لمحة في تاريخ آشور وعلاقتها بمصر
(١) حدود بلاد «آشور»
امتدت حدود بلاد «آشور» في عز سلطانها إلى شمالي «بابل»، وتبتدئ بسهل «مسوبوتاميا» المرتفع فوق ملتقى نهر «أدهم» ونهر «دجلة»، وتحتل الجزء الأوسط من حوض هذا النهر حتى «كرنيب»، ويفصلها من الشرق عن بلاد الكاسيين مجرى نهر «الزاب» وجبال «زجروس»، وتُحد من الشمال بجبل «مسيوس»، أما في الغرب فكانت حدودها لا تصل إلى نهر «الخابور» أو «الفرات». وهي على شكل مثلث تقريبًا، ويلاحظ أن هذه البلاد كانت تنقصها الوحدة الجغرافية التي نجدها في بلاد «بابل»، ففي الجزء الغربي منها وهو الذي يقع في «مسوبوتاميا» نشاهد هضبة شاسعة متماوجة تشمل بعض تلال جيرية، ونرى في شرقيها بعيدًا عن نهر «دجلة» عدة تلال ذات غابات ووديان، تجري فيها أنهر صغيرة هامة نخص بالذكر منها نهر «كرنيب» «والزاب» الأعلى «والزاب» الأسفل ونهر «أدهم»، وهذا الإقليم غني بالمعادن، وأرضه خصبة بما تنتجه من حبوب وفاكهة، وحدها الطبيعي من الشرق جبال «زجروس» التي لا يوجد فيها إلا ممران أو ثلاثة، وهذه تظل مدة من السنة غير صالحة للمرور بسبب الثلوج.
ويشاهد في شمال «آشور» مدرجات جبلية متتابعة ترتكز على هضبة «أرمينيا»، وفي الجنوب من «آشور» يسكن البابليون السهل الغريني، ولا توجد «لآشور» في الغرب حدود طبعية قط، ومن هذه الجهة أخذ «الآشوريون» بوجه خاص يمدون فتوحهم نحو البحر الأبيض المتوسط ونحو مصر، ومساحة «آشور» تماثل مساحة «بريطانيا» العظمى تقريبًا؛ أي حوالي ٣١٤٣٨٠ كيلو مترًا.
ويمتاز تاريخ «آشور» إلى حد بعيد عن معظم تواريخ البلاد العظمى؛ وذلك لأنه محدود بطبيعة مصادره بصورة تجعله يكاد يكون نسيج وحده، فإذا استثنينا بعض الملحوظات العابرة التي جاءت في المؤلفات القديمة وبعض الإشارات التي وردت في التوراة فإن تاريخها لا يخرج عما حصلنا عليه من نتائج الحفائر والأبحاث الحديثة.
(٢) أقدم الآثار «الآشورية»
كانت أقدم وثائق عثر عليها في الحفائر التي عملت في خرائب «آشور» العاصمة الأولى للمملكة الآشورية هي التي وجدت تحت معبد الإلهة «إشتار»، وهي قطع محفورة تشبه النقوش «السومرية» وأهمها تمثال رجل قاعد، غير أنه مما يؤسف له جد الأسف وجد مهشمًا وبدون رأس، يضاف إلى ذلك تمثال آخر مثل واقفًا بعينين مجوفتين ورأس حليق، أما ذقنه فكان مغطى بالشعر، وهذا على عكس ما نشاهده في التماثيل السومرية، وقد وُجد في الحفائر التي عُملت في قلعة «تبة» القريبة من «كارايوك»، وهو تل على مسافة ثمانية عشر كيلو مترًا من الشمال الشرقي لبلدة «قيصرية» في إقليم «كابادوشيا»، لوحات صغيرة مكتوبة باللغة السامية دوِّن فيها أسماء مركبة مع اسم الإله «آشور» رب بلدة «آشور» نذكر منها: «إتي-آشور»، «وتابا-آشور»، «وآشور-مليك» ثم «آشور-موتابيل»، ولا غرابة في وجود قوم يعبدون الإله «آشور» في القرن الرابع والعشرين ق.م، في هذا الإقليم البعيد جدًّا عن بلاد «آشور»، وبخاصة بعد نشر لوحة من هذه المجموعة كان مطبوعًا على غلافها خاتم أسطوانة «سومرية» باسم خادم الملك «إبي-سن» آخر ملوك بلدة «أور»، وهذا الخاتم نقش عليه موضوعات مستعارة من فن النحت «السومري» الخاص بهذا العصر، ولكن بطراز مختلف تمامًا يرى فيه غالبًا الصبغة التي كانت سائدة في الفن «المسوبوتامي» وهي ترك رسم الأشكال وعمل زينة خارجية بدلًا منها بوجه خاص، ونلحظ فيها كذلك أنه قد أضيف إلى التفاصيل التي تمدنا بها العبادة والاستعمالات المحلية عادة حفر الكتابة على الأسطوانة نفسها في اتجاه القراءة مباشرة، وهذه المتون تكشف لنا عن مدنية متطورة فعلًا مستقاة من المدينة «السومرية الآكادية»، فهي تمثل نظامًا وصيغًا مميزة بقيت في «آشور» حتى عهد سقوط «نينوة»، ونجد فيها أنه قد ابتدئ على الغلاف بذكر الأختام المطبوعة لأجل إثبات صحة الوثيقة.
غير أن الشهود هنا كانوا يضعون أختامهم بجانب اسم صاحب الصك، ونجد في «نينوة» في أثناء عهد ملوك السراجنة نفس هؤلاء الشهود يذكرون بعد صيغة العقد، هذا؛ ونجد كذلك السنين مذكورة كما في «آشور» بأسماء رجال سميت بأسمائهم لا بأسماء الحوادث البارزة على حسب العادة «السومرية» أو «الآكادية» دون أن يكون في مقدور الإنسان أن يقرر إذا كان الرجل الذي سميت باسمه السنة هو نفسه الذي كان في «آشور».
وهذه المجموعة الخاصة «بآسيا الصغرى» وهذه الشواهد عن المدينة «السومرية» التي وجدت في «آشور» تبرهن على أنه في القرن الخامس والعشرين ق.م، كان الآشوريون يؤلفون فعلًا قومًا مميزين لهم علاقة «بالسومريين الآكاديين» خضعوا لتأثيرهم، ولكن في الوقت نفسه كانوا مميزين تمييزًا واضحًا بشخصيتهم الخاصة بهم.
والواقع أننا لا نعلم حتى الآن على وجه التأكيد أصل «الآشوريين»، والظاهر أنهم كانوا منتشرين في الألف الثالثة ق.م في إقليم شاسع ساقهم منه نحو «آشور» الأصلية قوم من الآريين، ويحتمل أنهم هم قوم «المتني»، ونجد في خلال الألف الثانية ق.م، في شرقي «نينوة» على مقربة من بلدة «كوركوك» كذلك آريين من عباد الإله «تشوب» أحد آلهة بلاد «الخيتا»، وهناك ميل إلى القول بأن الكاسيين المتوطنين في جبال «زجروس» من نفس الجنس.
(٣) الأمير «زار يكوم»
(٤) الأمير «يوزور أشير»
وحوالي ٢٢٥٠ق.م ظهر «يوزور أشير الأول» تقريبًا، ومنذ عهد هذا الأمير نجد أن قائمة ملوك «آشور» لا يوجد فيها فجوات تقريبًا حتى نهاية الإمبراطورية الآشورية.
وتحدثنا الوثائق البابلية أن «سومو آبوم» مؤسس الأسرة الأولى البابلية قد هاجمه ملك «آشور» المسمى «إللوشوما» ويحتمل أنه هزمه أيضًا، «وإللوشوما» هذا قد أقام معبدًا للإلهة «إشتار»، وأقام ابنه وخليفته «إيريشوم» من جديد محراب الإله القومي الذي أقامه فيما سبق، كما حفر قناة عند سفح «زقورات»، يضاف إلى ذلك أن ابنه «إيكونوم» قد أقام من جديد جدران المدينة، كما أهدى معبدًا «للإله ننكيجال»، ويحتمل أنه أقامه في «نينوة».
وقد أصلح «سرجون الأول» الذي خلفه محراب الإلهة «إشتار».
(٥) الملك شاماشي أداد الأول ١٧٤٩–١٧١٧ق.م
كان «أمنحتب الثالث» يحكم وقتئذٍ مصر وكان ساحل «سوريا» تحت سيطرته وكان ينقسم إقليمين: القسم الأول وهو الجنوبي كان يشمل بلاد «كنعان»، والقسم الشمالي ويحتوي بلاد «عامور» وكان يجاور بلاد «عامور» مملكة «خيتا» التي امتدت حدودها وقتئذٍ في آسيا الصغرى إلى ما بعد جبال «توروس»، ومن الشرق امتدت على نهر «الفرات» حيث اتصلت بمملكة متني التي كانت تمدها من الشرق بلاد «آشور» المسيطرة عليها.
