت أمام عينَيه بمجلسه بالقهوة مصارعةٌ وديةٌ بين ابنه سليمان وبين شاب آخر من رجاله يُدعى عتريس. تعادلا في القوة والمهارة دقائق حتى تمكَّن سليمان من هزيمة صديقه.
اشتعل باطن شمس الدين بالغضب، وكبُر عليه أن يصمد عتريس أمام سليمان أكثر من دقيقة. لم يُسَرَّ بانتصاره. لم يتصوَّر أن القوة تُعوِزه وهو الشبيه بعاشور في عملقته ولكن تنقصه ولا شك المهارةُ الكافية.
٤٦
ومضى بسليمان إلى سطح البيت الذي يقيم في شقة منه. خلع ثيابه إلا ما يستر العورة مغموسًا في أشعة الغروب الذهبية، وقال لسليمان: افعل مثلي.
فتساءل الشاب متراجعًا: لمَ يا أبي؟
– إنه أمر.
وتراءيا وجهًا لوجه. شمس الدين بجسمه القوي الرشيق، وسليمان بهيكله العملاق كأنه عاشور.
قال شمس الدين: بكل ما أوتيتَ من قوة صارع.
فقال سليمان: أعفني من العار.
– صارِع وتعلَّم فليست القوة بكلِّ شيء.
وأطبَق عليه بالقوة والإصرار.
تلاحما فانتفخت منهما العضلات وهو يقول: بكل قوتك.
فقال سليمان: إني أمهلت عتريس مودَّةً لا عن عجز.
فزمجر شمس الدين: بكل قوتك يا سليمان!
وشعر شمس الدين بأنه يغالبُ السور العتيق، وأن أحجاره المترعة برحيق التاريخ تصكُّه مثل ضربات الزمن. وحَمِي الصراعُ حتى خال شمس الدين أنه يصدُّ الجبل. منذ دهر لم يخُض معركة. قوته راكدة في ظل سُمعته الشامخة. تناسى أنه يدرِّب فِلذة الكبد. الموت أهون من التراجع. ركبه عناد ذو عينٍ واحدة. شدَّ على عضلاته بالإصرار والكبرياء. رفع البنيان بين ذراعيه، ثم طرحه أرضًا.
وقف يلهث ويتألَّم ويبتسم.
ونهض سليمان وهو يضحك قائلًا: أنت الناجي الأصيل المقتدر.
راح شمس الدين يرتدي ثيابه. تنازعته انفعالات متضاربة. لا حزين هو ولا سعيد. غابت الشمس واستكنَّ الهدوء الشامل بين يدي المساء.
٤٧
جلس شمس الدين على الكنبة فلم يفارِقه سليمان. لم يفارقه؟ هل يشي وجهه بآلامه؟
– لم لا تنصرف بسلامة الله؟
فتمتم سليمان: إني خجلان بما جرى.
– اذهب مصحوبًا بالسلامة.
أراد أن يكرِّر الأمر ولكنه صمت. لم يتحرَّك لسانه ونسي. أقبل الليل قبل موعده.
٤٨
أُغمي على شمس الدين الناجي.
فتح عينَيه فرأى تلالًا حُمرًا فوقها سماء تقطر غبارًا. غازلته ذكرى، وسرعان ما تلاشت. إنه يتنفَّس في كهف تسكنه اللامبالاة. ينحسر الضباب فيتراءى وجه عجمية ووجه سليمان. يدهمه الوعي بغلظةٍ وضحكةٍ صفراء. شمَّ رائحة ماء الورد المتطايرة من عنقه ورأسه.
همست عجمية بوجهٍ شاحب: هرَّبت دمنا!
وسأله سليمان بصوتٍ متهدِّج: بخير يا أبي؟
غمغم: الحمد لله.
ثم بنبرة المعتذر: حتى شمس الدين لا ينجو من المرض.
فقالت عجمية بحيرة: ولكنك لم تشكُ!
– ما أبغض الشكوى إليَّ.
وبقلقٍ تساءل: تسرَّب الخبر إلى الخارج؟
– كلَّا، غبت دقيقتَين.
– عظيم، لا يجوز أن يُعرَف الخبر، حتى الأبناء لا يجوز أن يعرفوا.
