الأشباح
١
دهرٌ طويلٌ كان ينبغي أن يمُرَّ قبل أن تنسى الحارة منظر جثة جلال المنطرحة على حافة حوض الدواب. جثةٌ عملاقةٌ بيضاءُ ملقاةٌ بين العلف والروث. هيكلها العظيم يوحي بالخلود، سلبيتها المتهافتة تشهد بالفناء، وفوقها يتشبَّعُ الجوُّ على ضوء المشاعل بالسخرية المرعبة.
انتهى القويُّ الشامخُ في عنفوان شبابه. تلاشى ظلُّه ذو المائةِ عينٍ والألفِ قبضة. حمله أبوه عبد ربه وأخوه راضي إلى داره العظيمة. شُيِّع في جِنازةٍ مهيبةٍ إلى قبر شمس الدين الناجي. خَلَّد ذكراه في سجل الفتوات العظام بالرغم من صفاته الشيطانية.
يذهب الإنسان بخيره وشرِّه، ولكن تبقى الأساطير.
٢
تولَّى الفتونة بعده مؤنس العال. ورغم ما خلَّفَه موت جلال من ارتياحٍ عام إلا أن الحارة فقدت توازُنَها وداهمتها مخاوفُ جديدة. وسرعان ما نزلت عن مكانتها المرموقة فمضت في ركْبِ الحيِّ حارةً من الحارات، وتلاشت فتونة فتوة الفتوات، وراح مؤنس العال يهادِن ويصادق، أو يخوض معاركَ خاسرة، ويُضطرُّ أحيانًا لشراء السلامةِ بالإتاوة والهدايا. أمَّا داخلَ الحارةِ فلم يتصوَّر أحدٌ أن يخلص مؤنس العال للعهد الذي خانَه جلالُ حفيدُ الناجي ومعجزةُ القوةِ والنصر.
٣
وورث الترِكة الضخمةَ رجلان؛ الأب عبد ربه، والأخ راضي. وعُلِّل موتُ جلال بإفراطه في الخمر والمخدِّرات. أمَّا انطراحُه بين العلف والروث عاريًا فاعتبر جَزاءً إلهيًّا لصلفه وشموخه وتعاليه على البشر. وبقيت المئذنة بلا وريث، متماديةً في الضخامة والارتفاع والعُقم، آيةً على الغطرسة والجنون.
٤
وبعد حينٍ فتح المعلم عبد الخالق العطار فاه. همس بالمغامرة العجيبة، بمؤاخاة الجان، بدور الرجل الغامض شاور. هكذا ذاع السرُّ وتناقلَه الناس، وأكَّدَت زينات الشقراءُ الظنونَ بما روت عنه من اعتقادِه بأنه لا يموت.
واختفى شاور وجاريتُه هربًا من غضب الخلق. واقترح كثيرون هدم المئذنة، ولكن الأغلبية خافت أن يكون الجنيُّ قد سكنها حقًّا، فيُخشى على الحارة من هدمها أن يلحقَها من الأذى ما لا يدريه بشر. هكذا تُركت، يتجنَّبها القوم، يلعنُها الرائحُ والغادي، تمتلئُ جوانحها بالحيَّات والخفافيش والعفاريت.
٥
وقال الحرافيش إن ما حلَّ بجلال هو الجزاءُ العادلُ لمن يخونُ عهد الناجي العظيم. من ينسى دعاءَه الخالد بأن يهبه الله القوة ليجعلها في خدمة الناس. وعندما يخون حفدَة الناجي عهدَه تحلُّ بهم اللعنةُ ويفتِكُ بهم الجنون. حتى المعلم عبد ربه ناله من ازدراء الحرافيش ما ناله، وكذلك المعلم راضي، ولم يُغْنِ عنهما مالهما الغزير.
٦
وعاشت زينات الشقراء فترةً من الرعب والترقُّب، ولكن أحدًا لم يُشِر إليها باتهام، حتى من ساوره شكٌّ في دورها تغاضَى عن ظنونه حامدًا لها فعلها المجهول. ولم تنعم المرأةُ بانتقامها؛ فعاشت وحيدةً زاهدةً بلا قلبٍ ولا راحة.
واكتشفت عقب موتِ جلال بفترةٍ من الزمن أن حبَّهما قد خلق في بطنها ثمرة، فحرصت عليها بقوة حبها الخالد، وملكها شعور بالفخار رغم أنها ثمرةٌ غيرُ مشروعة. وأنجبت ذكرًا فسمَّته جلال بكل جراءةٍ وصراحةٍ متحديةً به التقاليد.
٧
ووهبته حُبَّين؛ حبَّ الأمومة، وحبَّ العاشقةِ الخالدةِ لأبيه الراحل. ونشأَ جلال في أحضان أُمِّه حياةً متواضعة، آثرتها أُمُّه على العودة إلى حياة الغانيات، ولم تنس قطُّ أنه الوريثُ الحقيقيُّ لترِكة جلال الخيالية. وسعت إلى المعلم عبد ربه، ثم إلى المعلم راضي، لينزلا للصغير عن شيءٍ من ماله، ولكنهما قاطعاها بحدَّةٍ دَلَّت على أنهما يتهمانها بدورٍ فاصلٍ في مصرع جلال. وقال المعلم راضي: امرأةٌ مثلُها كيف تعرفُ من يكونُ أبًا لابنها؟!
٨
وترعرع جلال كابنٍ من أبناء الحارة، مجهول النسبِ، يشار إليه باعتباره ابن حرام، كما كان يُشارُ إلى أبيه باعتباره ابنَ زهيرة. ولكن نموه المُطَّرِد أثبتَ لكل ذي عينَين أنه ابنُ جلال دون غيره. أَجَل، لم يكُن له قوته ولا جماله ولا عملقته، ولكن لا يخطئُ أحدٌ في ربط الصورةِ المتواضعةِ بالأصل البائد.
٩
ودخل جلال الكُتَّابَ عامَين، ثم عمل سوَّاقًا عند «الجدع» صاحب العربات الكارو. وكانت زينات قد أنفقت مُدَّخَرَهَا فلم تستطِع أن توفِّر لجلال عملًا أفضل، وكانت فخورًا بابنها، كما كانت فخورًا بصبرها واستمساكِها بالحياة الشريفة. ورغم تجاوزِها للأربعينَ كانت ما تزالُ على قدْرٍ من الجمال جعل المعلم الجدع يطمعُ في ضمِّها إلى حريمه. لم ترحِّب زينات برغبة المعلم، وخافت في الوقت نفسه أن يسيءَ معاملةَ ابنها، ولكن الرجلَ نبذ رغبتَه عندما قال له مجاهد إبراهيم شيخُ الحارةِ الذي خلفَ خليل الفص بعد وفاته، قال: كيف تركن لامرأةٍ قتلت ذاتَ يومٍ رجلها؟!
وعرف جلال — مع الأيام — أنه ابن جلال صاحبِ المئذنة وحفيد زهيرة، وأن عبد ربه جدُّه، والوجيه راضي عمه. عرف تاريخَه الحزينَ كما عرف تاريخَ الناجي، ولبسه لقبُ ابنُ الحرام كقدرٍ لا مفرَّ منه ولا تكذيب له. وقال له المعلم الجدع ذاتَ يوم: إيَّاك أن تعمد إلى العنف. اصبر وما صبرُكَ إلا بالله، وإلا فابحث عن رزقكَ في مكانٍ آخَر.