ولا نعرف على وجه التأكيد أصل قومي «خيتا» «ومتني» وكان سكانهما يعبدون الآلهة «أندرا» «وفارونا» «ومترا»، وكان قوم «خيتا» يقومون منذ زمن بعيد بدور هام في التاريخ منذ القرن العشرين، فقد غزوا بلاد «مسوبوتاميا» واستولوا على «بابل» وقضوا على أول أسرة في هذه المدينة، وكان الملك الخيتي المعاصر «لأمنحتب» الثالث يدعى «شوبيلوليوما» أما ملك المتني فكان يدعى «دوشرتا» وهو صهر ملك مصر وقتئذٍ؛ إذ قد تزوج من إحدى أخواته، وكان ملك «خيتا» قد هاجم ملك «المتني» هذا ولكنه لحسن الحظ صده وغنم منه غنيمة كبيرة أرسل منها عربة وجيادًا لملك مصر، كما أرسل للملكة أخته التي كانت في البلاط المصري أدوات زينة محلاة بالصور، وقد امتد سلطانه على «نينوة»، والظاهر أن الإلهة «إشتار» معبودة كل من البابليين والآشوريين كانت في الأصل إلهة متنية، وهذه الإلهة كانت فيما مضى قد قامت برحلة إلى بلاد «مصر»، وقد بقيت في نفسها أحسن الذكريات لهذه الزيارة بسبب الاستقبال العظيم الذي استقبلت به في أرض الكنانة، وقد اقترحت أن تعود إلى مصر مرة أخرى وأعلنت ذلك لملك «المتني»، وقد أهدى الفرعون في مناسبة من المناسبات للملك «دوشرتا» عشرين «تلنتا» (التلنت = ٢٥ كيلو جرام من الذهب أو الفضة) من الذهب، وقد أوقد هذا العمل نار الغيرة في نفس ملك «آشور» المسمى «آشور أوباليت» ١٣٦٣–١٣٢٨ق.م حتى إنه طلب في الحال إلى ملك مصر أن يهديه مثل هذه الهدية، وكان ملك «بابل» المسمى «بورنابورباش» وقتئذٍ يدعي السيادة على «آشور»، ومن أجل ذلك اشتكى واحتج على ملك مصر بقوله: «إن الآشوريين هم من رعاياي وليس لهم الحق في أن يتعاملوا مباشرة مع الفرعون.»
والواقع أن كل هؤلاء الأقوام كانوا يتنازعون السلطة على ساحل سوريا الذي كان سوق التجارة المشتركة وكانت أقوى منازع بينهم هي بلاد «الخيتا»، وقد عملت «خيتا» على إيقاظ نار الفتنة بين «الأمراء العاموريين» الذين كانوا يسكنون في هذه الجهة كما عملت جهدها لفصلهم عن مصر التي كانت تسيطر عليهم وقتئذٍ، وقد وصل ملك «خيتا» بمجهوداته هذه إلى تثبيت قدمه في وادي «الأرنت» (نهر العاصي) ولكن «أمنحتب الثالث» أرسل إليه جيشًا وانتصر عليه وطرده من هذه الجهة، ولكن «شوبيلوليوما» انتقم لنفسه من «دوشرتا» ملك «المتني» بتخريب حدود بلاده ثم عاد إلى «سوريا» واستولى على «حلب».
ولما تولى «إخناتون» عرش مصر لم يظهر أي اهتمام بالحروب الداخلية التي كانت منتشرة في كل أنحاء «سوريا»، ولذلك نجد أن أحد أمراء العاموريين المسمى «أزيرو» قام بحملة مظفرة على الإمارات المجاورة له فبسط بذلك سلطانه على جزء من سوريا، ولكنه مع ذلك كان يعترف بالسيادة المصرية على بلاده، وقد ذهب إلى مصر ليقدم فروض الطاعة لفرعونها، ولكن ملك خيتا «شوبيلوليوما» عده خائنًا وهاجمه وهزمه واستولى على «سوريا» وقضى بذلك على النفوذ المصري هناك جملة، وفي أثناء ذلك هبت نار ثورة في بلاد «المتني» قتل في خلالها ملكها «دوشرتا»، وتولى الحكم من بعده ابنه «ماتيوز»، وعقد معاهدة مع ملك «الخيتا»، ولم تلبث «آشور» أن أسرعت في تخريب بلاد «متني» ولكن «شوبيلوليوما» رد على ذلك بتزويج أخته من الملك «ماتيوزا» وأقره ثانية في ملكه غير أنه عامله معاملة التابع، وبعد ذلك بزمن قليل تولى «مورسيل» عرش بلاد «خيتا» وكان وقتئذٍ يحكم إمبراطورية تمتد حتى بلاد «آشور» من جهة الشرق وحتى جبال الكرمل والجليلي من الجنوب، ولكن هذا الملك الشاسع لم يدم طويلًا فقد هزم «مورسيل» الملك «سيتي الأول» في موقعة في إقليم قادش على نهر «الأرنت» ثم حاربه بعد ذلك «رعمسيس الثاني»، وبعد موته أخذ ملكه يتناقص شيئًا فشيئًا في عهد ولديه «موتالو» «وخنوسيل» حتى اضطر الأخير إلى عقد صلح في السنة الواحدة والعشرين من حكم «رعمسيس الثاني» حوالي عام ١٢٧٩ق.م، ولم تلبث مصر نفسها أن أخذت في التدهور كما فقدت بابل كل نفوذها في الشرق، وهذه هي اللحظة التي اقتنصها «العبرانيون» ليستوطنوا فيها بلاد «كنعان»، كما انتهزت طوائف أخرى من الآراميين هذه الفترة ليتسربوا إلى حدود «آشور» «وبابل».
وكان على الملك «آشور أوباليت» أن يصلح عاصمة ملكه «آشور» التي كان جدارها قد تهدم حديثًا، ومن المحتمل أن ذلك كان أثر حصار ضرب حولها، كما كان عليه أن يقيم معبدًا في «نينوة»، وتحدثنا النقوش أن هذا الملك قد حارب «السوباريين» في الشمال الغربي من مملكته ومد في حدود بلاده من هذه الجهة، أما في «بابل» فإنه تدخل في حرب على الحزب الكاسي الذي كان قد قتل حفيده «كارا إنداش» وضمن العرش لحفيده وهو «كوريجا لزو الثالث».
(٦) أنليل ناراري ١٣٢٧–١٣١٨
(٧) الملك إيريك-دنيلو (١٣٠٥–١٢٧٤)
تدل الآثار على أن هذا الملك قد قام بما لا يقل عن خمس حملات حربية كانت كلها مظفرة، وكانت رابعتها موجهة نحو بلاد «الخابور» تجاه بلدة «حاران»، وقد استولى في خلال هذه الحروب على غنائم عظيمة، وبخاصة الأغنام والماشية التي أحضرها إلى «آشور»، وقد ذكر لنا في حملة من حملاته العدد ٢٥٠٠٠ نسمة يحتمل أنهم كانوا أسرى.
(٨) الملك أداد نيراري الأول ١٣٠٥–١٢٧٤ق.م
وقد تولى الملك وهو صغير السن، وتحدثنا آثاره عن الحملات التي قام بها أسلافه؛ إذ بدأ بقصة فتوحاتهم ثم ذكر فتوحاته هو، وقد سار في غزواته حتى «لولومي» في الشرق، ثم حارب «بابل» في الجنوب وأملى عليها تعديلًا لحدوده، وأصلح القصر الملكى كما أصلح آثارًا أخرى في «آشور» وفي «نينوة».
(٩) الملك شلمنصر الأول ١٢٧٣–١٢٤٤ق.م
وقد استمر «شلمنصر» بن «أداد نيراري» في سياسة الفتح، والواقع أن «آشور» منذ ذلك العهد قد بدأت مجالًا جديدًا في الفتح من جهة الغرب؛ إذ قام «شلمنصر» هذا بثلاث غزوات في إقليم «ديار بكر» فهزم «ساتوراي» ملك «خنيجالبات» وهي المتني القديمة التي أصبحت خليفة «الخيتا الآراميين» (أخلامي)، ووصل سلطانه حتى بلدة «كركميش» الواقعة على نهر الفرات، هذا؛ وقد اضطر قوم «لولومي» في الشرق أن يدفعوا له الجزية أيضًا، وبعد أن مد «شلمنصر» نفوذ «آشور» على كل بلاد «مسوبوتاميا» عقد العزم على أن ينقل عاصمة ملكه السياسية من «آشور»، وكانت مدينة «آشور» تقع على الشاطئ الأيمن لنهر دجلة تحت ملتقى نهر «الزاب» الأعلى بدجلة، فاختار «شلمنصر» موقع عاصمته الجديدة في مدينة «كالح» على الشاطئ الأيسر لدجلة فوق ملتقى نهر الزاب بقليل، ويرجع السبب في تغيير العاصمة إلى امتداد فتوحات «شلمنصر» نحو الشمال والشمال الغربي، فصار من الصعب عليه أن يحكم مملكته من العاصمة القديمة الواقعة بعيدًا في الجنوب، مما كان يضطره على الدوام إلى عبور نهر الفرات، وعلى ذلك بنى قصرًا في «كالح»، وأنشأ مدينة عظيمة هناك على مسافة أربعين ميلًا من أعلى دجلة، في التفرع الذي بينه وبين نهر «الزاب الأعلى»، ومن المحتمل أنه في بداية حكم هذا العاهل أحرق معبد «آشور» الكبير، ويرجع السبب الظاهري في ذلك إلى حدوث زلزال، وقد أعاد بناءه كما أصلح معبد الإلهة «إشتار» في «نينوة»، وهو الذي كان قد تهدم بنفس السبب السالف الذكر.
