الحب والقضبان

الحكاية الثالثة من ملحمة الحرافيش

١

خفقت الأفئدة لموت شمس الدين الناجي. أسهمت الحارة في تشييد قبرٍ له يليق بمقامه، وشيَّعته إليه في جنازة مهيبة لم يتخلَّف عنها رجل أو امرأة. وعدَّت صلابته البطوليةُ أسطورةً وكرامةً من كرامات الأولياء، حتى سُمي بقاهر الشيخوخة والمرض. وبقيت ذكرى فتونته النقية العادلة خالدةً مثلَ فتونة أبيه العظيم، وتُنوسيت هنَّاته الانفعالية، ولم ينسَ أحدٌ أنه عاش ومات كادحًا، كما عاش ومات فقيرًا.

وبفضله وفضل أبيه عاش وجدان الحارة مثلًا أعلى ترنو إليه الأعين والقلوب على تعاقب الأزمان.

٢

تولَّى الفتونة سليمان شمس الدين الناجي. عملاقٌ مثل جدِّه عاشور، دون أبيه في الجمال والرشاقة، ولكنه مُكتَسٍ بروعة الصورة الشعبية الأصيلة. لم يتقدَّم لمنافسته أحد، وانضمَّ إليه عتريس بحماسٍ وحب. ولم يتغيَّر مذاق الحياة في شيء. لعب الأمل بقلوب السادة والوجهاء أيامًا، ثم خمد. لم يكُن عمره يتجاوز العشرين ولكنه اتَّبع خُطَى أبيه بلا تردُّد. ظلَّ حامي الحرافيش وشاكم الأغنياء، وعَدُو البلطجة، ومارس مهنة أبيه برضًى واقتناع.

وكالمتوقَّع واجه تحدياتٍ من فتوات الحارة المجاورة فلم ينكص عن خوض المعركة بعد المعركة، وأحرز في كل معركة انتصارًا، أجل لم تكُن انتصاراته بقوة انتصارات أبيه أو جدِّه، ولكنها كانت كافيةً لتأمين الحارة وبسطِ قَدرٍ لا يستهان به من هيبتها. وترك العراك آثارًا مستديمةً في الجبين والعنق، ولكنها عُدَّت شهادةً طيبةً لبطولته الرائعة.

ومن الحق أن يقال إن قلبه كان ينازعه أحيانًا إلى الحياة الطيبة الرغيدة، وأنه كان يقرأ مثل ذلك في وجوه أعوانه وإخوته، ولكنه تجهَّم الضعف ولم يشجِّعه، وفتح قلبه الغضَّ لسحر العظمة الحقيقية.

٣

وكانت فتحية — شقيقة صديقه عتريس — زميلته في الكُتَّاب. وغابت عنه دهرًا حتى رآها مرةً أخرى في جنازة أبيه. ورغم حزنه مال قلبه إليها. كانت تقاربه في السن، في أنفها فطس، عميقة السُّمرة، جميلةُ العينَين، ذاتُ حيويةٍ فائقة، وشعر بأن الزواج جديرٌ بأن يصون فتونته من مباذلَ لا تليق بالفتونة النقية. هكذا طلب يدها من عتريس، وسرعان ما زُفَّت إليه، واستبشرت الحارة بالزواج خيرًا، وعدَّته نصرًا للحرافيش والفتونة النقية.

٤

ومضت عشرةُ أعوامٍ هادئة. كان سليمان يعمل شاعرًا بأن الفتونة عبءٌ ثقيل وبهجة عابرة. وكانت فتحية تعمل كما عملت عجمية وفُلة من قبل، وتلد بنتًا بعد بنت.

وفي العام الأخير من أعوامه الهادئة رأى سنية السمري.

من مجلسه في القهوة في أوقات الراحة يراها والدوكار يمضي بها. كريمة السمري كبيرُ تجارِ الدقيق، برَّاقةُ المنظر في طزيرتها، تُطِلُّ من فوق برقعها الأبيض عينان سوداوان ساجيتان ساحرتان، يبعث مرورها السريعُ الدفء والإلهام.

تعلَّق بالدوكار اهتمامه. امتدَّ بصره إلى دار السمري السامقة. حلم على إيقاع جرس الدوكار برقص الفتوات في أعقاب الظفَر. تاه بعملقة الفتوة على تواضع الكارو. وتساءل من يجلس إذا سليمان وقف؟ وعدا بوابة التكية فأيُّ بابٍ يُغلقُ في وجهه. والضعف قبيح، ولكن ألم يعشق عاشور فُلة جدته. أليست دار السمري أنقى من خمارة درويش؟ هل كان عاشور ينكص إذا كانت فُلة كريمةً للبنان؟ هل غَيَّر استيلاؤه على دار البنان من عدله وطيبته؟ وهو قادر على قهر الفتوات ومحق الإغراء، ولكنَّ الحبَّ قَدَر. وحتى شمس الدين في هوى قمر وقع. سيجزع الحرافيش ويفرح السادة، ولكن سليمان لن يتغيَّر. ثم ما الحيلةُ إذا كان الحب حكم. أجل ما زالت فتحية الزوجة المخلصة والأُمَّ الولود، وهي أيضًا شقيقة عتريس الوفي. الحب الجديد غطَّاها كالموجة الصاخبة، ولكن جذورها هناك راسخة. ما أعذب الألم في مِحَن الأهواء الجامحة!

٥

عقب صلاة الجمعة سار سعيد الفقي شيخ الحارة إلى جانبه. قُبيل القهوة قال له: رأيت يا معلم حُلمًا عجيبًا.

فحدَّجه سليمان بنظرةٍ متسائلةٍ فقال: حلمت بأن أناسًا طيبين يتمنَّون لقاءَك.

فخفق قلب سليمان وشعر بأنه تجرَّد فجأةً من ملابسه، وتمتم ساخرًا ليداري اضطرابه: حلم شيطاني.

فواصل شيخ الحارة بجدية: ولكنهم ينتظرون أن تجيء الخطوة الأولى منك.

وتساءل سليمان متخابثًا: ماذا يريدون من سواق كارو؟

فأجاب سعيد الفقي بإجلال: أن يوصلهم إلى سيد الحارة دون منازع.

٦

ارتفعت موجة الإغراء كالجبل فاستدعى سليمان عتريس إلى مجلسه بالقهوة وقال له: عندي سرٌّ أُريد أن أُفضي به إليك.

فتطلَّع إليه عتريس في امتثال، فتساءل سليمان: أنت صديقي، فكيف تراني لو تزوَّجت مرةً أخرى؟

فسأله عتريس ببساطة: تنوي التخلُّص من فتحية؟

– بل ستبقى في أعزِّ مكان.

فضحك عتريس وقال: أنت تعلم يا معلمي أني شارع في الزواج من الثالثة!

– الرجال لا يتنابذون بسبب النساء، ولكن توجد مشكلة في الأمر.

فابتسم عتريس وقال: إن الجديدة من دور السادة؟!

فتمتم سليمان بارتياع: ذاع السرُّ لهذا الحد؟

– الحب ذو رائحة نفَّاذة!

– ماذا يقول الناس؟

– وماذا يُهمنا من الناس؟

– ماذا يقول الحرافيش؟

فقال عتريس باندفاع: اللعنة على الحرافيش، أمَّا أعوانك المخلصون فسيرقصون طَرَبًا.

فبادره سليمان عابسًا: أخطأت التصوُّر يا عتريس، سليمان الناجي لن يتغيَّر.

فانطفأ تألُّق الآخرِ وقال: هل تشرك الهانم في بدروم فتحية؟

– أيًّا كان الحلُّ فسليمان لن يتغيَّر. الحقُّ أنكم تضيقون بالعدل ضيقَ الوجهاء.

– معلِّمي، مَن مِن الفتوات يرضى بما نرضى به من العيش؟!

فقال سليمان بإصرار: سليمان لن يتغيَّر يا عتريس!

٧

حمل سعيد الفقي رغبة سليمان إلى السمري، وسرعان ما قوبلت بالرضا. كان السمري في أعماقه يحتقر سواق الكارو وأصله، ولكنه كان يتطلَّع إلى مصاهرة الفتوة الجبار سيد الحارة وشاكم الأغنياء. ورجا رجاءً واحدًا أن يخصِّص لكريمته جناحًا في داره حتى يُشيِّد لها دارًا مناسبة، فلم يعارِض سليمان في ذلك. وصُعقت فتحية وبكت، ولكنها سلَّمت بالمقدَّر. وفرح السادة وتوجَّس الحرافيش، ولكن سليمان أعلن أنه لن يتغيَّر.

وشهدت الحارة زِفافًا لم تشهد له مثيلًا من قبل.

٨

هكذا ربطت المصاهرة بين الفتوة سليمان وبين الوجيه السمري. وقال عنها شيخ الحارة سعيد الفقي: مصاهرة مباركة بين الفتونة والوجاهة.

وقد امتلأ جيبه جزاء سعيه المشكور. بالرغم من أن سليمان أعلن أنه لن يتغيَّر، ولكن الحياة جادت بمذاقاتٍ جديدة، وحملت السحبُ ماءً سلسبيلًا. وقال سليمان لنفسه إن من النساء من هُنَّ جبن «قريش»، ومنهن من هُنَّ زبدة وقشدة. أسكرته الرائحة الزكية، وداهنته البشرة الملساء، وأطربته النبرة العذبة. وحلَّت دنياه الرشاقةُ اللَّعوب. وبإقامته في دار السمري أيامًا معدودات كل أسبوع عرف نعومةَ المجلس ودفءَ المرقد وسلاسةَ الملبس وأُبَّهةَ الماء الساخن في الحمام الفسيح، والستائر والوسائد والنمارق، والتحف والتهاويل، والسجاجيد والأبسطة، والحلي والجواهر، والأهمُّ من ذلك كله الأطعمةُ الفاخرةُ واللحومُ المتنوِّعةُ والحلوى الساحرة. وذُهل الفتوة، وعجب كيف تستكنُّ هذه الجنة الخلَّابة في طوايا الحارة المتقشِّفة. أجل حافظ على مظهره في الخارج، وأصرَّ على ممارسة عمله المتواضع، ولم يتلفَّع أمام الأعين إلا بعظمته الحقيقية، غير أنه آنس رياحًا جديدةً تَهبُّ على جوِّه المستقر، وشررًا يتطاير يوشك أن يُشعل حرائق الأركان. ثمة نظراتٌ نافذةٌ تهتك ما يستقرُّ في معدته من أطايب الأطعمة والأشربة. وهمساتٌ تدور حول الجنة الخفية، بخاصةٍ من رجاله وأتباعه. واضطُر — ولأول مرَّةٍ — أن يوزِّع عليهم في المواسم والأعياد، وفي سريةٍ بالغة، نقودًا من الإتاوات، دون غبن يُذكر للفقراء والحرافيش. شعر وهو يفعل ذلك بأنه يخطو الخطوة الأولى في طريقٍ كريهٍ شديدِ الانحدار، وأنه يحيد نوعًا ما عن سبيل الناجي. ثم هاله أن يَنعم بما ينعم به في دار السمري، على حين تُعاني فتحية وبناتُها حياتَهنَّ الجافة الشاحبة، فامتدَّت يده مرةً أخرى إلى الإتاوات وخصهنَّ بنفحاتٍ محدودة، منحدرًا درجةً جديدةً في الطريق الكريه. ومضى يقول متعزِّيًا: لن يمسَّ ذلك حقوق الفقراء والحرافيش إلا قليلًا!