وقال له الشيخُ سيد عثمان شيخ الزاوية (خليفةُ المرحومِ الشيخِ خليل الدهشان): مؤنس العال يرقبك باهتمامٍ باعتبارك من حَفَدَةِ الناجي، حذارِ أن تستغلَّ قوتَك فتهلك.
فصبر جلال مؤْثِرًا السلامة، واستحقَّ باجتهاده وأمانته تقدير الجدع.
١٠
وتمرُّ الأيامُ وتنبتُ من جديدٍ آمال. تشجَّعت زينات بعطف الجدع على جلال وراحت تخطب له عفيفة ابنة المعلم. وكان الرجلُ فظًّا صريحًا عندما أجاب قائلًا: جلال ولد طيب، ولكني لا أزوِّج ابنتي من ابن حرام.
وبكت زينات منفعلة، أمَّا جلال فقد تحَمَّل الطعنة صابرًا.
١١
ومات الجدع عقب تناوله صينية فول بالخلطة وصينية كنافة بالقشدة، وقد تجاوز السبعين من عمره. وانتظرت زينات عامَ الحداد، ثم طلبَت عفيفة من أُمِّها، فوافقت المرأةُ بناءً على ما آنست من مَيل ابنتها للفتى.
هكذا زُفَّت عفيفة الجدع إلى جلال عبد الله.
١٢
وبالزواج ترقَّى جلال عبد الله من سواق كارو إلى صاحب كارو، وإن لم تكن عفيفة هي المالكة الحقيقية. أحسنَ الإدارةَ وتحسَّنت أحوالُه المعيشية، ثم تُوِّج حظُّه بالأُبوة. وتتابعَت أيامٌ مريحةٌ أنجب فيها بنات، ثم رُزِق بذكر سرعان ما أسماه شمس الدين جلال الناجي. أعلن بالتسمية عن كبريائه الدفينة مثل النار في الصُّوان. وسلَّم الجميع بصدق التسمية، غير أن آل الناجي الأكابر — مثل الوجيه راضي — امتعضوا لها، أمَّا الحرافيش وسائر الناس فلم ينسَوا أن جلال الاب ابنٌ غير شرعيٍّ للمجنون صاحب المئذنة الشيطانية. وقال عنبة الفوَّال صاحب البوظة وخليفة المرحوم سنقر الشمَّام: ما أكثر الذين يُسمَّون بعاشور وشمس الدين في حارتنا!
أجل لم يبقَ من تراث الناجي الخالد إلا الأسماء، أمَّا العهودُ والأفعالُ فتعيشُ في الخيال مع الأساطير والمعجزات المسربلة بالحسرات.
١٣
وتمرُّ أيامٌ رتيبةٌ ومريحةٌ في حياة جلال عبد الله وأسرتِه، ويُعرف الرجلُ بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع. ويتوفَّرُ له الرزق، ويعشقُ العبادة، ويصبح من أقرب المقرَّبين للشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية، وتتوثَّق علاقته بزوجته عفيفة ويقنع بمعاشرتها، ويحسن تنشئةَ شمس الدين، ويظلُّ الابنَ البارَّ لأُمِّه زينات رغم ما أورثته من سوء سمعةٍ وألم. وتدل البشائرُ على أن هذه الأسرةَ ستشقُّ طريقَها في يسرٍ وبلا تاريخ.
١٤
عندما بلغ المعلم جلال عبد الله الخمسين من عمره انقلبَ حالُه ودهمته العجائبُ من زوايا المجهول؛ في البدء كانَت وفاةُ أُمِّه. ماتت زينات فجأةً عن ثمانين عامًا. ومن عجبٍ أن جلال — رغم كهولتِه ورغم شيخوخة أُمِّه — قد صُدِم صدمةً عنيفةً زعزعت توازنَه. رُئِي في الجنازة وهو يبكي وينتحب، ثم غشيته كآبةٌ ثقيلةٌ خنقته ثلاثةَ أشهُر، حتى ظُنَّ به التدهور. ولم يُفهم حزنُه وسخِرَ منه كثيرون. وهو نفسُه كان يقولُ إنه طالما أحبَّها حبًّا جمًّا، ولكنه ما كان يتصوَّر أن يفعل به موتُها ما فعل. أمَّا الأعجبُ من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاعِ الكآبة؛ لقد وُلد شخصٌ جديدٌ مجهولُ الأصل، كأنما قذفَه قبوٌ مسكونٌ بالعفاريت. تَبَدَّى له حبه لأُمِّه عاطفةً غريبةً مُضَلِّلَةً كأنها سحرٌ أسود. تبخَّرت في الهواء مُخَلِّفَةً حجَرًا باردًا شديدَ القسوة. أصبح يثورُ لذكراها ويلعنُها. لم يبقَ في قلبه أثر حزنٍ أو بِرٍّ أو وفاء، وثمة صوتٌ يهمِسُ له في ذهوله بأنها كانت ينبوعَ العداوةِ والمقتِ في حياتِه، وأنه ضحيتُها الأبدية.
وتساءلَ ذاتَ يوم: هل حزنت لموتها حقًّا؟ يا لها من نزْوَةٍ جنونيةٍ أمام الموت!
ومرَّةً كان يجالِسُ مجاهد إبراهم شيخ الحارة، فقال له: كانت أُمِّي ذاتَ صفاتٍ كريهةٍ وسمعةٍ سيئةٍ ونوايا خبيثة.
فدُهش شيخُ الحارةِ وقال له: لا أكاد أصدِّق أذني.
– أومن الآنَ بأنها حقًّا قتلت أبي، وقد كانت عربيدَةً مدمنةً للمخدِّرات. إني أتقزَّزُ من ذكراها.
– اذكروا حسناتِ موتاكم.
فهتف بحقدٍ لم يعرف عنه: لا حسنة واحدة لها!
ثم بغيظٍ أشدَّ: لقد تمتَّعت بعمرٍ طويلٍ مريحٍ لا تستحقُّه.
١٥
وتغيَّر سلوكُه فيما يشبه الانهيار.
كفَّ عن الصلاة، هجر الزاوية، ماج بانفعالاتٍ عنيفة. وإذا به يقتحمُ البوظة لأَوَّلِ مرَّةٍ في حياته. كان هناك الفتوة مؤنس العال وبعض رجالِه، فلمَّا رآهُ صاحَ ساخِرًا: أخيرًا عرف الحمارُ الضالُّ حظيرتَه.
وضجَّ الحاضرونَ بالضحك، أمَّا جلال فابتسمَ في شيءٍ من الارتباك، ثم رفع القرعة إلى فِيه الظمآن.
وسأله مؤنس العال: ماذا أغراكَ بتقليد الرجال؟
فقال بسرور: الاقتداءُ بالرجال شرفٌ يا معلم.
ولمَّا انصرف الفتوةُ راح جلال يغنِّي:
وسكر وانبسط وراح يقول: حلمت أمس بأنني تسلَّلت إلى مئذنة أبي، وأن شخصًا جميلًا صعد بي إلى شرفتها العُليا، ثم دعاني إلى ملاعبته الحجلة، فرحت أحجل حتى اختلَّ توازني فسقطتُ من الفتحة العالية، ولكنني لم أُصَب بأدنى أذًى.
