جلال صاحب الجلالة

الحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش

١

أصاب مصرعُ زهيرة المعلم عزيز بطعنةٍ وحشيةٍ لا دواء لها. تراءى في الجنازة والمأتم كشبحٍ فقد النعمة والأمل، ونُبِذ تمامًا من جسد الحياة. تضاعف ألمه بقدر ما تماسك أمام الناس. تبدَّت له الدنيا عجُوزًا ماكرةً قاسيةً لا حدَّ لمكرها ولا لقسوتها، فأضمر نحو كافَّة وعودها الرفضَ والمقت.

وزارَته أُمُّه عزيزة هانم، فاستقبلها بفُتورٍ وعتابٍ صامت، ولكنها بكَت وضمَّته إلى صدرها وهمست في أذنه: لا يجوزُ أن نتخاصمَ تحت ضرباتِ القَدَر!

ولثمت جبينَه، ثم واصلت متنهِّدة: كأني ما خُلقت إلا للحزن والأسى.

وانزلقت فوق قلبِه كلماتُ العزاءِ فلم تترك أثرًا.

٢

وعقب الوفاةِ بأشهر أُصيب المعلم عزيز بالفالج. لم يمهِلْه المرض إلا أسابيع، ثم فاضت روحه، وحزنت عزيزة حزنا مُهلكًا. لم يجْرِ لها في خاطرٍ أنها ستدفن وحيدَها النبيل، وأنها ستبقى بعده يومًا واحدًا تتنفَّس. عاودها الحزن كأشَدِّ ما كان على فقد قرة، وكأنها مخلوقٌ مهيبٌ لا يتجلَّى جلالُه إلا في رحاب الحزن الكبير. عزيزةُ الجميلةُ النبيلةُ التي قطعت حياةً معاندةً تبذر الصبر وتحصد الألم.

واحترامًا لوصية عزيز ضمَّت راضي إلى دارها مع شمس الدين، ورغم العناية البالغة بشمس الدين فإنه مات في شهره الثامن، أمَّا جلالُ فأخذه أبوه عبد ربه الفرَّان.

٣

اهتزت الحارة لمصرع زهيرة. هزَّها صراعُ الحظِّ مع القَدَر. الْتمسَت العِبرةَ في ثنايا الأحداث وتقلُّبِها. تساءلت لمَ يضحكُ الإنسان؟ لمَ يرقصُ بالفوز؟ لمَ يطمئنُّ سادِرًا فوق العرش؟ ولمَ ينسى دورَه الحقيقيَّ في اللعبة؟ ولمَ ينسى نهايتَه المحتومَة؟ ولم تخْلُ الحنايا من أسًى، ولكن سرعان ما غرق الأسى في خضم الحقد والغضب. وانصبَّت اللعنات، وقيل هذا جزاء الظالمين. وعزيز النبيل لم يحترم أحدٌ حزنَه، واتُّهم بخطف زهيرة من عبد ربه الفرَّان، ولم يحزن أحدٌ لموته الحزن الذي يستحقُّه. وقال الحرافيش إن أسرة الناجي أصبحت مسرحَ الحزنِ وأُمثولةَ العبرِ جزاءَ خيانتها لعهد جدِّها العظيمِ صاحبِ الكراماتِ والبركات.

وفي ذلك الوقت تنكَّر الجوُّ في برمودة، فتلبَّدَت السماءِ بالغيوم على غير ميعاد، وانهلَّ مطرٌ غريب، ثم تساقط وابلٌ من البرد، فذُهِل الناس وعجبوا. وجفت قلوبُهم، ولكنهم غمغموا حيارَى: «لعله خير يا رب العالمين!»

٤

لم يُكتب على طفلٍ ما كُتِب على جبين جلال بن زهيرة بن عبد ربه الفرَّان من المعاناة والألم. منظر تهشيم رأس أُمِّه الجميلةِ انغرز في أعماقه. كابوس دامٍ يعذِّب يقظَتَه ويكدِّرُ أحلامَه. كيف تأَتَّى لهذه القسوةِ أن توجد؟ كيف أمكن أن يلقى جمالٌ نبيلٌ تلك النهايةَ البشعة؟ لماذا وقع ذلك؟ لماذا صمتت أُمُّه؟ لماذا اختفت؟ وماذا جنى حتى يُحرم من جمالها وحنانها وأُبَّهة الحياة النابعة منها؟ لمَ لا ترجع الأيام إلى الوراء كما تتقدَّم إلى الأمام؟ لمَ نخسر ما نحب ونعاني ما نكره؟ لماذا تُذعن الأشياء لأوامر صارمة؟ لماذا يُنقل من الدار الفاخرة إلى مسكن عبد ربه الفرَّان؟ ومن هو عبد ربه الفرَّان؟ ولمَ يُطالَب بالاعتراف به أبًا له؟ إنه ابنُ أُمِّه بلا شريك. هي أُمُّه ومبدعه ومهده وحبه. إنها روحه ودمه، صورتها مطبوعةٌ على وجهه، صوتُها يشدو في أذنه، وأملُ استرجاعها ذاتَ يومٍ لا يخبو في قلبه.

إن العظام المحطَّمة الغارقة في بركة الدم لا تُنْسَى إلى الأبد.

٥

تغيَّرت دنيا عبد ربه الفرَّان أيضًا. بفضل الثروةِ التي ورثها جلال انتقل من البدروم إلى شقة محترمة. ابتاع الفرن من صاحبه باسم ابنه، وراح يُديره إدارةً سيئةً لإدمانه الخمر. ارتدى الجلباب الأبيضَ والعباءةَ الملوَّنة، توَّج رأسَه باللاثة المزركشة، واختفت قدماه الغليظتان لأوَّل مرَّةٍ في مركوبٍ أحمر. وقال لنفسه بتشنُّج: «تمتَّع يا عبد ربه بجاه زهيرة.» ولم يجد من يحاسبه على العبث بمال جلال الصغير. ورغم الخمر والأسى تعلَّق قلبه بجلال. رنا مبهورًا إلى جمال زهيرة المطبوع على مُحَيَّاه. إنه يذكِّرُه بأسعد أيامه وأشقاها. ولا يألو جهدًا في استئناسه وطمأنته وكسب مودته، ذلك الصغيرُ الجميلُ النافر.

٦

واستيقظ جلال ذات ليلة قُبيل الفجرِ وهو يبكي، فأيقظ أباه المخمور. انزعج عبد ربه ومسح على شعره الأسود الناعم متسائلًا: حلمت يا جلال؟

فسأله وهو يجهش: متى ترجع أمي؟

وضاق به من ثقل رأسه، فقال له: ستذهب إليها بعد عمرٍ طويلٍ فلا تتعجَّل.

٧

وجاءت سيرة زهيرة ذاتَ ليلةٍ في البوظة، فقال سمكة العلَّاج الفتوة: أول امرأة يُقتل بسببها فتوة عظيم.

فتظاهر عبد ربه بالرجولة وقال: نالت جزاءها!

فقال جبريل الفصُّ شيخ الحارة: لا تَدَّعِ الشفاءَ من الحب.

فقال عبد ربه متحديًا: أخاف أن يكفِّر مصرعُها عن شرِّها فتُقسم لها الجنة!

فقال سنقر الشمَّام الخمَّار ضاحكًا: إنك تتمنَّى لها النار لتضمنَ لنفسك لقاءها!

فتأوَّه وقال متخليًا عن تظاهره: يا للأسف! هل بات الجمالُ الفتَّانُ حقًّا طعامًا للدود!

ثم قال بصوتٍ هادر: صدِّقوني، أحبتني لدرجة العبادة، ولكنها كانت مجنونة.

وراح يغنِّي بصوتٍ كالنهيق:

يا بو الطاقية الشبيكة قل لي مين شغلها لك؟
شبكت قلبي إلهي ينشغل بالك

٨

ودخل جلال الكُتَّاب. ولدٌ مليحٌ ذكيٌّ فائقُ الحيويةِ قويُّ المبنى. ويوم طولب أن يحفظ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ سأل سيدنا: لماذا الموت؟

فأجابه الشيخ: حكمةُ اللهِ خالقِ كلِّ شيء.

فتساءل جلال بعناد: ولكن لماذا؟

فغضب الشيخ. مدَّه على الفَلَقَة، ثم ألهب ظهره بالجريدة. صرخ باكيًا. لم يسكن غضبُه طيلةَ اليوم. ما كان يقع له شيءٌ من ذلك لو أن أُمَّه ما زالت تتألَّق بالحياة، والحياة تتألَّقُ بها.

٩

وتعرَّض جلال في الكُتَّاب والحارة لحملةٍ صفراءَ قاسية. كلُّ ولدٍ يُعيِّره هاتفًا «ابن زهيرة». دائمًا ابن زهيرة. أهي سبة يا أشقياء! ويرجمونه بشظايا من سيرتها المجهولة له: الغادرة، الخائنة، المزواجة، المتكبِّرة، القاسية، الخادمة، الهانم المزيَّفة.

ويُهرع إلى أبيه فيسأله: لماذا يسبُّون أُمِّي؟

فيلاطِفُه مواسيًا فيقول: كانت أجمل من الملائكة.

فينصحه أبوه قائلًا: أخرِسهم بالصبر.

فيتوارى جماله خلف عبوسةٍ ناقمة، ويتساءل محتجًّا: الصبر؟!

فيرمقه أبوه بانزعاج.

١٠

وتتسلَّل إليه سيرة أمه؛ كلمةٌ من هنا وكلمةٌ من هناك. إنه يرفض أن يصدِّق. وإذا أُرغم على التصديق رفض أن يعتبر الأمرَ مُخْزِيًا. ستظل أمه ملاكًا مهما فعلت. وما العيب في أن يتطلَّعَ الإنسان إلى هلال المئذنة؟ ولكن هل يجدي منطقٌ مع أولادٍ شياطين؟!

هكذا اضطُرَّ جلالُ إلى أن يخوض معركةً بعد معركةٍ. الحقُّ أنه كان يتمنَّى غير ذلك. طالما أحب الودَّ والْتمس حسن العلاقة والصداقة. الأولاد يستهينون بذلك ويرومون المشاكسة، وهو صلبٌ عند التحدِّي، عنيدٌ حِيالَ المستحيل، ادَّرع بخشونةٍ ليست من طبعه، ردَّ على الكلمة بضربة، تكاثرت مشاجراته وتوكدَت انتصاراته، انقلب غلاما مخيفًا وعُرِف بالشيطنة، رفعته القوة وأخرست خصومَه فثمل بها وعبدها.

١١

وفي الكُتَّاب الْتقى من جديد بأخيه راضي. إنه ابنُ القاتل، ولكنه ضحيتُه أيضًا، وهو غلامٌ رقيقٌ مهذَّب وضعيف، ومثلُه يُعَيَّر بابن زهيرة فيجهش في البكاء. وتصدَّى للدفاع عنه حتى أسكت خصومَه. وتعلَّقَ به الغلام وقال له: إنك أخي وإني بك لفخور!

كان راضي دونه قوةً وجمالًا، ولكنه كان بالغ التهذيب. وقال له مرَّة: أدعوك للغداء معي.

١٢

وذهب جلال إلى دار المرحوم عزيز الناجي. رأى عزيزة هانم العجوز النبيلة، كما رأى ألفت هانم. قبَّل يدَيهما، فرحَّبا به، ودُهِشا لجماله وصحته. ورأى أيضًا قمر صغرى بنات المعلم عزيز. بنتٌ جميلةٌ خفيفةُ الروحِ تصغره بعامَين.

بهرَه جمالها. نظر إليها طويلًا في أثناء الغداء وبعده، ولمَّا انفرد براضي قال له: ألَا ترى أن قمر جميلة مثلما كانت أُمُّنا؟

فهزَّ راضي رأسه بلا اكتراث، فقال جلال: يا لك من سعيد بمشاركتها دارًا واحدة!