ولم يسكت حواره مع نفسه، ولم تَصفُ الحياة من شوائب الكدر. وها هي سنية تُلحُّ عليه في أن يكفَّ عن ممارسة مهنته، أن يؤجِّر آخَرَ ليسوق الكارو، وها هو يرفض بإباء، ويحاول أن يسيطر سيطرة الفحلِ القوي، وهي تحب وتتظاهر بالطاعة تاركةً الفعلَ والتأثير لحبها المتسلِّل المقتحم.

وكلما شعر سليمان بأنه يتغيَّر قال لنفسه بحزم: ما تغيَّرت، ولن أتغيَّر.

٩

وجمعت مائدة العشاء بدار السمري بينه وبين وجهاءِ الحي. كانوا يتجنَّبونه خوفًا أو إيثارًا للسلامة، الآن يحدِّقُون به آمنين كما يحدِّقُ المشاهدون بالأسد في حديقة الحيوان.

وتبودلت الأنخاب، وجرت الدماء بالشجاعة، وهلَّت تباشير الآمال، حتى قال صاحب الوكالة: لعلَّك ظننتَ يومًا أننا لا نذعن لك إلا بالقهر، ألَا تدري يا معلم أن العدل قيمةٌ يحبُّها في النهاية من ينتفعُ بها ومن يخسر؟!

فتمتم متسائلًا: ومن يخسُ؟

– حسبك أنك جنَّبتنا الحقدَ والحسدَ واللصوص.

وهنا قال البنان: ولكننا وجدنا في عدلك الشامل شيئًا من الظلم!

فتساءل مقطِّبًا: الظلم؟!

– ظُلمك نفسك وأتباعك.

وتساءل العطار: أيُّ ظلمٍ في أن تنال نصيبك كاملًا وأن ينالوا نصيبهم؟

وتساءل حَمُوه السمري: ألَا تُسفك دماؤكم دفاعًا عن كرامتنا؟

وقال تاجر الغِلال: الفتوة ورجاله من الوُجهاء، أو هذا ما ينبغي أن يكون.

فقال معترضًا: كلَّا، ما فعل ذلك أبي ولا جَدِّي.

فقال صاحب الوكالة: لولا إقامةُ جدِّك العظيمِ في دار البنان ما عرفت الحارةُ معنى الفلَاح.

فقال بإصرار: كان فتوةً أعظم منه وجيهًا.

فقال صاحب الوكالة: خُلِق الفتوة ليكون وجيهًا، وليلعنِّي اللهُ إن كنتُ كاذبًا أو مُغْرِضًا فيما أقول!

وضحك ساخرًا ودفءُ الخمر يغزوه!

١٠

وأنجبت سنية له «بكر»، ثم «خضر»، فنعم بما يَعُده أبوةً حقيقية. وفي أثناء ذلك تمَّ تشييدُ دارٍ جديدةٍ لسنية. وبات سليمان يسعد بأيامه في الدار بقدر ما يشقى بعودته الإجبارية إلى بدروم فتحية. استولت سنية على قلبه تمامًا كما استحوذت دارها على رغباته. وبتعاقب الأيام زحف على وجدانه مخدِّر فعَّال؛ كفَّ عن عمله وأحلَّ فيه أحدَ رجاله، وزاد من الهِبات لنفسه ولأعوانه، فمضت العصبة ترتفع نحو منازل الوجهاء حتى هجروا في النهاية حِرفهم البسيطة أو أهملوها، وتناقصَت أنصبةُ الفقراء والحرافيش وإن لم يُحرموا من الهِبات. تغيَّر وجهُ الحارةِ المشرق، وأخذ الناس يتساءلون: أين عهد عاشور؟ أين إخلاص شمس الدين؟ وتحفَّز الأتباع للمتسائلين وأرهبوا الساخطين.

وأنشأت سنية بكر وخضر نشأةً مرفَّهةً ناعمة، ثم أدخلتهما الكُتَّاب، وأعدَّتهما للتجارة؛ فلم يبشِّر أحدهما بأنه سيخلف أباه ذات يوم. ولمَّا بلغا سن المراهقة فتحت لهما محلًّا لبيع الغِلال؛ وبذلك صارا تاجرَين وجيهَين.

وتجنَّب سليمان المعارك ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وآثر في النهاية أن يحالف فتوة الحسينية ليتفادى من مواجهة التحديات وحده، وفقدت الحارة مركز السيادة الذي تبوَّأته منذ عهد عاشور الناجي.

وتغيَّرت صورة العملاق ومنظره؛ ارتدى العباءة والعمامة، واستعمل الكارِتة في مشاويره، نسي نفسه تمامًا، ثمل حتى أصابه خُمار الانحراف، ومضى يمتلئ بالدهن حتى صار وجهه مثل قبة المئذنة، وتدلَّى منه لغد مثل جراب الحاوي.

وكان سعيد الفقي عندما يهنئِّه بأحد الأعياد يقول له: أيامك كلها أعياد يا معلم سليمان!

١١

كان الشقيقان بكر وخضر مختلفَي المظهر؛ بكر يشابهُ أُمَّه سنية هانم في جمالها ورقتها، يبدو دائمًا هاشًّا مترفِّعًا. أمَّا خضر فرغم جماله ورث عن أبيه وجنتَيه البارزتَين وطوله دون عملقته، وإلى الرقة كان أقرب. ولعله لم يكُن في ترفُّع شقيقه، ولكنه لم يَعُد على أي حال متواضعًا. واكتسبا معًا من دار السمري أسلوبًا راقيًا في الحياة وعاداتٍ عاليةً وتهذيبًا أنيقًا، فلم يعرفا حارتهما إلا من الشرفات العالية، ولم تطأ أقدامُهما أرضَها المبلَّطة، وأدارَا محلَّهما من حجرةٍ فاخرةٍ لا يتلاقيان إلا بكِبار التجَّار، تاركين المعاملات اليومية مع الجمهور لوكيل المحل. ولم يفهما والدهما. رغم أنهما لم يرياه إلا في أفخم صورة، فإنهما لم يقتنعا بالفتونة ولا أضمرا لها الاحترام الكافي. لم يفطنا إلى أنه لولا سطوة أبيهما لمَا نجحت تجارتهما، ولعبث العملاءُ والتجَّار بسذاجتهما التِّجارية، فحصَّلا الخبرة والمهارة في أسعد الظروف المواتية وهما لا يعلمان.

١٢

وذات مساء جلست الأسرة حول المدفأة المطلية بالفضة في بهو المعيشة. كان شهر طوبة يستوي على عرشه الثلجِي، والرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر. ونظر سليمان إلى ابنَيه الرقيقَين المتلفِّعَين بالعباءة المُخملية المنزلية، ثم قال باسمًا: لو رآكما عاشور الناجي لأنكركما وتبرَّأ منكما.

فقالت سنية وهي ترمقهما بحبٍّ وإعجاب: حتى الملوك يتمنَّونهما!

فقال سليمان بوجوم: إنهما ابناك وحدك، وما منهما أحد يخلفني!

فبادرت متسائلة: ومن أعلمك أنني أودُّ لهما الفتونة؟

فسألها بجفاء: ألَا تحترمين الفتونة؟!

فتراجعت بلباقةٍ قائلة: أحترمها كما أحترم رجلها، ولكنني أكره أن يتعرَّض ابناي لمخاطرها.

وتساءل ما جدوى الخصام؟ وماذا بقي من العهد؟ لقد تزوَّجت بناته الكُبريات من حرافيش، أمَّا الصغيرة المعاصرة للوجاهة فقد تزوَّجت من «محترم»، وسوف تُنجب ذريةً غريبةً مثل أبيها. وقد استنام الضمير إلى الدَّعَة، واستسلم الجسد الشرِه إلى تيار الإغراءِ والاستهانة، والمعارضة في هذه الحال حركة ساخرة.

قال ابنه بكر: ولكن جدُّنا عاشور الناجي كان يُحِب الحياة الفاخرة!

فسأله بغضب: من أنت لكي تفهم المعلم عاشور؟!

– هكذا قيل يا أبي.

– لا يفهم عاشور إلا من اشتعل قلبه بالشرارة المقدَّسة.

– ألم يحتلَّ دار البنان؟

فقال سليمان محتدًّا: معجزته في الحلم والعهد.

فقال بكر بجرأةٍ غير محمودة: كان يستطيع أن يهرب من الشوطة بلا حلم.

احتقن وجه سليمان بالدم وهتف: هكذا تتكلَّم عن الناجي؟!

تمخَّض الوجيه عن وحشٍ في لحظةٍ من الزمان وكأن عاشور الأسطوري قد بُعث من جديد، فجفلت سنية وقالت مخاطبةً ابنها بحِدة: جدك رجلٌ مقدَّس يا بكر!

وصاح به أبوه: إنك لا تصلحُ لشيءٍ نبيل.

وغادر الرجل مجلسه إلى مخدعه، فقالت سنية لبكر: لا تنسَ أنك بكر سليمان شمس الدين عاشور الناجي!

وتمتم خضر: أجل.

فقال بكر وما زال متأثِّرًا من غضبة أبيه: ولكني تاجر ومن آل السمري أيضًا.