فقال له عنبة الفوَّال الخمَّار: خيرُ ما تفعلُ أن تجرِّبَ ذلك في يقظتك.
فراح يغنِّي من جديد:
١٦
وجد عفيفة مستيقظةً تنتظر. لم يسبق له مثل هذا السهر. وتطايرت إلى أنفها رائحةُ البوظة، فضربت صدرها براحتها هاتفة: سكران!
فراح يرقص ويقول: أنا جدع يا بنت الجدع.
١٧
وذاعت أخباره فعجب الناس وقالوا: «مجنون ابن مجنون.» واعترضه الشيخُ سيد عثمان ذاتَ يومٍ وسأله: ماذا قطعك عنا؟
فلم يُجِبه، فسأله بأسًى: أحقٌّ ما يُقال عنك؟
فهجره ماضيًا في سبيله.
١٨
وكان إذا سكر وفقد الوعي تقتحمُه مغرياتٌ جديدة كأنما تتفجَّر عنها غرائز رجلٍ آخَر. كان ينجذبُ إلى البنات المراهقاتِ أو من دونهن بقليل، بقوةٍ غشوم، فيعاكِسهن ويغازِلهن، وإذا خلا إلى إحداهن انبثقَ من إهابه وحشٌ نَهِم؛ لذلك كان يتحاشى السُّكر في النهار خشية العواقب، ويتسلَّل ليلًا إلى الخرابات مثلَ ذئبٍ جائع. وقادته قدماه ذاتَ ليلةٍ إلى مسكن «دلال» الغانية، وانفرطَ منه الزمام.
١٩
غدَا رجل الانحلالِ والفضائح. أُوتي قوةً كبيرةً على الاستهانة بكل شيء. ولعل ما ربطه بدلال أنها كانت صغيرةَ السِّنِّ وذاتَ وجهٍ مطبوعٍ بطابع الطفولة، وأنها كانت تتسامحُ في نزواته الغريبةِ فتُوفِّرها له بدلا من أن تقصيه عنها أو تعنِّفه بسببها. وقالت له مرَّةً بصراحة: إني أحبُّ الجنونَ فلا يهمُّك ما يقال!
فهتف جلال: أخيرًا عثرت على امرأةٍ عظيمةٍ مثلَ جَدَّتِي زهيرة!
وانطرح على ظهره في تراخٍ وارتياحٍ وراحَ يعترفُ لها قائلًا: استيقظتُ ذاتَ صباحٍ فوجدتُنِي سكرانَ بلا خمر. كان يخفق بصدري قلبٌ جديد. كرهت حاضري وذكرياتي، حتى التجارة والربح، ومشاكل البنات المتزوِّجات. وكرهت امتثالَ ابني شمسِ الدينِ الذي يعملُ سوَّاقًا عندي وكأنه حمارٌ يسوقُ حمارًا، وكرهت أُمَّه التي يمضي محصَّنًا ببركاتها، ورأيتها تستنزفني بلا وجه حق، كما استنزفتني أُمِّي من قبلُ بطريقةٍ أخرى. وثار القلب والعقل والكبد وأعضاءُ التناسلِ وهتفت: بُشْرَى للشياطين!
فقالت دلال ضاحكة: إنك ألذُّ رجلٍ في العالم.
فقال بثقة: سمعت أن الرجال يولدون من جديد في سن الخمسين.
فقالت بيقين: ومرَّةً أخرى في الستين، والسبعين.
فتأوَّه قائلًا: لولا غيرةُ امرأةٍ شريرةٍ لخلدَ أبي وحطَّم كأس المنون.
فقالت له دلال: لولا أنك معجزةٌ ما أحببتك قط.
٢٠
تتابعت الضرباتُ وانهالت بعنفٍ على رأس عفيفة. تقوَّضت دنياها، تَبَدَّد حلمها، تبخَّرت سعادتُها، اعتقدَت أن «عملًا» عمل لزوجها فطافت بأضرحة الأولياء وقُراء الغيب، الْتزمت بكل نصيحة نُصحت بها، ولكن جلال توغَّلَ في ضلاله بلا هوادة. لقد أهمل عمله أو كاد، واظب على السكر والعربدة، التصق بدلال، استباح كرامتَه في مغازلة البنات.
لولا الخوفُ من العواقب لفكرت في أن تشكُوَه إلى مؤنس العال. ولم تجِدْ في حزنها ووحدتها إلا ابنها شمسَ الدين، فبثَّته حزنَها ومأساتَها، وقالت له: حَدِّثه يا شمس فربما لان لك.
وكان بين عفيفة وشمسِ الدينِ علاقةٌ حميمةٌ فاقت كلَّ تصوُّر، فحزن الفتى لأُمِّه، حزنه على سمعته وكرامته. وتشجَّع فصارح أباه بأحزانِه، ولكن الرجلَ غضب، وهزَّه بعنف قائلًا: أتريدُ أن تربيني يا ولد؟
فانطوى الفتى على أحزانه. كان يماثِل أباه في قوته وملاحته وأخلاقه المأثورةِ التي تقوَّضت فجأة، ولم يدرِ ماذا يفعل، وراح يعاني ثورةً من عواطفه تتحدَّى بنوته وبرَّه ودماثَتَه. ولم تكُفَّ أُمُّه عن شكواها، فتلقَّى منها نفحاتٍ متواصلةً من المرارة والحَنَق. وطالما حذَّرته: سيبدِّدُ كلَّ شيء، سيترُكُكَ متسوِّلًا.
وبدا له أن أسرته تعاني من لعنة أبدية. تستعينُ بالجنون والدعارة والموت. وتقلَّص قلبُه فأخذ يَجِفُّ من الوفاء والحب، ويتحدَّى المجهول بالقوة والقهر.
وعَجِب متسائلًا: لمَ قبلت أُمِّي الزواجَ من مثلِ هذا الرجل؟
٢١
وجعلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ كعقود نهار الصيف الماضية نحو الظهيرة المتلظية. وأخذ قلب شمس الدين يتلوَّن بالسواد ويتشرَّب بالرفض والحنق. وترامى إليه وهو جالس في القهوة أن أباه يرقص في البوظة شبه عار. وجُنَّ الفتى فانطلق من فوره إلى البوظة بقلب محزون وإرادة مُصمِّمة. رأى أباه وهو يرقص وليس عليه إلا سرواله، والسكارى يُصفِّقون ويغنُّون:
لم ينتبه المعلم جلال لمقدم ابنه فواصل الرقص في غايةٍ من الانسجام، ورأى بعض السكارى شمس الدين فكفُّوا عن التصفيق والغناء، داعين الآخرين إلى ذلك، وقال أحدهم بإغراء شرير: فلنشهد منظرًا طريفًا!
وبتوقُّف التصفيق والغناء توقَّف المعلم جلال عن الرقص محتجًّا. وعند ذاك انتبه إلى وجود ابنه، كما فطن إلى غضبه وتحديه، فغضب بدوره وصاح به متسائلًا: ماذا جاء بك يا غلام؟
فقال شمس بأدب: تفضَّل يا أبي بارتداء ملابسك.
فصاح المخمور: ماذا جاء بك يا وقح؟
فقال بإصرار: أتوسَّل إليك أن ترتدي ملابسك.