(١٠) الملك توكولتي نينورتا حوالي ١٢٤٣–١٢٠٧ق.م
تولى هذا الملك بعد والده «شلمنصر الأول»، وقد كان من حسن الحظ أن عثر على كل تواريخ هذا العاهل كاملة، ومن المحتمل أن حملاته لم تذكر بالترتيب التاريخي في نقوشه، بل جمعت بوجه عام على حسب موقعها الجغرافي، ففي حملته الأولى يحدثنا أنه فتح الأراضي الرئيسية الشمالية والشمالية الشرقية التي أخذت تدفع له الجزية منذ ذلك الوقت، وهذه الجهات هي «قوتو» «وشوباري»، ثم نهب وأخضع الأقاليم الشمالية الغربية في «مسوبوتاميا» حتى إقليم «كمجين»، وقد أُلِّف حلف لمناهضة هذا الملك في إقليم «بحيرة وان»، ولكن بعد قتال مرير اضطر ملوك هذا الحلف البالغ عددهم أربعين إلى الخضوع ودفع الجزية، وبعد أن تم له النصر على هؤلاء ولى وجهه شطر «بابل» لمحاربة ملكها «كاشتلياش الثاني» فحاصر «بابل» وجيشها واضطر ملكها إلى منازلته في موقعة أخذ فيها «كاشنلياش» نفسه أسيرًا وسيق في السلاسل والأغلال إلى «آشور»، وقد مكث «توكولتي نينورتا» يحكم «بابل» مدة سبع سنين بعد أن فتح كل بلادها، كما سيطر على كل «سومر» «وأكاد» حتى أرض البحر. ومما يذكر عن هذا العاهل أنه حمل معه إلى بلاده الإله القومي «لبابل» المسمى «مردوك»، كما نهب معبد «إساجيل» في «بابل»، وفي أثناء ذلك سنحت له فكرة لإقامة مدينة جديدة كاملة وتسميتها باسمه؛ أي «كار-توكولتي نينورتا»، ومعناها مدينة «توكولتي نينورتا» وقد أتمها وأقام فيها معبدًا للإله «آشور» وآلهته العظام وأمدها بقناة، مما يدل على أنها لم تكن بعيدة عن النهر، وأقام هناك طوارًا من الطين كساه باللبنات وبنى عليه قصره الضخم ثم أحاط هذه المدينة العظيمة بسور.
وبعد انقضاء سبع سنين على حكمه «لبابل» ثار أشراف بلاد «أكاد» وأشراف «كاردونياش» (بابل) ونصبوا عليهم ملكًا يدعى «أداد-شوم-أدسو»، وكذلك ثار عليه في «آشور» ابنه المسمى «آشور نادين أبلي» بتعضيد الأشراف فحاصروا الملك في قصره المسمى «كار توكولتي نينورتا» وقتلوه ذبحًا.
وليس لدينا ما ينفي أن هذا الابن السفاح قد خلف والده على العرش، ولكن ليس لدينا حتى الآن أي أثر من حكمه.
ومن الغريب أنه منذ هذه اللحظة نجد فجوة في تاريخ «آشور» استمرت مدة قرن من الزمان لا نكاد نعرف في خلاله شيئًا عن تاريخ الآشوريين إلا بعض حوادث قليلة يمكننا أن نتحدث عنها بشيء من التأكيد.
ويحدثنا التاريخ البابلي أنه بعد قتل «توكولتي نينورتا» بستة أعوام أعيد تمثال الإله «مردوك» إلى «بابل»، ومن المحتمل أن هذا العمل كان قد تم بنفوذ طائفة الكهنة لا بالحرب، وقد عزت الأساطير ضعف بيت الملك «الآشوري» ومتاعبه إلى ما ارتكبه «توكولتي نينورتا» من إثم في حق الإله «مردوك»، وقد بقيت «آشور» هكذا تتجاذبها الممالك القوية التي تحيط بها مدة قرن من الزمان أخذت بعده تفيق مما حل بها من مصائب.
(١١) الملك آشور دان الأول حوالي ١١٧٨–١١٣٣ق.م
وأول ملك بارز بعد هذه الفترة هو الملك «آشور دان»، ويحتمل أنه الخلف الرابع للملك «آشور نادين أبلى» ففتح ثانية إقليم «الزاب» الذي كان عليه أن ينزل عنه إلى «بابل»، ثم هاجم الأخيرة وعاد منها بغنيمة عظيمة.
وكان حكم ابنه وخلفه «متاكيل نوسكو» قصيرًا وهادئًا.
(١٢) الملك تجلات بليزر ١١١٢–١٠٧٤ق.م
تولى الملك «تجلات بليزر» بن الملك «آشور ريشيشي» وفي زمنه أخذت «آشور» تمد فتوحها حتى البحر الأبيض المتوسط.
وبعد ذلك بدأت الحروب مع قوم «نا إيري» فتحالف ثلاثة وعشرون ملكًا منهم على مقاومة الفتح الآشوري، ولكنهم هزموا واقتفى هذا العاهل أثرهم حتى بحيرة «وان»، واضطروا في نهاية الأمر أن يقبلوا الحماية «الآشورية» عليهم وأن يقدموا أولادهم رهائن على ولائهم، وكذلك فرض عليهم أن يقدموا ألفين ومائتي جواد وألفي رأس من الماشية.
وبعد مضي خمسة أعوام من حكمه أخذ «تجلات بليزر» يفاخر بأنه فتح بلاد اثنين وأربعين قومًا وأخضع ملوكهم، وسنرى بعد أن أخلافه المباشرين لم يكن في مقدورهم المحافظة على تلك الإمبراطورية الفسيحة الأرجاء، وأنه في خلال قرنين من الزمان كان في مقدور أقصى هذه البلاد الخاضعة لحكم «آشور» أن تخلع عن عاتقها الواحدة بعد الأخرى النير الأجنبي.
وقد قام «تجلات بليزر» بأعمال عظيمة سلمية في «آشور»، فأعاد بناء معبد الإلهين «آنو» «وأداد» الذي كان قد أقامه «شامشي أداد» قبل ذلك العهد بما يقرب من ستة قرون ونصف قرن، ثم خرب في عهد الملك «آشور دان» الذي كان قد وضع مشروع إعادة بنائه غير أنه لم ينفذ ما شرع فيه، وكذلك أصلح المعابد الأخرى الآشورية والقصور الملكية، وأقام من جديد جدران المدن، وجلب من البلاد المقهورة خيلًا وحميرًا وماشية، كما أحضر للصيد الملكي قطعانًا من الماعز الوحشي، وأمر بإحضار النباتات غير المعروفة في «آشور» لتزرع في بساتين ومزارع الملك كما فعل «تحتمس الثالث» في مصر (راجع مصر القديمة الجزء الرابع).
وقد شن «تجلات بليزر» في الجزء الأخير من حكمه حربين على بلاد «بابل» وانتصر في النهاية على ملكها «مردوك-نادين-آهى».
وكذلك ذبحت بأمر الإله «أورتا» الذي يحبني عشرين ومائة أسد بشجاعة الجَسور وبهجوم الجبار وأنا على قدمي، وكذلك قضيت على ثمان مائة أسد وأنا في عربتي بالحراب، وكذلك أحضرت أنواع حيوان الحقل وطيور السماء مما اصطدته.»
وهذا المتن يذكرنا بحملات الصيد التي قام بها ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وبخاصة الملوك «تحتمس الثالث» وابنه «أمنحتب الثاني» ثم «أمنحتب الثالث»، وكلهم كانوا معروفين بحبهم للصيد والقنص (راجع مصر القديمة الجزء الرابع، والجزء الخامس).
(١٣) أخلاف الملك «تجلات بليزر الأول»
(١٤) الملك شماش أداد الرابع ١٠٥١–١٠٤٨ق.م
وخلفه على العرش أخوه «شماش أداد الرابع»، ولم يترك لنا شيئًا من آثاره تستحق الذكر، والواقع أن «آشور» قد أفل نجمها واضمحل حالها وخبا مصباحها بعد حكم «تجلات بليزر»؛ فقد بقي تاريخها غامضًا لا نعرف عنه شيئًا مدة قرنين من الزمان، اللهم إلا بعض نتف صغيرة لا تشفي غُلَّة، وقد اتفق على أن الحياة قد أخذت تدب من جديد في أوصال مملكة «آشور» في الوقت الذي كانت فيه المملكة اليهودية قد انقسمت على نفسها وأخذت الحروب الداخلية تفت في عضدها (راجع مصر القديمة الجزء التاسع).
(١٥) أداد نيراري الثاني: ٩٠٩–٨٨٩ق.م
(١٦) الملك آشور-رابي: حوالي ١٠٠١ق.م
والظاهر أن الملك «آشور-رابي» أسس أسرة جديدة أخذت تعالج أمور «آشور» من جديد، وذكر لنا «أداد نيراري» قصة الحملات القديمة التي كانت قد نسيت والتي يرجع عهدها إلى مائتي سنة مضت، وكان قد قام بها «توكولتي الأول» «وتجلات بليزر الأول» ومنها نعرف إلى أي حد انكمشت حدود «آشور» نفسها، والواقع أن الملك «أداد نيراري» قد شرع فعلًا في إحياء مجد «آشور» ثانية، ولما مات عام ٨٨٩ق.م تولى بعده عرش الملك ابنه.