١٣

وقرَّرت سنية هانم أن تفرح ببكريِّها. وكانت معجبةً برضوانة رضوان كريمة الحاج رضوان الشوبكشي العطار فخطبتها له. لم يرَها بكر من قبل، ولكنه كان يثق بشهادة أُمِّه.

وكان الحاج رضوان الشوبكشي واسعَ الثراءِ وفيرَ الذريةِ وعاشقًا للهو والطرب. وزُفَّت رضوانة إلى بكر، وخُصِّص لهما جناحٌ في الدار.

١٤

بزواج بكر وفد إلى الدار جمالٌ جديد. فرح بها بكر وعشقها من أول ليلة. كانت ذاتَ عينَين زرقاوَين وشعرٍ ذهبي. ذات قامةٍ فرعاء رشيقة. شيءٌ واحد ضايق بكر مضايقةً عابرة؛ أنها كانت تماثله في الطول، وتبدو أطول منه بحذائها ذي الكعب العالي. وقالت له أمه تطمئنه من ناحيةٍ أخرى: ستجدها ذاتَ قابليةٍ للامتلاء، وستصير مع الأيام في وزن أمها بإذن الله.

وكانت العروس تتعثَّر في الحياء ولا تكاد تنظر في وجه أحد، ولكنها مع الأيام بدأت تكتشف ما حولها، وتحدِّقُ بنظراتٍ نافذةٍ في وجه الأب العملاق، وخضر شقيق زوجها، وسائر الأشياءِ المحيطة بها.

وقال خضر لأمه مرة: العروس لا تستقر.

فقالت باسمة: ستستقر عندما تنجب، إني أعرف هذا النوع النفيس. ألَا تودُّ أن أخطب لك فتاةً مثلها؟

فقال خضر: ليس قبل أن أبلغ العشرين.

وتردَّد وهو يرنو إلى عينَين فارسيتَين ترنوان إليه من سجادةٍ معلَّقة فوق الجدار، ثم قال: وأفضِّل الشعرَ الذهبيَّ والعينَين الزرقاوَين.

فبسطَت سنية ضفيرتها الفحماء أمام عينَيها وتساءلت باسمة: هل ولَّى زمان الشعر الأسود؟!

١٥

وانعقدت بين رضوانة وخضر صداقةٌ وأُخوة. وكان يقوم بخدمتها كلما غاب بكر في إحدى رحلاته التجارية. وفي أثناء ذلك عرف شقيقتها الصغرى وفاء. كانت صغيرة الجسم، باهرة الجمال، ولكنها ذات شعرٍ كستنائي وعينَين عسليتَين. وقام بخاطره أن رضوانة قد تقترحها عليه زوجةً بطريقةٍ أو بأخرى، فأشفق من أن يغضبها رفضُه. وسألته أمه ذاتَ يوم: هل تعجبك وفاء؟

فقال بحزم: فتاةٌ ممتازة، ولكن ليست لي.

فتمتمت أمه بأسف: أراها ممتازةً حقًّا.

وعند ذاك قال لأُمِّه: أخشى أن تغضب رضوانة إذا علمت.

فقالت سنية: رضوانة ذات كبرياء، وهي لا تعرِض شقيقتها للبيع، ثم إن الزواج قسمةٌ ونصيب!

١٦

وقام بكر برحلة تجارية تستغرق بضعة أيام.

وعندما رجع خضر من المحل مساءً إلى الدار وجد رضوانه واقفةً عند مدخل جناحها. تصافحا، وعندما همَّ بالسير قالت له: أريد مشورتك في أمر.

تبعها إلى بهو الجلوس. جلس على ديوان. جلست أمامه على أريكة وراحت تتطلَّع إليه في صمت كأنما لا تدري كيف تبدأ حديثها. تنسَّم في الجوِّ عبق بخورٍ مخدِّر، وراح يُنصت لهسيس الصمت. ولكي يشجِّعها على الكلام قال: إني رهن إشارتك.

فلم تنبِس، ولمَّا لاحظت شدة انتظاره قالت: لا أدري ماذا أقول، هل ضِقت بسرعة من وجودك معي؟

– أبدًا، المسألة إني أودُّ خدمتك.

فقالت بغموض: لا أريد أكثر من ذلك.

انتظر وهو يقلق تحت شعاع العينَين. تضاربت في رأسه التخمينات. حدث شيءٌ لم يقَع له في بال؟ هل سيفاجأُ باقتراحٍ محرج؟ قال: تحت أمرك.

فقالت بنبرةٍ غريبة: أنت تجهل حالي؛ ولذلك فإني أغفرُ لك تسرُّعك.

– دعيني أطمئن عليك.

– أهذا ممكن؟

– لمَ لا؟ يجب أن يكون ممكنًا.

فتساءلت وهي تهرب من عينَيه: هل ذقت الهزيمة في حياتك؟

– لا أظن، ولكن أيُّ هزيمة؟ مَن عدوك؟

– لا عدو لي، إنها هزيمةٌ من الداخل.

فهزَّ رأسه متحيِّرًا، فقالت متشجِّعةً بصورةٍ أوضح: هزيمة الإنسان أمام نفسه، رضاؤه بالدمار إذا شِئت.

فقال متجهِّمًا: أعوذ بالله! صارحيني كأخ.

فقالت بنبرة قاطعة: كلَّا، إخوتي هناك في الدار الأخرى.

– ولكني أخوك أيضًا.

– كلَّا، ولكن لمَ لا تسمع القصة من أولها؟

فقال بتلهُّف: إني مُصغٍ.

فقالت بقلق واضح: حدث وأنا بنتٌ في دار أبي أنني رأيتُك مرة، ومرةً على تباعد في الزمن، وسمعت من يقول إنك ابن الفتوة سليمان الناجي.

هزَّ رأسه صامتًا، وتلقَّى في الوقت نفسه رسالةً مُقلقةً من المجهول. أمَّا رضوانة فواصلت حديثها: لم أرَ بكر أبدًا، هكذا حدث، لم أعرف حتى إن لك شقيقًا، فلا لوم على أحد.

ازدادت نُذر المجهول، نُفثت المخاوفُ في الجوِّ المعبَّق بالبخور، استحضر صورة بكر وأمه وأبيه، جاءت الأسرة لتسمع القصة العجيبة.

– لماذا لا تتكلَّم؟

– إني أصغي.

فقالت ضاحكةً في ارتباك: ولكن القصة انتهت.

– ولكني لم أفهم شيئًا.

– إنك لا تريد أن تفهم.

فقال بيأس خفي: كلَّا.

فقالت وهي تحدجه بنظرة ماكرةٍ وجريئة: سأجاريك ليس إلا؛ ذات يوم أخبرتني أمي أن سنية هانم السمري خطبتني لابنها.

رفعت عينَيها إلى السقف حتى ترامى جِيدُها كالشمعدان الفضي. شيءٌ هتف به أن الجمال الآسر قد خُلِق للقتل، وأن الأسى أثقل من الأرض وأشمل من الهواء، وأن الإنسان لا يتنفَّس بحريةٍ إلا في منفى الهجر.

واعترفت قائلةً في استسلام ناعم عذب: بصعوبةٍ شديدة واريت فرحتي!

ثم فيما يشبه الغناء: ولم يداخلني شكٌّ في أنه أنت!

خرس وجفل، فقالت وهي تحدجه بجرأةٍ: هذه هي القصة، فهل فهمت؟

فقال بصوت متهدِّج: ساق الحظ إليكِ خير الشقيقَين.

فقالت برقةٍ وعتاب: لا تسمعني صوتَ الخوف!

– إنه صوت النجاة.

– طالما أشعرتني بودِّك.

– طبعًا؛ فإنك زوجُ أخي المحبوب!

فنهضَت نحوه بحركةٍ رشيقةٍ ومالت قليلًا حتى غزته بشذاها الطيب وقالت: بل حدِّثني عن مكنون قلبك.

فوقف مذعورًا، وتباعد قائلًا: صارحتك بكلِّ شيء.

– أنت خائف!

– كلَّا!

– تخاف أخاك، تخاف أباك، تخاف نفسك.

– كفى عذابًا.

– ليس للحيطان آذانٌ ولا عيون.

فانفلت نحو الباب وهو يتمتم: وداعًا.

وغادر البهو أعمى العينِ والقلب والبصيرة.

١٧

تجنَّب خضر رؤيتها. حتى الغداء كان يتناوله في المحل، والعشاء في أيِّ سهرةٍ مفتَعلة. لم تلاحظ سنية شيئًا، ومرَّت الساعات في هدوء ودعة في دار سنية السمري.

وعصفت الأحزان والقلق بقلب خضر. ماذا عليه أن يفعل؟ إنه مهجور مع مشكلة لا يجوز فيها المشاورة. نازعته نفسه إلى هجر الحارة كلها، ولكن أين يذهب، وبأيِّ عذرٍ يتعلَّل؟ إنه صاحب مبادئ طالما قال عنه سليمان إنه تشرَّب ببعض روح الناجي وإن حُرِم من قوته وسيطرته، بخلاف شقيقه بكر الذي عشق التجارة والمغامرة والربح.

إنه يتعذَّب ولا يفعل شيئًا، ويسلِّم للمقادر بلا ثقةٍ ولا اطمئنان.

١٨

رجع بكر من رحلته فقصد المحل قبل الدار. استقبله خضر بحرارة. أقبل بكر متهلِّلًا بالفوز وهو يقول: صفقة رابحة والحمد لله.

فابتسم خضر مرحِّبًا، فتساءل بكر: كيف حال العمل؟

– عال.

وإذا به يسأله: لست كعادتك، ما لك؟

فارتعد، وتعلَّل بوعكةٍ عابرة. كيف يمكن أن تطيب المعاشرة بعد ذلك؟ سجَّل تفاصيل الصفقة في الدفتر والأفكار تتلاطم في رأسه. الإفضاء إليه بالسر جريمة، وإخفاؤه عنه جريمة أخرى. كيف يمكن أن يختفي؟

وقام بكر وهو يقول: إني مرهقٌ ويحسن بي أن أذهب إلى الدار.

