الملك «بيعنخي»
بيعنخي مري آمون | وسر ماعت رع |
تدل الظواهر على أن «بيعنخي» قد تولى عرش ملك «مصر» «وكوش» بعد والده الملك «كشتا» مباشرة؛ أي حوالي عام ٧٥١ق.م، ولكنا لا نعلم شيئًا مطلقًا عن أعماله في «مصر» «وكوش» قبل قيامه بفتح الوجه البحري ومصر الوسطى في السنة الواحدة والعشرين من حكمه، وهذا التاريخ يعد حتى الآن أعلى تاريخ عرف لهذا العاهل.
وتنحصر معلوماتنا عن هذا الفرعون في وثيقتين؛ إحداهما: أثرية، وهي قبره الذي كشف في جبانة «الكورو»، والأخرى: لوحته الفاخرة التي دون عليها انتصاراته على ملوك السفلى والوسطى، وهي التي عُثر عليها في جبل «برقل»، ومن ثم أصبحت كل معلوماتنا عن تاريخ هذا الفاتح العظيم من وجهة واحدة وهي الوجهة الكوشية، أما الوجهة المصرية فلم تصل إلينا عنها كلمة واحدة، وعلى ذلك سنظل نحكم على تاريخ «بيعنخي» وفتوحه في مصر من وجهته هو التي رواها لنا.
لوحة جبل «برقل»
ذكرنا فيما سبق أننا لا نعلم شيئًا عن كيفية غزو الملك «كشتا» لبلاد مصر العليا إذا كان هو الذي فتحها، كما لا نعلم أية حروب قام بها، ولكن من جهة أخرى قد ترك لنا خلفه «بيعنخي» ابنه العظيم لوحة عثر عليها في معبد جبل «برقل»، وقد حفر متن هذه اللوحة التي تصف لنا غزوه لمصر السفلى والوسطى بالخط الهيروغليفي، وقد غطيت اللوحة بالنقوش من جوانبها الأربعة، وهي من الجرانيت الرمادي، وجزؤها الأعلى مستدير، ويبلغ ارتفاعها ثمانين ومائة سنتيمتر، وعرضها أربعة وثمانين ومائة سنتيمتر، وسمكها ثلاثة وأربعين سنتيمتر، وتزن اللوحة طنين وربع الطن، وقد كشف عن هذه اللوحة من أربع لوحات أخرى بطريق الصدفة المحضة عام ١٨٦٢م على يد ضابط مصري كان يعمل في الجيش المصري بالسودان المصري في عهد «سعيد باشا» الذي يعد المؤسس لمتحف «بولاق» الخاص بالآثار المصرية، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن اسم الضابط الذي كشف عن هذا الكنز التاريخي لم نعرفه بعد، وتاريخ العثور على هذه اللوحات على حسب ما جاء في مذكرات الأثري «مريت» نقلًا عن «مسبرو» طريف في بابه، ويتلخص في أن هذا الضابط المصري كان على ما يظن منحدرًا في النيل بسفينته، وفي خلال ذلك وجد نفسه مضطرًّا إلى تمضية بضعة أيام في إحدى القرى الواقعة بالقرب من جبل «برقل» وهو جبل شامخ الذرى جميل المنظر يبلغ ارتفاعه حوالي ٣٠١ من الأقدام، ويقع على الشاطئ الشرقي للنيل على مسافة بضعة أميال من «كاسنجار» الواقعة بدورها في سفح صخور الشلال الرابع، ويقابل هذا الجبل على الشاطئ الغربي للنيل بلدة «نبت» النوبية الشهيرة وهي «نباتا» التي جاء ذكرها في المتون المصرية القديمة.
وعندما كانت قوة الحدود المصرية الإنجليزية تقيم مساكن لها بالقرب من «صنم أبو دوم» سنة ١٨٩٧ عُثر في أثناء حفر الأسس على خرائب معابد ومبانٍ أخرى على عمق ست أقدام تحت الرمال، ويقع عند سفح الجبل من النهاية الشرقية سهل شاسع أقام عليه ملوك، يُحتمل أن أولهم هو «بيعنخي»، معابد بالحجر كما أقاموا على ربوة بالقرب من ذلك عدة أهرام برهنت أعمال الحفر على أنها لملوك، وهذه المعابد قد خربت منذ أزمان بعيدة تخريبًا تامًّا، كما دلت على ذلك أعمال الحفر التي قام بها «ريزنر» في هذه الجهة، ويظهر أن المعابد التي كانت قد أقيمت قريبًا من سفح الجبل قد خربت جزئيًّا أو كليًّا على حسب الأحوال بقطع الصخر الضخمة التي انفصلت من الجبل وسقطت على سقف المعابد، أما التي بنيت في السهل نفسه فكانت مبنية بناء واهنًا حتى إن بعضها أصبح خرابًا بعد إقامته بزمن يسير.
ولا يخفى أن الأخبار الخاصة بالشروع في عمل الحفائر كانت لا تزال وقتئذٍ تثير أعظم اهتمام عند الأهالي؛ وذلك لأن السواد الأعظم من الناس إن لم يكن كلهم كانوا مقتنعين أن الحفار لا بد قد حصل على كتاب أو وثيقة تدله على كنز دفين سيقوم بالكشف عنه والحصول على ثروة طائلة منه.
وقد ظن الضابط عند كشفه عن هذه اللوحات أن الطغراءات التي عليها تدل على أنها نقوش ملكية «وقد كان عند ظنه» وعلى ذلك كانت من الأهمية بمكان، ومن ثم شرع في نقل نقوش أطول هذه اللوحات، وبعد الفراغ من ذلك أرسل نسخته إلى «مريت» في القاهرة، ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذه النسخة كانت تحتوي على أخطاء عدة؛ وذلك لأن حفر كثير من الحروف الهيروغليفية على اللوحة نفسها لم يكن من الطراز الأول من الحفر، ولكن مع ذلك كان معظم ما جاء في نسخة الضابط مفهومًا لدى «مريت» فتأكد في الحال أن الكشف الذي قام به هذا الضابط من الدرجة الأولى في الأهمية من الوجهة التاريخية، وقد كان هذا ظاهرًا من الخطوات التي اتخدها «مريت» للحصول على هذه اللوحات للحكومة المصرية، وقد اتخذ الإجراءات لإصدار الأوامر إلى «دنقلة» للاستيلاء عليها باسم الحكومة المصرية وإرسالها إلى القاهرة في أقرب فرصة ممكنة، وكذلك صدرت الأوامر للضابط بتعيين حراس لمنع أي فرد غير مرخص له بالاقتراب من خرائب جبل «برقل» كما كلف بأن يراقب مراقبة خاصة تجار الآثار الذين سمعوا بطريقة ما ما أصدرته الحكومة المصرية من أوامر بخصوص هذا الكشف، وقد أخذوا يتوافدون إلى هذه البقعة ليتصلوا بالأهالي ويحرضوهم على سرقة ما يمكن سرقته من الآثار بشتى الطرق، وقد أخذ حاكم «دنقلة» طوعًا لأوامر الضابط في جر اللوحات من المعبد حتى شاطئ النهر حيث حُملت في الوقت المناسب على سفن شحن خاصة يمكن أن تخترق الشلالات، وفي صيف عام ١٨٦٢ أقلعت السفينة من مدينة «مروي» الصغيرة إلى «القاهرة» في سفرة طويلة.
وكانت السفينة التي تحمل اللوحات لم تصل بعد من جبل «برقل»، وليس في ذلك أية غرابة، حقًّا إن الذين كلفوا بنقلها لم يجدوا صعوبة في الإقلاع حتى بلدة «كرمة»، ولكن عندما وصلوا حتى هذا المكان كان النيل قد أخذ في النقصان ولم يكن فيه ماء يكفي للمرور بعيدًا عن صخور الشلال الثالث، إذ في الواقع قابلتهم عوائق متنوعة.
وبالاختصار قد ضاع على المسافرين مع اللوحات شتاء سنة ١٨٦٢، وكان لزامًا عليهم الانتظار حتى حلول الفيضان التالي عام ١٨٦٣م، وعندما حل الفيضان التالي سارت السفينة في طريقها مسافة طويلة، ولكن هبط بعدها النيل وكان لا بد من انتظار فيضان آخر، وكانت اللوحات وقتئذٍ في مكان ما عند الشلال الثاني، ثم استؤنفت الرحلة كرة أخرى بحلول فيضان عام ١٨٦٤م، وحوالي ختام السنة وصلت اللوحات إلى القاهرة، ولا نزاع في أن النتيجة الناجحة لنقل هذه اللوحات تجعلنا نُشيد كثيرًا بفضل أولئك الذين قاموا بهذا العمل الشاق بطريقة ساذجة كالتي استعملوها، وهذا العمل يشعر بضخامته أولئك الذين قاموا مرة بنقل لوحة ضخمة في النيل بسفن الأهالى وحبالهم، والواقع أن شلالات مثل شلالات «تنجور» «ودال» «وسمنة» «وجزيرة الملك» … إلخ كان من الصعب جدًّا المرور فيها، وعلى ذلك فإن نقل لوحات جبل «برقل» بالمرور فيها يُعد من الأعمال العظيمة التى تشهد بمهارة بحارة بلاد النوبة؛ ولا غرابة فهم أبناء النيل الذين تربوا في كنفه أجيالًا لا تحصى.
وصف لوحة «بيعنخي» وترجمتها (انظر صورة رقم ٢)
نشاهد في الجزء الأعلى المستدير من اللوحة قرص الشمس يكنفه صِلَّان ولكنه بدون أجنحة، وفي أسفل نشاهد الإله «آمون» رب «نباتا» قاعدًا ونقش أمامه: «كلام «آمون رع» رب تيجان الأرضين المشرف على «الكرنك» والقاطن في جبله المقدس «برقل»: إني أعطيك أرض … مثل والد اﻟ …» وخلف «آمون» تقف الإلهة «موت» وكتب أمامها: «موت» ربة «أشرو». وأمام «آمون» «وموت» يقف الفرعون «بيعنخي»، ويلاحظ أن صورته قد كشطت غير أنه يمكن التعرف عليها، ويحمل في منطقته خنجرًا ويرتدي قميصًا يصل إلى ركبتيه، ونقش أمامه متن يظهر أنه كشط ثم أعيد ثانية وهو: ملك الوجه القبلي والبحري «ابن رع» «بيعنخي». ويشاهد أمام الفرعون امرأة رافعة يدها اليمنى «والظاهر أنه كانت توجد صورة أخرى» وكتب أمامها: الزوجة الملكية «وهي زوجة «نمروت» كما سنرى بعد في المتن سطر ٦٢-٦٣»، ثم يشاهد الملك «نمروت» يحمل على جبينه الصِّلَّ ويقود بيده اليسرى جوادًا وفي يده اليمنى يحمل صناجة ونقش فوقه الملك «نمروت».