فانقضَّ عليه مترنِّحًا ولطمه لطمةً شديدةً صفَّقت في البوظة الصامتة، وصاح أكثر من صوت في تحريض وسرور: عفارم!
وانهال الرجل على ابنه لطمًا حتى خارت قواه من شدة السكر فتهاوى على الأرض فاقد الوعي.
وندَّت ضحكة، ثم ساد الصمت وقال صوت: قتلت أباك يا شمس الدين.
وقال آخر: حتى الشهادة لم ينطق بها!
وانكبَّ شمس الدين على أبيه يُلبسه ثيابه، ثم حمله بين يدَيه، ومضى به مُشيَّعًا بقهقهات غليظة ساخرة.
٢٢
أفاق المعلم جلال بعد قليل فوق فراشه بمسكنه الشرعي. جالت عيناه الحمراوان فيما حوله فرأى عفيفة وشمس الدين ومعالم الحجرة الكريهة. سرعان ما تذكَّر كل شيء. إنه الليل، وكان ينبغي أن يكون في فراش دلال. وهذا الفتى قد جعل منه سخرية السكارى وأعدم هيبة الأبوة. جلس في الفراش وهو ينفخ. وثب إلى الأرض. انقضَّ على شمس الدين وراح يكيل له الضربات. رمت عفيفة نفسها بينهما باكية. تحوَّل جلال إليها فاقد الرشد. قبض على عنقها وشدَّ بوحشية. عبثًا حاولَت المرأة التخلُّص من قبضتَيه. تجلَّت في وجهها اليائس معالم الاختناق والموت. صاح شمس الدين: دَعها، إنك تقتلها!
لم يحفل به منتشيًا بوحشية الجريمة. فزع شمس الدين إلى مقعد خشبي فرفعه وهوى به على رأسه بقوة جنونية.
٢٣
حلَّ هدوء ثقيل محلَّ الصراخ والانفعال الأحمر. استلقى المعلم جلال فوق فراشه مضرَّجًا في دمه. اقتحم المسكن جيران، وجاء أيضًا مجاهد إبراهيم شيخ الحارة. وقدم الحلاق لتقديم الإسعافات الضرورية وإيقاف الدم السائل، على حين انزوى شمس الدين في زاوية مستسلمًا للأقدار.
وغاب الزمن تمامًا. وانداحت لحظة ساخرة مفعمة بكافة الاحتمالات.
لحظة عشوائية أقوى من كافة وسائل التفكير والتدبير. وأدركت عفيفة كما أدرك شمس الدين أن الحاضر يدفع الماضي ويعدمه ويدفنه. وتمتم مجاهد إبراهيم: أي قدر يعبث بأب ووحيده؟
فولولت عفيفة هاتفة: إنه الشيطان.
وخيَّم صمت فوق جلال مثل جبل. ما زال صدره يعلو وينخفض. هتف مجاهد إبراهيم: يا معلم جلال!
وهتفت عفيفة: لتشملنا رحمة الله القدير.
وسأل شيخ الحارة الحلاق: ماذا تجد؟
فأجاب الحلاق وهو لا يكف عن عمله: العمر بيد الله وحده.
– ولكن لك خبرتك أيضًا؟
فاقترب منه وهمس في أذنه: لا نجاة من تلك الضربة.
٢٤
فتح جلال عبد الله عينَيه المظلمتَين. لم يكد يعرف أحدًا. طال صمته حتى حطَّم أعصاب من حوله، ولكنه أخذ يستعيد قبسات من إدراكه. تمتم: إني راحل!
فتأوَّهت عفيفة قائلة: بعد الشر عنك!
فعاد يتمتم: إني لا أخشى الظلام.
– إنك بخير.
– لتكن إرادة الله.
اقترب مجاهد إبراهيم من الفراش وقال: يا معلم جلال، أنا مجاهد إبراهيم، تكلَّم أمام هؤلاء الشهود.
فتساءل جلال بصوت ضعيف: أين شمس الدين؟
فدعاه مجاهد إبراهيم إلى الاقتراب فاقترب، وقال شيخ الحارة: ها هو ابنك.
– إني راحل.
فسأله شيخ الحارة: ماذا حصل؟
– قضاء الله.
– من الذي ضربك؟
وسكت الرجل، فألحَّ مجاهد إبراهيم قائلًا: تكلَّم يا معلم جلال!
– إني راحل.
– من الذي ضربك؟
فقال مُتنهِّدًا: أبي!
– الأموات لا يضربون، يجب أن تتكلَّم.
فتنهَّد مرةً أخرى وقال: لا أدري.
– كيف؟
– الحارة مظلمة.
– هل اعتدي عليك في الحارة؟
– أو في مدخل البيت.
– لا شك أنك عرفت الجاني.
– كلا، أخفاه الظلام والغدر.
– لك أعداء؟
– لا أعرف.
– هل تشك في أحد؟
– كلا.
– أنت لا تعرف الجاني ولا تشك في أحد؟
– بلى، استغثت بابني فجاء ليحملني، ثم غبت عن الوجود.
سكت مجاهد إبراهيم. حدَّقت الأعين بجلال وكان يُحتضر.
٢٥
ذُهل شمس الدين وهو يصغي إلى صوت أبيه قبل أن ينقطع. خانته الشجاعة فلم ينبس بكلمة. تلقَّى حنان أبيه المحتضر بخشوع وجبن وندم. زاغ من نظرات مجاهد إبراهيم فدفن وجهه في يدَيه وبكى. وطيلة يوم الجنازة وأيام المأتم لم يغمض له جفن. تحرَّك بين الناس شبحًا تطارده أشباح الجحيم. لقد جُنَّ جده وجُنَّت جدة أبيه، وارتكب نفر من السلالة أبشع الانحرافات، ولكنه أوَّل من يقتل أباه من آل الناجي الملعونين.
ولمَّا خلا إلى أمه قالت تُشجِّعه: إنك لم تقتل أباك ولكنك دُفعت إلى الدفاع عن أمك.
وأيضًا تساءلت: أليس الله بعالم كل شيء؟!
ثم قالت بحرارة: إن الشهادة التي حماك بها خليقة بالتكفير عن ذنوبه جميعًا، وسوف يلقى ربه بريئًا طاهرًا مثل طفل وليد.
وأغرق شمس الدين في البكاء وتمتم: لقد قتلت أبي!
٢٦
ودعاه المعلم عبد ربه للقائه في «القلعة» دار جلال صاحب المئذنة. كان يعلم أنه والد جده جلال، وأنه في المائة من عمره. وجده هرمًا لا يفارق داره، ولا حجرته، ولكنه كان بالقياس إلى عمره موفور الصحة والنشاط، وقورًا، يرى الأشياء ويسمع الأصوات ويعي الأمور. عجب شمس الدين لتعمير الرجل بعد وفاة ابنه وحفيده، ولم يحمل له ذرةً من حب أو احترام. ولا ينسى مقاطعته لأبيه.
تفحَّصه طويلًا وهو يُقرِّبه من وجهه، ثم قال: البقية في حياتك.
فردَّ عليه ببرود، فقال عبد ربه: في وجهك شبه من جلال بن زهيرة.
فقال ببروده: لقد قاطعتَ أبي.
فقال بهدوء: كانت الأمور مُعقَّدة.