١٩

في هذه اللحظة يلتقي بكر برضوانة. في هذه اللحظة أيضًا يدرك خضر مدى خطئه ببقائه في الحارة. كيف تلقاه الجميلة الجريئة؟ هل تستطيع تمثيل دور الزوجة المشتاقة المنتظرة؟ هل تُقبل عليه كما أقبلت نحوه بنظرتها المشتعلة وأشواقها المحمومة؟ هل يُسدل الستار على نزوة الماضي ويمضي تيار الحياة في مجراه المألوف، أو يغلبها الفتور والعواطف الدفينة فتتعلَّل بالمرض؟ هل يدب الفساد في الحياة الزوجية الجديدة فتتعقَّد الأمور ويتجهَّم وجه الحياة؟

وارتعدت مفاصله وغمغم: بوسعها أيضًا أن تنتقم!

ها هو بكر يسألها عمَّا بها فتقول باكية: أخوك غدر!

أيُّ أكذوبة؟ أيُّ شر يُبتدَر!

ولكن مهلًا. لمَ لم تُخبر حماها أو في الأقل حماتها؟ على أي حال ستجد من يصدِّقها ولن يجد هو من يصدِّقه.

كلا. إنها ماكرة وجريئة. ستتظاهر بالحزن، وتقول في غموض: أودُّ أن نعيش بعيدًا عن هذه الدار.

سيسألها بكر عمَّا يضايقها فتقطِّب ولا تجيب. تشاجرت مع أمي؟، مع أبي؟ كلَّا، كلَّا. لا يبقى إلا خضر. ألم يحسن خضر خدمتك؟ إنها لا تطيق سماع اسم خضر. أيَّ خطأٍ ارتكب؟ ثم تتضح الحقيقة مثلَ سواد الليل تحت سماء ملبَّدةٍ بالغيوم. في هذه الحال تلوذ الجميلة الماكرة بانطباعٍ شخصيٍّ قد يصدق وقد لا يصدق، ولكنه يترك أثره المحتوم. لن تصرِّح بأكثرَ من أن نظراته لم تعجبها، لم ترتح لها؛ وأنها لذلك تفضِّل العيش بعيدًا عن دار السمري!

كيف يدافع عن نفسه؟ هل يهدم سعادة أخيه وسمعة أسرته؟ هل يهرب حاملًا الإثم وحده؟

ولكن أليس من الجائز أن أوهامه محض هواجسَ لا أساس لها، وأنهما الآن ينعمان بالحب بعد الغياب؟!

عند ذاك سمع وقع أقدام متوتِّرة، ثم رأى بكر يسدُّ الباب مرتجفًا من شدة الغضب.

٢٠

صرخ بكر: يا لك من وغدٍ خسيس.

انقضَّ عليه كالوحش وراح يكيل له الضربات والآخر لا يرد. دَمِيَت شفتاه وأنفه ولكنه لم يَرُد، فصاح بكر: شلَّك العار!

فتراجع متسائلًا: ماذا جرى لك؟!

– ألَا تعرف حقًّا؟!

– لا أفهم شيئًا.

فصرخ: تطمع في زوجة شقيقك.

فهتف خضر: أيُّ جنون!

واستأنف الحملة عليه حتى هُرِع عُمال إلى مدخل الحجرة، وتجمهر نفر في الحارة أمام المحل.

وترامى من بعيد صوت سليمان الناجي وهو يزمجر.

٢١

تفرَّق الناس ورجع العُمَّال إلى أماكنهم. صاح سليمان: إذا رُفعت يدٌ فإني قاطعها.

تراجع بكر، ومضى خضر يجفِّف دمَه بمنديله. قال بكر: إنه غادر يستحق التأديب.

– لا أريد أن أسمع كلمةً هنا.

وردَّد بصره بينهما في غضب، وأمر قائلًا: اتبعاني.

ومضى نحو الدار مثل أسد جريح.

٢٢

وقفوا أمامه جميعًا، بكر وخضر ورضوانة وسنية. صاح بفظاظة: الحقيقة!

لم ينبِس أحد، فصاح: الويل لمن يخفي همسة!

ورمى رضوانة بنظرةٍ حادَّةٍ آمرًا: تكلَّمي يا رضوانة!

فأجهشت في البكاء، فهتف متبرِّمًا: لا أحب الدموع.

فتمتمت وهي تشهق: لم أقُل إلا أنني أريد أن أعيش بعيدًا.

– هذا وحده لا يعني شيئًا ذا بال!

فقال بكر: فهمت من حديثها أنها تكره أن تعيش في دار واحدة مع خضر!

– لماذا؟ أريد حقيقةً ملموسة.

فقال بكر: تجسَّدَت لي الحقيقة دون تصريح.

فصاح سليمان: الحقيقة الحقيقة حتى أقوم بواجبي.

ثم نظر نحو رضوانة وأمر: تكلَّمي بالصراحة الكاملة!

فأجهشت في البكاء مرةً أخرى، فلوَّح بيده ساخطًا، ثم التفت نحو خضر وسأله بحنق: ماذا فعلت؟

فتمتم خضر: لا شيء، واللهُ مُطَّلع.

– أريد أن أعرف كل شيءٍ فلا تثور زوبعة بلا سبب.

هنا قالت سنية: يوجد سوءُ تفاهمٍ ليس إلا.

فقال لها سليمان بحِدة: اسكتي!

فقالت بيأس: إنه الشيطان يندسُّ بيننا.

فقال سليمان بحَنَقٍ: الشيطان لا يندسُّ إلا بإذنٍ منَّا.

فقالت سنية مُولولة: حلَّت بنا اللعنة!

فقال سليمان: فَلْتحل اللعنة بمن يستحقها.

وبغتةً غادر خضر البهو، فصاح به سليمان: ارجِع يا ولد!

ولكنه اختفى، فصاح بكر: ألَا ترى أنه يهرب يا أبي؟

فصرخ سليمان وهو ينهض: ها أنت تعترف يا مجرم!

ولكنه لم يرجع ولم يلحق به أحد.

٢٣

جرت فضيحة آل سليمان الناجي على كل لسان. وترحَّم الحرافيش على عهد الناجي القديم، واعتبروا ما نزل بسليمان وابنَيه جزاءً عادِلًا على انحرافه وخيانته. قالوا إن عاشور كان وليًّا، أيَّده الله بالحلم والنجاة، وأكرمه حيًّا وميتًا. أمَّا الكارهون فقالوا إنها ذرية داعرة متسلسلة من أصل داعر لم يكُن إلا لصًّا فاسقًا.

واجه سليمان ذلك بوحشية غيَّرت من شخصيته للمرة الثانية، فكان يشقُّ الحارة بجسمه العملاقِ وبدانته الآخذة في التمادي، متربِّصًا لأيِّ هفوةٍ حتى خافه أقرب المقرَّبِين إليه، ولم يَعُد منظره ينسجم مع الفتونة؛ فهو يترهَّل ويعلوه الخمول ويغرق في الإدمان والترف. وانتفخت كرشه وتدلَّت عجيزته، ومن إفراطه في الطعام كان يغلبه النوم وهو متربِّع على أريكته في القهوة.

٢٤

وذات صباح وقف سليمان الناجي يحادث سعيد الفقي شيخ الحارة وسط وحلٍ تكدَّس في جنبات الحارة من أثر مطر انهلَّ شطرًا من الليل. وكان سعيد الفقي يقول له: إن الله يمتحن من عباده المؤمنين.

وأراد سليمان أن يعلق، ولكنه حملق بغتةً في وجه عدو ينقَضُّ عليه من الغيب، وتهاوى على الأرض كمئذنة. حاول النهوض مراتٍ ولكنه عجز، ثم استسلم لِمَا يشبه النوم. وهُرِع إليه سعيد الفقي وآخرون، ولكنه أصدر أصواتًا مبهمةً ولم يستطِع النطق.

وحُمِل سليمان الناجي إلى دار سنية هانم السمري كطفلٍ عاجز.

٢٥

دهمه شلل نصفيٌّ فرقد فوق فراشه عاجزًا، وكل من رآه أدرك أن سليمان الناجي قد تحوَّل إلى لا شيء. وعادته فتحية وبناته مثل الغرباء. وقامت سنية برعايته وتمريضه في صبر وحزن وهي تغمغم دائمًا: حلَّت بنا اللعنة!

وانقضت بضعةُ أعوامٍ قبل أن يستطيع أن يتحرَّك. غدا في قدرته أن يسير على نِصف، جارًّا نصفه الآخر وهو يتوكَّأ على عُكَّازَين. وكان ينشد الفرجة بالجلوس أمام الدار أو في القهوة، ينطق بالكلمة أو الكلمتَين، ويُلقي على ما حوله نظرةً غائبةً وقد هجرته معاني الأشياء.

٢٦

وناب عتريس عن سليمان في الفتونة. ظلَّ على ولائه له بادئ الأمر، يزوره، ويعطيه نصيبه كاملًا من الإتاوات، ويمارس السلطة الفعلية في العصابة، ويقول له: أنت سيدنا وتاج رأسنا.

ثم شغلته واجبات الفتونة — هكذا قال — عن واجب الزيارة، فكفَّ عن ورود دار السمري إلا يوم حمل الإتاوة.

ثم أعلن فتونته واستولى على نصيب سليمان من الإتاوات فلم يصادف من أحد الأعوان ما يكدِّر، بل لعلهم أمَّلوا أن يتحرَّروا على يدَيه من الالتزامات المحدودة التي ظلَّ سليمان ملتزمًا بها حِيالَ الحرافيش.

وسرعان ما عادت الفتونة إلى سابق عهدها قبل عاشور الناجي. فتونة على الحارة لا لها، ولا خدمة تؤديها إلا خدمة الدفاع ضد الفتوات الآخرين. وحتى في هذه الناحية اضطُر عتريس إلى مهادنة أعداء ومخالفة آخرين، بل حتى الإتاوة دفعها إلى فتوة الحسينية ليتجنَّب معركةً خاسرة. وكلما هان خارج الحارة زاد طغيانًا وصَلَفًا داخلها. وأهمل أخته فتحية. وأكثر من الزواج والطلاق. واستأثر بالإتاوات هو وعصابته، على حين أغدق على الحرافيش الزجرَ والتأديب، وأنزل الوجهاء — على حدِّ قول سعيد الفقي شيخ الحارة — حيث أنزلهم الله سبحانه وتعالى.

٢٧

لم يفقِد سليمان الناجي الفتونة فحسب، ولكنه فقد نفسه أيضًا. لم يَعُد شيئًا، وتلاشت الدوافع والمعاني، واستمسك بأملٍ شارد في الشفاء، حتى سأل رضوان الشوبكشي العطار حما ابنه بكر: أليس لحالي دواءٌ عندك؟

فأجابه الرجل وهو يداري ازدراءه: لقد بذلَت العطارة جميع ما في وسعها.