فقال راضي: لا يعجبني إلا صوتُها!

١٣

ناهز جلال المراهقة. أدرك أبعادَ حياتِه؛ خيرِها وشرِّها. آمن بعنادٍ أن أُمَّه كانت أعظمَ امرأةٍ عرفَتها الحارة، وبأنه سليلُ الناجي العظيم الذي لم يُعرف سِرُّ اختفائِه حتى اليوم. لم يكن فتوةً مثل سمكة العلَّاج، ولكنه كان وليًّا وصديقًا للخضر. وحطَّم جلال في الخيال رءوسًا مليئةً بالعناد والشر، وصادق ملائكةً ذوات أجنحة ذهبية، وطرق باب التكية ففُتح له على مصراعَيه، وطاردَه قلقٌ متلفِّعٌ بظلمة الليل، وظلَّت قمر تومئُ إليه من نافذة المشربية.

وتساءل بزهو: ما عيبُ أُمِّي؟ كانت تبحثُ عن رجلٍ مثلِي فلم يُسعِدها به الحظُّ في حياتها التعيسةِ القصيرة!

١٤

وأشركَه عبد ربه الفرَّان في إدارة الفرن. وأثبتَ جدارةً وذكاءً وهمَّةً عالية. وأُعجِب به الأبُ أيما إعجاب، ومضى يتخلَّى له عن مسئولياته، مسلمًا بكليته لقرعة البوظة. تدهور عبد ربه، وزادَه توفُّرُ النقودِ بينَ يدَيه تدهورًا. وبفخارٍ وإعجابٍ مضى ينظرُ إلى ابنه جلال. يراه وهو يسيطر بقوة شخصيتِه على العُمَّال، ويستحقُّ احترامَ العملاءِ رغم سمعةِ أُمِّه السيئة. ويراه وهو يصلب عودُه، وتشتدُّ أطرافُهُ، ويتعملقُ هيكلُه، وتتدفَّقُ الحيويةُ في بنيانه، ويتألَّق بالجمال الفريد وجهُه.

ولم يبقَ لجلال من ثروته إلا الفرن، ومن الماضي إلا ذكرياتٌ أليمة، حتى بسمات المجاملة فوق الشفاهِ لا تخدعُه؛ فهو على يقينٍ من أن وراءَها تتلاطمُ همساتُ السوءِ عن أُمِّه الجميلة، ولكن المستقبل يَعِد بخيرٍ كثيرٍ لمن كان في مثل قوته وجماله، وصورة قمر بنت عزيز تَعِد أيضًا بأعذب الآمال.

١٥

كان يجلس في العصاري أمام الفرنِ يراهنُ على دِيكه في مصارعات الديوك، تلك كانت هوايتُه المفضلة. ويرنو أحيانًا بهُيامٍ إلى قمر وهي جالسة إلى جانب أُلفت هانم في الدوكار، ويتذكَّر عهدَ صباه، وتردُّدَه على دار عزيزة هانم، وملاعبَتَه لراضي وقمر، تلك الأيام السعيدة. ولكنها انقطعَت بسرعةٍ عندما أنِسَ من عزيزة وأُلفت فتورًا في استقباله. لماذا احتضنتا راضي ونفرتا منه، على حين أنهما معًا ابنا زهيرة؟ لا سبب إلا احترام وصيةِ المعلم عزيز من ناحية، والشبه الملموس بين وجهِه ووجِه المرحومة أُمِّه، فهو يذكِّر المرأتَين بالراحلة المقيتة.

وتبقى بعد ذلك الهوَّة الفاصلة بين فرَّانٍ سيئ السمعةِ مثله، وبين كريمةِ المعلم عزيز ذاتِ الأصلِ والأُبَّهة. ولكنه يحبها حبًّا ملك عليه حواسه وعقله، ويلمس في نظرة عينَيها المتألقتَين استعدادًا طيبًا ومَيلًا واضحًا، فهل يتهيَّبُ حظه السعيد كالجبناء؟!

١٦

وأدرك ما فعله أبوه بثروته فعاتبه على ذلك معاتبةً ساخنة. ومنعه من التدخُّل في العمل وهو يقول: ستعيش راضيًا مكرمًا.

ولكن أباه كان مصدرَ إزعاجٍ لا ينتهي. إدمانُه الخمر مهلك للصحة والكرامة. يسهر كلَّ ليلةٍ في البوظة، ويتسلَّى ببثِّ شكاته من ابنه، يقول: يعاملني كما لو كنت أنا الابنَ وهو الأب، يحاسبني حساب الملَكَين.

أو يتساءل وهو يقهقه: هل سمعتم عن ابنٍ يزجر أباه لأنه يروِّح عن نفسه بقرعة أو قرعتَين؟

وكان يتكلَّم بحب لا عن حقد، ويمضي في التساؤل: هل نسيَ وصيةَ ربنا بالوالدَين؟

وعجز جلال عن أن يجعل من أبيه رجلًا محترمًا. وقد أراد ذلك عن حبٍّ من ناحية، ورغبةٍ في محق عقبةٍ من العقبات التي تعترض طريقَ حبِّه من ناحيةٍ أخرى. وحزن عبد ربه لإساءته غيرِ المقصودةِ لابنه الجميل. قال له مرَّةً كالمعتذر: أمك كانت السبب. انظر إلى نهايات من أحبوها من الرجال.

وقطَّب جلال محتجًّا، فقال عبد ربه: محمد أنور شُنِق، نوح الغراب قُتِل، المأمورُ نُفِي، عزيز مات غمًّا، أمَّا أنا فأسعدُهم حظًّا.

فقال جلال متوسِّلًا: تجنَّب ذكر أمي بسوءٍ يا أبي.

فتمتم: لا تحزن ولكن فكِّر. تريد أن تتزوَّج من قمر، لا تظنني عقبةً يا بنيَّ، ذكرى المرحومة هي العقبة، كيف تصوَّرت أن أُلفت هانم تعطي كريمتها لابن زهيرة؟!

فهتف جلال: لا تعبث بجراحي.

فقال له الرجل بحنان: أنصحك ألَّا تتزوَّج من امرأةٍ تحبُّها، وألَّا تحبَّ امرأةً إذا تزوَّجتها. اقنع بالمعاشرة والمودة، واحذر الحبَّ فإنه مكيدة.

١٧

وعلم جلال ذاتَ ليلةٍ أن أباه يعربد في ساحة التكية. هُرِع إليه من فوْرِه فوجدَه يحاكي الأناشيد بصوتٍ منكر، فساقَه إلى البيت من ذراعه وهو يقول له: الحارة تغفرُ أيَّ شيءٍ إلا هذا.

ولمَّا نام الرجل وجد جلال من نفسه رغبةً حارَّةً للعودة إلى الساحة. لم يخْلُ إلى نفسه أمام التكية من قبل. وكانت الليلةُ حالكةَ السواد. تتوارى النجومُ فوق سحبٍ شتويةٍ كثيفة، وكان البردُ قارسًا فحبكَ العباءَة حولَه وطوَّقَ وجهَه باللاثة. وغمرَته الأناشيدُ مثلَ أمواجٍ دافئة. تذكَّر رُوَّاد المكان من آل الناجي؛ الجد الأول الذي ذاب فيه مثل سرٍّ مكنون. وهمس له صوت: إنما يمتازُ الرجالُ بتحدي الصعاب. وسرعان ما ملأ أعطافَه إلهامٌ سخيٌّ بالبِشْرِ والفوز.

عقد صداقةً مع الظلمة، مع الصوت، مع البرد، مع الدنيا كلِّها. صمَّم على الطيران فوق العقباتِ مثل طائرٍ خرافي.

١٨

وفي أثناء ذلك اشترى راضي محل الغِلال بماله الموروث عن أُمِّه، وتزوَّج من نعيمة حفيدة نوح الغراب. تشجَّع جلال فقابل عزيزة هانم، وقال لها بثبات: يا ستنا النبيلة، أريد يدَ قمر حفيدتك.

فنظرَت إليه طويلًا بعينَيها الذابلتَين، وقالت بصراحة العجائز: اقترحتُ يومًا أن يتزوَّجَها راضي ولكن أُلفت رفضت!

فقال جلال بثقة: إنه جلال من يطلبها هذه المرَّة.

– ألَا تعلم لمَ رفضت؟

فسكتَ مُقَطِّبًا، فقالت بصراحتها السافرة: علمًا بأن راضي ذو مزايا ليست لك!

فقال بحِدَّة: لستُ فقيرًا، ثم إنني من آل الناجي.

فقالت بضجر: قد قلت ما عندي.

فقال بإصرارٍ وعناد: أبلغيها الطلب.

– لك هذا.

وغادرها وهو يغص بخيبةٍ ترابية.

١٩

ولكن ثمة مفاجأةٌ مزلزلةٌ كانت تتربَّصُ بدار المرحوم عزيز؛ فقد رفضت أُلفت هانم الدهشوري يدَ جلال، غير أن قمر انطوَت على نفسها كالمتوعِّكة.

وسألتها جدتها عزيزة هانم: تريدينه زوجًا لك؟

فأجابتها بشجاعةٍ نادرة: نعم.

فهاجَت أُلفت هاتِفَة: إنه ابن زهيرة!

فهزَّت منكبَيها استهانة، غيرَ أن الأُمَّ تجاهلَت رغبةَ ابنتها بعنادٍ وحشي.

ورحبَّت بخاطبٍ من آل الدهشوري، ولكن قمر أعلنت رفضها له بلا تردُّد.

وانهالت أُلفت على ابنتها باللوم والتقريع، ولكنها أصرَّت على رأيها حتى قالت: فلأبقَ بلا زواجٍ!

فصاحت أُمُّها: حلَّت بك روح زهيرة الشريرة.

– فبكت قمر ولكن أُلفت لم ترِقَّ لها وقالت بعناد: ابقَي بلا زواجٍ فهو عندي أفضل.

٢٠

وتدهورَت صحةُ عزيزة هانم فجأةً بحكم الشيخوخة والأحزان. ذبلت ذبولًا شديدًا، وتغيَّر لونُها، وسرعان ما عجزت عن الحركة فلزمت الفراش. لم تُفارِقها أُلفت. جزعت للوحدة التي تتهدَّدُها في الدار الكبيرة، غير أن عزيزة قالت لها: لا تخافي، سيمن اللهُ عليَّ بالشفاء.

وصدَّقَتها كما اعتادَت أن تصدِّقَها دائمًا، ولكنَّ العجوزَ تمتمت بصوتٍ كأنه صوتٌ شخصٍ آخَر: إنها النهايةُ يا أُلفت.

وضعُف بصرُها حتى لم تعُد ترى. ورغم ذلك تطلَّعت إلى لا شيء، وراحت تنادي قرة وعزيز، فارتعَدَت أُلفت وشعَرَت بأن الموت اقتحمَ المخدَع، وأنه ينتظر في ركن، وأنه أقوى الثلاثةِ حضورًا. وتمتمت بنبرةٍ باكيةٍ: ليرحمنا الله.

فقالت عزيزة: إني المُعَذَّبة أُمُّ المعذَّبين. أملي الأخيرُ في ذي الجلال.

فهتفت أُلفت: اللهم خفِّف عنها!

فقالت: أوصيكِ باثنتَين!

فحملقَت فيها باهتمام، فقالت العجوز: لا تعذِّبِي حفيدةَ قرة.

وتنهَّدَت بعمق، ثم قالت: لا تعذِّبِي ابنةَ عزيز.‏

وجاءها الاحتضار، ثم فاضت روحُها مجلَّلةً بالحب والنبل.