- (١)
الملك «أوسركون».
- (٢)
الملك «أوبوت».
- (٣)
الملك «بف-نف-ددي-باست».
- (١)
الأمير «بثنفي».
- (٢)
الأمير «باما».
- (٣)
الرئيس العظيم لقوم مي «مركنشا».
- (٤)
الرئيس العظيم لقوم مي «زد آمون أوف عنخ».
والخطاب الذي وجهه هؤلاء الأمراء للفرعون وُجد مهشمًا ولكن تبقى منه بعض كلمات جاء فيها: «كن مسرورًا يا «حور» رب القصر … لأصغر ملك …»
وقد عاد إلى مقاطعات الشرق ففتحت أبوابها له أيضًا: «حت بنو» «وتايوزاي» «وحس نسوت» «وأطفيح» تأمل (٥) … لقد حاصر «أهناسيا المدينة»، وأحاط بها تمامًا «جعل من نفسه كذيل في فم» فلم يجعل الخارجين يخرجون، ولم يجعل الداخلين يدخلون لاستمرار الحرب يوميًّا، وذرع الأرض حولها كلها «أي كان يلف حولها ماشيًا» وكل أمير عرف حصنه، وجعل كل رجل من الأمراء والحكام في قسمه «لمحاصرته».
تأمل لقد ذهب ليكون واحدًا من أتباعه وبذلك ترك ولاءه لجلالته؛ (أي خان «بيعنخي») وقد وقف معه بمثابة واحد «من أتباعه» في (٨) مقاطعة «البهنسا» وقد أعطاه (يقصد «تفنخت») هدايا كما يرغب فيها قلبه من كل شيء وجده.
- (١)
الملك «نمروت».
- (٢)
الملك «أوبوت» (١٨).
- (٣)
رئيس مي «شيشنق» صاحب «بوصير» رب «دد».
- (٤)
ورئيس مي العظيم «زد آمن أوف عنخ» صاحب «منديس» (تل الربع الحالي).
- (٥)
ومعه بِكر أولاده الذي كان قائد الجيش «بر-تحوتي-وب-رحوي».
- (٦)
وجيش الأمير الوراثي «باكنرف».
- (٧) وبِكر أولاده رئيس مي المسمى «نس ناعاي» (١٩) في مقاطعة «حسب».٢١
- (٨)
وكل رئيس يحمل الريشة من الذين كانوا في أرض الشمال.
- (٩)
ومعهم الملك «أوسركون» الذي كان في «بوبسطة» وإقليم «رع نفرت».
وقد تجمع كل أمير وحكام المدن المسورة في الغرب وفي الشرق وفي الأقاليم التي في الوسط بقلب واحد متحدين بوصفهم أتباعًا لرئيس الغرب العظيم حاكم المدن المسورة للأرض الشمالية «الذي يلقب» كاهن الإلهة «نيت» صاحبة «سايس» (٢٠) والكاهن الأعظم «سم» للإله «بتاح» المسمى «تفنخت».
قائمة بالمذبحة التي وقعت بينهم: «أناس» «ترك الكاتب هنا مكان العدد دون أن ينقش» … رجال.
وبعد ذلك دخل «الأشمونين» في حين كان جيش جلالته على النهر في ميناء (٢٣) مقاطعة «الأرنب» «أي العاصمة».
وبعد ذلك سمعوا بذلك فحاصروا مقاطعة «الأرنب» من جوانبها الأربعة ولم يسمحوا للخارجين أن يخرجوا ولا للداخلين أن يدخلوا.
والآن فيما بعد عندما أحتفل بشعائر السنة الجديدة سأقدم القربان لوالدي «آمون» في «نباتا» في عيده الجميل عندما يظهر بطلعته الجميلة للسنة الجديدة؛ حتى يجعلني أخرج في سلام لأرى «آمون» صاحب «طيبة» في عيد «أبت» (الأقصر) الجميل وحتى يمكنني أن أحضره في صورته (٢٦) في موكب «الأقصر» في عيده الجميل المسمى «ليلة عيد أبت» في العيد المسمى «البقاء في طيبة»، وهو الذي عمله له «رع» في البداية، ولأجل أن أتمكن من أن أحضره في موكب إلى بيته قاعدًا على عرشه كما هي الحال في يوم إدخال الإله في الشهر الثالث من الفصل الأول، اليوم الثاني، ولأجل أن أتمكن من جعل الأرض الشمالية تذوق طعم أصابعي «في الحرب».
وقد أقام لنفسه معسكرًا في الجنوب الغربي من الأشمونين وحاصرها (٣٢) يوميًّا، وقد أقيم جسر ليحيط بالجدار، وأقيم برج ليرفع الرماة عندما يرمون بسهامهم والضاربين بالمقلاع عندما يرمون بالحجارة، وكانوا يذبحون الناس من بينهم يوميًّا.
ومتن هذه الأسطر هو تكملة لتضرع الملكة «نستنمحونت» إلى أزواج وأخوات الملك «بيعنخي» (انظر السطر ٣٤) لأجل أن يصفح عن الملك «نمروت»، ومن متن هذه القطعة ومتن اللوحة نشاهد أن زوجات الملك وأخواته قد انبطحن على الأرض أمام الملك «بيعنخي» (السطر ٤٢)، وأن الزوجات الملكيات تضرعن للملك طالبات إليه العفو عن «نمروت» ملك «حت ورت» (السطر ٤٣). ولا بد أنه كان في الجزء الناقص تسلم ما ورده «نمروت»، ثم أتى الأخير بنفسه للملك.
وبعد ذلك خرجوا مع ابن رئيس مي «تفنخت» فدخل جيش جلالته فيها دون أن يُقتل واحد من كل الناس، ووجد (٨١) مع حاملي الأختام ليختموا أملاكه، وخزائنه سلمت لبيت المال، ومخازن غلاله للقربات الإلهية الخاصة بوالده «آمون رع» رب «طيبة».
وبعد ذلك أعطيت ماليتها الخزانة، ومحازن الغلال صارت قربانًا للضيعة المقدسة (٨٥) لوالده «آمون رع».
وبعد ذلك جاء أولئك الملوك والأمراء الشماليون وكل الرؤساء الذين كانوا يلبسون الريشة، وكذلك كل وزير وكل الرؤساء، وكل قريب للملك من الغرب ومن الشرق ومن الجزائر الواقعة في الوسط ليشاهدوا جمال جلالته.
- (١)
الملك «أوسركون» في «بويسطة» إقليم «رع نفر».
- (٢)
الملك «أوبوت» في «تنترمو» «وتاعان».
- (٣)
الأمير الوراثي «زد أمنف عنخ» (١١٥) في مخزن غلال «رع» التابع لبلدة «بربانبدد» (منديس).
- (٤)
بِكر أولاد قائد الجيش في بلدة «تحوت بررحوي» المسمى «عنخ حور».
- (٥)
الأمير «أكانش» في «سمنود» (تب نتر) وفي «بهبيت» وفي «سمابحدت».
- (٦)
الأمير رئيس مي «باثنف» في «برسيد» (صفط الحنا) وفي مخزن غلال «منف».
- (٧)
(١١٦) الأمير رئيس مي المسمى «بمو» في بيت «أوزير» (بوصير) سيد «دد».
- (٨)
الأمير رئيس مي المسمى «نس-ناقدي» في مقاطعة «حسب».
- (٩)
الأمير رئيس مي «نخت-حر-نا-شنو» في برج «رو-رو».
- (١٠)
رئيس مي «بنتاور».
- (١١)
رئيس مي «نبتي بخنت».
- (١٢)
كاهن «حور» سيد «لتيوبوليس» (أوسيم) المسمى (١١٧) «با-دي-حرسماتوي».
- (١٣)
الأمير «حوراباس» في بيت «سخمت» سيدة «سايس» وبيت «سخمت» سيدة «رحساوي».
- (١٤)
الأمير «زدخيو» في «خنت نفر».
- (١٥)
الأمير «باباس» في «خرعحا» في «برحعب» (بيت النيل).
ويحملون كلهم جزيتهم (١١٨) الطيبة من ذهب وفضة … وأَسِرَّة مزركشة بالكتان الجميل، وكذلك العطور في (١١٩) أواني «خبخب» … بمثابة ضريبة طيبة وجياد (١٢٠) …
وعندما أضاءت الأرض في الصباح المبكر (١٤٨) حضر هذان الحاكمان للجنوب والشمال «أي «نمروت» وملك الفيوم» وعلى جبينيهما الصِّلَّان ليلثما الأرض أمام عظمة (١٤٩) جلالته، في حين أنه من جهة هؤلاء الملوك والأمراء أصحاب الأرض الشمالية الذين أتوا ليشاهدوا بهاء جلالته فإن أرجلهم (١٥٠) كانت كأرجل السيدات ولم يدخلوا بيت الملك (١٥١)؛ لأنهم كانوا نجسين «لم يختنوا» ومن أكلة السمك الذي يعد لعنة للقصر (١٥٢) تأمل، إن الملك «نمروت» قد دخل بيت الملك؛ لأنه كان مطهرًا لا يأكل السمك، وقد وقف هناك ثلاثة (١٥٣) على أرجلهم «ولكن» دخل واحد فقط بيت الملك.