(١٧) توكولتي نينورتا الثاني ٨٨٨–٨٨٤ق.م
وقد ترك له دولة منتصرة على «بابل» في الحروب التي شنها عليها مستردًا «لآشور» كل حدودها القديمة، ومن ثم كان في مقدورها أن ترسل الجيوش لفتح أقاليمها القديمة من جديد، ومنذ الآن يمكننا أن نتتبع الجيوش الآشورية وهي تغزو وتفتح البلدان أكثر من ستين سنة، وهذ الغزوات لها أهمية عظيمة؛ إذ نجد فيها البرهان القاطع عن قصد ملوك «آشور» ومراميهم، فقد كان جُلُّ همِّهم تمكين سلطانهم وتدعيم ملكهم على تخوم «آشور» الشمالية والأقاليم الغربية حتى البحر الأبيض المتوسط، هذا بالإضافة إلى الرغبة في إعلان سيادتهم على الممالك المجاورة لحدودهم الجديدة، وبعبارة أخرى كان هدف ملوك «آشور» منذ ذلك العهد هو تأسيس «إمبراطورية آشورية» مترامية الأطراف تسيطر على العالم المتمدين أجمع، وهذه السياسة قد نفذها بإخلاص سلسلة ملوك لم يكن النصر دائمًا حليفهم في كل المواطن، ولكنهم كانوا مع ذلك مثابرين جادين في تنفيذ خطتهم المرسومة بدرجة عظيمة تلفت نظر المطلع على تاريخ آسيا الغربية، ولا نزاع في أن ضمان سلامة «آشور» وملكها كان يتطلب وقتئذٍ إخضاع الأقوام الذين على حدودها الشرقية الشمالية.
كما كان من المهم لفلاح «آشور» وبلوغ مأربها أن تسيطر على الطريق المؤدية إلى إقليمي «الخابور» «وبليخ» شمالًا حتى جبال «طوروس»، وإلى «كابودشيا» غربًا حتى البحر، وقد دلت تجارب قرون مضت على أن مثل هذه السيطرة كان لا يمكن الحصول عليها إلا إذا فتحت هذه البلاد بطريقة منظمة ثم احتُلت وحافظ عليها الآشوريون بقوة عظيمة، من أجل ذلك كان لزامًا أن يصبح الإقليم الذي يمتد حتى غربي «كركميش» جزءًا لا يتجزأ من دولة «آشور»، وقد حتم ذلك أن تكون «آشور» صاحبة السيادة على ممالك حدودها الجديدة، ومن ثم اقتضت هذه السياسة ضم الأقوام الخاضعين لسلطان «آشور» وأصبحوا جزءًا منها.
وكانت الجهود الجرئية التي بذلها «توكولتي نينورتا الثاني» في تثبيت ملكه تنحصر في أمرين: الأول إخضاع أقوام جبال «نا إيري». والآخر تمكين السيادة الآشورية على تخوم بلاده. والواقع أن هذا الملك كان جنديًّا عظيمًا، ولو مد في أجله لقرنت فتوحه وأعماله العظيمة بما قام به «تجلات بليزر الأول»، غير أن المنية عاجلته وهو في بداية حكمه القصير عام ٨٨٤ق.م بعد عودته من حملة مظفرة على حدود بلاده الشمالية.
(١٨) الملك آشور-ناصير-بال الثاني ٨٨٣–٨٥٩ق.م
وخلفه على عرش الملك «آشور ناصير بال الثاني» وقد جدد هذا الملك النشاط الحربي في «آشور» في مدة الأربعة والعشرين سنة التي مكثها على عرش الملك، مما جعل بلاده تنطلق من حدودها بقوة لا تقاوم في جهة «سوريا»، من أجل ذلك لم تنقض إلا مدة قصيرة حتى أعاد إلى بلاده ما كان قد أحرزه «تجلات بليزر» في هذه الجهة من فتوح عظيمة، وبذلك وضع الأساس لإمبراطورية السراجنة، وقد جمع «آشور ناصير بال» بين العبقرية الحربية وغلاظة القلب وفظاظة النفس وكأن قلبه قد قُدَّ من حديد؛ إذ كان يقضي على كل من يقاومه بطرق وحشية يندى لها جبين الإنسانية، ولم يكن قلبه يتذوق الشفقة، فقد كانت آلام الناس الذين هزمهم وعذابهم بكل ألوان العذاب في نظره متعة ينعم بها، وكان الناس في نظره كالنمل تداس بالأقدام بل أقل من ذلك، وهذا الوحش الإنساني كان يفخر ويتمتع بأنواع العذاب الذي كان يصبه على أجسام كل من وقف أمام إرادته، فكانت العادة المتبعة عنده بعد الاستيلاء على مدينة ما أن يذيقها عذاب الحريق، ثم يشوه أجسام الأسرى بتقطيع أيديهم وآذانهم وسمل أعينهم ثم تكديسهم بعد ذلك في كومة عظيمة ليقضوا نحبهم بلهيب الشمس المحرقة وبنهش الطيور الجارحة أشلاءهم أو بالاختناق، أما أطفالهم ذكورًا وإناثًا فكانوا يحرقون أحياء وهم على خوازيق، وناهيك برئيس القوم، فكان يحمل إلى آشور عاصمة ملكه ليُسلخ جلده حيًّا لأجل أن يدخل على نفس الملكة السرور، وهذه الوحشية لم تكن غير معروفة عند «تجلات بليزر الأول» مثلًا، غير أنها قد أصبحت لسوء الحظ منذ عهد «آشور ناصير بال» مقياس سلوك في الحروب في الجيش الآشوري، فقد سار على نهجها الملوك الذين جاءوا من بعده ولكن بدرجات تختلف في الشدة، غير أنه من المعلوم أن «آشور ناصير بال» قد بَزَّ كل أخلافه في إحراق الأطفال أحياء، وعلى أية حال لم نجد أحدًا قد فخر بهذا العمل كما فخر به هذا المخلوق الذي فاقت وحشيته كل وصف حتى في أظلم العصور وأفظعها همجية وقسوة، وعلى الرغم من أن غير هؤلاء الملوك كانوا قساة على الشباب إلا أننا لا نعرف بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا من جاراهم من الحكام في وحشيتهم إلا النزر اليسير، ولا نزاع في أن الفاتحين المصريين الذين سابقوهم في إقامة الإمبراطوريات كانوا يعدون بالنسبة إليهم دائمًا رحماء، ولذلك فإنه لمما ترتعد له النفس وتقشعر منه الأبدان أن يستعرض الإنسان الآلام الجسمية الهائلة التي كانت تنصب على البشر من ملوك «آشور» وجنودهم طوال القرنين ونصف القرن التي جاءت على أعقاب حكم «آشور ناصير بال» ٨٨٣–٨٥٩ق.م، ولا نزاع في أن «بيعنخي» ملك «مصر» وبلاد «كوش» الذي عاصر هؤلاء الملوك الآشوريين كان يعد ملكًا رحيمًا بالنسبة لهم.
ويرجع الفضل إلى «آشور ناصير بال» وخلفه «شلمنصر الثالث» ٨٥٨–٨٢٤ق.م في وضع النظام الحربي الذي قام في دولة «آشور» مما جعلها في مدة قصيرة سيدة غربي «آسيا».
والواقع أننا لا نعلم إلا القليل عن النظام الفعلي الذي كان سائدًا في «آشور» وكل ما نعلمه أنه كان يوجد جيش ثابت صغير من الجنود الملكيين، وكان هذا الجيش يزداد في أوقات الحرب بتجنيد كل الرجال الذين يعتمد عليهم في ساحة القتال من الفلاحين الأشداء وأصحاب الأملاك، وكانت تتألف قوة جيش «المشاة الآشوري» من هؤلاء الفلاحين الأقوياء، وكان أهم سلاح يستعملونه بوجه عام هو «القوس»، وقد نمَّى «ملوك آشور» جيشهم من المشاة بدرجة عظيمة مما جعلهم قوة هائلة يرجع إليهم الفضل في الانتصار على أعدائهم، وبخاصة رماتهم الذين كان في مقدورهم أن يفوقوا سهامهم من مسافات بعيدة على فرسان عربات العدو وخيالتهم فيصيبوهم في مقاتلهم، وقد أخذت قوة الخيالة وقتئذٍ تتضاءل، وأصبحت العربة قليلة الاستعمال في الحروب، يضاف إلى ذلك أن «الآشوريين» قد أدخلوا تحسينات كثيرة في فن الحصار، ومن المحتمل أنهم هم الذين اخترعوا الهندسة الحربية، والواقع أن هذا رأي ضعيف؛ لأن المصريين كانوا قد برعوا في هذا الفن كما جاء في بردية من عهد «رعمسيس الثاني» (راجع «الأدب المصري القديم» الجزء الأول، ص٣٧٦ … إلخ) ولا نزاع في أن النصر كان يأتي طواعية بمثل هذه العدة الحربية المنظمة، أو على الأقل كان حليفها، وإن لم يكن ذلك يتأتى بسهولة كنا سنرى بعد مدة قرنين من الزمان.