٢١

مضت ستة أشهر من عام الحداد. ‏ تمنَّت أُلفت الدهشوري ألَّا ينتهي هذا العام أبدًا، ولكنها أضمرت لوصية عزيزة كلَّ إجلال. داعبها أملٌ في أن تتغيَّرَ قمر نفسها، ولكنَّه أملٌ لم يتحقَّق.

واستدعى المعلم راضي أخاه جلال وقال له: أهنِّئُكَ بالقَبول.

فاجتاحه تيارٌ سماويٌّ من الأفراح أخرسه.

واقترح راضي أن تُعلن الخطوبةُ فورًا على أن تُؤَجَّل الدخلةُ لِمَا بعد الحداد.

ولم يعد في الإمكان أن تُقتلع هذه اللحظةُ من ذاكرة جلال إلى الأبد.

٢٢

وما كاد يمرُّ شهرانِ على الخِطْبة حتى طالب جلال بإلحاحٍ بعقد القِران بلا حفل، على أن تُؤجَّل الدخلة والحفلُ حتى ينتهي عامُ الحداد. وتمَّ له ما أراد.

كأنما أراد أن يستحوذ على الطمأنينة ويمحقَ الأوهام، وأن يبتدر حظَّه مغلقًا الأبوابَ في وجه القوى المجهولة. صار بذلك «الرجل السعيد». وشهدت الأيامُ أقصى درجةٍ من الثراء في سجاياه الحميدةِ. حتى أبوه السِّكِّير لم يعُدْ يحاسبُه. ودلَّل عُمَّاله وذويهم. وترنَّم بالغناء، وهو يعمل وهو يتابع مصارعةَ الديوك. ازدهر جماله وتضخَّمَت قوته. وسهر الليالي بالساحة يستمع الغناء ويبتهل الدعاء.

وتردَّد على عروسه محمَّلًا بالهدايا، ومنها تلقَّى مسبحة من القهرمان ينتظمها سلك من الذهب هدية معطَّرة. غدت حياتَه وأملَه وسعادتَه ورؤيتَه الذهبية.

رآها أجملَ خلق الله رغم أن كثيرين نوَّهوا بتفوُّق جماله الباهر، ولكن عذوبَتَها فاقت كلَّ الحدود.

وتراجعت أُلفت هانم عن فتورها فأبدت الرضا والأُلفة، ونعتته بالابن الطيب، وشرعت ترسم للمستقبل صورةً جديدة، مقترحةً عليه مشاركة راضي في محل الغِلال مستعينًا بمال قمر.

ومرةً قال جلال لقمر: لقد تجلَّت عظمةُ آل الناجي في أشياءَ وأشياء، ها هي تتجلَّى اليوم في الحب.

فابتسمت في دلال، فقال: الحب يصنع المعجزات.

فقالت بعذوبة: لا تنسَ دَوري في صنع المعجزة!

فضمَّها إلى صدره وهو يهيمُ من الوجْد.

٢٣

وجاء بأبيه ليزور أُلفت هانم وقمر. جاء الرجل مفيقًا ولكنه بدا كالسكران بنظرته الثقيلة الغائمة، ونبرتِه المترنِّحةِ ورأسه المتقلقل. أدرك أنه يمثِّلُ دورَ الوجيه، وأنه غريبٌ عن ذاته وأحواله. ونظرَ إلى أُلفت هانم بتهيُّب، وشعر بأنه يتحوَّل من شخصٍ إلى مخلوقٍ آخَر، وعجب كيف أنه ملك ذات يومٍ جمالًا يُزري بهذا الجمال كله. وقال لأُلفت هانم: إني كما تعلمين يا هانم، ولكن ابني جوهرة.

فتمتمت ملاطفة: أنت رجل طيب يا معلم عبد ربه.

واهتزَّ لذلك الاحترامِ الذي لم يحظَ بمثله أبدًا، وقال مشيرًا إلى جلال: إنه يستحقُّ السعادةَ جزاءَ برِّه بوالده.

وضحك ضحكةً عاليةً بلا سبب، وسرعان ما ارتدَّ إلى الوقار مرتبكًا.

وعندما غادر الدار هو وجلال، سأله ابنه: لمَ لم تقدِّم الهديةَ للعروس؟

تذكَّرَ الهديةَ التي أعطاه جلال إياها ليقدِّمَها للعروس بيده فلم ينبِس، فسأله جلال بضيق: نسيت؟

فقال برقَّة: إنها جوهرةٌ ليسَت عروسُك في حاجةٍ إليها، على حين أنني في أشدِّ الحاجة إليها.

فقال جلال بعتاب: هل قصَّرْت في حقك؟

فربت على ظهره قائلًا: أبدًا ولكن مطالبَ الحياةِ كثيرة.

٢٤

وجاءت الأيامُ الأخيرةُ من عام الحداد في خريفٍ أبيضَ يتنفَّس في عذوبةٍ فائقة. وامتلأت السحب الشفَّافةُ بالأحلام. ‏ وألمَّت وعكةُ بردٍ بقمر، غير أنها لم تُعَطِّل الاستعدادات المتوثِّبة للزِّفاف. واندفعت الوعكةُ في طريقٍ مجهولٍ فارتفعت الحرارةُ واضطربَت الأنفاسُ واشتدَّت الآلامُ وتسلَّل الذبولُ إلى الوردة الناضرةِ مثلَ عدو ماكرٍ خسيسٍ خائن. ولزمت الفِراش بلا حولٍ فخَبت نظرتها واصفرَّ لونُها ووهنَ صوتُها. توارَت تحت الأغطيةِ الثقيلة، مُتأوِّهة، تتغذَّى بالكراوية والليمون، وتعصب بمكمدات الخل. وسهِدت أُلفت هانم مُتشنِّجة الأفكار، وقلقَ جلال فنفد صبرُه في انتظار ساعةِ الشفاء.

وخيَّمَ على الدار شعورٌ غامضٌ لا يريد أن يُفصح عن ذاته، وطافَت بخيال أُلفت اللحظاتُ الأخيرةُ من حياة عزيز وعزيزة، وخُيِّل إليها وهي تكادُ تُجن أن كائنًا مهولًا قد حلَّ بالدار، وأنه يكمن في ركنٍ من أركانها لا يريدُ أن يبرح.

وذاتَ ليلةٍ حلم جلال بأن والدَه يغنِّي بطريقته الهمجية الساخرة في ساحة التكية. واستيقظ ثقيلَ القلبِ فتبيَّن له أنه إنما استيقظَ حقًّا على صوتٍ يُدَوِّي في الخارج، صوت من نوعٍ خاصٍّ لا علاقةَ له بالغناء ولا بالتكية. صوات في جوف الليل يعلنُ صعودَ روحٍ إلى مستقَرِّها!

٢٥

شعر جلال بأن كائنًا خرافيًّا يحلُّ في جسده. إنه يملك حواسَّ جديدة، ويرى عالمًا غريبًا. عقلُه يفكِّر بقوانينَ غيرِ مألوفة، وها هي الحقيقةُ تكشفُ له عن وجهِها.

رنا إلى الجثة المُسجَاةِ طويلًا. طوى الغطاءَ عن الوجه. إنه ذكرى لا حقيقة، موجودٌ وغيرُ موجود، ساكنٌ بعيدٌ منفصل عنه ببعدٍ لا يمكن أن يُقطع. غريب كل الغرابة، ينكرُ ببرودٍ أيَّ معرفةٍ له. متعالٍ متعلق بالغيب. غائص في المجهول. مستحيل غامض مندفع في السفر. خائن، ساخر، قاسٍ، مُعَذِّب، محيِّر مخيف، لا نهائي، وحيد. وغمغم بذهولٍ وتحد: كلَّا!

يدٌ غَطَّت الوجهَ فأغلقت بابَ الأبدية. تهدَّمَت الأركانُ تمامًا. لسان يلعب له هازئًا. ثمة عدو يتحرَّك وسوف ينازلُه. لن يتأَوَّه. لم يذرِف دمعةً واحدة. لم يقُل شيئًا. تحرَّك لسانُه مرَّةً أخرى مغمغمًا: كلَّا!

رأى رأس أمه المهشَّم. خيالٌ تراءى واختفى قبل أن تطبع صورتُه في وعيه. رأى الديك وهو يفقأُ بمنقاره الورديِّ عينَ خَصْمِه. رأى السماء تشتعل بالنيران. رأى بركة الدم الأحمر. ووعده المجهولُ بإدراك كلِّ شيءٍ إذا كشف الغطاءَ عن الوجه مرَّةً أخرى. مدَّ يدَه ولكن يدًا أمسكت بيده وصوتٌ قال: وحِّد الله!

رَبَّاه أيوجد معه آخرون؟ أيوجدُ آخرون في الدنيا؟ من قال إذن إن الدنيا خالية. خالية من الحركة واللون والصوت. خالية من الحقيقة. خالية من الحزن والأسى والندم. إنه في الواقع متحرِّر. لا حب ولا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد. حلَّ السلام، وثمة صداقةٌ متوحِّشةٌ مطروحةٌ على القوى العاتية. هنيئًا لمن يروم أن تكون النجومُ خِلَّانَه، والسحب أقرانَه، والهواءُ نديمه، والليلُ رفيقَه.

وللمرة الثالثة يغمغم: كلَّا!

٢٦

تخلَّى جلال عن العمل لوكيله. وجد الراحة في المشي. يتمشَّى في الحارة، وفي الحي، بين البوابات والقلاع. يجلس في القهوة وحده يدخِّن البوري.

وفي الليل وقف قُبالةَ التكية. مرَّت به الأنغام. باستهانةٍ طرق الباب. لم يتوقَّع ردًّا. عرف لمَ لا يردُّون. إنهم الموت الخالد الذي يتعالى عن الرد.

تساءل: أليس للجار حق؟

وأنصت للغناء فانساب الصوت في عذوبة:

صبحدم مرغ جمن باكل نوخاسته كفت

نازكم كن كه درين باغ بي جون نو شكفت

٢٧

واعترض مسيرتَه ذاتَ يومٍ الشيخُ خليل الدهشان شيخ الزاوية، فابتسم إليه برقَّةٍ وقال: لا بأس من كلمةٍ تُقال.

فنظر إليه ببرود، فقال الشيخ: إن الله يمتحن من عباده الصدِّيقين.

فقال بازدراء: لا جديد؛ فهذا ما يقوله الديك عندما يصيح في الفجر.

فقال الرجل: كلنا أمواتٌ أولاد أموات.

فقال بيقين: لا أحد يموت.

٢٨

وكان يمرُّ أمام البوظة في جوف الليل عندما رأى شبحًا مترنِّحًا عرف فيه أباه عبد ربه. تأبَّطَ ذراعه فتساءل الرجل: من؟

– جلال يا أبي.

وصمت السكران قليلًا، ثم قال: إني خجلانُ يا بني.

– لماذا؟

– كان الأجدرُ أن أذهب أنا لا هي.

– لماذا؟

– هو العدل يا بني.

فقال باستخفاف: يوجدُ شيءٌ حقيقيٌّ واحدٌ يا أبي هو الموت.

فقال عبد ربه معتذرًا: ما كان يليقُ أن أشربَ في هذه الأيام، ولكني عاجز.

فقال له وهو يسنده: تمتَّع بحياتك يا أبي.