تعليق وشرح للوحة «بيعنخي»
لا نزاع في أن من يقرأ متن لوحة الملك «بيعنخي» بإمعان ويقرنها بالمتون المصرية الأخرى، حتى التي من عهد ازدهار الدولة الحديثة، يجد اختلافًا بينًا من حيث سرد الوقائع وما فيها من هدوء في التعبير، وبساطة في الشرح، وخلو من المغالاة التي نجدها في الوثائق المصرية التي من هذا النوع، على أنه من الجائز أن السبب في ذلك قد يرجع إلى الدم الأجنبي الكوشي الذي كان يجري في عروق أولئك القوم النشطين المحبين للحرب مما جعلهم يخلدون على لوحات انتصاراتهم — على الرغم من تمسكهم الشديد بالتقاليد الفرعونية — مقدارًا عظيمًا من التفاصيل المبهمة، والمظاهر المتعلقة بطبائعهم وأمزجتهم الشخصية مما لا نجده في تواريخ العصور التي سبقت عصرهم، وهي التي كانت تحتوي على ألفاظ ملؤها الزهو والغرور والفخر الكاذب، حقًّا إن «تحتمس الثالث» «ورعمسيس الثاني» قد قصا علينا أعمالهما العظيمة بصورة أقل ركاكة بكثير عن معظم مواطنيهما من الملوك، ولكن مَنْ من أبناء عصرنا من المؤرخين والأثريين يفضل قصصهم على ما جاء في لوحة الفاتح الكوشي «بيعنخي». والواقع أن كل ما جاء في هذه اللوحة يجعلها مفضلة على كل ما كتبه هؤلاء الفراعنة بوجه عام، ولست مبالغًا إذا قررت هنا أن متن لوحة «بيعنخي» يقدم لنا صفحة من أمجد الصفحات في تاريخ مصر في العصر الذي تبحث فيه، فالمتن لا يحتوي على معلومات تاريخية قيمة وحسب؛ بل في الواقع يعد سجلًّا حافلًا بالمعلومات الجغرافية والاجتماعية والدينية والخلقية، كما يكشف لنا عن نواحٍ خاصة بالملك «بيعنخي» ومهارته، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن هذه اللوحة لا تكشف لنا إلا عن الناحية الكوشية وحسب، ولم نسمع من الجانب المصري كلمة واحدة لنتمكن من الموازنة بين الجانبين؛ إذ قد صمتت الآثار عن ذلك صمتًا تامًّا، فلم نعثر على متن واحد لمصري في هذا العهد، وكل ما نعرفه عن المصريين في الحرب التي قامت بينهم وبين «بيعنخي» هو ما ذكره لنا كاتب لوحة هذا الفاتح فقط، ومع ذلك أمكننا أن نلتقط من بين السطور أنه كان يوجد بينهم أبطال يحبون بلادهم ويدافعون عنها دفاع المستميت، حتى تشل حركتهم ويضطرون إلى التسليم قهرًا، ولا أدل على ذلك مما أتاه «تفنخت» من ضروب الشجاعة والصبر وبُعد الحيلة وحسن القيادة التي لولا ظهور «بيعنخي» لعُدَّ من بين الفاتحين العظام والساسة الممتازين.
وسنحاول هنا أن نتتبع سير الحوادث في الحرب التي نشبت بين «بيعنخي» وبين «تفنخت» ملك «سايس» إلى أن ضيق الخناق على الأخير واضطر إلى التسليم، ولكن بعد أن سُدَّت في وجهه كل السبل.
وكان ينافس «تفنخت» هذا في تلك الفترة المضطربة من تاريخ مصر أمراء كثيرون اتخذ كل منهم لقب ملك، غير أن منافسه الأكبر كان «نمروت» ملك «الأشمونين»، أما الملك المسمى «أوسركون» فلم يكن إلا لعبة هينة وكان منزويًا في إقليم «تل بسطة» وما جاوره على ما يظهر، وكان معه رؤساء آخرون من رؤساء «مي» وغيرهم، نخص بالذكر منهم أمير «خرعحا» (مصر العتيقة) وملك «أتريب» وأمير «بوصير» وأمير «صفط الحنا» وأمير «منديس» وأمير «سمنود» وغيرهم مما سنذكرهم بعد.
ومعظم هؤلاء الأمراء كانوا من أصل لوبي ينتمون إلى ملوك الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين، وقد أخذ «تفنخت» في مد نفوذه نحو الجنوب إلى أن أصبح خطرًا يهدد «طيبة» عاصمة ملك «بيعنخي» في مصر، وهو الذي كان وقتئذٍ يقطن في عاصمة ملكه «نباتا» في بلاد السودان، وعندما شعر بهذا الخطر قائدا أجناده في مصر وهما «بورما» «ولمرسكني» طلبا إلى الملك السماح لهما بالزحف بجيوشهما لوقف زحف العدو عند حدٍّ بعد أن أوضحا له الموقف بالضبط، كما جاء في اللوحة التي أقامها فيما بعد هذا الفرعون في «نباتا» تذكارًا لهذه الحروب، وهي التي كان من نتائحها أن أصبح «بيعنخي» يسيطر على مصر كلها وبلاد السودان حتى الشلال الرابع، ويقص المتن الذي على اللوحة أنه قد جاء «لبيعنخي» رسول من عند قواده يخبره أن «تفنخت» المسيطر على الأراضي الواقعة غربي الدلتا وأمير بلدة «نتر» (بهبيت الحالية) قد استولى على مقاطعات في الدلتا نذكر منها «سخا» ثم انحدر جنوبًا في الدلتا واستولى على «برحعبي» «وهي أثر النبي الواقعة على مسافة كيلو متر جنوبي «مصر العتيقة»» وكذا أخذ «عن» أو «عيان» القريبة من «الجيزة»، ثم صعد جنوبًا واستولى على «بر-تب-نب-أح»، وهي «أطفيح» الحالية الواقعة على الشاطئ الأيمن للنيل قبالة «ميدوم»، وهي عاصمة المقاطعة الثانية والعشرين من مقاطعات الوجه القبلي، وكانت تقدس فيها البقرة «حتحور» ربة الجمال؛ ولذلك أُطلق عليها «أفريدوتو بوليس» عند اليونان، ثم استولى على «منف» القديمة «الجدار الأبيض».
والواقع أنه قد أصبح صاحب السلطان على كل الأراضي الواقعة غربي النيل من أول مستنقعات الدلتا حتى بلدة «اللشت» (مركز العياط)، وكان يساعده في تنفيذ فتوحه هذه جيش جرار يسير هو على رأسه، هذا إلى أن البلاد التي كان يفتحها «تفنخت» هذا كانت تنضم إلى لوائه وتدين له بالطاعة مما جعل كل البلاد من ورائه موحدة وحكامها طوع بنانه، ولذلك أخذ يزحف على مصر الوسطى، فاستولى على «ميدوم» وعلى بلدة «برسخم خبر رع» القريبة من مدخل «الفيوم» وبلدة «الفيوم» نفسها (برسبك) وبلدة «البهنسا» وبلدة «تكناش» وهي «دقناش» الحالية الواقعة بالقرب من غربي «ببا»، وكذلك نجد أن كل البلاد الواقعة في غربي النيل في هذه الجهة قد فتحت أبوابها خوفًا منه؛ «أي إن هذه البلاد كلها قد سلمت له بدون قيد ولا شرط».
- (١)
«حت بنو» وتعد عاصمة المقاطعة الثانية عشرة من مقاطعات الوجه القبلي، وتقع على مقربة من «شارونة» على الشاطئ الأيمن للنيل.
- (٢)
«وتايوراي» وتقع مكان «الحيبة» الحالية (مركز الفشن) على مسافة ٢٣ كيلو مترًا شمالي «شارونة».
- (٣)
«وحت نسو» وهي بلدة «الكوم الأحمر سويرس» (مركز بني سويف) الواقعة على الشاطئ الأيمن للنيل على مسافة خمسة كيلو مترات جنوبي «شارونة».
- (٤)
«وأطفيح» وتقع على مسافة ٧٩ كيلو مترًا شمالي «الحيبة».
وإذا دققنا في ترتيب فتح هذه المدن الشرقية وما يقابلها من المدن الغربية التي فتحها «بيعنخي» وجدنا أن الترتيب في الفتح من الجنوب إلى الشمال لم يرتب جغرافيا بدقة؛ إذ قد وُضعت «حت نسو» (الكوم الأحمر) في غير مكانها التسلسلي الطبعي وقد حدث مثل ذلك على ما يُظن في لوحة «بيعنخي» عند ذكر الأسماء التي فتحها بالتسلسل على الشاطئ الغربي التي ذكرناها من الشمال إلى الجنوب؛ إذ قد وضع «البهنسا» بعد «دقناش».
ويذكر لنا بعد ذلك الرسول الذي حمل الرسالة إلى «بيعنخي» عن الأحداث في مصر أن «تفنخت» أخذ من ثم في حصار «أهناسية المدينة» وأحاط بها من كل جوانبها، فلم يجعل أحدًا يخرج منها أو يدخل فيها، وفي ذلك من المهارة الحربية ما فيه؛ إذ بهذا الإجراء ضمن سرية الحصار وعدم الاتصال بالعدو من الخارج.
وبعد ذلك أخذ «تفنخت» يذرع الأرض حوالي المدينة، ووضع كل أمير في مكانه الذي يدافع عنه، وجعل كل رجل وكل حاكم يلزم القسم الخاص به من المدينة للدفاع عنه، كل ذلك كان يجري وقد سمع به «بيعنخي» من الرسول بقلب كبير منشرح ووجه باسم، وهو في كل ذلك يرى أن الوقت لم يكن قد حان بعد لمنازلة عدوه، ولكن عظماء رجاله وكبار قواده الذين كانوا يرابطون في أماكنهم كانوا لا يفتئون يرسلون إليه عن خطر الموقف، ويسألونه هل صمت متجاهلًا أرض الجنوب التي كانت تابعة لملكه وقد أخذ «تفنخت» يمعن في الاستيلاء عليها دون أن يجد من يصده؟
وعندئذ أرسل جلالته جيشًا إلى مصر قائلًا لجنوده: لا تهاجموا العدو ليلًا على حسب طريقة لاعبي الشطرنج، ولكن حاربوا عندما يمكن أن تروا «العدو»، واطلبوا «العدو» للموقعة من بعيد، وإذ طلبكم «للحرب» فانتظروا المشاة والفرسان من مدينة أخرى، وانتظروا هادئين حتى تأتي جنوده وحاربوه فقط عندما يطلب منازلتكم، وفضلًا عن ذلك إذا كان حلفاؤه في مدينة أخرى فاعملوا على انتظارهم، وعليكم أن تطلبوا إلى ساحة القتال مقدمًا ما يمكن أن يساعد من الأمراء أو أي جنود يوثق بهم من اللوبيين قائلين لهم: «أنت»؛ لأننا لا نعرف من يخاطب عند اصطفاف الجيش، أسرِجْ أحسن جواد في حظيرتك واصطف للموقعة، وعليك أن تعرف أن «آمون» هو الإله الذي أرسلنا.