ونظر إلى سليمان وقال: ستنسى كل شيء عقب خروجك.
فحنى رأسه امتثالًا، ولكن عجمية سألته: أنت بخير؟
– كلُّ خير.
– عند العطار وصفةٌ ولا شك تفيدنا.
فقال بامتعاض: إنه من أعدائنا.
– الحلاق مفيدٌ أيضًا وهو من محبيك.
– قلت إنه لا يجوز أن يُعرَف الخبر، وأنا بخير.
فتساءل سليمان بجزع: ولكن لمَ حصل ما حصل؟
فقال متظاهرًا بالثقة: إنه الجهد عقب الإفراط في الطعام!
استردَّ الوعي تمامًا فاستردَّ الثقة. نهض وتمشَّى في الحجرة الصغيرة. ألَا يَحسُن به أن يسهر بعض الليل في الساحة كما كان يفعل عاشور؟
ثم ناداه النوم بإغراءٍ لا يُقاوَم.
٤٩
مضى نحوَ الساحة عند الأصيل. كانت الشمس تسحب أذيالها من الأسطح والمئذنة. مرَّ بعتريس وهو يسقي حماره من الحوض، فحيَّاه الشاب تحية الصبيِّ لمعلِّمه المهيب. وعند زاوية السبيل التقى بسعيد الفقي شيخ الحارة، فوقف يتبادل معه حديثًا عابرًا. من مكمنه وراء جناح السبيل ترامى إليه صوت عتريس وهو يخاطب آخرَ قائلًا: معلمنا شمس الدين ليس كعادته.
فقال الآخر بأسف: لعله مريض.
فقال عتريس مشاركًا في الأسف: أو لعله العمر!
اجتاحته شعلة غضب. غادر مكمنه فرجع إلى عتريس وهو يهتف: أيها الجماد!
ورفعه بين يدَيه عاليًا ورمى به في الحوض. تفرَّق الواقفون تاركين الحمير وقد جفلت من رجرجة الماء عقب سقوطِ الجسم.
ولم يعُد يصلح لزيارة الساحة فعدل عنها. وباندفاعةٍ عمياء بادر إلى الخمارة فمرق من بابها مثل عاصفة. سكتت الأصوات المخمورة، وحدَّقت به الأبصارُ في توقُّعٍ ودهشة. جعل ينظر إليهم في تحدٍّ غيرِ مفهومٍ حتى وقفوا مترنِّحين وخاشعين.
دارت برأسه أفكارٌ شيطانية، وسرعان ما هُرِع إليه عثمانُ الدرزي. أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة. استسخف سلوكه. كلا، لن يتحدَّى الهواء، لن يتمادى في ارتكاب الحماقات. ستسنح فرصة فينتهزُها، ستعرض تجربةٌ فيخوضها.
وغادر المكان دون أن ينبِس بكلمةٍ أو يفعلَ شيئًا تاركًا وراءَه ذهولًا شاملًا.
٥٠
الأيام تتلاحق. ثمة مصيرٌ يتخايل عن بُعْد، ولكنه راسخٌ ويقترب. لا شيء يؤخِّر خطوتَه. إنه يشدُّ عضلاتِه ويسلُّ إرادتَه وينتظر. لماذا تتمسَّك بالقوة ولست عابدَها الأوحد. الشيب ينتشر. أيضًا التجاعيد حول الفم وتحت العينَين. البصر يفقد حدَّته وكذلك الذاكرة.
ويزحف التغيُّر على عجمية بسرعةٍ أشدَّ ودون تدرُّج. تفتر شهوتها للطعام ويسوء الهضم، وتُصاب بآلام مجهولة في الظهر والساقَين، وتهزل وتنضب، ثم تستسلم للرقاد. ماذا دهى هذه المرأةَ القوية؟ وتجرِّب الوصفةَ بعد الوصفة، ولكن ثمة شيئًا جوهريًّا فُقِد.
ويُكثر من الجلوس في القهوة تاركًا الكارو لسليمان. يجتمع برجاله، يسمع الأخبار، يزن كل يوم سطوتَه، يمتحن في النفوس أثره وهيبته. ويقول أحد أتباعه ذاتَ يوم: ظهر في العطوف فتوةٌ جديد.