٢٩

ومضى الخريف يولِّي، ويقبل الشتاء بقسوته القاهرة. وراح الهواء البارد يسفَعُ الجدران ويلسع العظام. وتطلَّع جلال إلى سحابةٍ مظلمةٍ فهام بالمستحيل. ورأى ذاتَ مرَّةٍ أُلفت هانم وهي راجعة من القرافة، فكرِهَها من صميم فؤادِه، وبصق في خياله على صورتها المتورِّمة. قبلته كارهة، ثم تخلَّصَت منه بالموت. والموت عندها طقوسٌ وفطائر. كلهم يقدِّسون الموت ويعبدونه، فيُشجِّعونه حتى صار حقيقةً خالدة. لا شك أنها اغتاظت عندما تسلَّم نصيبَه من تركة قمر؛ لذلك أخذه كاملًا، ثم وزَّعه على الفقراء خفية. وقال لنفسه إن علامة الشفاء عنده أن يحطِّم رأس الهانم المتعجرفة.

٣٠

وصادف في طريقه جبريل الفص شيخَ الحارة فحيَّاه الرجلُ وقال: لا تُرَى يا معلم جلال إلا ذاهبًا أو آيبًا، عمَّ تبحث؟

فأجابه بازدراء: أجدُ ما لا أبحثُ عنه، وأبحثُ عمَّا لا أجد.

٣١

وانفرد بنفسه تلك الليلة في ساحة التكية، لا الْتماسًا للبركة، ولكن تحديًا للظلمة والبرد. هنا خلوة عاشور، هنا اللاشيء. وقال إنه يعترف بأنه ليس عاشقًا. لا حزن على حبٍّ ضائع. أنا لا أحب. أنا أكره. الكراهية والكراهية فقط. أكره قمر. هذه هي الحقيقة. هي الألم والجنون. هي الوهم. لو عاشت لانقلبت على مثال أُمِّها. تَحكُم بالغباء وتُضاحكُ التافهَ وتقلِّد الأمراءَ وهي حَفنةٌ من تراب. كيف هي الآن في قبرها؟ قِربة منتفخةٌ تفوح منها روائح عفنة، وتسبح في سوائلَ سامةٍ ترقص فيها الديدان. لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم. لم يحفظ العهد، لم يحترم الحب، لم يتمسَّك بالحياة، فتح صدره للموت. إننا نعيش ونموت بإرادتنا. ما أقبحَ الضحايا! دعاة الهزيمة، الهاتفون بأن الموت نهاية كل حي، وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف. عاشور حي. أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى. أنا خالد. وجدتُ ما أبحث عنه. وما يغلق الدراويش الأبوابَ إلا لأنهم خالدون. من شهد جنازةً لهم؟

إنهم خالدون. يتغنَّون بالخلود، ولكن لم يفهمهم أحد.

وثمل بشراب الليل المثلج.

مضى نحو القبو وهو يغمغم: آه يا قمر.

٣٢

وتجسَّدت الأفكارُ المحمومةُ في صورة نسر محلِّق ذي صرير يدُكُّ الأبنية.

وسأله أبوه ذات صباح وهو يتثاءب: لمَ تأخَّرت عن تسليم الإتاوة لسمكة العلَّاج؟

فأجابه ببساطةٍ وثقة: لا يفعلُ ذلك إلا الضعفاءُ الجبناء.

حملق الأب في وجهه برعبٍ وسأله: تتحدَّى الفتوة؟

فقال ببرود: أنا الفتوة يا أبي.

٣٣

وتعمَّد أن يمرَّ أمام مجلس الفتوة بمجلسه في المقهى، فسرعان ما جاء صبيُّ القهوة قائلًا: المعلم سمكة يسأل عن الصحة؟

فقال بنبرةٍ عالية: أخبره بأن الصحة طيبة تتحدَّى الجهلاء.

اقتحم الجوابُ الفتوةَ مثل لفحةِ نار. وسرعان ما اندفع معاونه خرطوشة — الوحيد من رجاله الذي تصادف وجوده معه — وبسرعةٍ خاطفةٍ رفع جلال مقعدا خشبيًّا وضربه به ضربةً صادقةً فانطرح على ظهره فاقد الوعى. وأخذ جلال نبوته ووقف ينتظر سمكة العلَّاج الذي أقبل مثلَ وحشٍ ضارٍ. وتدفَّق سيل المتفرِّجين، وتنادى رجالُ الفتوة من الأركان. وتبادل الرجلان ضربتَين، ولكن حُسمت المعركةُ في ثوانٍ؛ كان جلال قوةً خارقةً حقًّا. تهاوى سمكة العلَّاج مثل ثور ذبيح.

٣٤

وقف جلال بجسمه العملاق في هالةٍ من لهيب التحدي والغضب. وغزا الخوف قلوب الرجال فلم يكُن في العصابة من هو جديرٌ بخلافة سمكة إلا خرطوشة المنطرح إلى جانبه. وبعض الرجال ممن يُضمرون الحقد للعصابة انهال على أفرادها بالطوب منضمِّين إلى جلال. وسرعان ما تقرَّرت السيادة لمن يستحقُّها.

هكذا وثب جلال عبد ربه ابن زهيرة إلى الفتونة بكل جدارة، وهكذا رجعت الفتونة إلى آل الناجي.

٣٥

قال له أبوه ووجهه يومض بالفرح: ما تصوَّرت أن تكون فتوةً رغم قوتك الهائلة.

فقال جلال باسمًا: وما تصوَّرت ذلك ولا جرى لي في بالٍ.

فقال عبد ربه بفخار: كنت مثلك في القوة، ولكن الفتونة قلبٌ وطموح!

– صدقت يا أبي. كنْتُ أعد نفسي للوجاهة، ثم جاءني ذلك في جوفِ خاطرٍ مباغت.

فضحك الأب وقال: كأنك عاشورُ نفسُه في قوته فأسعِد نفسَك، وأسعِد أهلَ حارتِك.

فقال بتؤدة: فلنؤجِّل الحديثَ عن السعادة يا أبي.

٣٦

أصبح يتحرَّك بإلهام القوة والخلود. رسم لنفسه طريقًا. تحدَّى فتوات الحارات ليستثمر فائض قوته. تغلَّب على العطوف والدرَّاسة وكفر الزغاوي والحسينية وبولاق. كل يوم كان المزمار يَزِفُّ للحارة بشرى نصرٍ جديد. غدَا فتوة الفتوات وتاج القوة والسيادة كما كان عاشور وكما كان شمس الدين.

وسعد الحرافيش مؤمِّلين فيما عُرف عنه من كرمٍ وسجايا حميدة، كما انزعج الوجهاء وتوقَّعوا حياةً موسومةً بالكبح والعناء.

٣٧

وتاه عبد ربه عزةً وكرامة، وراح يبشِّرُ في البوظة بالعهد الجديد. إنه يُستقبل الآن بالإجلال والإكبار، ويلتفُّ حوله السكارى يتنسَّمون منه الأخبار، فيقول: رجع عاشور الناجي.

ويُفرغ القرعة في جوفه ويواصل: فلْيسعد الحرافيش، ليسعد كلُّ محبٍّ للعدل، سيتوفَّرُ الرزقُ لكل مسكين، سيعرف الوجهاءُ أن الله حق!

فيسأل سنقر الشمَّام الخمَّار: وَعَدَ بذلك المعلم جلال؟

فيقول بثقةٍ وثبات: ما طمح إلى الفتونة إلا من أجل ذلك!

٣٨

دان له الأصدقاء والأعداء. ليس ثمة قوةٌ تتحدَّاه، ولا مشكلة تشغل باله.

يتمتَّع طيلة الوقت بالسيادة والجاه والمال. اكتنفه الفراغ وتسلَّل إليه التثاؤب.

تركَّز تفكيره في ذاته. تجسَّدت له حياته في صورةٍ بارزةٍ واضحةِ المعالمِ والألوانِ حتى النهايةِ الحادَّةِ العابثة، بدءًا من رأس أُمِّه المهشَّم، ومعاناةِ الحارةِ المُهينة، وموت قمر الساخر، وقوتِه المهيمِنة بلا حدود، وقبرِ شمس الدين الذي ينتظرُ الركب راحِلًا في إثر راحل. ما جدوى الحزن؟ ما فائدة السرور؟ ما مغزى القوة؟ ما معنى الموت؟ لماذا يوجدُ المستحيل؟

٣٩

وسأله أبوه ذات صباح: الناس يتساءلون متى يتحقَّق العدل؟

فابتسم جلال بامتعاضٍ وتمتم متسائلًا: ما أهميةُ ذلك؟

فقال عبد ربه بدهشة: إنه كل شيء يا بني!

فقال بازدراء: إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون!

– الموت علينا حق، أمَّا الفقر والذل فبيدك محقهما!

فصاح جلال: اللعنة على الغباء.

فتساءل عبد ربه بأسًى: ألَا تريد أن تحتذي مثال عاشور الناجي؟

– أين عاشور الناجي؟

– في أعلى عليين يا بني.

فقال بازدراء: لا أهمية لذلك.

– أعوذ بالله من الكفر!

فقال بوحشية: أعوذ بالله من اللاشيء!

– لا أتصوَّر أن يمضي ابني كما مضى سمكة العلَّاج.

– لقد انتهى سمكة العلَّاج كما انتهى عاشور.

– كلَّا، جاء كلٌّ من طريقٍ مختلفٍ وذهب إلى طريقٍ مختلف.

فنهض محتدًّا وقال: لا تزِد من همِّي يا أبي، لا تطالِبني بشيء، لا يغرنَّك ما بلغتُ واعلم أن ابنك رجل غير سعيد.

٤٠

يئس عبد ربه وكفَّ عن الحديث عن الفردوس المعهود. وقال وهو في غاية من السكر: إرادة الله فوق كل إرادة، وما علينا إلا الرضا.

ويئس الحرافيش وتساءلوا: لمَ لا نشُكُّ في الماضي ليرتاح بالُنا؟!

واستنام الوجهاء إلى الطمأنينة، أدَّوا الإتاوات، وقدَّموا الهدايا بلا حساب.

ومضى جلال بقلبٍ أجوفَ تتلاطم فيه رياح الكآبةِ والقلق، وبظاهرٍ متألِّقٍ ينضج بالقوة والسيادة والنَّهم. بدا أول ما بدا أنه وقع أسيرًا لعشق المال والتملُّك. شارك أخاه راضي في محل الغِلال، كما شارك الخشَّاب والبنان والعطَّار وغيرهم. لا شبع من ناحيته. وترحيبٌ حارٌّ من ناحيتهم ليثبِّتوه في أرض الوجاهة والسؤدد. غدَا أكبرَ تاجرٍ وأغنى غني، وفي الوقت نفسه لم يتهاون في جمع الإتاوات وتقبُّل الهدايا، ولم ينعم بخيره إلا رجالُ عصابتِه حتى عبدوه عبادة. وشيَّد عماراتٍ كثيرة، كما شيَّد إلى يمين السبيل دارًا خيالية، سُميت بحقٍّ بالقلعة لجلالها وكبرها، وفرشها بفاخر الأثاث، وحلَّاها بالتحف، كأنه حلم الخالدين. ورفل في الثياب الغالية، وتنقَّل بالدوكار والكارِتَّة، وتوهَّج الذهب في أسنانه وأصابعه.

ولم يكترث لحال الحرافيش ولا عهد الناجي، لا عن أنانيةٍ أو ضعفٍ أمام مغريات الحياة، ولكن ازدراءً لهمومهم، واستهانةً بمشكلاتهم. والعجيب أنه كان بطبعه أميل إلى الزهد، واحتقار مطالب البدن، وكان ما يدفعه إلى الجاه والمال والتملُّك قوةٌ عمياءُ مجهولة، جوهرها القلقُ والخوف، كأنما كان يتحصَّن ضد الموت، أو يوثِّق علاقته بالأرض حذرًا من غدره. لقد غرق في خِضَم الدنيا ولكنه لم يغفل قطُّ عن خداعها، لم تخدِّره ابتسامتها، لم يُطربه عذبُ حديثها، كان حادَّ الشعور بلعبتها المرسومة، وغايتها المقصودة. لم يأنس للخمر ولا المخدِّر ولا الهوى ولا التكية، وكان إذا خلا إلى نفسه تأوَّه قائلًا: ما أشدَّ عذابَك أيها القلب!