وكان القائد الأعلى الذي يلي الملك يدعى «ترتان» ويليه في المرتبة قائد يدعى «راب-شاكه» (رئيس السقاة).
ويلحظ أنه كان من جراء حملة «توكولتي نينورتا» على البلاد الواقعة شمال «آشور» أن انتهت بنصر عظيم له، وقد كان من الضروري أولًا بعد ذلك إعادة النفوذ الآشوري بين قبائل الجبال الخارجة وضمان الهدوء بينهم قبل القيام بفتح البلاد الواقعة غربي «آشور»، وهذا ما قام به «آشور ناصير بال»؛ إذ لم يمضِ أكثر من سبع سنين من حكمه حتى ثبت حكمه تمامًا وأصبح السيد المطلق في وادي «الخابور» وفي أواسط نهري «دجلة» «والفرات»، وقد بدأ فتوحه بإخضاع قبائل جبال «زاجروس» غربي «آشور»، وذلك بأن زحف بنظام على وديانهم وجبالهم في حركة مستديرة منقضًّا عليهم انقضاض المحشة حول جنوب «أرمينيا» حتى بلاد «كومجين» «وسيليسيا»، وكان بعد ذلك على استعداد لعبور الفرات غير أن بيت «خالوبي» وهي ولاية آرامية «يحتمل أن تكون بيت خلف» ثارت على الحاكم الآشوري فطار إليها الملك على جناح السرعة مع جيشه، وقبض على المغتصب وعدوه من العصاة وذبحهم، وعمل من جلودهم فراشًا لأثر أقامه أمام بوابة المدينة، وقطع رءوسهم ووضع أجسامهم على خوازيق، وساق مدعي الملك إلى «نينوة» وسلخه حيًّا وصلبه على جدار المدينة، وفي تلك الفترة قامت «بابل» بثورة بعد أن كانت هادئة منذ أن هزمها الملك «أداد نيراري الثاني»، وذلك لادعائها السيطرة على الأراضي الواقعة في وسط مجرى نهر الفرات، وتلك الأراضي هي التي كانت تسير فيها طرق القوافل بالتجارة إلى «سوريا»، ولم تقبل قط طواعية أن تعترف برقابة «آشور» أو غيرها عليها، ومن ثم ساعد ملك بابل المسمى «ناتو-بال-إدين» ملك أرض «سوخي» لمقاومة «آشور ناصير بال»، وكانت النتيجة أن فقدت حكومات بلاد «نهرين» استقلالها.
وهذه البلاد كانت قد أخذت في الظهور منذ عهد الملك «تجلات-بليزر»، فمن ذلك أن مملكة الآراميين في «بيت أديني» الواقعة على الشاطئ الأيسر لنهر الفرات قد هزمت وخربت نهائيًّا.
ولم يكن أمام «آشور ناصير بال» إلا أن يزحف بجيوشه إلى البلاد القريبة من حدوده لإخضاعها والسيطرة عليها، فقام عام ٨٧٦ق.م بحملة عظيمة متجهًا شطر البحر الأبيض المتوسط، وزحف بجيشه في بلاد لم يكن قد فتحها الآشوريون من قبل، فلم يجد أية مقاومة، والواقع أن ذلك كان يبدو في ظاهره غريبًا، وذلك أنه على الرغم مما كان يوجد من تنافس وبغضاء بين أمراء سوريا الذين كانوا من سلالة واحدة، وهي السلالة السامية فإنه يكاد يكون من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي جعل في مقدور «آشور ناصير بال» أن يقوم بأعماله العظيمة التي كانت في الواقع تقليدًا لما قام بها سلفه العظيم «تجلات بليزر»، اللهم إلا إذا كان في بلاد سوريا حزب يعمل لحساب «آشور»، وقد دلت فيما بعد الحوادث على أن السياسة الآشورية كانت ترضى عن وجود حزب سوري يكون صاحب الغلبة في البلاد ويعمل لحسابها، ومن ذلك نعلم أنه في «بيت زماني» الواقع في الشمال قد فقد «أمي بعلي» حياته في الدفاع عن مصالح «آشور»، وعلى ذلك فإنه ليس من باب الخيال أن نقرن علاقات «آشور ناصير بال» «بسوريا» كما نقرن العلاقات التي كانت بين فليب المقدوني وبلاد الإغريق؛ أي إنه كان لكل منهما حزب في البلاد التي كان يغزوها.
وسار «آشور ناصير بال» بجيشه من كالح عاصمة ملكه في شهر أيلول متجهًا نحو «كركميش» عاصمة بلاد «خيتا» الجنوبية، وهذه المدينة كانت على ما يظهر قد بدأت تظهر عند تمزق دولة «شوبيليوليوما».
وتدل شواهد الأحوال على أنها كانت قد بلغت مقدارًا عظيمًا من القوة خلال مدة تدهور بلاد «خيتا»، وقد أخضعها «آشور ناصير بال» واستولى عليها، كما أخضع مملكة «سنجار» عام ٨٧٦ق.م، واضطر ملكها إلى دفع الجزية لملك «آشور» وتجنيد جيش لمساعدته في حروبه، وكانت الطريق الموصلة إلى بلاد «لبنان» تخترق أملاك «ديبارنا» ملك «خيتا»، فلم يسَع الأخير إلا الخضوع وتقديم الجزية لملك «آشور»، وبعد أن زاد الأخير في جيشه مرة أخرى عبر نهر «الأرنت» ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط وإلى المواني الفينيقية العظيمة، وقد أرسلت إليه الهدايا كل من بلاد «صور» «وصيدا» «وجبيل» «وطرابلس» «وأرباد».
وفي هذا يقول «آشور ناصير بال»: «لقد سرت في لبنان وذهبت إلى النهر العظيم لأرض عامور، وغسلت في البحر العظيم أسلحتي وضحيت أمام آلهتي.» غير أننا نعرف أن «دمشق» والبلاد الجنوبية لم تمس، وقد قلد هذا العاهل الآشوري عند جبال أماتوس أجداده في إقامة تذكار هناك، ثم قطع من هذه الجهة الأشجار التي كانت لازمة لسقف مبانيه.
والظاهر أن «آشور ناصير بال» قد أخلد للراحة بعد هذه الحملة؛ إذ لم تُذكر لنا في نقوشه حملات حربية إلا بعد مضي عشر سنوات، فقد قام بحملة على جزء في أقصى الشمال، فبدأ من «كوماجين» متجهًا إلى «أداني»، فوصل في زحفه إلى نقطة في شمالي «آشور»، وقد كان من نتائج هذه الحملة أن خضع كل الأشراف الذين يسكنون الفرات الأعلى وصاروا يدينون لسلطانه.
(١٨-١) نقل العاصمة من نينوة إلى «كالح»
منذ تولي «آشور ناصير بال» عرش الملك قرر نقل عاصمة ملكه من «نينوة» إلى «كالح»، وكان من جراء ذلك إعادة بناء تلك المدينة المخربة، وهي التي كانت عاصمة ملك العاهل «شلمنصر الأول» سابقًا، والظاهر أنه اتخذ مقره هناك منذ عام ٨٨٠ق.م تقريبًا، وعلى ذلك فإن معظم الإصلاحات التي عملت فيها كانت في السنين الخمس الأولى من حكمه، وأهم تجديد عمله «آشور ناصير بال» في هذه المدينة هو حفر قناة جزء منها تحت الأرض، وكانت تأخذ مياهها من نهر الزاب الأعلى، وكذلك أقام لها سورًا وبنى لنفسه قصرًا من اللبنات وكساه حجرًا، وقد عثر الباحثون الأحداث في قصره هذا على سلسلة من المناظر التي تمثل الأحفال الدينية والمواقع الحربية ومناظر الصيد والقنص.
ومن المدهش حقًّا عندما نريد أن نبدي رأيًا عن أخلاق هذا الرجل وما أتاه من أعمال عظيمة لبلاده أن نجد المتناقضات العجيبة؛ ففي أول حكمه ارتكب من أعمال الوحشية ما يجمد القلم عند وصفها، وفي نهاية حياته أتى من الأعمال الجليلة ما كاد ينسينا غلظته وفظاظته، ففي خمس السنين الأخيرة من حكمه لم يقم إلا بحملة واحدة قادها بنفسه، ومع ذلك كان الجيش الآشوري على أحسن ما يكون من حسن النظام والقوة عندما تولى ابنه من بعده عرش الملك، ومن ثم نفهم أن مثل هذا النظام المتين الثابت لا يقوم إلا إذا كانت تشد أزره إدارة قوية في مختلف أنحاء الإمبراطورية، وتكون مستعدة لكبح جماح أية ثورة أو عصيان، يضاف إلى ذلك أنه كان لا بد من وجود يد قادرة على معالجة إدارة الجيش وتسيير أموره بحزم في أوقات السلم.