وقال رضوان الشوبكشي لنفسه: «يطمع في استرداد قوته وفتونته عليه اللعنة وعلى أصله.»

وطاف سليمان بالأولياء، الأحياء منهم والأموات. وناجى الأمل كل مناجاة. وظلَّ يزحف على عُكَّازَين، ويجمد فوق الأريكة مثل قدر المدمس. وانتابته حكمةٌ لم يعرفها في حياته، فقال إن الإنسان لعبةٌ هزيلةٌ والحياة حلم. وتجاهله عتريس تمامًا، كما تجاهله الأعوان، وتجاهله الحرافيش بلا رحمة، وعدُّوه المسئول الأول عَمَّا حاق بهم.

ثم تغلغلت التعاسة في جوف داره. بدا أن سنية هانم بَرِمَةٌ بالحياة في جواره. تركت مُهمَّة رعايته إلى جارية، وتجهَّمَت الحياةَ بقدر ما تجهَّمَتها الحياة. ولم تنسَ قطُّ ابنها الهارب خضر، وفترت لذلك العلاقة بينها وبين رضوانة. ومضت تتغيَّبُ عن الدار كثيرًا ناشدةً التسلية في دُور الجيران. وتألَّم سليمان لذلك غاية الألم، وقال إن أثر الشمس يُمحَى وراء الغيوم، وإنه لا كرامة لعاجز.

وقال لها مرة: غيابك عن الدار يطول أكثر ممَّا يليق.

فقالت له بحِدة: لم يبقَ بها شيء!

وخطر له كثيرًا أن يطلِّقها، ولكنه أشفق من ألَّا يجد في مسكن فتحية الراحة الضرورية. وتجرَّع الذل والمهانة متصبِّرًا.

٢٨

وجالسه سعيد الفقي ذات يوم في القهوة. طالعه بوجهٍ ودود، وقلبٍ ذي حقدٍ دفينٍ قديم. وقال له بنبرة الصديق: يا معلم سليمان يعزُّ علينا حالُك.

فرمقه بنظرةٍ لا معنى لها، فواصل الرجل: ولكن لك علينا حق الصدقِ والإخلاص.

ماذا يريد الرجل؟

– الرأي عندي يا معلم أن تطلِّق سنية هانم!

فاختلج جفناه وارتعشت يده، فقال سعيد: هذه نصيحتي كصديقٍ قديم.

غمغم سليمان: لمَ؟

فأجاب الرجل: لن أزيدَ حرفًا.

٢٩

لم يَعُد ردُّ الفعل عنده ذا شأن. غدَا ألمه مجرَّدًا؛ لا السرور يضحكه ولا الحزن يبكيه، ولكن لا بُدَّ من الطلاق. سيسير في الطريق حتى نهايته المسدودة.

ورجع من القهوة إلى مسكن فتحية الذي استأجره لها عقب انقلابه الخطير. استدعى المأذون وطلق سنية هانم، وقد جزع لذلك بكر وقال له: ما كان ينبغي أن يقع ذلك.

فقال له: بل عليك أن تصون أمك يا بكر!

فصرخ بكر: قطعًا لألسنة الوشاة!

وافترقا شبه متخاصمَين. وجعل سليمان يُنفق من مدخره ويقول: أسأل الله أن يجيء موتي قبل أن أمدَّ يدي إلى بكر.

٣٠

في أثناء ذلك تحسَّنَت أحوال بكر التجارية والمالية، وأنجب من رضوانة رضوان وصفية وسماحة. وقد زلزله طلاق أمه، وترامت إليه شائعاتٌ أليمة، حتى اضطُر إلى أن يُبصِّرها بسلوكها وما يثيرُه حولها. وغضبت سنية ولعنت الحارةَ ووصمتها بكل خسيس، ولم تغيِّر من تحرُّرها وانطلاقها.

إلى ذلك كان بكر قلقًا مضطربًا في حياته الزوجية. لم يشعر أبدًا بأنه ملك رضوانة، ولم يكفَّ عن التفاني في حبها. ليست هي بالمطيعة ولا بالمتفاهمة ولا بالمستجيبة، وبها حِدَّةٌ مجهولةُ الأسبابِ تستفحل مع الأيام. إنها تنال ما تريد بلا امتنانٍ ولا سعادة، وهو لا يطيق الدنيا إذا جفَتْه أو خاصمته. ويُجَن جنونًا إذا خطر له أن حبها له ليس بالقوة اللائقة. ماذا ينقصها؟ ماذا تريد؟ أليس هو بالزوج المثالي؟ إنه يتجنَّب ما يثيرها من قريب أو بعيد، ولكن ما يثيرها يدهمه من حيث لا يحتسب. وبدت المعاشرة بلا أثر، وبدت الذرية بلا أثر كذلك. وانطوى على قرحة أفسدت عليه مذاق حياته الخاصة.

– رضوانة، بوسعك أن تجعلي من دارنا عِشًّا للسعادة.

فتساءلت بغموض: أليست هي كذلك؟

– ولكنك تُهملين حبي يا رضوانة؟

فقالت متأفِّفة: إنك لا تفكِّر إلا في مسراتك، وتنسى أنني أُمٌّ لثلاثة.

فقال بأسف: إني أفتقد حرارةً تكافئ حبي العظيم!

فضحكت بفتورٍ وتمتمت: أنت طماع، أمَّا أنا فأبذل خير ما عندي.

وضاعف من تعاسته تمزُّق العلاقات الطيبة بين أُمِّه وزوجته. منذ اختفاء خضر تغيَّرت سنية، وسرعان ما قابلت رضوانة التغيُّر بمثله أو بأسوأ منه. وتنافرتا مرَّةً بعنفٍ حتى قالت سنية لها بحِدَّةٍ واتهام: قلبي يحدِّثني ببراءة خضر!

فأجابتها بحدَّةٍ أشد: الأصوب أن تصوني سُمعتك!

فهاجت سنية ورمتها بشمعدان صغير لم يُصِبها. ولمَّا رجع بكر وجد رضوانة شعلة من الكراهية والغضب. وخلا إلى أُمِّه يعاتبها ولكنها قالت له: نصيحتي لك كأُمٍّ أن تطلِّقها.

فذُهِل بكر، فقالت ساخرة: كانت قدم الشر الذي قضى على أخيك وأبيك وأمك.

ثم بصوتٍ حادٍّ متهدِّج: إبليس نفسه يعجز عن فعل ذلك كله، حتى أنت حفيد الناجي الكبير تؤدِّي الإتاوة لصعلوكٍ من خدم أبيك وجدِّك.

وقال بكر لنفسه: إنها اللعنة قد حلَّت بنا حقًّا!

ودارت عجلة الأيام بلا توقُّفٍ كعادتها. ومات السمري الكبير أبو سنية، فورثت عنه مالًا لا بأس به، واستوهبها بكر بعض المال ليزيد من رأس ماله فلم تمنعه، ومضى في طريق الثراء بلا حدود. أخذ يتسلَّى عن همومه بالإغراق في العمل وخوضِ المغامراتِ الناجحةِ والمضارباتِ الخطيرة، حتى كادت أن تستأثِر به شهوةُ المال لدرجة الجنون. كان يكنز المال كأنما يتحصَّن به حِيالَ الموت والأحزان والفردوس المفقود، وكان ينطلق نحو الكفاح من مركزٍ منغرسٍ في أرض الأحزان والهموم، متحديًا الألم والمجهول. ولم يكُن بكر كريمًا ولكنه أيضًا لم يكُن بخيلًا. لم يكُن ينفق في الخارج مليمًا لغير ما فائدة تعود عليه، أمَّا في داره فكان بحرًا؛ أهدى إلى رضوانة جواهر تساويها وزنًا، وجدَّد أثاث الدار ورياشَها وتحفَها حتى صارت متحفًا. وقال والحسرة تقرض قلبه: ليت السعادة بالمال تُشترى!

٣١

وذات يوم أشهر رضوان الشوبكشي — أبو رضوانة — إفلاسه. كان الرجل مسرفًا، مولعًا باللهو والطرب والليالي المِلاح، فأفلتَ منه توازنه التِّجاري وهوى. ورحَّب بكر بالفرصة ليُثبت لزوجته المتمرِّدة حبَّه وكرمه، فلمَّا عرضت دار الشوبكشي للبيع في المزاد اشتراها بثمن فاحش ليُيسِّر لحَمِيه تسديد ديونه. وألحق بمحله إبراهيم الشوبكشي شقيق رضوانة الأصغر وجعله وكيله وأمين سره، غير أن رضوان الشوبكشي لم يتحمَّل الصدمة فمات بالسكتة، وشيَّعه بكر بما يليق بمقامه، وأقام له مأتمًا استمرَّ ثلاثة أيام، وتوقَّع بعد ذلك أن تُغيِّر رضوانة من سلوكها أو تهذِّب من طبعها، ولكنها كانت مثل الصلب لا تلين، وزادتها الأحزان فتورًا ونفورًا، حتى قال بكر لنفسه: إن قيام القيامة نفسها لن يُغيِّرها.

٣٢

وأطبق الظلام عندما اختفت سنية أمه من الدار والحارة! كارثة لم يستطِع لها دفعًا. وسرعان ما عرف أنها أخذت مالها وهربت مع شابٍّ سقَّاء وتزوَّجت منه. كارثة حقيقية نكَّست رأسه، فنفض منها يدَيه، ولم يهتمَّ حتى بمعرفة مقامها الجديد، وتوارى وراء سِجِلاته ورحلاته.

وسعى إليه عتريس الفتوة وقال له: إني في خدمتك إن أردت خدمة.

فَكَرِه منظره، وداراه بابتسامة ممتنَّة، وقال له: الشكر لك يا معلم، وليفعل الله بها ما يشاء.