٤١

ويومًا ما سأله أخوه راضي ولعله كان صديقَه الوحيد: لم لا تتزوَّج يا أخي؟

فضحك جلال ولم يجِب، فراح راضي يقول: الأعزب موضعُ تساؤلٍ دائمًا.

فسأله ساخرًا: لمَ الزواجُ يا راضي؟

– إنه المتعةُ والأُبوةُ والخلد.

فضحك جلال عاليًا وقال: ما أكثرَ الأكاذيبَ يا أخي!

فتساءل راضي: لمن تجمعُ هذه الأموال؟

يا له من سؤال! أليس الأجدر بمثلِه أن يحيا حياة الدراويش؟ ها هو الموت يطارده دائمًا. ها هو رأس زهيرة ووجه قمر يتجسدان من جديد. لن تنفعه القلعة والنبوت. سيذوي بهاءُ هذا الجمالِ المتألِّق، ستُقوَّض أعمدةُ هذه القوةِ الشامخة، سيرثُ المالَ قومٌ آخرون وهم يغمزونه بالسخريات، ستعقب الانتصارات الباهرة هزيمةٌ أبدية.

٤٢

على أريكة الفتونة يتربَّعُ في المقهى. تمثالٌ من الجمال والقوة يبهر الأنظار ويهز القلوب. تتكاثف الظلمات في جمجمته لا يدري بها أحد. يتسلَّل شعاع إلى الظلمات في صورة بسمةٍ متألِّقةٍ بالتحية والإغراء. بسمة تتركُ أثرًا في الظلام. من هذه المرأة؟ امرأة من بنات الهوى، تُقيم في شقةٍ صغيرةٍ فوق بنكِ الرهونات، يعشقها الوجهاء. تحيِّيه كلما مرَّت التحية اللائقة بسيد الأحياء.

لا يرفض التحية ولا يستجيب لها، ولا ينكر أثرَها المُلطِّف لعذاباته. متوسِّطةُ التكوين، ريانةُ الجسد، جذَّابةُ الملامِح. زينات. ولأنها تصبغ شعرَها بلون الذهب دُعيَت بزينات الشقراء. لا ينكِر أثرَها الملطِّف لعذاباته، ولكنه لا يريد أن يستجيب لها. طالما كُبحت شهواته تحت ضغط انهماكه في القتال، والبناء، وجمع المال، ومعانقة الملل.

٤٣

وذات مساء استأذنَت زينات الشقراء في مقابلته. استقبلها في بهو الضيوف. تركها تنبهر بالأثاث، بالتحف، بالقناديل المزركشة. تجرَّدت من مُلاءتها وبرقعها. جلست على ديوان قطعة من الفتنة المسلَّحة. وتساءلت برشاقة: ترى كيف أعلِّل حضوري؟ أأقول مثلًا إنني أريد تأجير شقة في عمارتك الجديدة؟

فوجد نفسه يجاملها قائلًا: لن يطالبك أحد بتعليل.

فضحكت راضيةً وقالت بصراحة: قلت لنفسي فلنزره ما دام يبخل علينا بالزيارة.

شعر بأنه هبط أولى درجات الإغراء، ولكنه لم يحفل بذلك وقال: حللت أهلًا وسهلًا!

– شجَّعني لطفكَ الذي تقابلني به كل أصيل.

ابتسم. وتردَّد سؤالٌ خلف الابتسامة: إلامَ آل حالُ قمر في قبرها اليوم؟

وسألته بجرأةٍ عجيبة: ألم أعجبك؟

فقال بصدق: إنك تحفة.

– وهل مثلكَ يشعر ولا يفعل؟!

فتمتم في حيرة: غابت عنكِ أشياء.

– إنك أقوى الرجال فكيف تنام كما ينام الفقراء؟

فقال ساخرًا: الفقراء ينامون نومًا عميقًا!

– وكيف تنام أنت؟

– لعلي لا أنام!

فضحكت بعذوبةٍ وقالت: سمعت من أهل العلم أنك ما شربت في حياتك قرعة، ولا دخَّنت نفَسًا، ولا مسست امرأة، أهذا صحيح؟

لم يدرِ بماذا يجيب، ولكنه شعر بأنها ستحقِّق ما تريد. أمَّا زينات فواصلت: أقول لك إن الحياة ليست إلا الحب والطرب.

فتساءل متظاهرًا بالدهشة: حقًّا؟

– ماعدا ذلك فإننا نتركه وراءنا للغير!

فقال بامتعاض: ونترك أيضًا الحب والطرب!

– كلا، إنهما يمتصَّان بالجسد والروح ولا يرثهما أحد!

– يا لها من لُعبةٍ سخيفة!

فقالت بحرارة: لا عشت يومًا بلا حبٍّ أو طرب.

– إنكِ امرأةٌ مدهشة.

– امرأة وكفى!

– لا يهمك الموت؟!

– إنه علينا حق، ولكني لا أحب سيرته.

حق؟ حق! وسألها: أتعرفين شيئًا من سيرة شمس الدين الناجي؟

فقالت بفخار: طبعًا، من حارب متحديًا الكِبْر.

– تحدَّى الكِبر بعناد.

فقالت بنعومة: السعداء حقًّا من ينعمون بشيخوخةٍ هادئة!

فقال بتحدٍّ: السعداء حقًّا من لا يعرفون الشيخوخة!

فانقبضت لتغيُّره، وقالت بإغراء: أنت لا تملك إلا هذه الساعة.

فقال ضاحكًا: موعظةٌ مناسبةٌ لمقدم الليل.

فأغمضت عينَيها مرهفة السمع حتى وضح زفيف الريح، وسُمِع هطولُ الأمطارِ فوقَ النوافذ المغلقة.

٤٤

سرعان ما صارت زينات الشقراء عشيقةً لجلال عبد ربه الناجي. دُهِش الناسُ ولكنَّهم قالوا هو خيرٌ على أي حال من سيئ الذكرِ وحيد. وتجنَّبَها عُشَّاقُها القُدَامى فأصبحَت له وحدَه. علَّمته كلَّ شيء. انضمَّت إلى تحف الدار قرعة مُذَهَّبَة وجوزة مدندشة. لم يأسَف على شيء، وقال إن للحياة مذاقًا لا بأس به. وأحبَّته زينات حبًّا ملك عليها نفسها، وداعبها حلم غريبٌ أن تصبحَ حليلةً له ذات يوم. ومن عجب أن حبَّه القديمَ لقمر بُعِث أيضًا كذكرى خالدةٍ مفعمةٍ بالعذوبة. أدرك أنه لم يهجره أبدًا. لا شيء يزول، ولا حب أُمِّه، سيظلُّ مدينًا لرأس أُمِّه ووجه قمر بمعرفة مأساةِ الحياة، ولحن الحزن الخافت التردُّد تحت سطح الأنوار الباهرة والانتصارات المتألِّقة. ولم يعرف لزينات عُمرًا، لعلها تماثله في عمره أو تكبره، وسيظل ذلك سرًّا. وقد تعلَّق بها، أهو حبٌّ جديد؟ وتعلَّق بالقرعة والجوزة. إنه مدينٌ لها أيضًا بمفاتنَ جوهريةٍ مثيرةٍ للفرح والقلق، ولا يرى بأسًا من التسليم للتيار.

٤٥

ورأى أباه «المعلم» عبد ربه يخلو إليه باهتمام، ويسأله: لمَ لا تتزوَّج؟ أليس الحلال أفضل من الحرام؟

فلم يحِرْ جوابًا، فقال عبد ربه: ولتكن زينات كما فعل عاشور.

فهزَّ رأسه منكرًا، فقال الأب: على أيِّ حالٍ لقد صدقَت عزيمتي أنا على الزواج!

فقال جلال بذهول: إنك يا أبي في الستين!

– لم لا؟!

وضحك عبد ربه، ثم قال: صحتي حسنة بالرغم من كل شيء، واعتمادي بعد الله على المعلم عبد الخالق العطَّار.

– ومن العروس؟

فقال بمباهاة: بنت زويلة الفسخاني، بنت حلال في العشرين من عمرها.

فسأله باسمًا: أليس الأفضل أن تختار سيدةً تقاربك في السن؟

– كلَّا، لا يُرجع الشبابَ إلا الشباب.

فتمتم جلال: فليسعدك اللهُ يا أبي.

وجعل عبد ربه يُنَوِّه بالعطار وسحره، وقدرته على ردِّ الإنسانِ إلى شبابه.

٤٦

زُفَّت فريدة الفسخاني إلى المعلم عبد ربه، وأقاما في جناح بالقلعة؛ دار جلال الفخيمة. وطيلة الوقت كان جلال يفكِّر في سحر المعلم عبد الخالق العطار.

ودعاه ذاتَ ليلة إلى داره فانسطلا معًا، وتسلَّيَا بتناول الفاكهة والحلوى. وقال له جلال بجدية: ما يدور بيننا فهو سر.

فوعد المعلم عبد الخالق بذلك سعيدًا بالمنزلة الجديدة التي أنزله الفتوة فيها.

وسأله جلال: علمت أنك تردُّ الكهولَ إلى الشباب؟

وبابتسامة ثقةٍ أجاب العطار: بعون الله تعالى.

فقال جلال باهتمام: لعله أيسر لك أن تحافظ على الشباب؟

– هذا مسلَّمٌ به.

فتنوَّر وجه جلال بالارتياح وتمتم: لعلك أدركت ما تعنيه دعوتي لك يا معلم عبد الخالق.

فتفكَّر العطارُ مليًّا متهيِّبًا ثقلَ الأمانةٍ وقال: ولكن العطارة ليست بكل شيء، لا بُدَّ أن تسبقها وتُسايرها إرادةٌ عاقلة.

– ماذا تعني؟

فقال عبد الخالق بحذر: لا بُدَّ من المصارحة، فهل تشعرُ بأيِّ ضعفٍ من أيِّ نوعٍ كان؟

– إني في تمام العافية!

– عظيم، عليك أن تتبع نظامًا دقيقًا لحدِّ التقديس.

– تكلَّم ولا تُلغِز!

– الطعام ضروري ولكن المغالاةَ ضارة.

فقال جلال بارتياح: هذا ما تتطلَّبه تقاليد الفتونة الرشيدة.

– الشرب قليلُه منشِّط وكثيرُه ضار.

– معقول.

– الجنس يجب أن تتمَّ ممارسته في نطاق الطاقة بلا تحمُّل.

– لا بأس.

– الإيمان عظيم الفائدة.

– جميل.

فقال المعلم عبد الخالق: عندما يتوفَّر ذلك كله تجيءُ وصفة العطار بالمعجزات.

– أهي مجرَّبة؟

– بشهادة كثيرين من الوجهاء! بعضهم يحافظ على شبابه حتى يرعب من حوله!

فلمعت عينا جلال بضوءٍ بهيج، فقال عبد الخالق: بنصيحتي وبإذن الله يجب أن يعمَّر الإنسانُ حتى المائة، وليس ما يمنع من أن يعيشَ بعد ذلك حتى يتمنَّى قدومَ الأجل!

فابتسم جلال بشيءٍ من الوجوم، ثم تساءل: وبعد ذلك؟

فقال العطار باستسلامٍ: الموت علينا حق.

ولعن جلال في سرِّهِ الشيطان، وقال إنهم متفقون أجمعون على تقديس الموت.

٤٧

وذات ليلةٍ سألته زينات الشقراء وهما في غاية من الانسجام والانبساط: لمَ لا تحقِّق آمال الحرافيش؟

فرمقها بدهشةٍ وسألها: ماذا يهمُّك من ذلك؟

فقبَّلته وقالت بإخلاص: كي تطارد الحسد فالحسد قتَّال!