هذا؛ وقد قيل أحيانًا إن بلاد آشور كانت دولة سلب ونهب، وإنها كانت تستولي على الجزية دون أن تسعى لحكم البلاد التي كانت تبتز منها هذه الأموال، والواقع أن إقامة المدن الملكية في جهات مختلفة من إمبراطورية «آشور» مضافًا إلى ذلك المدة الطويلة التي قضتها البلاد دون حرب نسبيًّا يعطينا نتيجة عكسية. ومما يؤسف له أنه ليس لدينا مادة رسمية تقدم لنا معلومات عن حالة إدارة هذا العاهل، غير أنه مما لا شك فيه أنه كان كالبرق الخاطف في سرعة إطفاء أية ثورة أو إخماد أي عصيان في الأقاليم الخاضعة له، ولا أدل على ذلك مما حدث في «بيت زاماني»، ومما يجدر ذكره هنا من الحقائق الهامة أن الآراميين الذين صب عليهم جام غضبه ووحشيته كانوا هم الذين وقع عليهم اختياره لسوقهم إلى «كالح» عاصمته، وهذا يدل على سداد في الرأي؛ لأن الآراميين كانوا مشهورين بالصناعة والحرف والتجارة مما جعلهم رعايا منتجين، فكان يهدف بنقلهم إلى عاصمة ملكه أن يُهضموا في الأمة الآشورية، ومن جهة أخرى يصبحون من أهل البلاد نفسها فلا يقومون بثورات عليه.
ومما يلفت النظر أن هذا العاهل لم يشرع في عمل من الأعمال العظيمة إلا إذا كان متأكدًا من نجاحه.
فمن ذلك أنه لما سار بجيشه المظفر إلى البحر الأبيض المتوسط لم يدخل إلا البلاد التي لا تبدي مقاومة، وكانت «دمشق» بلدة قوية معادية له خارجة على سلطانه فتحاشى دخولها، ومن ثم نرى أن «آشور ناصير بال» كان حازمًا في مشروعاته، بصيرًا بتوسيع ممتلكاته، عاملًا على أن تكون قوة متماسكة، كما أظهر صلابة في تأييد سلطانه بعد تثبيت أركان ملكه.
ولا شك في أنه كان راعيًا قديرًا لقومه على الرغم مما اتصف به من شراسة وقسوة وغلظة، ومن المحتمل أنه كان يتبع المثل القائل: كن قاسيًا في البداية لتكون لين الجانب في النهاية.
(١٩) الملك شلمنصر الثالث ٨٥٩–٨٢٤ق.م١٨
تولى الملك «شلمنصر الثالث» بعد والده «آشور ناصير بال»، وقد صار على نهج والده في فتوحه ومد حدود بلاده شمالًا وغربًا، وبخاصة في البلاد التي كانت متاخمة لملكه مباشرة وتقع على خطوط التجارة، وقد اعترضه في تنفيذ تلك السياسة عقبات؛ من ذلك أن «بيت أداني» كانت تقع على طريق تجارة «آشور»، وكان ملكها «أخيوني» لا يزال ملكًا عليها على الرغم من أنه كان تابعًا لملك «آشور»، وكان الاستيلاء على هذه البلدة أمرًا ضروريًّا لأجل أن يكون كل وادي الفرات من أول هذه البلدة حتى «بابل» تحت السلطة المركزية الآشورية، يضاف إلى ذلك احتمال تدخل أمير طموح مثل «أداد إدري» ملك «دمشق» في المشروعات الآشورية في أرض الغرب الغنية، وكان لا بد من بسط نفوذ «شلمنصر» وإخضاعه إذا أمكن لسلطانه، وتدل الأحوال على أن ملوك «آشور» قد أخذوا عن مصر عادة إعلان الحرب على عدد من أعدائهم أثر اعتلاء العرش مباشرة؛ إظهارًا لقوتهم وعظمتهم حتى يبعث الرعب والهلع في نفوس الأقوام الآخرين المعادين، وليظهروا أنهم ليسوا أقل شأنًا ممن سبقوهم في الإقدام وشدة البأس.
ففي السنة الأولى من حكمه سار هذا العاهل بجيشه إلى «بيت أداني»، وكان ملكها «أخيوني» وكذلك ملك دمشق «أداد-إدري» يخافان على تجارتهما مع الشمال بعد أن رأيا قوة «آشور» هناك، فألف حلفًا مكونًا من اثني عشر أميرًا صغيرًا يمتد نفوذهم من أول بلاد «قوى» (سيليسيا) في الشمال حتى بلاد إسرائيل «وعمون» في الجنوب لمحاربة «آشور»، وقد قابل «شلمنصر» هذا الحلف عام ٨٥٣ق.م بعد أن ضرب مدينة «قرقار» في معركة خارجها، وكان عدد رجال العدو حوالي ٦٣٠٠٠ من المشاة وألفين من الخيالة الخفيفة وأربعة آلاف عربة وألف جمل، فخسر الحلف حوالي ١٤٠٠ مقاتل، ولكن كانت خسائر الآشوريين عظيمة أيضًا؛ لأنهم لم يتابعوا العدو بل تنحوا عن القتال بعد المعركة، وعلى ذلك بقيت «دمشق» خارجة عن قبضة الآشوريين.
أخذ الآشوريون بعد ذلك يولون وجوههم نحو «بابل» التي كانت قد بدأت تناصب ملكهم العداء، وبعد أن قضى على هذه الثورة عاد لمحاربة «حماة» «ودمشق»، وقد استولى في طريقه إلى هذين البلدين على «كركميش»، وقد دامت المناوشات بين الطرفين حتى عام ٨٤٥ق.م عندما صمم «شلمنصر» على كسر شوكة جيشي «حماة» «ودمشق» فسار إليهما بجيش قوامه ١٢٠٠٠ مقاتل، غير أنه لم يفلح في إخضاع «دمشق» وبقيت خارجة عليه.
ويرجع الفضل إلى مقدرة رجال إدارة «شلمنصر» في أنه كان في استطاعته أن يؤجل مؤقتًا موضوع إرهاب أقوام الشمال والشرق الذين على حدود بلاده، ولكنه بعد مضي ثلاث سنوات حتمت عليه الأحوال أن يسير بجيشه حتى منابع «دجلة» «والفرات» في عام ٨٤٤ق.م فاستولى على «نمري» الواقعة على حدوده الشرقية وطرد منها ملكها «مردوك خوداميك» عام ٨٤٣ق.م، ويُحتمل أنه مخاطر بابلي، وقد نصب مكانه حاكمًا من أهل البلاد.
وفي خلال تلك الأحداث كان الحلف الذي ألفه ملك «حماة» «ودمشق» لمقاومة هذا العاهل قد تمزق شمله؛ وذلك لأن «حماة» كانت قد تلقت كل صدمات الحملات السابقة حتى أصبحت ضعيفة، أما ملك «دمشق» «أداد-إدري» فكان قد مات، وكذلك ملك إسرائيل «أخاب» كان قد قضى نحبه، وكان يحكم «دمشق» في ذلك الوقت ملك يدعى «حازائيل» بدلًا من سيده الذي قتل، وقد اضطر لمواجهة «شلمنصر» منفردًا في جبل «ساتيرو» (هرمون) في عام ٨٤١ق.م، فهزم في موقعة عظيمة خسر فيها ١٦٠٠٠ مقاتل، ولكنه وقف للعدو في «دمشق» بقلب شجاع، غير أنه في النهاية وهنت قوته لدرجة أن «يهو» ملك «إسرائيل» وملكا «صور» «وصيدا» ذهبوا إلى «شلمنصر» لدفع الجزية خوفًا منه، وقد ترك لنا منظر دفع هذه الجزية في نقش على صخور «نهر» الكلب «ومن الجائز أن «مصر» التي كانت دائمًا مهتمة بشئون «سوريا» قد قدمت جملين من الجمال ذوات السنامين وفرس بحر وحيوانات أخرى ليست معروفة في «آشور» لهذا الفاتح، على أن ذلك ليس محققًا؛ إذ من المحتمل أن كلمة مصر تعني إقليمًا من بلاد العرب».
وعلى الرغم من أن «شلمنصر» لم يحطم قوة «دمشق» «وذلك أهم غرض له في هذه الحملة» فإنه وصل إلى نشر سيادة «آشور» حتى البحر الأبيض المتوسط كما تدل على ذلك حملاته التي تلت تلك الحملة، ففي عام ٨٣٩ق.م سار بجيشه في إقليم «قوى» (سيليسيا) وكان غرضه من ذلك تأمين طريق القوافل، وفي عام ٨٣٧ق.م استولى على أربع مدن من «خازائيل» ملك «دمشق» كما تسلم جزية من «صور» «وصيدا» «وجبيل».