وتبدَّت له الدنيا رماديةً ضاربةً للحمرة. وتساءل لماذا نُحب هذه الحياة ونحرص عليها هذا الحرص كله؟ لماذا نذعن لمشيئتها الحادة القاسية؟ ألَا يحقُّ لها بعد ذلك أن تسلِّط علينا دودَ أرضِها؟ اللعنة على عاشور الناجي الأسطورة الكاذبة! اللعنة على الدراويش المجانين الذين لا يكفُّون عن الغناء! وتساءل أيضًا: يوجد خطأ جسيم ولكن أين هو؟

٣٣

وذات مساء أرسل سليمان الناجي في طلبه. تذكَّر أنه لم يزُره منذ أشهرٍ فخجل. كان قد مرَّ على شلله عشرةُ أعوام، وكان قد لزم الفراش منذ عام في رعاية مخلصة من فتحية. ذهب إليه، قبَّل يدَه، جلس إلى جانب فراشه وهو يعتذر عن إهماله بشواغله وهمومه.

وقال سليمان الناجي: نهايتي اقتربت يا بكر.

فدعا له بطول العمر والعافية، فقال الرجل: حلمت بجدك شمس الدين ثلاث مرات في ثلاث ليالٍ متعاقبة.

– هذا لا يعني شيئًا ضارًّا يا أبي.

– هذا يعني كل شيء، وقد قال لي إن الدنيا لا تساوي شيئًا حتى يهبَها الإنسانُ روحه.

– رحمه الله يا أبي.

فقال بأسًى: ما مضى قد مضى، ولكني أسألك مَن مِن أبنائك يصلح لها؟

فأدرك أنه يعني الفتونة، فدارى ابتسامةً وقال: ما زالوا صغارًا ولن يصلحوا لها.

– ولا أحد من أبناء أخواتك لأبيك؟

فقال بعد تردُّد: لا أدري يا أبي.

– لأنك لا تدري عنهم شيئًا.

وتأوَّه، ثم قال: إني أودِّع الدنيا مثل سجين. أستودعك الحيَّ الذي لا يموت!

٣٤

في جوف ذلك الليل فاضت روح سليمان شمس الدين عاشور الناجي. وبالرغم من عُزلته الطويلة مشى في جنازته جميع أهل الحارة، حتى عتريس ورجاله، ودُفن إلى جانب شمس الدين.

وثارت مكامن الأحزان في قلوب آل الناجي والحرافيش، وانسابت عليهم الذكريات مترعةً بالأسى.

٣٥

وطرأت حركة جديدة غير مألوفة، ندَّت عن تيار الأحداث الرتيبة والساعات التوائم مثل شهاب يمرق في سماءٍ باهتة.

وتساءلت رضوانة في حيرة: «ماذا يفعل الرجل؟»

على غير عادةٍ أخذها بكر مِن يدها وراح يتفقَّدُ جنباتِ داره الكبرى طابقًا بعد طابق. إنه جادٌّ أكثرَ ممَّا تتصوَّر، عظيم الاهتمام، كأنما يستعد لرحلة أو لمضاربة خطيرة: ماذا تفعل بالله؟

فلم يُجِب، لم يبتسم، مضى بها من حجرة إلى حجرة، من بهو إلى بهو، من قاعة إلى قاعة، طائفًا بقطع الأثاث النادرة، بالتحف، بالطنافس والستائر والسجاد، بالقناديل، والشمعدانات والتحف، بمخدع نوم رضوان وصفية وسماحة.

وتمتمت بضيق: تعبت.

فأشار إلى مرآة تحتل جدارًا كاملًا مؤطَّرةٍ بالذهب الخالص وقال: لا نظير لها في البلد كله.

وأشار إلى نجفة شامخة مترامية الأبعاد، مرصَّعةٍ بالكواكب وقال: إحدى ثلاث في مدينتنا الكبرى.

ثم أشار إلى القبة الزجاجية التي تعلو المنور بألوانها الشتَّى وقال: صُنعت وزُخرفت في عام كامل وكلفت ثمنَ مئونة جيش!

ثم بسط راحتَيه نحو سجادةٍ عملاقةٍ تغطِّي أرض البهو الكبير وقال: حُمِلت إليَّ خاصةً من أرض العجم!

لم يترك صُوانًا إلا أشاد به، لم يُغفل جوهرةً حتى قدَّم لها فروض الطاعة والثناء.

عند ذاك توثَّبت رضوانة للتحدِّي، فجذبت معصمها من قبضته وتساءلت: ما الحكاية؟!

فشبك ذراعَيه على صدره وهو يحدِّقها بنظرةٍ غريبةٍ غامضة، ثم قال: الحكاية أنني محبوبُ الأقدار!

– ماذا تعني؟

– الأقدار تعشقني فهي لا تغفل عني لحظةً ولا تنام!

– إنك تبدو لعينَي غايةً في الغرابة؟

– انظري إليَّ جيدًا، تأمَّلِيني طويلًا ما استطعت، أنا الدنيا بلا زيادةٍ ولا نقصان.

– لم تَعُد أعصابي تتحمَّل أكثر.

فابتسم لأول مرة وقال: الحكاية يا رضوانة العزيزة المحبوبة المدلَّلة المتمرِّدة أن بكر سليمان شمس الدين عاشور الناجي قد أفلس!

٣٦

لم تفهم شيئًا. لم تصدِّق المستحيل. نطح رأسَها سقفُ الصُّوان. تخايلت لها الدنيا في صورة امرأةٍ تغمز بعينها اليسرى. تهيَّأت لتستقلَّ العربة الماضية إلى جبال الواق. تبدَّى لها وجه بكر أجمل من الواقع وأتعس من الممكن. مرقت من فيها شهقةٌ سرعان ما تجسَّدت في صورة عقرب.

تمتم بكر: هي الحقيقة يا رضوانة.

رآها تتمخَّض عن تمثال للذهول، فقال بقهرٍ ويأسٍ وحقد: لا فتونة ولا مال ولا سعادة!

تساءلت بريقٍ جاف: ولكن … لكن كيف وقع ذلك؟!

– كما يقع الشلل والفضيحة والموت، لمَ تتعجَّبين؟ ما هي إلا مغامرةٌ أخطأَت الهدف!

فقالت بعذاب: طالما حذَّروك من المغامرات!

فقال بازدراء: الذين لا يعلمون ينتقدون ويعظون ويحسدون، عليهم اللعنة!

وساد الصمت دقيقةً فرقصت أشباح المخاوف، وارتطمت الأحلام المستحيلة بجدران الواقع الصلد المكفهر، ثم تساءلت: وماذا بعد؟

– سوف تصفَّى التجارة وتُعرض جميع الأملاك في المزاد، أمَّا بعد ذلك ..

وتوقَّف فتساءلت: أمَّا بعد ذلك؟

– بعد ذلك ننضم إلى قافة المتسوِّلين.

– لا شك أنك تحاول إرعابي.

– أحاول إيقاظكِ ليس إلا.

فصاحت: إنه جزاء الجنون.

فقال ساخرًا: إنها التجارة فحسب، فيها شريك خفي هو القدر.

– أنت الذي غامرت لا القدر.

– وأنتِ طالما جحدت وتنكَّرت، ولكن لا شأن لذلك بالسوق.

فانهمرت دموعها وقالت: الآن أعرف كيف مات أبي.

فقال بمرارة: كان سعيد الحظ!

– والأولاد ما مصيرهم؟!

فقال بامتعاض: فلندعهم ينعمون بنومٍ سعيد.

٣٧

توقَّفت الحارة عن نشاطها المألوف لتشهد المزاد الخاص بالرجل الذي كان أغنى أغنيائها من قبل أن ينزلق في هاوية الإفلاس.

ثمة سحائبُ كانت تركض فوق سطح الشمس في اليوم الأخير من أمشير. ووقف بكر سليمان الناجي وسط الشركاء الذين انقلبوا دائنين. جفَّت فوق شفاههم بسمات التودُّد، انداحَ فوق خدودهم شحوبُ القلق، وارتباكُ التحفُّز، ولكن الأشداق انتفخت بحتمية التصميم.

ومال سعيد الفقي شيخ الحارة على أذن عثمان الدرزي الخمَّار وسأله متهكِّمًا: لمَ لم يرَ حلم النجاة مثل جدِّه الأول؟

فهمس الخمَّار: أحلام المتخمين كوابيس!

وقُبيل المناداة بدقيقةٍ ترامى رنين جرسٍ مؤثِّر.

اتجهت أبصارٌ نحو مدخل الحارة فرأَوا كارتةً قادمةً يتوسَّطها رجل. تُرى أهو مزايدٌ طارئٌ من الخارج؟ وقفت الكارتة عند الحلقة. غادرها شاب في عباءة سوداء، وعمامة مقلوظة، طويل رشيق، ذو سحنة غير غريبة.

وأكثر من صوت هتف: يا ألطاف الله! هذا خضر سليمان الناجي!

٣٨

تطايرت التوقُّعات من رأسٍ إلى رأس. سرت الهمهمة مثل الطنين. دارى سعيد الفقي ابتسامة. اصفرَّ وجه بكر وارتعشت أطرافه، أمَّا خضر فقد رفع يده بالسلام، وتلقَّى الردَّ بترحيبٍ ورجاء، وقال سعيد الفقي: جِئتَ في وقتك!

وتساءل عثمان الدرزي: أجئتَ متزايدًا؟

فقال خصر بأسًى: بل جئتُ لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه.

أدرك الجميع أنه يتكلَّم من موقع القوة والثقة، وأن الفتى نجح في مهجره وأثرى، فانتعشت أنفس الدائنين وقال صوت: فليبارك الله خطاك.

فقال خضر: إذن فليُؤجَّل المزاد لعلنا نصل إلى اتفاق.

عند ذاك صرخ بكر: كلَّا!

تركَّزت عليه الأبصار في ذهولٍ فصاح مخاطبًا أخاه: لن يطهِّرك الزمن من جريمتك، فاخسَأ ملعونًا غير مشكور!

وتناثرت الاعتراضات مثل الرذاذ وقد تلاحقت السحائب الراكضة، فانعقدت خيمة دكناء.

وقال خضر برجاء: دعني أقم بواجبي.

فصرخ بكر في هياج: الخراب أحب إليَّ من النجاة على يدك!

فقال الشيخ طلبة القاضي شيخ الزاوية: لا يجوز تبديدُ رحمةٍ من السماء.

فصاح بكر: ما جاء إلا للشماتة والانتقام.

وأحاط الدائنون ببكر يهدِّئونه ويُقنعونه، وقال الشيخ طلبة القاضي: فليُؤَجَّل المزاد حتى نستقر على رأي لا يعقبه ندم.

٣٩

ختم بكر حديثه، ثم نظر نحو رضوانة وقال: هذه هي الحكاية.