وبعبارة أخرى نفهم من هذه الفقرة أن «بيعنخي» يأمر جيشه أن يعطي العدو اختيار الزمان والمكان لأجل الحرب، لذلك كان لزامًا أن يسمح بمهلة تمكن مساعدي «تفنخت» من أن يصلوا إلى مكان القتال، هذا كما كان لزامًا أن ينبهوا مقدمًا بوقت كافٍ قبل أن ينقضوا عليهم بأي هجوم، والسطر الأخير من هذه الفقرة يكشف عن الأسباب التي دعت إلى إسداء هذه النصيحة الغريبة من الوجهة الحربية وهو: «عليك أن تعرف أنت أن «آمون» هو الإله الذي أرسلنا»، «فهو كفيل بالنصر».
وعندما تصلون إلى «طيبة» قبالة «الكرنك» فانزلوا إلى الماء وطهروا أنفسكم في النهر، وأظهروا أنفسكم في ملابس كتان نظيفة، وشدوا القوس وارموا بالسهم، ولا تفخروا بأنكم أرباب القوة؛ لأنه بدونه لا تكون لشجاع قوة؛ إذ قد يجعل القوي ضعيفًا، وبذلك تفرُّ الكثرة أمام القلة كَمْ من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وإن رجلًا واحدًا قد يستولي على ألف رجل، اغسلوا أنفسكم بماء قربانه، وقبلوا الأرض أمام محياه، وقولوا له: امنحنا سواء السبيل حتى نستطيع أن نحارب تحت ظل سيفك القوي، أما الشبان الذين أرسلتهم فإن النصر سيكتب لهم وسيروع الكثيرون منهم.
وبطبيعة الحال قابل رجال الجيش هذه النصائح بالثناء العاطر على الملك وعلى شجاعته وقالوا له: «إنه لا يتغلب جيش يكون قائده مخنث.»
وبعد ذلك سار الجيش من «طيبة» منحدرًا في النهر، ولكنهم رأوا جيش العدو في أسطول عظيم معد بالرجال والعتاد لملاقاة جيش «بيعنخي»، وقد نشبت بين الفريقين مذبحة عظيمة كانت الغلبة فيها للكوشيين؛ إذ استولوا على جنود أعدائهم وسفنهم وساقوا الأسرى إلى جلالته في «نباتا» مقر ملكه.
يضاف إلى هؤلاء كل الأمراء والحكام الذين كانوا يسيطرون على مدن مسورة؛ أي كان لهم جيوش في شرقي الدلتا وغربيها ووسطها، وقد كانوا يدًا واحدة لملاقاة عدوهم «بيعنخي» الذين كان يريد أن يستولي على بلادهم ويحرمهم استقلالهم، وقد نشبت المعركة بين الفريقين قبالة «أهناسية المدينة» وحدثت مذبحة عظيمة مات فيها كثيرون كما يقول المتن الكوشي بعدد لم يُعرف له مثيل من قبل، واستولى الكوشيون على سفن الحلف التي كانت في النهر، وقد عبر فلول الجيش المصري النهر وأقاموا معسكرهم هناك على الشاطئ الأيمن بالقرب من بلدة تدعى «بربج»، وقد وُحدت هذه البلدة بقرية «البكي» أو «البكا» التي تقع في الشمال الغربي من «الفشن».
وفي اليوم التالي لذلك عبر جيش «بيعنخي» النهر والتحم بالعدو وقتل من رجاله كثيرين وخيلًا لا يحصى عددها، وقد فر فلول الجيش مرة أخرى نحو الشمال بسبب ما أصابهم من خسائر، والظاهر أن القتلى بينهم كانوا كثيرين، فقد عملت بهم قائمة، غير أن الحفار ترك مكان الأرقام خاليًا.
وقد هرب «نمروت» بعد هزيمة جيشه صاعدًا في النيل عندما قيل له: إن «الأشمونين» قد أصبحت في وسط جيش الأعداء، فدخلها في أثناء أن كان جيش «بيعنخي» راسيًا في ميناء مقاطعة «الأرنب» (المقاطعة الخامسة عشرة من مقاطعات الوجه القبلي؛ أي «الأشمونين»)، وعندما سمع قواد «بيعنخي» بذلك حاصروا المدينة من جوانبها الأربعة فلم يسمحوا لأحد بالدخول فيها أو الخروج منها، ثم أرسل القواد إلى «بيعنخي» عن المواقع التي نشبت بينهم وبين العدو وعن الانتصارات التي أحرزوها، وعندما سمع «بيعنخي» بأنهم لم يقضوا على فلول جيش العدو وأنهم رجعوا ثانية لمحاصرة «الأشمونين» غضب غضبًا شديدًا، وهاج كأنه فهد الجنوب في ثورته، وبخاصة أن جيش الأعداء قد أفلت منهم وعاد إلى الدلتا، وقد كان ذلك في نهاية السنة الواحدة والعشرين، وهو الوقت الذي عقد فيه العزم «بيعنخي» على أن يسير بنفسه إلى «طيبة» بعد الاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة في «نباتا»، وفي «طيبة» نفسها أقيم عيد «أبت» للإله «آمون» (عيد «الأقصر») في الشهر الثالث، ثم قاد الحملة بنفسه على «تفنخت» وحلفائه في الشمال. ويجب أن نشير هنا إلى أن الإله «آمون» كان هو أكبر معبود عند الكوشيين، ولا غرابة في ذلك؛ فإن ما لدينا من آثار يدل دلالة واضحة على أن هذا الإله كان يُعبد في «نباتا» منذ الأسرة الثامنة عشرة، وأن كهنته على ما يظهر قد توارثوا وظائفهم في معبد «نباتا» حتى العهد الكوشي، فالرابطة الدينية إذن بين البلدين كانت قوية وبخاصة بين «طيبة» «ونباتا»، وليس هناك ما يُدهش أن نرى الأحفال التي كانت تقام «لآمون» في «نباتا» هي نفس الأحفال التي كانت تقام له في «طيبة»، وربما كانت هذه الرابطة الدينية من الأمور التي سهلت «لبيعنخي» احتلال البلاد دون كبير عناء، وبخاصة أنه كان ملكًا متدينًا صالحًا رحيمًا.
وفي خلال تلك الفترة التي عزم فيها «بيعنخي» على قيادة الجيش بنفسه كان قواده يضاعفون هممهم لمد نفوذ مليكهم في أنحاء البلاد، وبخاصة بعدما علموا بغضبه عليهم، ومن أجل ذلك انقضوا على بلدة «البهنسا» بجيوشهم كالطوفان واستولوا عليها، وأرسلوا إلى «بيعنخي» ليخبروه بهذا النصر، ولكنه لم يرضَ بذلك، فضاعف الجيش همته كرة أخرى وزحف على بلدة «طهنا» (مركز المنيا)، وقد وجد قواد «بيعنخي» أنها محتشدة بالجنود الشجعان الأشداء من أجناد الشمال، وقد قاومتهم المدينة فرموها بالمنجنيق حتى هدمت جدرانها، ثم وقعت مذبحة قُتل فيها عدد عظيم من رجال «تفنخت» وحلفائه، وكان من بين القتلى ابن رئيس «مي» «تفنخت»، وفي النهاية استولوا عليها وأرسلوا إلى «بيعنخي» يبشرونه بهذا الانتصار، ولكن ذلك لم يشفِ غُلَّتَه أيضًا.
وقد نتج عن ذلك أن مات كثيرون يوميًّا، ولم تمضِ مدة طويلة على هذا الحصار القوي حتى طلب أهل المدينة الأمان واستسلموا، غير أن «بيعنخي» بقي متعنتًا. والواقع أن الحصار الذي أقامه «بيعنخي» قد تسبب في موت أناس كثيرين دون أن يُدفنوا، فأنتنت «الأشمونين» وتصاعدت منها روائح كريهة، فلم يَسَعْ الأهلين أمام هذا العذاب والخراب إلا أن يسجدوا أمام «بيعنخي» طالبين منه العفو، وخرج الرسل إلى «بيعنخي» يستغفرونه حاملين إليه كل ما طاب وغلا ثمنه في المدينة من ذهب وأحجار فاخرة ثمينة وملابس وُضعت في صناديق، وحتى التاج الذي كان على رأس «نمروت» أمير المدينة قُدم هدية له، وقد استمروا على ذلك أيامًا طالبين العفو ومقدمين فدية لذلك تاج الملك نفسه، ولكن كل ذلك لم يُجْدِ نفعًا، ولما أعيتهم الحيل أرسلوا زوج الملك «نمروت» وابنته تطلبان التوسط عند زوج الملك في طلب العفو عن «نمروت»، ثم قدم له «نمروت» هدايا، وجاء هو بنفسه بعد ذلك فنهره الملك قائلًا له: «من أتى بك إلى هنا؟» وكرر هذه العبارة عدة مرات ثم أخذ يوبخه.
وبعد أن فرغ «بيعنخي» من كل هذه الزيارات وزع متاع «نمروت»، فأعطيت أملاكه للخزانة العامة، وحبست غلاله على القربات المقدسة «لآمون» «بالكرنك».
والظاهر أن تربية الخيل والاعتناء بها كانت شائعة في هذا الوقت كما تدل على ذلك الوثائق، ولا غرابة في أن تكون الفروسية شائعة في ذلك الوقت عند حكام الإقطاع؛ إذ كانوا يعتمدون على الحرب لحفظ كيانهم، وهذا نفس ما نلحظه عند المماليك في العهد الذي سبق عصر «محمد علي»؛ إذ كانت الخيل وتربيتها وشن الحرب بوساطتها من أهم مقومات حياة هؤلاء الفرسان فكانت الغلبة لمن له جيش أقوى من المدربين على ركوب الجياد في ساحة القتال.