فيقول باستهانة: لعل القدر يعميه عن وزنه الحقيقي لنؤدبه!
وفي المساء يخلو إلى نفسه ساعةً في الساحة يستمع إلى الأناشيد، ثم يسرع إلى البيت ليجلس إلى جانب عجمية، ويلاحظ بلا جهد أنها تمضي من سيئ إلى أسوأ. هل تُقدَّر عليه الوحدة في آخر أيامِه؟ كلُّ وصفةٍ جُرِّبت، ولكنها تمضي من سيئ إلى أسوأ.
٥١
وكان راجعًا إلى البيت ظهرًا عندما ارتطمت قدمه بنحلة يلعب بها طفل. وجاء صوت الطفل وهو يصيح مغيظًا: يا عجوز يا أعمى!
التفت نحوه فرآه في طول عنزةٍ وهو يحدجه بنظرةٍ جريئةٍ متحدية. ودَّ لو يهرسه بقدمه. كظم غيظه ومضى. هذا جيل يجهله. إنه يعيش بفضله ويجهله. ويصرِّح بعفْوية بما يكتمه الراشدون. أليس من الأفضل أن نموت مرَّةً واحدة؟
٥٢
عند الفجر من تلك الليلة استيقظ على حركةٍ مبعثُها عجمية. أشعل المصباح فوجدها جالسةً في الفِراش متألِّقةً بحيويةٍ طارئةٍ بعثت في نفسه الأمل. قال لها: لقد شُفيت يا عجمية!
ولكنها لم تُجِبه. نظرَت إلى الجدار وهمسَت: أبي.
فامتلأ كآبةً وتمتم برجاء: عجمية!
رآها تغيب في المجهول وتتلاشى، فهتف: لا تتركيني وحدي!
أسندها إلى صدره.
رفيقة العمر تُحتضر.
ودهمه البكاء مجرَّدًا، ولكن لم تسِل من عينَيه دمعةٌ واحدة.
٥٣
تناوبت زوجات أبنائه خدمته. لم يخلُ البيت من أصواتٍ وأنفاس، ولكنه كان يناجي نفسه: ما أفظع وحدتي!
لم يحزَن لموت عجمية كما توقَّع. شعر بأنه على بُعْد خطواتٍ قلائل منها. الحزن في مثل سنه لا يعني شيئًا. إنه لا يخشى الموت ولكن الضعفَ يخشى. أصبح طاعنًا في السن، وسيجيء يوم لا تبقى له فيه من الفتونة إلا الاسم والذكرى.
وقال له بكريُّه سماحة وكان قد جاوز الخمسين: من حقك أن تخلُدَ إلى الراحة.
وأكثر من واحد قال: ستجدنا جميعًا في خدمتك.
فتساءل محتدًّا: ماذا تريدون؟
فلم ينبِس أحد فقال: لولا ثقتي بقوتي لاعتزلت!
فقال سماحة: دَع سليمان يحمل العبء.
ولكن سليمان بادره: ما زال أبي هو الأقوى.
فرمق ابنه بامتنانٍ وتساءل: ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟
فقال سماحة: إنه ينقلب نعمةً بين أحضان الراحة.
– ويطمع الآخرون فينا، ما أبغض قفا الحياة!
وساد الصمت، حتى قال بضيق: انصرفوا مشكورين.
٥٤
كان يذوب في السماع تحت ضوء البدر الذي حوَّل بكيميائه بلاط الساحة إلى فضَّة.
وقُبيل منتصف الليل غادر مجلسه. مرَّ بدكان سعيد الفقي شيخ الحارة وهو به، فلمَّا رآه الرجل مضى إليه وهو يتساءل: أمَا علمت يا معلم؟
فلمَّا استوضحه ما يعني قال سعيد الفقي: رجالك يتربَّصون لزفة فتوة العطوف الجديد!
انتفض غاضبًا وهتف: كذب.
– هي الحقيقة وسينتصرون بإذن الله.
– أين؟
– عند بوابة المتولي، يريدون أن يشكموا الفتوة الجديد.