فقال بتحد: بل الطمع في التركة!
– كل تركة عدا عهد عاشور فهي لعنة.
– ولكنك تتمتَّع بها لآخر لحظة في حياتك.
فقال العجوز بنبرة مضطربة: دعوتك لأُعزِّيك، خُذ نصيبك من التركة إذا شئت.
فقال شمس الدين وكأنه يكفِّر عن جريمته: إني أرفض كرمك.
– إنك عنيد يا بني.
– إني أُنكر من أنكر أبي.
عند ذاك أغمض العجوز عينَيه، فغادر شمس الدين المكان.
٢٧
لم يجد شمس الدين بُدًّا من مواجهة الحياة. انطبع وجهه بجدية تكبره بنصف قرن. أخذ نفسه بالتقوى والاستقامة. حلَّ محل أبيه في إدارة العربات فهرب من ذاته بالإغراق في العمل. عُرف في الحارة بقاتل أبيه. اعتُبر لعنةً متحرِّكةً مقابل المئذنة، تلك اللعنة الثابتة. ويتساءل أناس ماذا تتوقَّعون من شاب أبوه ابن حرام وجده صاحب المئذنة؟ صمَّم شمس الدين على تحدِّي اللعنة بوجهه الصارم وإرادته الصلبة وقلبه المترع بالندم. أخلص لدينه، تصدَّق على الفقراء، عامل زبائنه بالحسنى، مضى في الحياة منفيًّا ملعونًا. استقرَّت في عينَيه نظرة كئيبة، كره الفاكهة، تجنَّب الغناء والطرب، حذر من البوظة والغرزة، لفحته مشاعر الناس فكره الناسَ ولكنه تمسَّك بالحياة.
٢٨
لم تجد عفيفة الجدع من دواء لحال شمس الدين خيرًا من أن تُزوِّجه. أعجبتها صادقة بنت بيَّاع الفول فخطبتها له مزكيةً إياه بعمله وأصله، ولكن الأُسرة أبت أن تزوِّج ابنتها من قاتل أبيه. ولم يكن شمس الدين يهتم كثيرًا بالزواج، ولكن الرفض عمَّق جراحه فصمَّم على الزواج بأي ثمن.
وكانت توجد راقصة تُدعى نور الصباح العجمي، مجهولة الأصل متهتكة. أعجبه منظرها فزارها متستِّرًا بالظلام، لا ليعاشرها كما توقَّعت، ولكن ليخطبها! ودُهشت البنت، وظنَّته يرسم لاستغلالها، ولكنه قال لها بصدق: بل أريدك ست بيت بكل معنى الكلمة.
فأضاء وجهها بالفرح وقالت: إنك شاب نبيل وإني أستحق ذلك!
٢٩
وحزنت عفيفة فقالت محتجة: إنها بنت داعرة!
فقال شمس الدين بكآبة: مثل جدتي زينات!
ثم متمتمًا بسخرية: ما أكثر الداعرات في أسرتنا المجيدة!
– لا تيأس بسرعة يا بني.
فقال بامتعاض: إنها الوحيدة التي تقبلني بلا امتعاض.
٣٠
وزُفَّت نور الصباح العجمي إلى شمس الدين جلال الناجي. وهتك شمس الدين ستار الانكماش فأقام حفلًا شهده عُمَّاله وأهل أمه، وتجاهل من يتجاهلونه. وسخرت الحارة من الزيجة فجرى على الألسنة ذكر زينات وزهيرة، وذكريات الأسرة التي هبطت من السماء لتتمرَّغ أخيرًا في الوحل.
بكل قحة قال عنبة الفوَّال الخمَّار: ألم يكُن عاشور نفسه لقيطًا؟ ألم تكُن أم الأسرة الأولى عاملةً في هذه البوظة؟!
٣١
وقُيِّض للزواج أن ينجح. تحوَّلت نور الصباح العجمي إلى ست بيت. سعد بها شمس الدين فاستقرَّ جانب من جوانبه القلقة. ولم ينغِّص صفو البيت من آنٍ لآن إلا المشاحنات بين عفيفة ونور الصباح. وبقدر ما كانت عفيفة صارمةً غير متسامحة، كانت نور الصباح حادةً سليطة اللسان. ولكن المعاشرة لم تتحطَّم، وأنجبت صباح من البنات ثلاثًا، وأخيرًا جادت بسماحة شمس الدين الناجي.
٣٢
وبتقدُّم الزمن تناسى شمس الدين همومه وذنبه ما أمكن، ولكن الكآبة كانت قد صارت له طبعًا. ونشأ سماحة وليس له جمال أبيه أو جده، ولكنه يبشِّر ببنيان أشد. وولعت به أمه وجَدته، فحافظا عليه ككنز غالٍ. ولم يحقِّق نجاحًا في الكُتَّاب. وتشاجر ذات يوم مع قرين فضربه باللوح فكاد يُفقده عينه، وأوقع أباه في مشكلة لم يخلص منها إلا بتعويضٍ لا يُستهان به. وقسا عليه فضربه حتى أحزن أمه وجدته. وجرَّه إلى العمل في الحظيرة قبل الأوان وهو يقول له: تعلَّم أدب الحياة بين الحمير!
ونما سماحة تحت رعاية أبيه الكئيب، وسرعان ما شارف المراهقة.
٣٣
رغم أن الفتى لم يكن يغيب عن عينَي أبيه من الصباح حتى النوم إلا أنه لم يطمئن إلى أحواله تمامًا، فآنس منه جموحًا وتوقَّع منه المتاعب.
وذات يوم جاءه مجاهد إبراهيم شيخ الحارة وقال له: أول ما شطح نطح!
شعر بأنه يعني ابنه سماحة، ولكنه لم يصدِّق لشدة إحكام قبضته حول الفتى. وتساءل عمَّا هنالك، فقال شيخ الحارة: هل تصدِّق أن ابنك مرافق كريمة العنابي؟
فذُهل شمس الدين. متى يفعل ذلك؟ قال: إنه لا يغيب عن ناظري حتى أُودعه فراشه!
فضحك مجاهد إبراهيم وقال: ثم يتسلَّل من البيت وأنت نائم.
وذُهل شمس الدين مرةً أخرى لأن كريمة العنابي أرملة تقترب من الستين من عمرها وابنه مراهق ليس إلا. وقال له مجاهد إبراهيم: احذر أن يعتاد الولد البرمجة!
٣٤
وتربَّص شمس الدين في الظلام أمام باب دار كريمة العنابي. جاء بعد أن تأكَّد من أن الولد قد غادر فراشه وها هو ينتظر. وقُبيل الفجر بساعة فتح الباب وتسلَّل منه شبح. سقط في يد أبيه، فزع أول الأمر، همَّ بضربه لولا أن عرف صوته فانقهر.
– أيها الخنزير!
وشدَّه بعنف فشمَّ رائحته فصاح: وسكران أيضًا!
ولطمه لطمةً طيَّرت الخمر من رأسه. وفي البيت عنَّفه وضربه حتى استيقظت نور الصباح وعفيفة، ومضت الحقيقة تتكشَّف لهما من خلال اللطمات والكلمات. وقال سماحة: كفى يا أبي وجهي يتحطَّم.
– إنك تستحق القتل، تخدعني؟
– تُبت وأنا في عرضك!