فهزَّ منكبَيه استهانةً وقال: أصارِحُك بأنني أحتقرُ الناس.

– ولكنهم مساكين!

– لذلك أحتقرهم!

وتقلَّص وجهُه الجميلُ تقزُّزًا، ثم قال: لا تشغلهم إلا لقمة العيش.

فقالت بإشفاق: أفكارُك تخيفني.

– لمَ لا يسلِّمون للجوع كما يسلِّمون للموت؟!

اجتاحَتها ذكرياتُ صِباها مثلَ عاصفةٍ ترابيةٍ خانقة، فقالت: الجوعُ أفظعُ من الموت!

ابتسم مسبلًا جفنَيه على نظرة احتقارٍ باردة.

٤٨

مضَت الأيامُ وجلال يزدادُ قوةً وجمالًا وبهاء. يمشي الزمن على أديمه غيرَ تارك أثرًا كأنه الماء يمشي على مرآةٍ مصقولة. زينات نفسها تتغيَّر كما يتغيَّر كل شيء من حولها، رغم عنايتها الكبيرة بجمالها. وأدرك جلال أنه يخوض بعنادٍ المعركةَ المصيريةَ الحقيقيةَ المقدَّسة. وقال لنفسه إنه من المؤسف حقًّا أن الختامَ حتم، قد يؤجَّل بعض الوقت، ولكن أين منه المفر؟

٤٩

وتوثَّقت الصداقة بينه وبين المعلم عبد الخالق العطار. وكان من رأي المعلم عبد الخالق أنه لولا فداحةُ تكاليفِ الوصفةِ لصارت حارتُهم حارةَ المعمِّرين.

وفكَّر جلال أكثرَ من مرَّةٍ في أن يشرك زينات في الوصفة السحرية، ولكنه كان يتراجعُ عن فكره دائمًا. لعله بدأ يخشى سيطرتَها وسحرَها فكرِه تحصينَها ضدَّ الزمنِ الجبَّار. كان يحبها أكثرَ الوقت، ولكن تمرُّ لحظاتٌ يودُّ أن ينتقمَ منها ويبصُقها في أقرب مزبلة. لم تكن علاقته بها بسيطةً وواضحة. كانت تنداحُ في شبكةٍ معقَّدةٍ من العلاقات فتتداخلُ مع ذكرى أُمِّه، ذكرى قمر، عداوته للموت، كرامته، وتعلُّقه الآسِر بها. وكان ما يحنقه أكثر من سواه ما يبدو عليها أحيانًا من طمأنينةٍ راسخةٍ وثقةٍ بالنفس لا حدودَ لها، ها هي تُرْهَقُ بالشرابِ والسهر، ويلتهبُ جلدُها بالمساحيق، فهل تلاحظه خفيةً بالحسد؟

٥٠

وسأل مرةً المعلم عبد الخالق: سمعت ولا شك عن حكاية عاشور الناجي؟

– حكاية محفوظة يا معلم.

فقال جلال بعد تردُّد: إني أعتقد أنه ما زال حيًّا!

فذُهِل عبد الخالق ولم يدرِ بماذا يجيب. كان يعلم أن عاشور وليٌّ عند قوم، ولصٌّ لقيطٌ عند آخرين، ولكنهم يسلِّمون جميعًا بموته. وواصل جلال قائلًا: وأنه لم يمت!

وقال عبد الخالق: كان عاشور رجلًا صالحًا والموت لا يخطئ الصالحين.

فتساءل جلال محتجًّا: أينبغي أن يكون الإنسان شريرًا كي يخلد؟

– الموت حق، ولكن لا يتطلَّع إلى الخلود مؤمن!

– أعَلى يقينٍ أنت من ذلك؟

فخاف عبد الخالق وقال: هكذا يقولون والله أعلم.

– لمَ؟

– أعتقد أن الخلود لا يُتاح لإنسان إلا بمؤاخاة الجن.

فاشتعل جلال باهتمام داهمٍ حادٍّ وقال: حَدِّثني عن ذلك.

– مؤاخاة الجان، الخلود واللعنة الأبدية، التحام الإنسان بالشيطان إلى الأبد.

فتساءل جلال وهو يتمادى في الاهتمام: حقيقةٌ هذا أم هذيان؟

فتردَّد عبد الخالق، ثم قال: لعله حقيقة!

– زدنا تفسيرًا.

– لماذا؟ أتفكِّر حقًّا في تلك المغامرة؟

فضحك جلال ضحكةً عصبيةً وقال: ليس إلا أني أحبُّ أن أعرفَ كل شيء.

فقال عبد الخالق ببطء: يقال .. إن .. شاور ..

فتساءل جلال: ذلك الشيخ المجهول الذي يدَّعي قراءةَ المستقبل؟

– ذلك عملُه الظاهر، ولكنه ينطوي على أسرارٍ مرعبة.

– لم أسمع عن شيءٍ من ذلك.

– إنه يخافُ المؤمنين.

– وهل تصدِّق ذلك؟

– لا أدري يا معلم ولكنه أمرٌ لعين.

– الخلود؟

– مؤاخاةُ الجن!

– إنك تخاف الخلود!

– يحقُّ لي ذلك، تصوَّر أن أبقى حتى أشهد زوال دنياي، يذهب الناس رجالًا ونساءً، وأبقى غريبًا وسط غرباء، أفرُّ من مكانٍ إلى مكان، أبِيتُ مطارَدًا أبدِيًّا، أُجَنُّ، أتمنَّى الموت.

– وتحافظ على شبابك إلى الأبد؟

– وتُنجب أبناءً وتفِرُّ منهم، وكلُّ جيلٍ تُعِدُّ نفسك لحياةٍ جديدة، وكلُّ جيلٍ تبكي الزوجةَ والأبناء، وتتجنَّسُ بجنسيةِ الغربةِ الأبدية، لا يربطُكَ بأحدٍ اهتمامٌ أو فكرٌ أو عاطفة.

وهتف جلال: كفى!

وضحك الرجلان طويلًا، وتمتم جلال: يا لَه من حلم!

٥١

كان شاور يقيم في بدروم كبيرٍ يقع أمام حوض الدوابِّ مباشرة. متعدِّد الحجرات، وبه للنساء قاعة استقبال، وللرجال قاعة. وهو شخصية خفية لم تقَع عليها عين. يستقبل مريديه في حجرةٍ مظلمةٍ في الليل، فيُسمع صوته ولا يُرَى له أثر. أكثرُ زبائِنِه من النساء، ولكن المُلِمَّاتِ قد تدفع ببعض الرجال إلى حجرته المظلمة. يسأل ويجيب، ويقدَّم الحلوان عادةً إلى جارية حبشية تُدعى حوَّاء.

أرسل جلال في طلبه ولكن طلبه قوبل بالرفض، وقيل له إنه يفقد خواصَّه الساحرةَ خارج حجرته. كان على جلال إذن أن يتستَّر، يتسلَّل بليلٍ إلى مقامه، متأخِّرًا حتى يضمن خلو المكان.

مضت به حواء إلى الحجرة. أجلسته على شلتة طرية وذهبت. وجد نفسه في ظلام حالِك. حملق فلم يرَ شيئًا كأنما فقد الزمان والمكان والبصر. وقد نُبِّه عليه أن يلوذَ بالصمت، ألَّا يبدأَ بالكلام، أن يجيب على قدر السؤال. مضى الوقت ثقيلًا خانقًا. كأنه نسيَ تمامًا أيَّ سخرية. لم يلقَ مهانةً كهذه منذ تَبَوَّأَ عرش الفتونة. أين جلالُ الجبار؟ حتَّامَ يصبرُ وينتظر؟ الويل للإنس والجن إذا تمخَّضت مغامرته عن لا شيء.

٥٢

انطلق من الظلام صوتٌ عميقٌ مؤثِّرٌ هادئ. يسأل: اسمك؟

تنهَّد في ارتياحٍ وأجاب: جلال الفتوة.

– أجب على قدر السؤال، اسمك؟

فوسَّع صدره وأجاب: جلال عبد ربه الناجي.

– على قدر السؤال اسمك؟

فأجاب بحِدَّةٍ: جلال.

– اسم أُمِّك؟

غلى دمه بسرعة مخيفة. رأى رغم الظلمة ألوانًا جهنمية. سأل الصوتُ بآليةٍ وتحد: اسم أمك؟

أجاب كاظمًا: زهيرة.

– ماذا تريد؟

تردَّد قليلًا، ولكن الصوت لم يمهله فتساءل: ماذا تريد؟

– أن أعرف ما يقال عن مؤاخاة الجن.

– ماذا تريد؟

– لقد قلت.

– ماذا تريد؟

فاجتاحه الغضب وتساءل منذرًا: ألم تعرف من أكون؟!

– جلال بن زهيرة.

– أستطيع أن أطحنك بضربةٍ واحدة.

– كلَّا.

قيلَت بكلِّ ثقةٍ وطمأنينة، فهتف جلال: تريد أن تجرِّب؟

فتساءل الصوت ببرودٍ ولا مبالاة: ماذا تريد؟

لم يجِب. لم يقدِم على فعل. عاد الصوت: ماذا تريد؟

أجاب متنازلًا عن كل شيء: الخلود.

– لماذا؟

– هذا شأني.

– المؤمن لا يتحدَّى إرادة الله.

– أريد ذلك وأنا مؤمن.

– إن ما تطلبُ خطير.

– فليكن.

– ستتمنَّى الموت ولم تناله.

– فقال بقلب خفاق: ليكن.

سكت الصوت. هل ذهب؟ وقع مرةً أخرى في الضياع. تلهَّف عليه بأعصابٍ ممزَّقة. حملق بقوةٍ ولكنه لم يرَ شيئًا.

٥٣

ورجع الصوت بعد عذاب. تساءل: أأنتَ على استعدادٍ لتقديم ما يُطلب منك؟

أجاب بلا تردُّد: أجل.

– أن توقِف على جاريتي حَواء كبرى عماراتك للتكفير بِريعها عن ذنبي.

تفكَّر قليلًا، ثم قال: أوافق.

– أن تُشيِّد مئذنةً ارتفاعُها عشرةُ طوابق.

– في الزاوية؟

– كلَّا.

– زاوية جديدة؟

– كلَّا، مئذنةٌ مستقلة.

– ولكن!

– دون مناقشة.

– أوافق.

– عِش عامًا كاملًا في جناحك، لا ترى أحدًا، لا يراك إلا خادمك، تجنَّب ما يذهلك عن نفسك.

فانقبض قلبُه ولكنه قال: أوافق.

– في اليوم الأخير يتم الالتحام بينك وبين الجني، ثم لا تذوقُ الموتَ أبدًا.

٥٤

أوقف جلال عبد ربه الناجي كبرى عماراتِه على حَواء الجارية الحبشية.

اتفق مع مقاول على تشييد المِئذنة العملاقةِ في إحدى الخرابات، وقد امتثل الرجل لما يُطلب منه طمعًا في المال وخوفًا من البطش. وعهد بالعصابة إلى وكيله مؤنس العال، مزوِّدًا إياه بكافَّة الإرشادات. أعلن عن عام اعتزاله معتلًّا بأنه يُوفي بنذر نذره. وقبع في جناحه يسجِّل الأيام كما فعل سماحة في مهجره، متجنِّبًا القرعة والجوزة وزينات الشقراء. ومنَّى نفسَه بالفوز في أكبر معركةٍ خاضها بشر.