وتدل الألفاظ التي نطق بها صاحب «أهناسيا المدينة» عندما سجد أمام «بيعنخي» على أنه قد كشف عنه غمة، وأنه وجد فيه صديقًا يحميه؛ لأنه قد أذهب عنه ظلام الاستعباد، وقد قبل أن يكدح ويعمل مع رعايا هذا الفاتح، وأن تدفع «أهناسيا المدينة» الضرائب إلى الخزانة العامة؛ وبذلك لم تُرَقْ نقطة دم واحدة في «أهناسيا المدينة».
وبعد ذلك ترك «بيعنخي» هذه المدينة وانحدر في النهر بجيشه نحو مدينة «برسخم-خبر رع» الواقعة بجوار «اللاهون» الحالية، فوجد جدرانها مهدمة وحصنها مغلقًا وحُشد فيه عدد عظيم من الجنود الشجعان من أهل الدلتا، فأرسل إلى حامية الحصن وخيرهم بين أمرين: إما التسليم وإما الموت المحتوم، وأنه ليؤلمه أن يموتوا حربًا، وطلب إليهم ألا يغلقوا أبواب حياتهم وبذلك يكون مضطرًّا إلى سوقهم إلى المقصلة، وقد كان لهذا الإنذار أثر فعال في نفوسهم؛ إذ أرسلوا إليه يعترفون بما له من قوة مستمدة من عند الإله، وأنه قد أخذ قوته عن ابن الإلهة «نوت»؛ أي الإله «ست» إله الحرب والقوة، ولذلك فإن بلدهم هي حصن هذا الإله وليفعل بها ما يريد، وطلبوا إليه أن يفك عنها الحصار، وقد فك «بيعنخي» عنها الحصار فعلًا، وعندئذ خرج أهلها مع ابن رئيس «مي» «تفنخت» ودخلها جيش الملك دون إراقة نقطة دم واحدة، وسُلِّم كل ما فيها لبيت المال، أما مخازن الغلال فحبست قربانًا على الإله «آمون رع» رب «طيبة» وإله «بيعنخي» الأعظم.
وبعد ذلك اندفع «بيعنخي» نحو «اللشت»، تلك المدينة القديمة التي اتخذها ملوك الأسرة الثانية عشرة فيما مضى عاصمة لملكهم، فوجد سورها مغلقًا، وأنها تزخر بالجنود من أرض الدلتا الشجعان؛ ولكن فضل قائدهم التسليم، ففتح الحصن دون حرب، ودخلها الملك وقدم قربانًا للآلهة القاطنين في هذه المدينة من ثيران وعجول ودجاج، ثم أعطيت ثروتها للخزانة، كما قدمت مخازن غلالها قربانًا مقدسة «لآمون».
وأخيرًا انحدر إلى «منف» عاصمة البلاد القديمة، وقبل أن يصل إليها أرسل إلى القائمين على أمورها وخاطبهم في شخص المدينة قائلًا: لا تغلقي أبوابك ولا تحاربي يا مأوى الإله «شو» بن «رع»، ثم أخذ يخاطب أولي الشأن بقوله لهم أن يدعوا من يريد الدخول إلى المدينة يدخلها، ومن أراد أن يخرج منها فليغادرها؛ «أي إنه لن يحاصرها، بل على العكس سيقدم للإله «بتاح» القاطن في جنوبيها القربان، وكذلك للإله «سكر» في مكانه السري»، ثم حذرهم من المقاومة وقال لهم إنه ملك رحيم، ولا أدل على ذلك مما حدث في المقاطعات الجنوبية وأهلها؛ فإنه لم يسفك دم واحد من أهلها إلا الذين لعنوا الآلهة فقد جزت رءوسهم بوصفهم ثائرين.
وعلى الرغم من هذا التحذير فإن الأهالي أوصدوا أبواب «منف» وجمعوا جيشًا من العمال والبنائين والبحارة لمقاومة فئة صغيرة من جنود «بيعنخي»، وفي تلك الأثناء تسلل «تفنخت» ليلًا إلى المدينة وأخذ يحمس أهل المدينة على مقاومة «بيعنخي».
وفي هذا المجلس أخذ كل قائد من قواد «بيعنخي» يبدي رأيه؛ فاقترح واحد منهم حصارالمدينة إلى أن تسلم، وحجته في ذلك أن الجنود الذين كانوا يحمونها عديدون، واقترح آخر إقامة طريق توصل إليها وذلك بعد تعلية الأرض حتى تصل إلى جدرانها العالية، وقال آخر: «فلنقم صرحًا يوصل إليها ثم نضع قنطرة من الخشب تصل إلى المدينة، وبهذه الكيفية نقسمها من كل جانب من جوانبها بوساطة الأرض العالية التي تصل إلى نهاية جدرانها، ومن ثم نجد طريقًا للمرور إلى داخلها.»
غير أن الملك «بيعنخي» لم يأخذ برأي من هذه الآراء وصمم على أخطر رأي «كما فعل «تحتمس الثالث» من قبله» وهو الاستيلاء على المدينة بالهجوم.
وفي ذلك يقول المتن: «وعندئذ استولى غضب جلالته عليها كأنه الفهد، وقال: إني أقسم بحب «آمون رع» لي وبخطوة والدي «آمون» الذي أوجدني أن ذلك لا بد أن يصيبها على حسب ما أمر به «آمون»، وهذا ما سيقوله الناس بعد، إن الأرض الشمالية ومقاطعات الجنوب قد فتحت له أبوابها من بعيد؛ لأنهم لم يضعوا «آمون» في قلوبهم ولم يعرفوا ما الذي أمر به، فإن «آمون» قد جعله يظهر شهرته كما جعله يرى جبروته، وسأستولي عليها كالفيضان، وقد أمرت …»
وعلى أثر ذلك أخذ «بيعنخي» يستعد للاستيلاء على المدينة، ومما تجدر ملاحظته هنا أن جدران المدينة العالية الواقعة في الجهة الغربية كانت قد زِيد في ارتفاعها حديثًا على يد «تفنخت» استعدادًا للحصار الذي كان يتوقعه، وكان من البدهى أن الجانب الشرقي كان محميًّا على ما يظهر برفع المياه اصطناعيًّا (؟) ولذلك أهمل تحصينه، وقد أرسل «بيعنخي» أسطوله وجيشه لمهاجمة الميناء التي كانت على الجانب الشرقي، وقد أحضر إلى هذه الجهة كل ما لديه من سفن شحن وسفن نقل وغيرها وربطت حبال مقدمتها بين بيوت المدينة، والظاهر أن جنوده لم يصابوا بأي أذى.
وبعد ذلك أتى الملك بنفسه لينظم الهجوم ويضع كل سفينه في المكان اللائق بها، وبعد أن تم له ذلك أمر جنوده أن يقوموا بالهجوم، وأن يتسلقوا الجدران ويقتحموا البيوت التي على النهر، ونصحهم ألا يدعوا واحدًا منهم عندما يصل إلى قمة الجدار أن يقف أمامه حتى لا يُرمى بسهام العدو من داخل المدينة، ثم حمس جنوده بقوله: «إنه لمن العار أن نوصد الجنوب في وجه العدو، ثم نضطر بعد ذلك إلى أن نحاصر هذه المدينة التي تعد الفاصل بين الوجهين القبلي والبحري «الجنوب والشمال» ونقف أمامها دون الاستيلاء عليها.»
ولم يمضِ طويل زمن حتى استولى «بيعنخي» على «منف» بجيش كالفيضان بعد أن قتل منها خلقًا كثيرين واستولى على أسرى عديدين، وبعد أن تم له النصر أرسل بعثًا من قبله لحماية معابد المدينة وآلهتها وبخاصة الإله «بتاح» وتاسوع المدينة، ثم طهرت بالنطرون والبخور.
وبعد ذلك سار إلى «عين شمس» الواقعة على تل «خرعحا» وقد طهر الملك نفسه في البركة المقدسة وغسل وجهه في نهر «نون» الذي غسل فيه «رع» وجهه. وهذه العبارة تشير إلى الخرافة القائلة بأن الملك هو ابن الإله «رع» الذي اتخذ مكانه في بادئ الأمر في مدينة «عين شمس»، ومن ثم كانت تقام له الأحفال التي كانت تقام له فيما بعد في السماء، وعلى ذلك فإن ابن «رع» كان يتمثل بوالده في كل الأحفال.
وقد دعا «بيعنخي» رئيس كهنة «رع» والمرتلين أن يصدوا الثوار عنه، وبعد ذلك زار قاعة الصباح في المعبد، وهي المكان الذي كان مفروضًا أن يغتسل فيه «رع» ويطهر نفسه ويلبس ملابسه الجديدة كل صباح وينشر فيها عبير البخور، وهناك قدمت للملك أكاليل لأجل بيت الهرم الصغير «بن بن» وهو المكان الذي يوضع فيه الهرم الصغير، وهو رمز التل الأزلي الذي كان يجثم عليه الإله «رع» في صورة الطائر «بنو» وهو في شكل الطائر «مالك الحزين» ويتقمص روح الإله «رع» في صورة صقر.
وبعد ذلك أوصد المصراعين ووضع عليهما الطين وختمهما بخاتم الملك، ثم أمر الكهنة بألا يسمحوا لأحد من الملوك الذين سيأتون بعده بفتحه فسجدوا أمامه سمعًا وطاعة.
وبعد ذلك زار معبد «آتوم» في هذه الجهة أيضًا.
وبعد ذلك توجه «بيعنخي» إلى زيارة «أتريب» (بنها الحالية)، فرست سفينته في الميناء على الشاطئ الغربي وضرب خيامه بالقرب من «قها» الحالية الواقعة في شرقي مقاطعة «أتريب»، وعندما سمع بذلك الملوك والأمراء الشماليون وكل الرؤساء اللوبيين «وهم الذين كانوا يميزون بلبس الريشة على رءوسهم» هذا إلى كل وزير ورئيس وسمير ملك من غربي الدلتا وشرقيها ومن الجزائر الواقعة في وسطها، هرعوا ليشاهدوا بهاء طلعته ويقدموا له الطاعة ويكفوا أنفسهم شر القتال، وقد سجد أمامه الأمير الوراثي «بدي إزيس» راجيًا إياه أن يزور بلده «أتريب» ليرى إلهها العظيم «خنتي خاتي» «الذي كان يمثل في صورة صقر» وليتعبد للإلهة «خويت» معبودة هذه البلدة، وليقدم قربانًا «لحور» «أي حور خنتي خاتي» في معبده، وكذلك ليزور بيت ماله، وقد وضع ما فيه تحت تصرفه وكذلك أملاكه التي ورثها من والده، هذا إلى أنه كان مستعدًا ليقدم له ذهبًا بقدر ما يحب، وكذلك الفيروز الذي كان مكدسًا عنده، وفوق كل هذا عرض عليه جيادًا عدة من أحسن ما في حظائره.