وقالت عفيفة: إنها أكبر مني المجرمة.
فصاح شمس الدين وهو يُشير إلى سماحة: هو المذنب ولا أحد سواه!
٣٥
وقال شمس الدين لنفسه إن المقدمات تُنذر بأوخم العواقب، وإن من يبدأ بعشق امرأة في سن جدته فكيف ينتهي؟ وقد رأى كريمة هانم العنابي في بعض مشاويرها فهاله تصابيها وزواقها وبدانتها المفرطة، وآمن بأن أسوأ ما ينشأ عليه مراهق أن يألف أن تُنفق عليه امرأة.
وفي ذلك الوقت تُوفي مؤنس العال فخلفه في الفتونة سمعة الكلبشي فازدادت أحوال الحارة حِطةً وإظلامًا. وتلقَّى الحرافيش البلوى كقدر مكتوب لا مفرَّ منه، فلم تَعُد الفتونة — بصرف النظر عن هُوية الفتوة — إلا بلوى قائمة.
٣٦
وتُوفي الجد عبد ربه فشُيِّع في جنازة كبيرة لم يشترك فيها شمس الدين ولا سماحة. وعُرف بعد ذلك أنه أوصى للفتى سماحة بخمسمائة جنيه. وطالب سماحة بميراثه ولكن أباه أبى أن يُسلِّمه إياها إلا أن يبلغ رشده. وشدَّد الرقابة عليه حتى عانى الفتى حياةً مريرة. وذات مرة حانت من شمس الدين نظرة إلى الفتى وهما يعملان في الحظيرة، فضبط في عينَيه نظرةً جدباء انقبض لها صدره، فقال لنفسه: الولد لا يحبني!
وتنهَّد مغتمًّا وقال: لا يدرك الأحمق أنني أعمل لِمَا فيه خيره.
٣٧
وتدافعت الأحداث مثل زبد النهر الأغبر. ولاحظ شمس الدين ذات صباح وهو يحتسي قهوته في بيته قلقًا أسود يلف عفيفة ونور الصباح، فخفق قلبه وتساءل: سماحة؟!
فتلقَّى صمتًا مُريبًا ضاعف من أحزانه، فسأل بحِدة: ما الجديد من متاعبه؟
بكت نور الصباح وقالت عفيفة بنبرة مُتشنِّجة: ليس في البيت.
– رجع إلى التسلُّل؟
– بل غادرنا!
– هرب؟
ومضى مشحونًا بسوء الظن إلى السحَّارة، فاكتشف اختفاء الميراث فصاح: لص أيضًا!
فقالت أمه: حلمك يا بني إنه ماله.
فقال بإصرار: لص هارب!
ونقل عينَيه بارتياب بين المرأتَين وتساءل: ماذا يحدث وراء ظهري؟!
٣٨
تصوَّر أنه لائذ بدار كريمة العنابي. أفضى بظنونه إلى شيخ الحارة مجاهد إبراهيم. وقام الرجل بتحرياته ثم قال له: لا أثر لسماحة في حارتنا!
وأيقن أن الله يعاقبه على جريمته. عليه أن يكفِّر عن جريمته كما كفَّر عن جرائم الآخرين، ولا يبعد أن يقتله الفتى ذات يوم. لمَ لا؟ إنه لا يحسن بهذه الدنيا ظنًّا. وألقى على المئذنة نظرةً وحشيةً وتساءل: لمَ يُبقون على هذه اللعنة قائمة؟!
٣٩
لم يعثر على أثرٍ لسماحة رغم أن شمس الدين أوصى جميع السوَّاقين عنده باليقظة والتحرِّي. ها هو الفتى يمضي في أثر المختفين من رجال الأسرة ونسائها. وتتلاحق الأعوام. أمَّا عفيفة فقد ماتت في أعقاب مرض طويل، وأمَّا نور الصباح فقد أمَرَّت الأيام ما كان منها حلوًا. ومضى شمس الدين يحمل أثقاله، ويغمغم كلما حزبه ألم: «أمرك يا رب.»
٤٠
ولكن غيبة سماحة لم تدم كما دامت من قبل غيبة عاشور أو قرة. رجع إلى الحارة ذات يوم وقد بلغ رشده، بلغ رشده ولكنه فقد أشياء ثمينةً لا تُعوَّض.
امتلأ جسده بالقوة والشراسة. اختفى جماله وراء غلالة من التجهُّم ونسيج متقطِّع من الكدمات والعاهات المستديمة. أكان يعاشر قُطَّاع الطرق؟ حتى أبوه لم يعرفه لأول وهلة. ولمَّا اكتشف حقيقته واجتاحته موجةٌ من السرور والأسى، اضطرب بين الشكر والحنق. تمزَّق بين الحب والسخط. وتبادلا النظر طويلًا في الحظيرة بين السواقين والحمير. وتنحَّى به جانبًا وسأله بإشفاق: ماذا فعلت بنفسك؟
وجعل يردِّدها والآخر صامت مستغنيًا بمنظره عن أي بيان. وسأله: بدَّدت النقود؟
فحنى رأسه: آه. البعض يستثمر والبعض يبدِّد. وتنهَّد من الأعماق وتمتم: لعل الحياة قد لقَّنتك درسًا مفيدًا.
ولمَّا ضاق بصمته قال له: اذهب إلى أمك.
٤١
وسرعان ما انطفأ الأمل الضعيف الذي ساور شمس الدين. أفاق من عاطفة الأبوة الملتاعة التي اجتاحته. رأى العناد والاعوجاع والسفه في صورة جديدة من قوة شرسة مُتحجِّرة. ومع ذلك لم يستسلم لليأس فقال له برقة: إلى العمل يا بني. درِّب نفسك على إدارة ما ستكون صاحبه غدًا.
وشجَّعته نور الصباح بحنانها وتوسُّلاتها. أمَّا سماحة فقد أبى العمل كسواق، فأبقاه أبوه معه في الحظيرة مشركًا إياه في صميم عمله. غير أنه تململ وغالى في طلب النقود. ولم يعُد في وسع الأب أن يعامله كغلام، فراح يسهر في البوظة والغرزة وبيوت الدعارة، متجاهلًا صاحبته الأولى كريمة العنابي.
وقال له شمس الدين بحضور أمه: خير ما تفعل أن تتزوَّج.
فقال ساخرًا: لا توجد بنت جديرة حقًّا بحفيد الناجي العظيم.
فسأله أبوه: هل تدرك ما يعنيه اسم الناجي؟
فقال بقحة ما بعدها قحة: معناه التفرُّد بالمعجزات مثل بناء مئذنة العفاريت!
فهتف شمس الدين مغيظًا محنقًا: إنك لمجنون!
ومضى الأب لحاله وهو يقول لنفسه: إنه يكرهني ما في ذلك من شك.
وتهرَّب من هاجسه حينًا غير أنه قال بوجوم: سيقتلني ذات يوم.
٤٢
واكتشف المعلم شمس الدين سرقة قدر من مال العمل لا يستهان به. عرف في الحال ما يعنيه ذلك. وأدرك أنه قد يفلس يومًا من جرَّاء حماقة كهذه. ولم يتردَّد فذهب من توه إلى البوظة. وجد سماحة يجالس سمعة الكلبشي ورجاله كأنه واحد منهم. أشار إليه أن يتبعه ولكن الفتى لم يستجب. تاه في سكره وطالع أباه بنظرة متحَدِّية. وكظم الأب غيظه وقال له: أنت تعلم بما دفعني إليك.