انتظر التعليق بشغفٍ محمومٍ ولكنها ارتبكت وقُهرت ولم تجِد ما تقوله. انحصرت في قفص من نظراته الحادَّةِ المستطلعة. وتساءل بكر: ما لك لا تتكلَّمين؟

غاصت أكثر في الصمت، وغُلبت على أمرها. فَعَلت السخرية في نبرته وهو يقول: خبِّريني برأيك؟

فهربت ببصرها نحو البسملةِ المؤطَّرةِ بالذهب المثبتة فوق الجدار، وقالت مدفوعةً بإرادةٍ يائسة: ماذا أقول والأولاد مهدَّدون بالتسوُّل؟!

– أسمعيني رأيك صريحًا مثل النار.

فقالت وقد استردَّت بعضَ عنادها: أرى أنه يرغب في إنقاذ سمعة الناجي.

فقال بحنق: كلَّا، لو كان يُقيم وزنًا للسمعة ما طمع في زوجة شقيقه!

فتمتمت في حرج: لعله ينشد التكفير.

– لا تكفير لمن لا ضمير له.

– لمَ يضحِّي بماله إذن؟

فاجتاحه الغضب وقال: لعله يرغب في إنقاذكِ أنت!

فلوَّحت محتجَّةً وقالت بحِدَّة: كلَّا!

– كلَّا هذه لا تعني شيئًا.

– أعتقد أنه يسعى لإنقاذ سمعة أسرته.

فاشتعل غضبه وقال: إنك تكذبين!

فقالت محتدَّة: لا تَزِد الأمور سوءًا.

– دعيني أشك في كلِّ شيء، حتى أنت!

فصاحَت به: إنك في حالٍ لا يمكن أن تحاسب معها على قول.

– إني في تمام قواي العقلية. الإنسان قد تجنه النعمة، ولكنه يلقَّن الحكمة على يد الإفلاس والمحن، ما أنت إلا امرأةٌ قذرةٌ تتطلَّع إلى عاشقها القديم.

فصرخَت: لقد فقدتَ عقلك.

– المعجزة أنني لم أفقِده طيلة معاشرتي لك، هل وجدتُ منكِ إلا الجحود والتمرُّد والنفور؟ هل وجدت منكِ إلا الغدر والخيانة المكبوتة؟ أعطيتكِ كلَّ شيءٍ ولم آخذ إلا الهواء، وكنتِ اللعنةَ وراء جنوني وإفلاسي، فلْتحلَّ بكِ اللعنةُ والخزي.

وتلوث قائمةً مثلَ لسانٍ من لهبٍ وصرخت في وجهه: اقطع لسانك القذر!

فجُنَّ جنونه.

انهال عليها ضربًا وصفعًا وركلًا حتى تهاوت مغمًى عليها. ومن خلال النار المشتعلة في عينَيه حملق فيها ذاهلًا. اعتقد أنها تُحتضر أو أنها ماتت، وبسرعة تملَّص من هموم حياته ومن عذابات الحيرة؛ وثب من فوق أسوار الواقع فغادر المكان مكتظًّا بتصميمٍ مدمِّر.

٤٠

كان خضر سليمان الناجي مجتمعًا بالدائنين في دُكَّان شيخ الحارة عندما اقتحمها بكر. قبض بيده على سكين وثمِل برحيق الجنون الأحمر. صاح: لقد قتلتها وسأقتلك يا تيس!

ووجَّه نحو أخيه ضربة. انحرفَت الضربة بسبب تدخُّل البعض فاخترقت العمامةَ دون الرأس. تكالبوا عليه، انتزعوا السكين من يده، طرحوه أرضًا.

– جُنَّ الرجل.

– بل هو مجرم.

رفع بكر رأسه عن الأرض قليلًا وصاح: أنتم وراء المال ولو في بؤرة فسق!

وقال شيخ الحارة: نسلِّمه إلى القسم.

هتف خضر بجزع: لقد قتل زوجته.

– يسلَّم للقسم.

وعاد بكر يصيح: جميعكم أوغاد وكلاب!

٤١

سرعان ما تكشَّفت الحقائق. لم تمُت رضوانة كما توهَّم بكر. أطلقوا سراح بكر. توارى بكر عن الأنظار واختفى من الحارة.

أدَّى خضر ما تمَّ الاتفاق على أدائه من أنصبة الدائنين. صُفِّيت التجارة، أمَّا دارا السمري والشوبكشي فبقيتا في حيازة رضوانة.

ودعت ست فتحية خضر للإقامة في مسكنها الصغير — مسكن أبيه — حتى ينظِّم حياته. ووضح أن خضر ينوي الإقامة في حارته. وبلا تردُّدٍ اتخذ الإجراءات لشراء محل الغِلال ومواصلة نشاطِه التِّجاري السابق. وفكَّر أيضًا في شراء دار السمري أو الشوبكشي ليجد لنفسه مقامًا مناسبًا من ناحية، ولتُفيد رضوانة من ثمن الدار ما تعيش به عيشةً كريمةً هي وأبناء أخيه رضوان وصفية وسماحة.

وقالت له فتحية زوجة أبيه: جميع ما ينبع من قلبك نبيل.

فأجابها بفتور: لم أنسَّ أسرتي، ظلَّت تعيش معي في الخارج.

وحارته أيضًا. وتعلَّم في مهجره أن الناجي معنًى حي، أمَّا السمري فلا وزن له يُذكَر. تعلَّم أن البطولة الحقَّة مثلُ المسكِ تطيب بها النفوس وتهفو إليها الأرواح ولو لم تؤتِ القدرة على استعمالها. ولكن أهذا هو مِلاكُ الأمرِ كلِّه وراء رجوعه إلى الحارة؟!

وسألته فتحية: لمَ لم تُكمل نصف دينك؟

فأجابها مبادرًا: كرهت الزواج في الغربة!

٤٢

وبوحيٍ من تفكيره طلب مقابلة عتريس. تمَّ اللقاءُ في دار عتريس الفخيمة. واستقبله الفتوة بترحابٍ واحتفاء، وقال له: شرَّفت الدار يا سليل البطولة.

فقال خضر بتواضع: إنه واجب من يروم الإقامة نحو فتوتنا.

فقال عتريس بارتياح: أنتم أصل الخير والبركة.

بذلك خمدت تساؤلاتٌ مريبةٌ في مهدها.

٤٣

حتَّامَ ينتظر؟ إنه يمارس عمله في محل الغِلال، ويعاني شتَّى الانفعالات المتضاربة، وها هي الخماسين تسفع الجدران، تثير الغبار، ترفع الحرارة، تلوِّن الجوَّ بالكدر، وعمَّا قليلٍ يتهادى الصيف بجلاله الشعبي وصراحته الحامية وأنفاسه اللزجة. حتَّامَ ينتظر؟ لقد أرسلَت رضوانة إليه من يشكره، فردَّ الردَّ الجميل، وعن لسانه قالت فتحية لرضوانة إنه يتذكَّر دائمًا أنه تبودلت الرسل بينهم كالأغراب، حتى أرسل إليها ست فتحية طالبًا مقابلتها. وذهب إليها ليلًا متجنِّبًا الأنظار حتى لا تُصبح ذكرياتُ الماضي حكايةً مرةً أخرى على الألسنة. ذهب يحمل بين جنبَيه دُوامة، ويُضمر أيضًا تصميمًا.

استقبلته رضوانة في بهو الاستقبال. طالعته محتشمة الملابس، مطوقة الرأسِ بخمار أسود كأنها في حداد. وتصافحا، وتلاقَت عيناهما مقدار ثانية، ولكنها مشتعلةٌ مثل شرارةٍ متطايرةٍ عن احتكاك حجرَين، ثم جلسا صامتَين متحرِّجَين يودَّان الخلاص.

قالت رضوانة: إنها لفرصة كي أشكركَ بنفسي.

فقال متحرِّرًا من حرجه بعض الشيء: وفرصة لي لأضع نفسي في خدمتك.

– ماذا عن بكر؟

– لم أُهمِل واجبي في ذلك الشأن ولكن لم يُعثَر له على أثر.

– متى يرجع في تصوُّرك؟

– إنه ذو كبرياء فيما أعلم وأخشى أن تطول غيبته. كيف حال الأولاد؟

– على خير ما تحب.

فتردَّد خضر قليلًا، ثم قال: أودُّ أن أشتري دار الشوبكشي إذا أذنت.

فقطَّبَت قليلًا وهي تقول: تريد أن تقدِّم مالًا لامرأةٍ مفلسة!

فقال متلعثمًا: إني بحاجةٍ إلى دارٍ بصفةٍ عاجلة!

ثم بتسليم: وأولادك أولادنا على أي حال.

فقالت وهي تتفحَّصه: تُشكَر على نواياك الطيبة.

وصمتت لحظة، ثم تساءلت: تُرى هل نسيت الإساءة القديمة؟

فبادر يقول: مَن يحمل الماضي تتعثَّر خطاه.

– ولكن هل يُنسى الماضي حقًّا؟

– أجل، إن يكُن من الخير أن ننساه.

– لا أدري.

– لولا ذلك ما رجعت، وما تمَّ بيننا لقاء.

فلاحت نظرةٌ حذرةٌ في عينَيها الجميلتَين وتساءلت: هل جئت حقًّا من أجل شراء الدار؟

فدارى ارتباكًا تهدَّده لحظةً وقال: أجل.

– ولكنك تعلم أنها ما زالت ملك بكر الغائب!

فتورَّد وجهه وهو يقول: قد نجد لذلك حلًّا.

فهزَّت رأسها في رِيبة، فقال: على الأقل لأكون في خدمتك.

فقالت بكبرياء: في الدارَين من التحف ما يكفل لنا حياةً رغيدة!

– ولكني مسئول أيضًا.

فقالت وهي ترمقه بنظرة غامضة: لست في حاجة إلى مساعدة والشكر لك.

فحنى رأسه امتثالًا، وتحرَّك حركةً توحي بوجوب إنهاء المقابلة، فتساءلت بقلق: أم جئت لغرضٍ آخر؟

فتطلَّع إليها بنظرة دهشة فقالت بجرأة: من أجل الزجر والتأديب؟

فهتف بصدق: أعوذ بالله من خاطر لم يدُر لي في بال!

فلاذت بالصمت فعاد يقول بحرارة: ما نطقتُ إلا بالصدق.