وقد قبل «بيعنخي» زيارة «أتريب»، وقد كان أول ما زار فيها معبد الإله «حور خنتي خاتي» وهناك قرب له قربانًا فتقبل منه، وبعد ذلك دخل قصر هذا الأمير وتسلم منه الهدايا من فضة وذهب ولازورد وفيروز بمقادير عظيمة من كل صنف، هذا إلى ملابس من الكتان الجميل والعطور والمسوح وأوانٍ أنيقة وجياد أصيلة ذكورًا وإناثًا من أحسن ما في حظيرته.
وبعد ذلك طهر «بدي إزيس» نفسه بأن أقسم يمينًا مقدسًا أمام كل هؤلاء الملوك والرؤساء حكام الشمال العظام، وقال لهم: «إن كل واحد منهم سيموت ميتة والده إذا أخفى جياده وخبأ التزاماته، وليقع عليَّ مثل هذا العقاب إذا كنت قد أخفيت أي شيء من جلالته من كل متاع والدي من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، ومن كل أنواع الأواني الثمينة ومن أسوار الذهب والقلائد والأطواق المرصعة بالأحجار الكريمة والتعاويذ التي توضع على كل عضو من أعضاء الجسم وأكاليل الرأس والخواتم والأقراط وكل زينة خاصة بالملك، وكل هذه الأشياء قد قدمتها أمام جلالته، وأعني ملابس من الكتان الملكي بالآلاف من أحسن ما في قصري ومما أعرف أنك ستسر بها»، وفي النهاية خاطبه قائلًا: «اذهب إلى حظيرة الجياد وخذ ما طاب لك»، وقد فعل الملك ذلك.
ويلحظ أن الهدية التي كانت تلفت النظر من بين الهدايا التي كان يقدمها كل الأمراء هي الخيل، والظاهر «كما قلنا» أن تربيتها في مصر واستعمالها كان له منزلة عالية ملحوظة.
- (١)
الملك «أوسركون» ملك «بوبسطة» وأقليم «نفر رع» المجاور «لبوبسطة».
- (٢) الملك «أوبوت» حاكم «تنترمو» «وتاعان».٤٧
- (٣) الأمير الوراثي «زد أمنف عنخ» في مخزن غلال «رع» حاكم «منديس».٤٨
- (٤)
وأكبر أولاده قائد الجيش في بلدة «تحوت بررحوي»، ويدعى «عنخ حور». وبلدة «تحوت بررحوي» هي التي قام على أنقاضها بلدة «تل البقلية» القريبة من «المنصورة».
- (٥) الأمير «أكانش» في «سمنود» (رتب نتر = العجل المقدس) وفي «بهبيت» وفي «سما بحدت»، والاسم الأخير يطلق على المقاطعة الثامنة عشرة من مقاطعات الوجه البحري، وعاصمتها تسمى بهذا الاسم، وكذلك تسمى العاصمة «با أو آمون» (أي بحيرة «آمون») وقد بقي لنا الاسم في «تل البليمون» الحالي مركز شربين.٤٩
- (٦)
الأمير رئيس «مي» المسمى «باثنف» في «برسبد» (أي «صفط الحنا» الحالية) وفي «شنوت أنبوحز» (أي مخزن غلال الجدار الأبيض؛ أي «منف»)، وتقع على ما يُظن في المقاطعة العشرين من مقاطعات الوجه البحري، وعاصمتها «صفط الحنا» الواقعة في مديرية الشرقية مركز الزقازيق.
- (٧) الأمير رئيس «مي» «بمبو» حاكم «بر أوزير» رب «دد»، وهذا هو الاسم الكامل لعاصمة المقاطعة التاسعة من مقاطعات الوجه البحري وهي «بوصير»، وغالبًا ما تسمى باختصار «بر أوزير» وهي الآن «أبو صير بنا» مديرية الغربية مركز «المحلة الكبرى».٥٠
- (٨) الأمير رئيس «مي» المسمى «نس ناقدي» حاكم مقاطعة «حسب» وهي المقاطعة العاشرة والعاصمة الدينية لها، ويحتمل أنها تقع على أنقاض بلدة «الحبيش» التي تبعد مسافة أربعة كيلو مترات من «هربيط» مركز «كفر صقر».٥١
- (٩)
- (١٠)
رئيس «مي» المسمى «بنتاور».
- (١١)
ورئيس «مي» المسمى «نبتي بخنت».
- (١٢)
كاهن «حور» رب «ليتوبوليس» المسمى «بادي حر سماتوي».
- (١٣) الأمير الوراثي «حور أباس» حاكم «بر سخمت نب سا» (أي مسكن الإلهة «سخمت» ربة «سايس»)، وهذا اسم محراب للإلهة «سخمت» في بلدة «سايس»؛ أي «صا الحجر»٥٤ الحالية، وكذلك حاكم «بر سخمت نب رحساوي» وهو محراب للإلهة «سخمت» سيدة «رحساوي» وهي مدينة لم تُعرف بعدُ من المقاطعات الثانية من مقاطعات الوجه البحري، ويُحتمل أنها بالقرب من «أوسيم» الحالية.٥٥
- (١٤)
- (١٥)
الأمير «باباس» حاكم «خرعحا» «وبرحعبي» «وقد شرحنا موقع هاتين المدينتين فيما سبق.»
وكل هؤلاء الملوك والأمراء قد عادوا حاملين للملك جزيتهم من ذهب وفضة ومتكآت منمقة بالكتان الجميل، وكذلك العطور في جرار، هذا إلى جياد مما كان مغرمًا بها «بيعنخي».
وعلى الرغم من خضوع كل هؤلاء الحكام وامتثالهم لأوامر «بيعنخي» فإنه لم تمضِ إلا عدة أيام على تقدمهم بهذه الهدايا حتى أتى رسول للملك يخبره أنه قد قامت ثورة في بلدة «مسد» التي تدل شواهد الأحوال على أنها كانت تقع على حدود مقاطعة «تفنخت» في الدلتا الغربية؛ فأرسل «بيعنخي» جيشًا من جنود «بدي إزيس» ليستطلع جلبة الأمر هناك وليخمدوا الثورة إذا كانت قد أشعلت نارها حقًّا، ولم تمضِ مدة طويلة حتى أتى إلى الملك رسول يخبره بإخماد الثورة وأن الثوار قتلوا عن آخرهم، وقد أهدى «بيعنخي» هذا البلد إلى الأمير «بدي إزيس»، وأخيرًا لما سمع «تفنخت» بإخماد هذه الثورة «والظاهر أنه كان هو المحرك لها» لم ير بدًّا من إرسال رسول للملك يستأذنه في الحضور للمثول بين يديه.
وعلى أثر ما جاء في هذه الرسالة أرسل جلالة الملك «بيعنخي» إلى «تفنخت» الكاهن رئيس المرتلين المسمى «بدي أمن نستاوي» وبصحبته قائد الجيش «بورما» فأهدى إلى الملك فضة وذهبًا وملابس وأحجارًا ثمينة فاخرة من كل الأنواع، ثم سار «تفنخت» مع رسولي الملك إلى المعبد وصلى للإله، وطهر نفسه بميثاق مقدس قائلًا: «أقسم بأني لن أتعدى أمر الملك، ولن أتخطى ما يقوله الملك، ولن أناصب أميرًا العداء دون علمك، وإني سأفعل على حسب ما يقول الفرعون ولن أتعدى ما أمر به.»
وعندئذ رضي الملك بهذا القسم العظيم، وفي الحق إنه لقسم وثيق العرا؛ إذ نفهم من كلماته أنه لن يقوم بأي عمل عدائي على «بيعنخي»؛ فلا يحرض أميرًا على العصيان، ولن يقوم بأي عمل على غير رغبة الفرعون، وفي هذا كل الخضوع والطاعة لأمير كان الفوز منه والتغلب على كل مصر وتأسيس إمبراطورية ضخمة قاب قوسين أو أدنى.
والواقع أن ما قام به «تفنخت» من مقاومة وما أبداه من شجاعة وإقدام في مقاومة «بيعنخي» في بلاد كانت تسودها الفوضى والانقسام لمما يدل على ما كان عليه من ذكاء وحسن قيادة، ولو أتيحت لهذا البطل الفرص كما أتيحت لأحمس الأول لَكوَّن إمبراطورية لا تقل في عظمتها وقوتها عن إمبراطوريته، ثم بعد ذلك يتساءل الإنسان: هل قدم «تفنخت» حقًّا خضوعه على هذه الصورة المشينة؟ إنا نشك في ذلك كثيرًا، والواقع أنها مبالغات!
وبعد أن فرغ «بيعنخي» من إخضاع أكبر مناهض له في مصر وهو «تفنخت» لم يبقَ له في طول البلاد وعرضها مناهض، وقد كان آخر من سلم بالخضوع والإذعان بالطاعة له «الفيوم» التي كانت قد خضعت «لتفنخت» ثم «أطفيح»، هذا بالإضافة إلى البقية الباقية من ملوك الدلتا، وقد جاء ذلك نتيحة لهزيمة رئيسهم الأكبر «تفنخت»؛ فقد أتى إلى هذا الفاتح رسول يقول له: «إن معبد «سبك»؛ أي «الفيوم» قد فتحت حصنها وكذلك «متنو»؛ أي «أطفيح» عاصمة المقاطعة الثانية والعشرين من مقاطعات الوجه القبلي قد سجدت له، ولم تبقَ مقاطعة في جنوب البلاد أو شماليها أو شرقيها أو غربيها وحتى الجزر التي في وسط الدلتا إلا سجدت خوفًا منه، وقد جعل أصحابها كل ممتلكاتهم تقدم إلى الملك في المكان الذي يريده بوصفهم رعايا قصره.»
وقد حضر في الصباح المبكر كل من الملك «نمروت» وملك «أطفيح» على ما يُظن، وهما من حكام الجنوب والشمال ليقبلا الأرض بين يدي جلالته، هذا؛ وفي الوقت نفسه فإن ملوك الدلتا وأمراءها الذين لم يكونوا قد خضعوا بعد، وهم الذين قد أتوا ليشاهدوا بهاء جلالته، كانت أرجلهم كأرجل النسوة طراوة.