فتساءل شمس الدين محتدًّا: من وراء ظهري؟!
وضرب الأرض بعصاه العجراء واندفع في الظلام.
أتبعه سعيد الفقي عينَيه حتى اختفى، ثم تمتم ساخرًا: أيها العجوز المخرِّف الذي يبول على نفسه!
٥٥
بدأت المعركة قبل وصوله بدقائق. رآه بعض رجاله فصاحوا: شمس الدين الناجي!
الزفَّة تفور بضربات النبابيت. سليمان يفعل الأعاجيب. فتوة العطوف يحمل حَمَلاتٍ صادقةً تزلزل الرجال.
اندفع شمس الدين بلهفةٍ إلى قلب المعركة. وثب برشاقة أمام ابنه سليمان فصار وجهًا لوجه مع فتوة العطوف. تفادى من ضربة شديدة، ثم وجَّه ضرباته السريعة في خفةٍ وحذر. امتلأ بقوةٍ عجيبةٍ لا يدري من أين جاءته، فقاتل كخير ما قاتل من قبل. تجلَّى مندفعًا فيَّاضًا مُلْهَمًا شديد البأس. تضاعف حماس رجاله وتصاعدت جعجعة النبابيت. وثمل بنشوة القتال فخلق المعجزات. أصابته ضربات لم تعجِزه ولم توقفه. ونال من خصمه ضربةً أخرجته من النضال. وسرعان ما تفشَّى الخَوَر في رجال العطوف وأخذوا يتقهقرون.
وما هي إلا ساعةٌ حتى انقلبت الزفَّةُ مأتمًا. تحطَّمت الكلوبات وديست الورود وتحطَّمت المزاميرُ والدفوف، ولاذ الرجال بالهرب.
وقف شمس الدين وهو يلهث والدم يخضب جبهته. التفَّ حوله رجاله. وجاء سليمانُ فلثم يده، ولكنه قال له: لي معك حساب.
فقال سليمان معتذرًا: إنه الوفاء لا الغدر.
وصاح الرجال: صلاة النبي تُرضي النبي.
٥٦
رجع الرجال، على رأسهم شمس الدين الناجي، يخوضون الظلام على ضوء الشموع، وأنشدوا بأصوات أيقظت النيام:
ثم غنَّى ذو صوت حسن:
ولكن شمس الدين لم ينعم طويلًا بفوزه المبين. سرعان ما انفصل عن الجمع فوجد نفسه وحيدًا. وحيدًا في وحدة متعاليةٍ وموحشة. ووردت كلمة تقول إن كلَّ شيء هباءٌ حتى الفوز، وتقول أيضًا إن الهتاف كثير، ولكن ما أكثرَ الآذان التي تتعاقب على سماعه! وأقبل نحوه عاشور الناجي حاملًا على ذراعَيه أمَّه الجميلة في كفنها الكمُّوني، وفرح لظهور عاشور بعد اختفائه الطويل، وقال إنه كان على يقين من ظهوره ذات يوم، ولكن ألم تُدفن أمه بعد؟ وفي لحظات الرضا تهبط سحابةٌ فيمتطيها ذو الحظ السعيد فترتفع به في جوف القبة. عند ذاك لا يبالي بالموجات المثبِّطة التي يتلقَّاها من المجهول. يستوي لديه أن تحمله ساقاه أو تخذلانه. ولكنه وحيد، وحيد يتألَّم. ما معنى هذا الضعف الزاحف؟ الأنوار الخافتة تنطفئ. إنه يقترب من الحارة، وفي الحقيقة هو يبتعد. يبتعد إلى ما لا نهاية. لم يَعُد له من مطمحٍ أكثرَ من أن يبلغ فراشه.
وتجلجل الأصوات:
ويصارع شمس الدين المجهول في وحدته. إنه يصده عن السير، يرفع أديم الأرض حيال قدمَيه، يسرق فوزه العظيم ببسمةٍ ساخرة، ويكوِّر قبضته، ويسدِّد إليه ضربةً في الصدر لم يُعرف لعنفها مثيلًا من قبل.
وتأوَّه شمس الدين الناجي، ثم تهاوى فتلقَّفته أيدي الرجال.