فانقشع التوتُّر من شفتَيها وحلَّ مكانه سلام. وعند ذاك قلبت الصفحة قائلة: لقد نجحتَ في مهجرك والحمد لله.

– أجل. انتفعت بمدخري الذي حملته معي.

– تُسعدنا ولا شك سعادتك.

فتوقَّف قليلًا، ثم قال: النجاح لا يوفِّر دائمًا السعادة.

– تلك حقيقة عرفتها بنفسي، ولكن ماذا حرم عليك السعادة أنت؟

فلاذ بصمت ذي مغزًى، فارتبكت وقالت: نحن أيضًا خسرنا السعادة.

فتمتم: يا لها من لعنة!

– كانت سنية هانم تردِّد دائمًا أن اللعنة قد حلَّت بنا.

أدركت من تجنُّبه السؤال عن أمه أنه علم بمصيرها فندمت على ذكرها، ولكنه قال: لعلها صدقَت.

فقالت بأسًى: كانت تعدني اللعنة.

فقال بصوتٍ منخفض: نحن نبالغ في أحزاننا.

فقالت بجرأة: أعترف بأنني كنت شريرةً وأنني ظلمتك ظلم الحسن والحسين.

فغمغم: لا عودة إلى الماضي.

فقالت متماديةً في جرأتها: لا أحد يعترف للعواطف بحق.

فلم يجِد ما يقوله، فقالت: ولو كانت صادقة!

ها هي لحظة طالما يئس من العثور عليها. لعله من أجلها جاء. لعله من أجلها رجع إلى الحارة. لعله بسببها لم يذُق للسعادة طعمًا.

وقال منحدرًا في عذوبة: حتى أصحاب العواطف قد يتنكَّرون لها.

فتألَّقت عيناها، وجرى في لونهما المشرق الْتماع التفكير والنهم للمعرفة، تساءلت: ماذا تعني؟

فصمت مُعَانيًا الإثم، فعادت تتساءل: ماذا تعني؟

فتساءل في حيرة: ماذا قلتُ؟

– أصحاب العواطف قد يتنكَّرون لها، لا تهرب!

فهرب في الصمت فقالت وهي تثمل بنشوةٍ طارئة: من ناحيتي لم أتنكَّر!

ظلَّ صامتًا فواصلت بانفعالٍ شديد: لا تصمُت، لماذا جئت؟

فقال متهالكًا: لقد قلت.

– أعني قولكَ الأخير.

فقال بنبرة اعتراف: تكلمتُ أكثر ممَّا يجوز.

فهتفت وهي تفقد الوعي: ما الذي يجوز؟! ما الذي لا يجوز؟! لماذا جئت؟! إنك ما جئت إلا لتقول ذلك.

فقال وهو يتدهور أكثر فأكثر: في البدء كانت اللعنة، والآن الجنون.

فبُعث جمالها جارفًا الأسى وقالت: اسمعني بصراحةٍ ووضوح.

– إنك تدركين كل شيء.

– لا أهمية لذلك. أسمعني صوتك.

فرنا إليها بنظرةٍ هشة تسيلُ اعترافًا. بعثت النظرة في أوتارها عزف النغم فتوهَّج جمالها كالشعاع، واكتسى بحلة الظفر المبهرجة: إذن لم يكُن أنت الذي قال لا.

فقال بأسًى: شخص فيَّ قالها.

– ثمة شخصٌ آخر، ماذا يقول؟

قال بجديةٍ بالغة: كنت أُحبك، ما زلت أحبك، ولكن علينا أن نفكِّر طويلًا.

واستقرَّ الصمت بإرادة الطرفيَن في وقار الليل، وفي الصمت عزفت في الآذان دقات القلوب.

٤٤

لو أن شيئًا يمكن أن يدوم على حال فلِمَ تتعاقب الفصول؟

٤٥

الانتظار محنة. في الانتظار تتمزَّق أعضاء الأنفس. في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته. والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة، ولكنه يحتمل نهايات متناقضة. فليَعُب كلُّ ملهوفٍ من قدح القلق ما شاء.

متزوجة، غير متزوجة، أيضًا عاشقة. تُكاشف الأولياء، تستشير المحامي، تُجن من التفكير في الخطوة التالية.

في محل الغِلال تمارس التجارة بمهارة، تحاور العواطف بشغف، تداري الأشواق بعذاب، تصارع الغرائز بعنف، ترفع إلى السماء أماني وابتهالات.

الناس تراقب وتتذكَّر، تُحصي اللفتات والنوايا، تؤِّول الأوهامَ بأوهام، تتعجَّل تحقيقَ الظنون، تتستَّر بالتقوى والبراءة.

ويقول سعيد الفقي شيخ الحارة: الشهامة قناع، والفاسق أبرع من الشيطان.

ويسأل عثمان الدرزي السكارى في البوظة: لِمَ لم يتزوَّج حتى الآن؟

٤٦

زحف مدُّ الأسى حتى غطَّى إبراهيم الشوبكشي شقيق رضوانة ووكيل خضر. الأقاويل تدهمه مثل الشرر. خسر الجاه، وها هو على وشك أن يخسر الشرف. الحياة تُدبر رويدًا رويدًا منذرةً بمأساة.

وسأل خضر ذات يوم: أليس من حقِّك أن تطالب بدارَي الشوبكشي والسمري نظير ما سدَّدت من دَين؟

فأجابه خضر بدهشة: ما خطر لي ذلك ببال.

فقال إبراهيم بمكر: جميل أن تحفظ عهد بكر رغم أنه ضيَّعه.

فقال خضر ببراءة: أبناء بكر أبنائي.

ما أجمل الكلام! ولكن ماذا عن النوايا؟

٤٧

ولقيَ إبراهيم الشوبكشي نفسه في الجحيم. بين يدَيه سهل منبسط، وحياة واعدة لا بأس بها، ولكن ثمة قوًى نابعة من المجهول تدفعه إلى طريقٍ وعر، وهو لا يسير مغمض العينَين، ولكنه يمتلئ بوعي حادٍّ كالنصل، ويُدرك أنه يطرق باب الرعب.

ذهب في المساء لزيارة شقيقته رضوانة، طالما تبادلا الحب صافيًا والرعاية.

ولكنه لم يجِد بُدًّا من مصارحتها بما يتردَّد على ألسنة الخلق. واستاءت رضوانة استياءً جليًّا، وقالت بحِدَّة: هكذا الناس دائمًا وأبدًا.

فقال إبراهيم: من واجبنا أن نقطع الألسنة.

– أودُّ أن أقطعها بلا رحمة!

فقال إبراهيم بمكر: نالنا ما نالنا من اختفاء زوجك، إنه لوغد!

فانزلقت قائلة: هو كذلك، ومن حقي ألَّا أسكت على ذلك.

فاشتعلت هواجسه وتساءل: ماذا تعنين؟

– من حقي أن أُطالب بالطلاق!

فصرخ إبراهيم بغضب: الطلاق!

– أجل، ماذا أغضبك؟

– النساء المحترمات لا يفعلن ذلك.

– لا يفعل ذلك إلا النساء المحترمات!

– وكيف تبرِّرينه؟

– بأنه تركني بلا مورد!

فتساءل بتربُّص: وهل يجيئك الطلاق بمورد؟

أدركَت أنها جاوزت الحد بتصريحها فارتبكت قليلًا، ثم تمتمت: على الأقل أن أقطع صلةً لم يبقَ لها معنًى.

فقال برجاء: أجِّلي ذلك من فضلك، ثم إنه طريق معقَّد لا ندري شيئًا عن مسالكه.

– كلَّا، المحامي له رأيٌ آخر!

فتساءل في ذهول: استشرتِ محاميًا أيضًا؟

فلاذت بصمتٍ متحرِّجٍ فهتف: يا للعار! ومن وراء ظهري؟!

– محض استشارة لا ضرر منها.

– يحق للناس عند ذاك أن يقولوا إنك تسعَين إلى الطلاق تمهيدًا للزواج من خضر!

– عليهم اللعنة!

– ولكنه أمر خطير بالنسبة لسمعتنا!

فقالت بحِدة: سلوكي طاهر لا شائبة تشوبه.

فقال وهو يحملق في وجهها بوحشية: سيرجح لديهم — ولهم العذر — أنكِ كنتِ شريكةً في جريمته.

– سيجدون دائمًا ما يقولونه.

– ولكنه خطير جدًّا وسينسف سمعتنا نسفًا.

فقالت بغضب: لستُ قاصرةً يا إبراهيم!

– المرأة قاصرة حتى تدخل القبر.

وجفلت من غضبه فقالت: فلنؤجِّل الحديثَ إلى وقتٍ آخر.

فقال بعناد: إنه غير قابل للتأجيل.

فهتفت بعصبية: دعني وشأني!

فصرخ: الآن أُدرك أنك شريكةٌ له!

– أنسيتَ ما حدث؟

– ولكني أعرف قصة امرأة العزيز.

فصاحت غاضبة: حسبي أني واثقةٌ من نفسي.

فوقف شاحبًا وسأل: بصراحة أجيبيني، هل تنوين الزواج من خضر؟

– أرفض الاتهام كما أرفض التحقيق.

– يا للكوارث التي لا تريد أن تقف عند حد!

فوقفت بدورها وهي تتساءل: أليس الزواجُ علاقةً مشروعة؟

– أحيانًا يكون هو والزنا سواء.

– لم أسمع عن ذلك من قبل.

فقال بهدوءٍ طارئ: إذن فأنت تنوين الزواج من خضر؟

فلاذت بالصمت وأطرافُها ترتعش.

– إنك تنوين الزواج من خضر! حقًّا إن للناس غريزةً لا تخيب.

فقالت بأسًى: تبرَّأ مني إذا شئت، لننفصل يا إبراهيم!

فقال بهدوء: سوف ننفصل يا رضوانة.

وانقضَّ عليها بغتة. بكل وحشيةٍ وجنونٍ طوَّق عنقها بيدَيه. شدَّ بقوةٍ حتى ثمل بالعنف وتمادى في القتل. ودافعت رضوانة عن حياتها بيدَين عاجزتَين، بانتفاضات عشوائية، بصرخات لم تخرج، باستغاثات لم تُسمع، بأمانيَّ لم تذعن، بيأس بدَّد النور والأشياء.

مضت تسترخي، تستسلم، تَهِن، تهمد، معلنةً العدم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