وكذلك خضع له ملك «توبال» في العالم التالي وزار «شلمنصر» مناجم «كابودشيا» ثم استمر في محاربة الجهات الأخرى حتى عام ٨٣٢ق.م عندما هاجم «قوى» (سيليسيا) كرة أخرى فهزمها وأصبحت تابعة له، ثم فتحت «طرسوس» أبوابها لهذا العاهل، وبذلك سقطت أول حليفة حاربت في جانب «أداد إدرى» ملك «دمشق» «وأرخوني» ملك «حماة»، وهذا الفتح الأخير الذي قام به «شلمنصر» في الغرب كان النتيجة المنطقية للمجهودات الحربية التي قام بها «الآشوريون» مدة ستين سنة؛ إذ قد أصبحت كل طرق القوافل من «كابودشيا» حتى مدينة «آشور» في أيديهم، واعترفت بلاد ساحل البحر الأبيض المتوسط من «جبيل» حتى «طرسوس» بسيادتهم، هذا؛ ولم تكن إدارة «شلمنصر» لممتلكاته الجديدة أقل حزمًا وثباتًا عن إدارة «آشور ناصير بال» في أقاليمه المحددة، وقد ختمت حياة هذا العاهل بقيام ثورة وحروب داخلية في أواسط «آشور»، وذلك أن «آشور-دائن بال» أحد أبناء «شلمنصر» كان قد جمع حوله حصنًا ليساعده على تولي العرش، وقام بثورة في عام ٨٢٧ق.م، والظاهر أن الملك «شلمنصر» مات وقتئذٍ، فأفلح هذا المدعي في جمع معظم المدن الهامة حوله، ونخص بالذكر منها «نينوة» «وآشور» «وأربلا»، كما استمال إلى جانبه كثيرًا من المديريات الآشورية، وأخذ في محاربة «شماشي أداد» الذي اختاره «شلمنصر» خلفًا له، غير أن تلك السحابة التي سودت آخر أيام «شلمنصر» لم تؤثر على ما كسبه من فخار في أعين أخلافه، ولا بد أن ما أتاه من جليل الأعمال يعد الأساس لبناء قوة إمبراطورية «آشور»، ففي الجنوب ثبت النظام في «بابل»، وفي الغرب أخضع كل شمال سوريا لسلطانه، وفي الشرق خلع ملوكًا ونصب غيرهم بما يكفل قيام السيادة الآشورية، وفي الشمال رأى أنه لا يمكن تأمين الطرق والقبض على ناصيتها إلا بعد مهاجمة بلاد «أوراوتو» (= أرارات؛ أي بلاد أرمينيا) وهزيمتها، وعلى الرغم من أن حملاته في مراكز «أورارتو» الجنوبية لم تصل إلى هدفها فإن المشاغبات التي كانت تحدث بين سكان القبائل الجبلية قد قلت حدتها عما كانت عليه أيام أسلافه.
ولم يعرف من مباني «شلمنصر» إلا ما تركه لنا في مدينة «آشور» نفسها، وبقايا هذه المباني هامة؛ لأنها تكشف لنا عن طريقة جديدة في إقامة الحصون، وهي التي اتبعت دائمًا فيما بعد، فقد أقيم على خط خندق المدينة جدار كثيف وضعت فيها أبراج يبعد الواحد منها عن الآخر مائة قدم.
وعند بوابة صناع المعدن التي كانت مزينة بلبنات منمقة بُني الجدار بصورة جعلت البوابة كأنها تؤلف نقطة دفاع قوية، وعلى مسافة ٦٥ قدمًا من البوابة أقيم جدار داخلي سمكه ثلاث وعشرون قدمًا، وبه أبراج ربما كانت تشرف على الجدار الخارجي.
وقد ترك لنا «شلمنصر» قطعتين من أحسن ما أخرجه الفن الآشوري وهما المسلة السوداء والشرائط المصنوعة من البرنز التي وجدت في «بالاوات»، وهذه الشرائط كانت تؤلف أربع بوابات وعليها زركشة مضغوطة تمثل مناظر من أهم حملات «شلمنصر»، كما مثلت عليها الجمال والماشية التي جاءت لملك «آشور» بجزية من «جيلزان»، والصور التي مثلت على المسلة السوداء تشبه في شكلها المناظر التي على شرائط البرنز.
(٢٠) شماشي أداد
تولى الحكم «شماشي أداد الخامس» ٨٢٣–٨١٠ق.م بعد والده «شلمنصر»، ولكنه كان مثله قبل موته مشغولًا بالحروب بالتي قام بها على السبع والعشرين مدينة التي قامت لمساعدة أخيه العاصي «آشور دائن بال»، وقد بقيت الحرب بينهما حتى عام ٨٢٢ق.م إلى أن انتصر «شماشي أداد» عليه عام ٨٢١ق.م بمساعدة «ماردوك-نادين-شوم» ملك «بابل» الذي اعترف بسيادة «شماشي أداد» في معاهدة رسمية بقي لنا جزء منها.
وبعد هذه الحروب الداخلية كان عليه أن يخضع الثورات التي قامت في أنحاء البلاد، ولذلك حارب بلاد «نيري» حيث شن عليها ثلاث حملات، وكذلك حارب «بابل» وهزم «مردوك-بلاتسو-إقبي» وفيما بعد هزم «بابا-أخخي-أدمينا» خلف «مردك-بلاتسو-إقبي» ملك «بابل».
ومن ثم نجد أن امتداد حدود «آشور» قد استمر مدة ثلاث عشرة السنة التي حكمها «شماشي أداد» من جهة الشرق والجنوب الشرقي.
ومن الواضح أن الملك «أداد نيراري الثالث» قد تولى الحكم بعد والده عام ٨١١ق.م، ولم يتأثر سلطانه بالحروب الداخلية التي حدثت في السنين الأخيرة من حكم «شلمنصر».
(٢١) الملكة سميراميس
(٢٢) أداد نيراري الثالث ٨١١–٧٨٢ق.م
عندما استتب أمر الملك للعاهل «أداد نيراري» أخذ في معاقبة قبائل «الكرد» الذين كانوا خاضعين لآشور منذ عهد الملك «آشور ناصير بال»، وبعد ذلك وجه همه نحو بلاد «سوريا»، فخضعت له «حماة»، وأخذت مدن ساحل «فينيقيا» تدفع الجزية ثانية، ثم أتى دور «دمشق» فحاصر ملكها المسمى «بنهدد الثالث»، وهو الذي يسميه الآشوريون «ماري بن حازئيل» في عاصمة بلاده واضطره لدفع جزية ٨٠٣-٨٠٢ق.م، وقد رحب «بوأحاز» ملك إسرائيل الذي كان قد خضع مدة طويلة هو وقومه للآشوريين، وأرسلوا لملكهم الجزية، وذلك عندما رأوا أن ملك «دمشق» قد خضع لسلطان الآشوريين، ومن المحتمل أن «أداد نيراري» قد زحف بجيوشه نحو الجنوب في فلسطين؛ وذلك لأن السجلات التي بقيت لنا من عهده تقول: إن دفع الجزية لم يقتصر على بيت «خمري» (بيت عمري أو إسرائيل)، بل كذلك خضعت «أودوم» «وفلسطين» ودفعت الجزية، ولم يذكر في متون هذا الملك قوم «يهودا»، ومن المحتمل أنهم كانوا وقتئذٍ تابعين لقوم إسرائيل، وقد حافظت «أودوم» على استقلالها بعد هزيمة «أمصيا»، ولذلك فإن إخضاعها جاء ذكره على انفراد.
والواقع أن هذا الخضوع من جانب أقوام «فلسطين» يعد استرجاعًا لاستقلال دويلات «فلسطين» أو بعبارة أدق لبني إسرائيل الذين كانوا يعدون بلاد «يهودا» حليفة تابعة لهم، وتحدثنا التوراة (راجع «سفر الملوك الثانى» الإصحاح ١٤) أن «يوآش» ملك «يهودا» الذي بقي على قيد الحياة من مذبحة بيت «داود» على يد «أتاليا» وهو الذي أقامه الكاهن الأكبر «يهوديا داع» ملكًا، كان عليه أن يخضع «لحازائيل» هو ومولاه «يهوى»؛ والواقع أن أورشليم قد نجت من الاحتلال السوري بدفع رشوة ضخمة، وقد أحرز «أمصيا» بن بواش نصرًا على «أودوم» وهو الذي تولى الملك بعد قتل والده، وقد داخله الزهو بسبب ذلك، حتى إنه طلب محاربة «يهوآش» ملك «إسرائيل» ابن «بوأحاز» وخلفه، وقد كان جواب «يهوآش» على طلب الحرب هذا كما هو مدون في كتاب (الملوك الثاني الإصحاح الرابع عشر سطر ١٣ … إلخ) محققًا لما أسفرت عنه الحرب بينهما، فقد هزم «إمصيا» شر هزيمة، واستولى على «أورشليم» وهُدمت جدرانها، وحُمل كل ما فيها من الأواني الذهبية إلى السامرة حوالي ٧٩٣ق.م.
وعلى الرغم من أن «دمشق» اضمحلت مقاومتها من كثرة الحروب حتى سلمت في النهاية فإنها كانت لا تزال مصدر ثورات، ولم يكن في مقدور الآشوريين إخضاعها إلا بالحملات التأديبية المتصلة.
والواقع أن الآشوريين لم يحاولوا قط أن يجعلوا من إمبراطوريتهم وحدة متماسكة الأطراف كما كان المصريون يحاولون ذلك دائمًا؛ وذلك لأنهم على ما يظهر كانوا يقومون بالغزوات لأجل الجزية ولنشر السلام حتى لا تتأثر تجارة «بابل» طالما بقيت «بابل» خاضعة لهم.
(٢٣) الملك شلمنصر الرابع ٨٧٢–٧٧٢ق.م
وكانت عاصمة هذه البلاد في الأصل تدعى «أرزا شكون» وكانت تقع في وادي «أراكسيز»، وأول ملوكها الذين ذكروا في النقوش هما «لوتبريس» «وساردوريس»، والأخير كان معاصرًا للملك «آشور ناصير بال»، ولم نجد في أخبار الحروب الجارفة التي اجتاح بها الأقاليم الشمالية من أولها إلى آخرها ذكر بلدة «ساردوريس»، ولكن يغلب على الظن أن بلاد «أورارتو» قد نالها شيء من سيف «آشور ناصير بال» الجبار.