بعد أن انتهى «بيعنخي» من فتحه العظيم وإخضاع كل البلاد المصرية وتوحيدها مع بلاد «كوش» شحن سفنًا بالفضة والذهب والنحاس والملابس وكل شيء يرغب فيه من بلاد الشمال، وما تصبو إليه نفسه من محاصيل سوريا وكل الأخشاب الحلوة المجلوية من أرض الإله؛ أي من بلاد «بنت»، وفي ذلك إشارة إلى اتصال التجارة في ذلك الوقت بين مصر والبلاد المجاورة لها وبخاصة بلاد سوريا وبلاد «بنت» الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
وبعد ذلك أقلع «بيعنخي» إلى الجنوب بقلب منشرح، وكانت الناس على كلا شاطئي النهر ترحب به وتهلل لطلعته، وكان القوم القاطنون في غربي النهر وشرقيه يقيمون الأفراح في حضرة جلالته ويغنون ويصفقون وهم يقولون: «يا أيها الحاكم الجبار، يا «بيعنخي»، أيها الحاكم صاحب البطش، إنك تعود وقد أحرزت السلطان على الأرض الشمالية، فأنت الذي تجعل من الثيران نسوة، فما أسعد قلب المرأة التي حملتك والرجل الذي أنجبك، فسكان الوادي يقدمون الثناء إلى البقرة التي حملت ثورًا، وإنك ستبقى مخلدًا وقوتك سرمدية يأيها الحاكم محبوب طيبة.»
تلك هي قصة «بيعنخي» وما قام به من أعمال عظيمة كما رواها هو عن نفسه في لوحته التي أقامها في بلاده. حقًّا إنها تحدثنا عنه كما يرغب هو لا كما يرغب المؤرخ المحايد أن يسمع القصة من الجانبين المتخاصمين ثم يدلي بحكمه، ولا نزاع في أنها قصة فيها تحيز، ولن يمكن الحكم على صحة كل ما جاء فيها إلا إذا جادت علينا تربة مصر بقصة «تفنخت» الذي ناضل عن بلاده حتى آخر سهم في كنانته، ومع ذلك فإنا نجد في رواية «بيعنخي» نواحي كثيرة إنسانية، لم نجدها على وجه عام فيما تركه الفاتحون المصريون العظام، وأقل ما يقال عنه إنه كان لا يميل كثيرًا إلى سفك الدماء، وكان لا يأتي هذا العمل الفظيع إلا مضطرًّا، وناهيك بشفقته على الحيوان وتقاه وصلاحه واعتماده على إلهه حتى في ساحة الوغى وفي توجيهاته الحربية، وهذا على الرغم من مهارته في فنون الحرب والقيادة، والواقع أن أقرب فرعون يشبهه في أخلاقه وصفاته هو «تحتمس الثالث» الذي كان لا يميل إلى سفك الدماء كثيرًا إذا ما قرن بأسلافه وخلفائه من فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، كما أنه في تقاه وتمسكه بمساعدة «آمون» له يشبه الفاتح العظيم «رعمسيس الثاني» وبخاصة في موقعة «قادش» العظيمة عندما كان يناجي إلهه «آمون» للأخذ بناصره في ساحة الوغى، ولا يعتمد على أحد سواه.
هذا؛ وقد كان تمسكهم بعبادة «آمون» وتقديسه من أبرز صفاتهم، وهذا يذكرنا بما كان عليه ملوك الدولة الحديثة وبخاصة الأسرة الثامنة عشرة من تمسك بعبادة «آمون» والعمل على نشرها في كل أنحاء الإمبراطورية وبخاصة في بلاد «كوش»، ولا يبعد إذن أن تأثير عبادة «آمون» كان لها مفعول كبير على ملوك «كوش» في عهد الأسرة الخامسة والعشرين، فقد وجدناهم فجأة في مصر معتنقين هذه العقيدة، ولذلك يميل الإنسان إلى الاعتقاد أن كهنة معبد جبل برقل الذين كانوا من عباد «آمون» لهم ضلع كبير في تأسيس الأسرة الخامسة والعشرين، إن لم يكونوا هم المؤسسين لها بعد أن مكثوا في «كوش» مدة طويلة نشروا فيها عقيدتهم في أرجاء تلك البلاد، إلى أن حانت فرصة تدهور البلاد المصرية في أواخر الأسرة الثانية والعشرين، فانقضُّوا عليها بدمهم الفتيِّ وأسسوا الأسرة الخامسة والعشرين.
مقبرة «بيعنخي»٦٢
كُشف عن مقبرة الملك «بيعنخي» في جبانة «الكورو» ضمن المقابر الملكية التي وُجدت هناك، وقد وجدت في حالة تهدم وتخريب تامَّين، ويحتمل «مما تبقى من وضعها» أن البناء الذي كان يعلو حجرة الدفن هرمي الشكل.
آثار «بيعنخي» في أنحاء مصر والسودان
- (١) جزء من مسلة مصنوعة من الجرانيت، عليها سطر من النقوش على كل وجه من أوجهها الأربعة، وهو محفوظ الآن بمتحف الخرطوم، رقم ٤٦٢.٧١
- (٢)
قطعة فضة نُقش عليها اسم الملك «نمروت»، وهي على ما يظهر من خرائب «هرموبوليس»؛ أي «الأشمونين»، والظاهر أن «بيعنخي» قد أحضرها معه عند عودته من مصر إلى بلاده، وهي محفوظة الآن في «أكسفورد» بمتحف «أشموليان».
وقد عُثر على هذه القطعة في خزانة معبد صنم الواقعة على مسافة خمس مائة متر شرقي هذا المعبد.٧٢ - (٣) ومن المحتمل أن المعبد B. 900 قد وضع أساسه في الأصل الملك «بيعنخي» ثم أعاد بناءه الملك «حرسيوتف» (؟) في العهد المروي.٧٣
- (٤) وكذلك يحتمل أنه هو أو والده «كشتا» قد بنى المعبد رقم B. 800.٧٤
- (٥) ووُجد في معبد «صنم» الجزء الأسفل من تمثال مصنوع من البازلت جالسًا ورسم على أحد جانبي العرش علامة توحيد الأرضين، وهذا التمثال على ما يظهر قد اغتصبه «بيعنخي»، هذا ووجد عرش تمثال من الحجر الرملي منقوش عليه اسمه.٧٥
- (٦) ولوحة «بيعنخي» العظيمة التي أسهبنا القول في محتوياتها عُثر عليها في معبد جبل «برقل» الذي يحمل اسم B. 500، وهذا المعبد يعد أكبر وأجمل المعابد التي أقيمت في جبل «برقل»، غير أنه مما يؤسف له جد الأسف لم يبقَ منه إلا بقايا مهدمة، ويقع عند سفح جبل «برقل» في الجهة الشمالية الغربية، ويحتل مساحة كبيرة، ويبلغ طوله حوالي ٥٠٠ قدم، وهو في حجمه وعظمته يحتل المكانة الثانية بعد معبد «صلب».والظاهر أنه قد وُضع أساسه في عهد الأسرة الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة في حكم «رعمسيس الثاني» ثم أعاد بناءه «بيعنخي» وبُني مرة أخرى في عهد الملك «ناتا كاماني» (خبر كارع).٧٦
ويبلغ طول معبد «بيعنخي» هذا حوالي ٥٠٠ قدم، وعرضه في أوسع ردهاته حوالي ١٣٥ قدمًا، وهذه الردهة كان يصل إليها الإنسان بوساطة بوابة لا يمكن تقدير حجمها على وجه التأكيد، وأبراج هذه البوابة لم تُهدم، بل أزيلت أحجارها واستُعملت في أغراض أخرى، وعلى كلا جانبي البوابة كان يوجد ستة تماثيل لكباش من الجرانيت كل منها يقبض أمامه على تمثال للملك «أمنحتب الثالث» أحضرها «بيعنخي» من معبد «صلب»، ولا يزال منها اثنان في مكانهما الأصلي.
وحول الجهات الأربع للردهة الخارجية أقيم ممر كان مدعمًا من الجهة الشمالية بصفين من العمد، وهذه الردهة يبلغ طولها ١٥٠ قدمًا تقريبًا، وقطر كل عمود حوالي ست أقدام، وترتكز على قواعد قطرها حوالي من الأقدام، وأهم ما كان يشاهد على جدران هذه الردهة سُوَّاس خيل «بيعنخي» يقودون الخيل، وكذلك وُجدت لوحة من الحجر الرملي الأحمر للملك «بيعنخي» وقد هُشم الجزء الأسفل منها، وبها منظر يشاهد فيه الملك يتسلم التاج من «آمون رع» تتبعه الإلهة «موت» والإله «خنسو»، وقد عُثر عليها أمام قاعدتها الأصلية، وهي الآن بمتحف مروي Khartoum, N. 1851٧٧ هذا إلى لوحات الجرانيت التي نُقلت في عام ١٨٦٢ كما تحدثنا عن ذلك من قبل.والردهة الثانية طولها ١٢٥ قدمًا، وعرضها ١٠٢ من الأقدام، ويصل إليها الإنسان كذلك بوساطة بوابة عمقها حوالي ٢٨ قدمًا، وفي الجانب الشرقي كان يوجد أربعة صفوف من العمد كل منها يحتوي على ستة عمد ثلاثة على كل جانب من الباب، هذا إلى صفوف مزدوجة من العمد أقيمت على كل من جانبي الممر الذي كان يبلغ عرضه حوالي ٧ أقدام من بوابة إلى بوابة، وقد أقيم على مدخل بوابة هذه الردهة أربعة تماثيل لكباش كل منها يقبض أمامه على تمثال صغير للملك «أمنحتب الثالث» أحضرها «بيعنخي» من معبد «صلب»، ويوجد بقايا منظر يشاهد فيه الملك يذبح الأعداء على جدران البوابة، أما على الجدران داخل الردهة فقد مُثل عليها منظر للملك وأسرى خلف عربته.