٥٥

تلقَّت زينات الشقراء قراره كأنه ضربةٌ قاتلة. قطيعةٌ أليمةٌ غيرُ مسبوقةٍ بتمهيد، وبلا سببٍ مقنع. إنها المرارة والخوف واليأس. ألم يكونا كالزبدة والعسل حلاوةً وامتزاجًا؟ وآمنت بأنها ملكته إلى الأبد. ها هو يغلق الباب مثل دراويش التكية هاجرًا أحبابه في الحيرة والعذاب. بكَتْ طويلًا والخدم يصدُّونَها عن الجناح. زارت أخاه المعلم راضي فوجدته في حيرةٍ مماثلة.

جالست أباه عبد ربه في جناحه. لقد تغيَّر العجوز فلم يعُدْ يزور البوظة إلا فيما ندر، استقام وخشع، وهو مثلُها في حيرةٍ من أمر ابنه. قال: لا أستطيع رؤيته رغم أننا في دارٍ واحدة.

عانت زينات حياةً معذَّبَة. لم يكن المالُ ينقُصُها ولكنها فقدت تاجَ الحياة، تزعزعَت ثقتُها بنفسها، وتجهَّمَها المستقبلُ الغامض.

٥٦

وجزعَت العصابة واضطربت. لم يملأ مؤنس العال عينَ أحد، ولكنهم التزموا بطاعته. وتساءلوا أيَّ نذرٍ نذره، ولمَ يعهد بالفتونة لآخَر، وتجارته وأملاكه لأخيه راضي؟

وتسرَّب النبأ الخطيرُ إلى الحوارى المتنافسة، وبمرور الزمن أعلن الفتوات التحدي من جديد. وتلقَّى مؤنس العال أولى هزائمِه على يد فتوة العطوف، ثم تتابعت الهزائم أمام كفر الزغاري والحسينية وغيرهم، حتى اضطُر مؤنس العال لشراء أمن الحارة وسلامتها بالإتاوات. وأراد رجاله إبلاغَه بما آلَ الحالُ إليه، ولكن حيل بينهم وبين ذلك، وكأنه الموت قد انتزع فتوتهم منهم ودفنه في جناحٍ محكمِ الإغلاق.

٥٧

وتابع الناس بذهولٍ بناء المِئذنةِ الغريبة، وتواصل ارتفاعُها إلى ما لا نهاية. من أصل ثابتٍ في الأرض بلا جامعٍ أو زاوية، لا يُعرف لها هَدَفٌ أو وظيفة، حتى الذي يقومُ بتشييدها لا يعرف شيئًا عنها. وتساءل قوم: هل مسَّه جنون؟

أمَّا الحرافيش فقد قالوا إنها اللعنةُ حلَّت به جزاء خيانتِه لعهد جَدِّه العظيم، وتجاهُلِه لرجاله الحقيقيين، وجشعِه الذي لا يقنع بشيء.

٥٨

ومرَّت الأيام وهو مستغرق في عزلته. يقتلِعُ كلَّ يومٍ من قلبه جذورَ العالم الخارجي؛ الفتونة والمال والمرأة المُحِبَّة الجميلة. يستسلم للصمت والوعي والصبر. يسلبُه الأمل والفوز الذي لم يطمح إليه إنسانٌ من قبل. عاشر الزمن وجهًا لوجهٍ بلا شريك. بلا ملهاةٍ ولا مخدِّرٍ. واجهه في جموده وتوقُّفه وثقله.

إنه شيءٌ عنيدٌ ثابتٌ كثيف، وهو الذي يتحرَّك في ثناياه كما يتحرَّكُ النائمُ في كابوس. إنه جدارٌ غليظٌ مرهَقٌ متجهِّم. غيرُ محتملٍ إذا انفردَ بمنعزَلٍ عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل، ولا نصادق، ولا نحب، ولا نلهو إلا فرارًا من الزمن. الشكوى من قِصره ومرورِه أرحمُ من الشكوى من توقُّفِه. عندما يدركه الخلودُ سيجرِّب آلافَ الأعمالِ بلا خوفٍ وبلا كسل. سيخوضُ المعاركَ بلا تدبُّر. سيسخرُ من الحكمة كما يسخرُ من الحماقة. سيتقلَّد ذاتَ يومٍ عمادة الأسرةٍ البشرية. أمَّا اليوم وهو يزحفُ فوق الثواني فهو يبسط راحتَيه سائلًا الرحمة. ويتساءلُ متى يجيء الجانُّ؟ وكيف يؤاخيه؟ هل يراه رؤيةَ العين؟ هل يسمعُ صوتَه، أم إنه يلتحم به مثل الهواء الذي يتنفَّسُه؟ إنه مرهقٌ ضجِر، لكنه لن يلين للخَوَر. لن يخسر المعركة. ليتألَّم ولْيبكِ إذا شاء. إنه مؤمن بما يفعل. لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت. سيظلُّ الكونُ خاضعًا لتقلُّباتِ الفصولِ الأربعة، أمَّا هو فربيعٌ دائم. سيكون طليعةَ كونٍ جديد، أولُ مستكشفٍ للحياة بلا موت، أولُ رافضٍ للراحة الأبدية. القوةُ الظاهرةُ الخفية. إنما يخشى الحياةَ الضعفاءُ، أمَّا معاشرةُ الزمنٍ وجهًا لوجهٍ فعذابٌ لا يعرفُه الخيال.

٥٩

وقف جلال عاريًا أمام نافذةٍ مفتوحةٍ في آخِرِ يومٍ من العام المكتوب. استقبلَ شعاعُ شمسٍ مغسولًا برطوبة الشتاء، وتلقَّى نفحاتٍ باردةً من ريح متأنية. آنَ للمتصبِّر أن يجنيَ ثمرةَ تصبُّرِه. آنَ لليلِ الضنى والإرهاق والوحدة أن ينتهي. لم يعُد جلال عبد ربه الإنسان الفاني. إنه ثمل بروحٍ جديدةٍ تملأ أعطافَه، تسكره بالإلهام، تنفحه بالقوة والثقة. بوسعه أن يُحَدِّث نفسه فيحدِّث الآخَرَ في آنٍ، وأن يثقَ كلَّ الثقةِ بما يهمسُ في ضميره. انتصر على الزمن بعد صمودِه أمامه وجهًا لوجهٍ بلا رفيق. لا خوفَ منه بعد اليوم.

فليهدِّد غيرَه بجريانه المنحوس. لن يُبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب ولا بالوهن. لن تخونَه الروح، لن يحملَه نعش، لن يضمَّه قبر. لن يتحلَّل هذا الجسدُ الصلب، لن يتحوَّل إلى تراب، لن يذوق حسرةَ الوداع.

تجوَّل عاريًا في الحجرة وهو يقول بطمأنينة: مباركةٌ هذه الحياةُ الأبدية.

٦٠

فتح البابَ بعصبيةٍ واقتحمت الحجرةَ زيناتُ الشقراء. طارت نحوَه مجنونةً بالأشواق، فذابا في عناقٍ حارٍّ طويل. انتحبت باكية. سألته بعتابٍ حار: ماذا فعلت؟

قبَّل خدَيها وشفتَيها فعادت تتساءل: كيف هُنت عليك؟

اجتاحَه الحنينُ إليها. شيءٌ ثمينٌ جميلٌ عابر. يراها شابةً جميلةً وعجوزًا دميمة. كذبة عذبة. كأن الإخلاص أصبح مستحيلًا. قال لها: لننسَ ما فات.

– ولكني أريد أن أعرف.

– كأنه مرضٌ وانتهى.

– يا لك من خائن!

يا لك من امرأةٍ مليحة!

– أتدري ماذا حصل للدنيا في غيابك؟

– فلنؤجِّل الحديث عن ذلك.

فتراجعَ رأسُها وقالت بانبهار: ما أجملَ منظرَك!

فانقبض قلبُه وتمتم وهو يرمُقُها برثاء: آسفٌ على ما عانيت.

فقالت بعناد: سأستردُّ صحتي في ساعات، ولكن ما سرُّك؟

فقال بعد تردُّد: كنتُ مريضًا وشُفِيت.

– كان ينبغي أن ألزمَ جانبَك.

– كان العلاجُ هو الوحدة!

وضمَّتَه إلى صدرها وهي تقولُ بشغف: دعني أرى إن كان الحبُّ ما زال هو الحبَّ، أمَّا آلامي وأحزاني فسأحدِّثك عنها فيما بعد.

٦١

جلس في بهو الضيوف فاستقبل المعلم عبد ربه والمعلم راضي في عناقٍ صادق. وسرعان ما جاء مؤنس العال ورجال العصابة. قبَّلُوه باحترام، وقال له مؤنس محزونًا: ضاع كل شيء. لم يكن باليد حيلة.

وفي موكبٍ من رجاله خرج إلى الحارة، ومضى إلى المقهى. اجتمعت الحارةُ كلها في الطريق تُحَيِّيه فاختلط المحب بالكاره، والمعجب بالحاسد. ومال نحو مؤنس العال فسأله: ألم يظنَّ أحدٌ بي الجنون؟

فهتف الرجل: أعوذ بالله يا معلم!

فقال له وهو يرمق الجمهورَ بازدراء: فلْيذهبوا إلى أعمالهم مشكورين.

ثم غمغم: ما أكثرَ الكرهَ وما أقلَّ الحب!

٦٢

وزار المئذنة وبصحبته عبد ربه وراضي. رسخَت قاعدتها وسط خرابة. أُزِيل الحصى والقاذورات ممَّا حولها. قاعدةٌ مربَّعةٌ في مساحة بهوٍ ذات بابٍ خشبيٍّ مُقَوَّسٍ مصقول، ويواصِل جسمها المتين ارتفاعَه، لا ترى له قمة، لا يعلوه بناء، ويعلو أضعافًا فوقَ كلِّ شيء، توحي أضلاعُه بالقوة، ولونُه الأحمرُ بالغرابةِ والرعب.

وتساءل عبد ربه: لو سلَّمنا بأنها مِئذنةٌ فأين الجامع؟

فلم يُجِب، فقال راضي: كلَّفَتنا مبلغًا طائلًا.

وعاد الأب يسأل: ما معنى هذا يا بني؟

فضحك جلال وقال: الله أعلم.

– منذ تمَّ بناؤه ولا حديث للناس سواه.

فقال جلال بازدراء: لا تهتمَّ بالناس، إنه من النذر يا أبي، وقد يرتكب الإنسان حماقاتٍ كثيرةً ليبلغَ في النهاية حكمةً فريدة.

وهمَّ الأبُ بمعاودة السؤال، ولكنَّه سبقه بنبرةٍ قاطعة: انظر، ها هي المئذنة، سيفنى كلُّ شيءٍ في الحارة وتبقى هي. اطرح عليها أسئلتَك وسوف تجيبك إذا شاءَت.

٦٣

وانفرد بالمعلم عبد الخالق العطار وسأله بجديةٍ مخيفة: ماذا ظننت باعتزالي؟

فقال الرجل بصدقٍ وقلبُه يخفق بالخوف: ردَّدت قولك بلا زيادة.

– وماذا ظننت بالمئذنة؟

فقال الرجل بعد تردُّد: لعلها من النذر يا معلم.

فسأله متجهِّمًا: ألستَ رجلًا حكيمًا يا عبد الخالق؟

فبادر الرجلُ يقول: إن تفشَّت همسةٌ واحدةٌ فاعتبرني المذنب!