فقال ببرود: إنها نقودي كما هي نقودك، وإني أُنفقها على خير وجه.
فقال سمعة الكلبشي: أحسنت.
فقال شمس الدين لسماحة: إنك تُعرِّضني للخراب.
فقال سماحة بلسان ملتوٍ: أنفق ما في الجيب؛ يأتِك ما في الغيب.
فقال سمعة الكلبشي: هذا الولد حكيم!
واقترب عنبة الفوَّال من شمس الدين وهمس في أذنه محذِّرًا: وحد الله!
ولكن الغضب اجتاحه فصاح: اشهدوا جميعًا على أنني أطرد هذا الابن العاق من بيتي، وإنني أتبرَّأ منه إلى يوم القيامة.
٤٣
وتلقَّت نور الصباح الخبر كمصيبة دهماء فصرخت: لن أُفرِّط في ابني أبدًا!
فكرهها شمس الدين في تلك اللحظة بكل قوة حنقه وغيظه وصاح: لن يدخل هذا البيت ما حييت!
– ابنى، لن أفرِّط فيه!
فقال بلا وعي: إنه ينضح بأصلك القذر!
فأجابته فاقدة الوعي أيضًا من اليأس والغضب: ليس في أصلي دعارة أو جنون.
فلطمها لطمةً أسقطتها على أرض الحجرة، فجُنت من الغضب وبصقت على وجهه. عند ذاك صرخ: اذهبي فأنت طالق بالثلاثة!
٤٤
أقامت نور الصباح وسماحة في شقة واحدة. انخرط الفتى في عصابة سمعة الكلبشي ولكنه لشدة إسرافه لم يذق الرضا قط. ولم يُخفِ كراهيته لأبيه عن أحد، وخاض في معايب آل الناجي بكل قحة كأنه أكبر أعدائهم.
وعاش شمس الدين وحيدًا. ولم يَعُد ينعم بالأمان أو الطمأنينة. وتوقَّع لنفسه نهايةً مثل نهاية أبيه أو أفظع. وتوثَّب للدفاع عن نفسه بكل وسيلة. كان يُغدق على عُمَّاله ليريح قلوبهم، ويُحكم إغلاق شقته بابًا ونوافذ، وبذل العطاء لسمعة الكلبشي وتودَّد إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
٤٥
وزاره يومًا شيخ الحارة مجاهد إبراهيم وقال له: أنصحك بالحكمة يا معلم شمس الدين.
فسأله بوجوم: ماذا تعني؟
– خَفِّف من العداوة، أجرِ عليه بعض المال.
فلاذ شمس الدين بالصمت، فقال شيخ الحارة: سمعته أمس في البوظة يمني الندماء بسهرات خلابة عندما ..
وتوقَّف الرجل، فقال شمس الدين بكآبة: عندما أموت أو أُقتل!
– لم يجرِ للقتل ذِكر، ولكن ليس هناك أبشع من أن يتمنَّى الابن موت أبيه، أو يتمنَّى الأب موت ابنه.
– ولكنني لا أتمنَّى موته.
فقال مجاهد إبراهيم بوضوح: نحن بشر يا معلم!
٤٦
شعر شمس الدين بطائر الخوف يحلِّق فوقه. وذات يوم مضى إلى دار سمعة الكلبشي طاويًا جوانحه على مغامرة فريدة. حيَّاه بإجلال وقال: أريد أن أتشرَّف بيد كريمتكم.
فتفحَّصه الفتوة مليًّا ثم قال: من ناحية السن فليس ثمة ما يمنع من أن تتزوَّج بنت السادسة عشرة من رجل في الأربعين.
فحنى شمس الدين رأسه في خشوع، فقال سمعة الكلبشي: أصلك كريم ومالك وفير!
فواصل شمس الدين خشوعه ورضاه، فسأله الفتوة: كم تدفع مهرًا؟
فقال شمس الدين بقلق دفين: ما تأمر به يا معلم.
– خمسمائة جنيه.
فقال بحكمة: إنه مبلغ جسيم ولكن المطلوب أغلى وأعز.
فمدَّ له يده قائلًا: لنقرأ الفاتحة.
٤٧
زُفَّت سنبلة سمعة الكلبشي إلى شمس الدين جلال الناجي. احتفلت الحارة كلها بالزفاف. صار شمس الدين في أعز وآمن مكان. لم تكن سنبلة جميلةً ولكنها كانت غضة الشباب، كما كانت ابنة الفتوة.
٤٨
تولَّى الذعر نور الصباح وابنها سماحة. وقال سماحة: تبدَّد حلم الميراث.
فقالت عفيفة وهي لا تصدِّق نفسها: ولكن حقَّكَ لا يُمس.
فقال سماحة: هل تتصوَّرين أن الكلبشي سيترك الأمور للشرع؟!
فقالت نور الصباح محذرة: الحياة أغلى من المال.
فقال بغضب: إن أعين رجاله ترقبني ليل نهار، كالمتبع مع المخيفين من آل الناجي، وها هو ظرف جديد يدفعه إلى المزيد من الحذر!
فتأوَّهت نور الصباح وقالت: الحذر يا بني، لعنة الله على أبيك، وليحفظك الله.
٤٩
اقتنع سماحة بأن حياته باتت مهددةً ليخلص الميراث لسنبلة وحدها، وليأمن الفتوة جانبه على فتونته بصفة نهائية.
والعجيب أن شمس الدين نفسه لم يستنم طويلًا إلى سبات الطمأنينة العذب. ماذا يحول بين سماحة وبين الانتقام منه وهو أدرى الناس بطبعه المستهتر؟ وهل يوجد سيد للموقف اليوم أقوى من سمعة الكلبشي؟ لقد وضعه الخوف من الموت بين فكَّي الموت نفسه، ولن يستكن الفتوة حتى ينتزع منه ماله إلى آخر مليم. وهو لم يمِل حقًا لسنبلة، وعاوده حنينه إلى نور الصباح، ولكن كان عليه أن يحمل ثقل تلك المعاشرة مع أثقال حياته الأخرى. وثمة حقيقة تنشب أظافرها في لحمه وهي أن الأمس لا يمكن أن يرجع أبدًا.
٥٠
وزاره سمعة الكلبشي ذات ليلة. أشار إلى ابنته فغادرت الحجرة فتوقَّع أمرًا لا يسر. ما معنى زيارة ليلية؟ كره منظر وجهه الشبيه بكرة كثيرة الندوب، كما كره ثقته الموحية بأنه يجلس في بيته وبين أهله. وراح يتكلَّم عن عجائب المصادفات ونوادر الدهر والقوى الخفية المسيطرة على مصائر البشر، وشمس الدين في حيرة من تأمُّلاته، حتى قال الفتوة: انظر مثلًا كيف أن وجود شخص مُعيَّن غير مريح لكلينا!
أدرك من أول وهلة ما يعنيه. تجسَّدت لعينَيه صورة ابنه سماحة. انذعر لموافقة الرأي لأمانيه الخفية أكثر من انذعاره إشفاقًا على وحيده. وتساءل متجاهلًا ومتغابيًا: أي شخص تعني يا معلم؟
فقال الكلبشي بازدراء: لا، لا! لا تستغفل الكلبشي يا أبا سماحة!