والردهة الثالثة أصغر بكثير من سابقتيها؛ إذ يبلغ طولها حوالي ٥١ قدمًا وعرضها ٥٦ قدمًا، وتحتوي على عشرة عمد، خمسة على كل من جانبي الطريق، وقد كان لها بوابة، وعلى جدران هذه الردهة في الجهة اليمنى كان يوجد بابان يؤدي كل منهما إلى مقصورة يمر الإنسان منها إلى الممر المؤدي إلى المحراب، وقد كان مقسمًا ثلاثة أجزاء بجدارين ممتدين على طول الممر، ففي الجدار الذي على اليمين باب يؤدي إلى حجرة طويلة ضيقة فيها أربعة أعمدة محاريب، وخلف ذلك مقصورة صغيرة تحتوي على عمودين ومقصورة، وإذا عدنا أدراجنا ومررنا بالجدران التي في الداخل والخارج دخلنا مقصورة أخرى تحتوي على أربعة أعمدة، وفي نهاية هذه الحجرة مائدة قربان جميلة من الجرانيت نقش عليها «تهرقا» اسمه، ورسم عليها آلهة النيل يعقدون علامة ضم القطرين على واجهة المائدة وخلفها، هذا إلى أربع صور «لتهرقا» ترفع السماء على الجانبين، وهي لا تزال في مكانها الأصلي، وهذا يدل على أن «تهرقا» قد أضاف مقصورة في معبد «بيعنخي»، وخلف هذه المقصورة حجرة طويلة لها باب على اليسار.
وأخيرًا ينتهي المبنى بالمحراب ويمكن تتبع تصميمه بسهولة، فنجد صورة الإله «آمون» موضوعة على نهايته بالقرب من المائدة الضخمة المصنوعة من الحجر، ولا يزال عليها اسم صانعها «بيعنخي»، وعلى اليمين توجد مقصورة صغيرة يمكن الدخول إليها من نهاية المحراب، ومن المحتمل أنها كانت لحفظ ملابس الإله والكهنة وحليهم.٧٨ - (٧) قاعدة مائدة قربان من الجرانيت الأسود باسم «بيعنخي» لا تزال موجودة في مكانها الأصلي،٧٩ وجاء على هذه القاعدة النقش التالي: «يتكلم» «آمون رع» ملك رب «برقل» وهذه الآلهة: إني معروف عند هذا الطفل، وإني أنا أعرفه قبل أن يولد وقبل أن يأتي إلى العالم، وإني أعطيته أشياء ملكي، وإني أقضي له على كل الأعداء، وإنه هو الذي يسر قلبي؛ لأنه أقام أماكني العظيمة، وهو ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بيعنخي».٨٠
- (٨) ويوجد «لبيعنخي» منظر «بالكرنك» في معبد الإلهة «موت» ربة «أشرو»، ويشاهد على أحد أحجار هذا المنظر الذي نجده في حجرة هذا المعبد اسم «بيعنخي» ويمثل المنظر رحلة نهرية قام بها هذا الملك، إما عند عودته من الشمال بعد فتح الدلتا وإخضاع صغار ملوكها، وإما حملة سلمية قام بها في جنوب بلاد «كوش» لأجل أن يحضر لمصر المحاصيل النادرة التي تنتجها هذه البلاد النائية،٨١ هذا ما قاله بعض المؤرخين عن هذا المعبد، والواقع أنه لا يمت له بصلة، بل دل البحث على أن هذا المنظر تابع لرحلة «نيتوكريس» كما سنرى بعد.
ويقول «ريزنر»: إن «بيعنخي» أقام هذه القاعة بعد حملته على مصر.
والمنظر الأعلى للوحة يعلوه قرص الشمس المجنح يتدلى منه صِلَّان، أما في وسط اللوحة فيشاهد الإله «آمون» برأس كبش قاعدًا على عرش وممسكًا تاج الوجه البحري في يده اليسرى يقدمه للملك، وفي يده اليمنى تقية، ويقف خلف هذا الإله الإلهة «موت» على رأسها التاج المزدوج وتربت «آمون» بيدها اليمنى، وفي يدها اليسرى علامة الحياة.
وخلف هذه الإلهة يقف الإله «خنسو»، ويشاهد أمام «آمون» الآن ملك «كوش» واقفًا وعلى رأسه التاج الكوشي المعتاد، وفي يديه قلادتان «واحدة منهما صدرية» يقدمها لآمون، وتدل صورة اللوحة على أنها في الأصل ترجع لعهد بعد زمن «إخناتون»؛ لأن اسم «آمون» لم يكشط.
(١) كلام «آمون» سيد عروش الأرضين، الذي ينصب والطاهر (٢) لابنه محبوبه «بيعنخي»، إني أقول لك عندما كنت في (٣) بطن أمك أنك ستكون حاكمًا على مصر (٤) وأني أعرفك في البذرة عندما كنت (٥) في البيضة أنك ستكون (٦) سيدًا، وقد جعلتك تتسلم التاج المزدوج «ورت المخصص بِصِلَّيْنِ، وهذه خاصية لملوك كوش» الذي أمر «رع» أن يطهر (٧) في الزمن الأولي الطيب، والوالد يجعل (٨) ابنه ممتازًا، وإني أنا الذي قد أمرت بالملكية لك، من الذي سيشاركك فيها؟ (٩) إني رب السماء، وإن ما أعطيته «رع» فإنه يعطيه (١٠) أولاده بين الآلهة أو (١١) الناس، وإني أنا الذي أمنحك المرسوم، فمن الذي (١٢) سيشاركك فيه؟ ليس هناك ملك آخر قد استولى عليه (١٣)، وإني أنا الذي يمنح الملكية (؟) لمن أريد. (١٤) كلام «موت» سيدة السماء: لقد تسلمت التيجان من «آمون» وإنه يقول لك … (١٥) كلام الإله «خنسو مديس»: خذ الصِّلَّين من والدك «آمون».
الأسطر من ١٦ إلى ٢٤ هي كلمات الملك، ويلحظ أن السطر ١٦ قد كُشط، ويُحتمل أنه جاء فيه: كلام ابن «رع» سيد التيجان … (١٧) يقول: «آمون» صاحب «نباتا» جعلني (١٨) حاكم كل أرضي، والذي أقول له: أنت ملك، فإنه سيكون ملكًا، والذي (١٩) أقول له: أنت لست ملكًا، فإنه لن يكون ملكًا، وقد جعلني «آمون» صاحب «طيبة» حاكمًا على مصر، وأن الذي (٢٠) أقول له: أقم حفلًا «بوصفك ملكًا» فإنه سيقيم حفلًا «بوصفه ملكًا»، والذي أقول له: لا تُقم حفلًا، فإنه لن يقيم حفلًا «للتتويج»، وكل واحد (٢١) أحبه لن تخرب مدينته إلا (٢٢) إذا كان بيدي، الآلهة تصنع ملكًا، والناس يصنعون ملكًا (٢٣) ولكن «آمون» صنعني، فمَن مِن هؤلاء الحكام لا يقدم هدايا لي وررت حكاو (٢٤).
وإذا نظرنا بعين فاحصة في هذه العبارات وجدنا أنها مطابقة للمتاعب التي صادفها «بيعنخي» في أثناء حكمه، وهي التي أدت للحملة التي سار على رأسها لفتح مصر أو تلك الصعاب والحروب التي نتجت عن غزو الآشوريين في عهد كل من «تهرقا» «وتانوت آمون» كما سنرى بعد.
(٢٥) يعيش حور الثور القوي الذي يظهر في نباتا، السيدتان، الممكن الملك مثل «رع» في السماء، حور الذهبي جميل التيجان، شديد القوة، وكل واحد يعيش برؤيته مثل أختي، ملك الوجه القبلي والوجه البحري سيد الأرضين «الطغراء مكشوط» ابن رع سيد التيجان (٢٦) … «الطغراء مكشوط».
الإله الطيب ملك الملوك وحاكم الحكام، والملك الذي يقبض على كل البلاد، عظيم القوة، وتاجه «آتف» على رأسه والذي يصد بقوته، جميل الصورة مثل رع في السماء، والظاهر (؟) مثل أختي عندما (؟) يعطي …
(٢٧) (نصف سطر غير مفهوم) وحده (؟) والذي يوسع كوش، والخوف منه قد جعله سيد الأراضي …
وما تبقى من الأسطر من ٢٨–٣٠ يظهر أنه عقود مدح للملك، ولكن المتن مهشم فلا يمكن استخلاص شيء مؤكد منه.
ومقابر الصف التالي نجدها عُملت بعناية أقل، فهي ليست عميقة وتنقصها «إلا في حالة واحدة» السنادة التي تتكئ عليها رقبة الجواد، وهذا الصف قد أُرِّخ بنقوش على آثار من عهد الملك «شبكا».
ومقابر الصف الثالث على الرغم من أنها عميقة ومنظمة فإن كل السنادات الداخلية لأجل البطن أو الرقبة لا وجود لها، وقد أرخت بأشياء منقوشة من عهد الملك «شبتاكا».
وأما المقابر التي في الصف الشمالي الشرقي فعلى الرغم من أنها تشبه مقابر صف خيل «شبتاكا» لكنها بيضية الشكل وأقل إتقانًا في نحتها.
وعلى الرغم من أن مقابر الصفين الجنوبي الغربي والشمالي الشرقي لم يوجد فيها أشياء منقوشة «وذلك لأنها قد نُهبت أكثر من الصفين المتوسطين» فإنه مما لا شك فيه «على حسب ما نجده من انحطاط متزايد في الشكل» أن ترتيب التاريخ هو من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، وأنه لدينا هنا مقابر لخيل عربات «بيعنخي» «وشبكا» «وشبتاكا» «وتانوت آمون» وهم الملوك الرئيسيون الذين دفنوا في جبانة «الكورو».
ويلحظ أنه في كل حالة نجد فيها بقايا هياكل خيل وأشياء محفوظة معها بصورة مرتبة كان يتضح لنا من ذلك أن الخيل كانت مدفونة واقفة برأسها إلى الشمال الشرقي، وأن الأشياء كانت محصورة عند رأس الحصار ورقبته، ومما يدعو إلى الدهشة أنه لم يوجد في أية حالة من حالات الدفن جمجمة الحيوان، كما أنه لم توجد في أية حالة كذلك آثار للجم أو السرج أو أي عدَّة خيل من نوع عملي، فمن المؤكد إذن أن الخيل كانت تُقطع رءوسها قبل الدفن.