٦٤

في جوف الليل تسلَّل إلى المئذنة. رقَى سُلَّمَها درجةً درجةً حتى انتهى إلى شرفتها العُليا. تحدَّى جوَّ الشتاءِ القارس في تسلُّطِه الشاملِ على الوجود. تطاولَ رأسُه إلى مهرجان النجومِ الساهرةِ المنتشرةِ فوقه كمظلة. آلافُ الأعينِ تومض فوقَه، وكل شيء تحته غارقٌ في الظلام. لعله لم يصعد، ولكن قامَتَه طالت كما ينبغي لها. عليه أن يرتفع، أن يرتفعَ دائمًا؛ فلا سبيل إلى النقاء إلا بالارتفاع. وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، وهمساتِ الفضاء، وأماني القوةِ والخلود، بعيدًا عن أنَّاتِ الشكوى والخَوَرِ وروائحِ العفن. الآن تشدو ألحان التكية أغنيات الخلود، وتعرِض الحقيقةُ العشراتِ من وجوهها الخفية، وينكشفُ الغيب عن شتَّى المصائر. مِن هذه الشرفة يستطيعُ أن يتابعَ الأجيالَ في تعاقُبِها، وأن يلعبَ لكل جيلٍ دورًا، وأن ينضمَّ بصفةٍ نهائيةٍ إلى أسرة الأجرام السماوية.

٦٥

وقاد رجالَه ليؤدِّبَ أعداءَه وليعيدَ إلى حارته مكانتَها السابقة. في فترةٍ قصيرةٍ أحرز انتصاراتٍ باهرةً على العطوف والحسينية وبولاق وكفر الزغاري والدرَّاسة. كان يرمي بنفسه على خصومه فيتطايرون أمامَه تسحقُهم الهزيمةُ والذل. عُرِف بأنه القوةُ التي لا تُقاوم، التي لا تُجْدِي معها قوةٌ أو شجاعة.

٦٦

وتغيَّر أسلوبُه في الحياة؛ أصبح يأكلُ فيُفرط في الأكل، ويشربُ فيُفرط في الشرب، ويدخِّن فيُفرط في التدخين، وكلما غازلَتْه غانيةٌ استجابَ لها مستعينًا بالسريةِ والستر، وسرعان ما تحرَّر من سطوة زينات فلم تعُدْ إلا وردةً جميلةً في حديقةٍ مَلْأَى بالورود. وترامَت أنباءُ مغامراتِه إلى المرأة فاشتعل بجوانحها جنونُ الغيرة والخُسران، ورأت وجهها في مرآة المستقبل متلاشيًا في ظلمة النسيانِ والضياع. طالما وجدَت فيه الطفلَ البريءَ ذا المذاهب الخارقة. وفتحت لها براءتُه أبوابَ الأملِ البعيد، فضَمنت الحبَّ وطمحت إلى الزواج. ولعل السُّلو عن الحياة نفسها أهونُ من السُّلو عنه وقد تجسَّدت فيه القوةُ والجمالُ والشبابُ والعظمةُ غيرُ المحدودة. ولكنه خرج من عزلته مخلوقًا آخَر. مخلوقًا يُبهر بالقوة والجمال، ويُرعب بالتقلُّب، والجنون والحنكة والاستهانة. وشعرت بأنها تدق وتنْحَلُّ وتتضاءل، بل وتتلاشى أمام سيادتِه المرعبةِ المجهولة. ولم تَجِد ما تتذرَّعُ به حِيالَه إلا الضعفَ والابتهالَ والهزيمة، ولكنَّه اعترضَها بنعومةٍ متكبِّرة، معتزةٍ بشموخها، متعطِّفةٍ بحنانٍ بارد، متحصِّنةٍ بتعالٍ لا متناه، وقال لها: اقنعي بمنزلةٍ تُحسدين عليها.

ورأَت أنها تذبُل بقدر ما يزدهر، وأنهما ينطلقان في طريقَين متضادَّين، فاحتقنَ قلبُها بالحبِّ والتعاسة.

٦٧

ورُزق عبد ربه الأبُ بذَكَر سمَّاه خالد. وسرعان ما تاب وأقلع عن البوظة بصفةٍ نهائية، ووجدَ سرورَه في الصلاة، فاتخذ من الشيخ خليل الدهشان نجيَّه وصديقَه.

وداخله قلقٌ مرعبٌ من ناحية جلال، وقلقٌ أشدُّ من ناحية المِئذنة المخيفة. خُيِّل إليه أن علاقة الأُبوةِ تَتهتَّك، وأن ابنه أصبح غريبًا لا يمتُّ إليه بصلة، بل أصبح غريبًا بين الناس غرابةَ المئذنة بين الأبنية. إنه مثلُها قويٌّ وجميلٌ وعقيمٌ وغامض. وقال له: لن يطمئنَّ قلبي حتى تتزوَّج وتنجب.

فقال جلال: في الوقت متسعٌ يا أبي.

فقال بتوسُّل: وحتى تبعثَ عهد الناجي العظيم.

فابتسم ولم يُجِب، فقال الأب: وحتى تتوب عن المنكر وتتبع سبيلَ الله.

وتذكَّرَ ماضي أبيه القريب والبعيد فقهقَه بصوتٍ كالطبل.

٦٨

مَرَّت الأيامُ لا يخشى من مرورها، وتتابعت الفصولُ بلا جزع، وارتفعت الإرادة الصلبة فوق قوى الطبيعةِ المتصارعة، ولم يعُد الغيبُ يُضمِر ما يخيف.

وفي هاوية اليأس والحزن تلقَّت زيناتُ الشقراءُ دعوةً للحبِّ. طالما انتظرتها، طالما تلهَّفت عليها، طالما تهيَّأَ لها قلبُها المكلوم.

ها هو يجود بليلةٍ من لياليه، ها هي تمضي إلى داره ينطق ظاهرُها بالرضا والقناعة. وفتحت النوافذَ وانجابَت الستائرُ لتُوسِّع لنسائم بشنس. لقيته بالبشر والمرح، وكتمت في الأعماق أحزانها. تعلَّمت أن تعامِلَه بحذر الخائف، فراحت تُعِد الشرابَ والأقداح، وتهمسُ في أذنه: اشرب يا حبيبي.

فيقولُ لها وهو يعُبُّ من الخمر عبًّا: ما ألطفَك!

وقالت لنفسها إنه فقد قلبه كما فقد براءته، وأنه يتباهى وهو لا يدري بقسوته مثل الشتاء، وقالت لنفسها أيضًا إنها تنتحر بوعيٍ وإرادة.

ورمقها وهو يتوغَّل في السكر، وتمتم: إن صحَّ نظري فلستِ كالعهد بك.

فقالت بعذوبة: إنه وقارُ الحب.

فضحك قائلًا: لا وقار لشيء.

وعابَثَ خُصلةً من شعرها الذهبي وقال: ما زلتِ في أعزِّ مكانة، ولكنكِ امرأةٌ طموحة.

فاندفعت قائلة: ما أنا إلا امرأةٌ حزينة.

– تذكَّري نصائحَك الغاليةَ عن قِصَر الحياة.

– كان ذلك في زمان الحب.

– ها أنا أعملُ بها فشكرًا لك.

وقالت لنفسها: إنه لا يدري ما يعنيه كلامُه، وإنها تعلمُ الغيبَ أكثرَ منه بقيراط، وإن الشرَّ يرفع الإنسان على رغمه إلى مرتبة الملائكة. ورنت إليه طويلًا بشغفٍ وهي تقاومُ رغبةً في البكاء. واستنامت إلى نسائم بشنس وقالت لنفسها: إنه شهرٌ غدَّار، سرعان ما تدهمه الخماسينُ فينقلبُ شيطانًا مُغِيرًا يفتك بالربيع. واحتواها بين ذراعَيه فضمَّته إلى صدرها بقوةٍ جنونية.

٦٩

تخلَّص من ذراعَيها ومضى ينزع عنه ملابسَه حتى بَدَا كتمثالٍ من نور، ونهض قائمًا. راح يتمشَّى في المخدع، وسرعان ما ترنَّح حتى ضحك. قالت: شربتَ بحرًا.

– ما زلت ظمآن.

فغمغمت كأنما تخاطب نفسها: ذهب زمان الحب.

وترنَّح متطوِّحًا حتى تهاوى فوق ديوان. وضحك عاليًا. قالت: إنه السكر.

فقال متجهِّمًا: كلَّا، شيءٌ أثقل، كأنه النوم.

حاول القيامَ ولكنه استسلمَ متمتمًا: إنه النومُ يجيءُ بلا دعوة.

عضَّت على شفتها. هكذا سينتهي العالم ذاتَ يوم. وأتعس الناسِ من ينشد النصر في الهزيمة.

وقالت له بصوت مبحوح: حاول أن تنهض.

فقال بتراخٍ وَقور: لا داعي لهذا.

– ألَا تستطيع يا حبيبي؟

– بلى، إنها نار الجحيم والنوم.

فانتفضَت قائمة. تراجعت إلى مركز المخدع وهي تنظر إليه بوحشيةٍ حلَّت محلَّ العذوبةِ الحزينة. أصبحت قطعةً من التحفُّز المشرب بالمرارة والحزن. نظر نحوها بعينَين غائمتَين، حوَّل بصره إلى لا شيء، قال بنفَسٍ ثقيل: ما بال النومِ يزحف!

فقالت بنبرةِ اعترافٍ مقدسة: ليس النوم يا حبيبي.

– لعله الثور الذي يحمل الدنيا على قرنه؟

– ولا هو الثور يا حبيبي.

– إنك مضحكةٌ يا زينات، لماذا؟

– بل إني أنتحر.

– هه؟

– إنه الموت يا حبيبي!

– الموت؟

– لقد جرعت من السمِّ ما يكفي لقتل فيل.

– أنتِ؟

– أنتَ يا حبيبي.

وضحك، ولكنه سرعان ما كفَّ عن الضحك في إعياء، فقالت وهي تبكي: قتلتُك لأقتل حياةَ العذاب!

حاول الضحك مرَّةً أخرى وتمتم: جلال لا يموت.

– الموتُ يُطل من عينَيك الجميلتَين.

– الموتُ ماتَ يا جاهلة.

واستجمع كل قوته حتى وقف ممتدًّا في فضاء الحجرة. تراجعت إلى الوراء في رعب، ثم اندفعت هاربةً مجنونة.

٧٠

كأنه يحمل المئذنة المرعبة فوق كاهله. الموت ينطحه كما ينطح أي حيوانٍ أعمى صخرةً صلدة. وهتف بلا خوف: ما أشد الألم!

سار مترنِّحًا نحو الخارج وهو عارٍ تمامًا. تمتم وهو يغادر الدار إلى ظلام الحارة: جلال يتألَّم ولكنه لا يموت.

تقدَّم ببطءٍ شديدٍ يخوض الظلمة الحالكةَ مغمغمًا بصوت غير مسموع: النار، أريد ماءً.

وجعل يتحرَّكُ في الظلام ببطءٍ شديد، يغمغمُ متشكيًا وهو يعتقد أنه يملأُ الدنيا صياحًا. وتساءل أين الناس؟ أين الأتباع؟ أين الماء؟ أين زينات المجرمة؟ وقال إنه الكابوس في ثقله وسماجته، ولكنه ليس الموت، القوى المجهولةُ تعمل الآن بكل طاقتها لتردَّه إلى الحياة والسخرية، ولكن ما أشدَّ الألم! ما أفظع الظمأ!

وعثر في تخبُّطه بجسمٍ بارد. آه إنه حوض الدواب. اجتاحته فرحةُ النجاة. انحنى فوق حافة الحوض، فتهاوى إلى أسفل. مدَّ ذراعَيه فغرقَ في الماء. لامست شفتاه الماءَ المشبعَ بالعلف. شرب بنهم، شرب بجنون. صرخ صرخةً مدويةً ممزَّقةً بوحشية الألم. غاص نصفه الأعلى في الماء العكر، تَقَوَّض نصفه الأسفل فوق أرضٍ مُغَطَّاةٍ بالروث، كفَّنته الظلمةُ الحالكةُ في تلك الليلة المثيرة المفزعة من ليالي الربيع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