فتساءل بارتياع: تقصد سماحة؟
– هو ما تقصده أنت!
– إنه ابني.
– كما كنت ابن أبيك!
فقطَّب متألِّمًا وقال: إنك قوة لا يجوز عليها أن تخشى أحدًا.
– دعك من هذا الكلام الفارغ، ثم إنك لم تفهم غرضي!
قال شمس الدين بامتعاض: زدني إيضاحًا!
– بِع أملاكك بيعًا صوريًّا لزوجتك؛ ييأس سماحة ثم يرحل!
فغاص قلبه في صدره وقال كالمستغيث بأي شيء: أو يحفِّزه ذلك على الانتقام مني!
– لن يمسَّك سوء ما دمت حيًّا!
رأى الشرَك فاغرًا فاه. رأى الصائد مكشِّرًا عن أنيابه. الفقر أو الموت أو الاثنان معًا. محال أن يقبل ومحال أن يرفض. قال بتوسُّل: أعطِني مهلةً للتفكير.
فعبس الفتوة محنقًا وقال: ما سمعت مثل ذلك من قبل.
فقال بضراعة: مهلة قصيرة.
فنهض الرجل وهو يقول: صباح الغد. عندك الليل بطوله.
٥١
لم يغمض لشمس الدين جفن. ترك سنبلة في زينتها تنتظر حتى غلبها النوم. أطفأ المصباح، تدثَّر بعباءته اتقاءً للبرد. رأى في الظلمة الأشباح، أشباح الماضي كلها. ما هذا التدهور بعد الصمود؟ ألم يحمل أثقاله ويمضي بها؟ ألم يكفِّر عنها بالصبر والألم؟ ألم يلتزم بالجدية والاستقامة والجلَد؟ كيف جاء التدهور ليرث نضاله كله بلا دفاع؟ لقد حدث ذلك بسبب سقوطه في هاوية الخوف. الخوف أصل البلاء. خاف ابنَه فطرده، ثم طلَّق أمه، ثم مضى بقدمَيه إلى وكر الشيطان. بلا تفكير سليم مضى. وكيف يتهيَّأ التفكير السليم لمنذعر؟ عندما صرع الخوف واجه الحياة بكبرياء. لم تقضِ عليه نوائب السمعة السيئة والجريمة البشعة واحتقار الحارة. واجه الحياة بكبرياء. طوَّع اليأس لخدمته. بنى على أساس داعر أسرةً كريمة. نجح في العمل. حاز القوة والثراء عندما صرع الخوف. اليوم يطالب بالنزول عن ثروته. غدًا يقتله سماحة. بعد غد يؤخذ سماحة بجريمته. يفوز الكلبشي بالمال والأمان. يقول شبح في الظلام: لا تقتل ابنك، لا تحمل ابنك على قتلك، لا تُذعن للطاغية، لا تستسلم للخوف، طَوِّع اليأس لخدمتك، ابحث في الموت عن عزاء كريم إذا تعذَّرت الحياة.
وعصفت ريح الشتاء في الخارج كالنواح، فتخيَّل — مأخوذًا بنشوة الخيال — أن عاشور أصغى لها ذات ليلة في بدرومه الخالد.
٥٢
في الصباح سقط رذاذ مُشبَّعًا بروح أمشير النقية المتقلِّبة الثائرة، ونفذت البرودة إلى نخاع العظام. مضى شمس الدين فوق الأرض الزلقة مُتوكِّئًا على عصاه الغليظة. رحَّب به سمعة الكلبشي وهو متربِّع فوق أريكته بالقهوة.
– أهلًا بالمعلم شمس الدين.
دعاه إلى الجلوس إلى جانبه فجلس، ثم سأله هامسًا: نشرع في إجراءات البيع؟
فأجاب شمس الدين بهدوء مريب: كلا.
– كلا؟!
– لا بيع ولا شراء.
فاصفرَّ وجه الفتوة وتمتم: يا له من قرار جنوني!
– بل هو عين الصواب.
ارتسمت في أساريره صورة كالحة للشر وقال: تعتمد على مصاهرتي؟
فقال شمس الدين بهدوئه المصمِّم: أعتمد بعد الله علي نفسي!
– تتحدَّاني؟!
– بل أُصارحك برأيي ليس إلا.
اجتاح الغضبَ سمعة فلطمه بقسوة. جُنَّ جنون الآخر فردَّ اللطمة بأشد منها. وثب الرجلان في لحظة واحدة شاهرَين نبوتَيهما. وسرعان ما التحما في معركة قاسية. كان شمس الدين قويًّا وأصغر من سمعة بعشر سنوات، ولكنه لم يمارس المعارك. وجاء رجال الفتوة من جميع الأنحاء وبسرعة مذهلة وبينهم سماحة. أحاطوا بالمتعاركَين دون تدخُّل من جانبهم احترامًا للتقاليد المرعية. وتمكَّن سمعة الكلبشي من خصمه واستجمع قوته ليُوجِّه إليه ضربةً قاضية. في تلك اللحظة وثب سماحة وثبةً مفاجِئةً فهوى بنبوته على رأس الفتوة فتقوَّض بنيانه وانطرح أرضًا. وقع ذلك بسرعة خاطفة. صرخ الرجال وانقضُّوا على شمس الدين وسماحة، ولكن ثمة مفاجأة أخرى كانت متربصة، انضمَّ نفر من الرجال إلى سماحة وشمس الدين! هتفت أصوات: خيانة وضيعة!
والْتحم الفريقان بضراوة ووحشية. تصادمت النبابيت، تلاطمت الأجساد، فرقعت الصكات، تطايرت اللعنات تحت الرذاذ، سالت الدماء، استحرَّت الأحقاد، أُغلقت الدكاكين، هرولت العربات، تجمَّع الناس في طرق الحارة، اكتظَّت النوافذ والمشربيات، علا الصريخ والعويل.
٥٣
حُمل شمس الدين إلى بيته مُحطَّمًا. استطاع سماحة أن يرجع إلى مسكنه بجهد شديد، ثم رقد وهو بين الحياة والموت. أمَّا سمعة الكلبشي فقد أصابه العجز وتلاشت أسطورته، وانهزم رجاله.
٥٤
وتكشَّفت حقائق في اليوم نفسه. عُرف أن سماحة طمح إلى الفتونة، وأنه نجح في ضم بعض الرجال إليه سرًّا، وأنه كان يرسم للقضاء على الفتوة والسيطرة على أبيه، فلمَّا بوغت بالمعركة بين الفتوة وأبيه انقضَّ في اللحظة المناسبة لحماية شمس الدين وإعلان ثورته، ونجح مشروعه ولكنه رقد بين الحياة والوت.
٥٥
تواصل سقوط الرذاذ طيلة النهار. تشرَّب الجو بظلال كستنائية ونعاس. نُقش أديم الأرض الزلقة بحوافر الدواب. أمَّا المعلم شمس الدين فقد انطرح فوق فراشه يُحتضر في رعاية جاره بعد أن هجرته سنبلة. لم يفتح عينًا، لم ينبس بكلمة، ندَّت عنه حركات مبهمة، تبدَّى متخليًا عن كل شيء، وعند جثوم الليل أسلم الروح.