وأول ملك آشوري يحدثنا عن منازلته لبلاد «أورارتو» الذي كان يحكمها وقتئذٍ آرامي هو الملك «شلمنصر الثالث»، والواقع أن هذا الملك قد خرب بلاد الملك آرامي في السنين ٨٥٩ و٨٥٦ و٨٤٤ق.م في خلال غزوات قام بها على «أوراتو»، وأخيرًا خرب عاصمته «آرزاشكوت»، ولما خلفه الملك «ساردوريس» هاجمه القائد الآشوري المسمى «آشور دايان» في عامي ٨٣١ و٨٢٨ق.م، هذا؛ وبعد مضي بضع سنين قام أحد قواد الملك «شماشي أداد» بحملة على الملك «إشبونيس» خليفة الملك «ساردوريس الثاني»، على أن هذه الهجمات المتوالية كانت على ما يظهر مقوية لا مضعفة لتلك البلاد الجبلية الصلبة، في حين أن الآشوريين لم يجنوا من ورائها أية فائدة حقيقية، وقد تحالف في خلال تلك الحروب ظاهرًا مع «الأورارتو» قوم يُدعون «ماني»، وهم سلالة ميديان والميديون الأُول الذين يسمون «ماداي»، وقد ظهروا للمرة الأولى في التاريخ في البلاد الواقعة شرقي بحيرة «أورميا»، وقد شن عليهم الملك «أداد نيراري» عدة حملات، والمفروض أنه قد وصل في خلال إحدى هذه الحملات حتى البحر الكسي «بحر قزوين» وفي خلال هذه الفترة كان الملك «متواس» بن «ساردوريس الثاني» قد مد أملاك «أورارتو» حتى بحيرة أورميا الغربية، وقد فتح ابنه «أرجستيس الأول» كل بلاد «كردستان» «وأرمينيا» حتى غربي «ملتين» (ملاتيا) وكانت فتوح «آشور ناصير بال» قد فقدت على الرغم من المجهودات المتعددة التي قام بها «شلمنصر الثالث» لاسترجاعها، ولا نزاع في أن متاخمة إقليم «أورارتو» لمراكز «آشور» القوية قد أصبح خطرًا مباشرًا على تلك الإمبراطورية؛ إذ لم يمضِ طويل زمن حتى أصبح الحد الفعلي بين البلدين (أي «أورارتو» وآشور) هو سلسلة الجبال المعروفة الآن باسم «يودي زاع»؛ أي على مسافة أقل من مائة ميل من «نينوة» نفسها، غير أن ملوك «أورارتو» لم يجسروا على محاربة الآشوريين في موقعة فاصلة في سهل نهر الفرات، وعلى أية حال كانت آخر حملة قام بها «شلمنصر» على بلاد «أورتو» في عام ٧٧٤ق.م، وقد باءت بالفشل كسابقاتها، والواقع أن آشور كانت قد فقدت عدة نقط هامة في الأقاليم التي كانت ضرورية لسلامتها وقتئذٍ من الوجهة الحربية.
وقد أعقب الهزائم التي حاقت بآشور شمالًا قيام ثورات في الغرب، ففي عامي ٧٧٣ و٧٧٢ق.م أرسلت آشور حملتين تأديبيتين إلى «ختريكا» في شمال سوريا «وهي بلدة هادراح المذكورة في التوراة» إلى دمشق.
(٢٤) الملك آشور دان الثالث ٧٧١–٧٥٤ق.م
كان حكم هذا الملك الذي امتد أمده سلسلة نكبات على البلاد، فقد هاجم «خنريكا» في عام ٧٦٥ق.م ثم في عام ٧٥٥ق.م، كما هاجم «إرباد» عام ٧٥٤ق.م، وتدل الأحوال على أن هذه الولايات كانت من أنصار مملكة «أورارتو»، وتدل النقوش على أنه في عهد ملك «أورارتو» المسمى «ساردوريس الثاني» الذي خلفه «أرجستيس» قد أصبحت «قوى» (سيليسيا) «وجرجوم» «وشمعات» «وأتقي» «وكركميش» تحت سلطان «أورارتو»، فكانت بذلك مسيطرة على تجارة المعادن، ومن ثم نجد أن «آشور» أصبحت مرة أخرى مهددة بالخراب، وهذه كانت بلا نزاع النتيجة المحتومة لسد المواصلات مع الغرب ومع «كابادوشيا»، ولا يبعد أن البؤس الذي حل بالسكان أصحاب الصناعات نتيجة لذلك قد أدى إلى الثورات التي قامت في مدينة «آشور» ٧٦٣-٧٦٢ق.م وأرباخا ٧٦١-٧٦٠ق.م وغوزان ٧٥٩ق.م.
هذا؛ ولم يكن في مقدور الملك «آشور دان» إخضاعها وكبح جماح الثورات فيها حتى عام ٧٥٨ق.م، ولقد ساءت الحال حتى إنه لم يتمكن من حفظ النظام حتى على حدوده الجنوبية بعد السنين الأولى من حكمه، وقد ترك «آشور دان» بلاد «آشور» فقيرة يسودها سوء النظام، وقد انكمشت حدودها إلى ما كانت عليه في عهد الملك «آشورابي».
(٢٥) الملك آشور نيراري الخامس ٧٥٣–٧٤٦ق.م
هذا الملك هو آخر سلسلة طويلة من الملوك الآشوريين كان غاية في الضعف وانحلال العزيمة، فقد قام بحملتين في بلاد «نامري» لم يكن لهما أي شيء يذكر، وأخيرًا في عام ٧٤٦ق.م ثارت عليه عاصمة الملك نفسها «كالح»، وكان من جراء ذلك أنه مات هو وكل أعضاء أسرته.
ولا نزاع في أن سبب ضعف «آشور» خلال الأعوام من ٧٨٢–٧٤٦ق.م يرجع إلى وهن عزيمة الممثلين للبيت المالك لا إلى تصدع في القوة الحربية، فقد حاقت بالبلاد ثلاث هزائم عظيمة متتالية انتصر فيها ثلاثة ملوك من حكام «أورارتو»، وهم: «منواس» «وأرجستيس الأول» ثم «ساردوريس الثاني».
وقد فطن ملوك «آشور» إلى أنه من الصعب أن يسيطروا على القبائل الجبلية القاطنة حول بحيرة «أورميا»، وكانت بلاد «آسيا الصغرى» تحتاج إلى قيام سلسلة حملات من جهتهم، والواقع أنه لو كان في «آشور» ملوك أقدر من الذين كانوا يحكمونها وقتئذٍ لعرفوا كيف يستفيدون من هذا الموقف، يضاف إلى ذلك أن ضياع سلطان «آشور» في «سوريا» يعد أكبر مصيبة حاقت بملكهم، وكان هذا أكبر دليل على ضعف كل من الملكين «أداد نيراري» «وآشور نيراري»؛ إذ لم يكن في مقدورهما مواجهة الموقف على الرغم من أن «أورارتو» لم يكن في استطاعتها حماية بلاد الغرب أمام هجمة منظمة تقوم بها «آشور» لو استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
ومع ذلك فإن فتوح «آشور ناصير بال» وأخلافه لم تذهب كلها عبثًا على أية حال؛ لأن المستعمرات الآشورية التي غرستها هذه الفتوح، والنظام الذي أدخله حكام «آشور» قد بقي في البلاد التي ضمتها «آشور» فعلًا إلى ممتلكاتها، وعلى ذلك فإنه لو كان في آشور وقتئذٍ حاكم قدير لوقف في وجه جيوش «أورارتو» وصدها وجعلها تنكص على أعقابها مولية الأدبار.
وفي الوقت نفسه نجد أن الحكام الآشوريين كانوا على ما يظهر يقومون بنشاط عظيم لتأمين رفاهية البلاد التي كانت تحت إشرافهم، وأخذوا يستقلون في أقاليمهم التي كانوا يحكمونها عندما رأوا ما كان عليه مليكهم من استكانة وضعف وخور في العزيمة واستسلام مشين، فمثلًا نجد أن حاكم بلدة «ماري» وبلاد «سوخي» المسمى «شاماشي-وش-أوصور» قد أخضع قبيلة «تومانو» التي هاجمت عاصمته «ريبانيش»، وأقام هناك أثرًا سجل عليه أعماله العظيمة، ومما يلفت النظر أن هذا الحاكم كان يؤرخ سجلاته بسني حكمه هو كأنه كان ملكًا مستقلًّا، وهذا يذكرنا بما كان يحدث في عهد الدولة الوسطى في عهد الإقطاع في مصر عندما كان الأمراء في «بني حسن» وغيرها يؤرخون أعمالهم بسني حكمهم (راجع مصر القديمة الجزء الثالث).
وقد كان هذا الحاكم الآشوري يتحدث بزهو عن إدخاله تربية النحل في مقاطعته فيقول: «إن النحل يجمع الشهد والشمع، وإني أفهم تحضير الشهد والشمع كما يفهمه البستانيون.»
(٢٦) عصر سيادة آشور
(٢٦-١) أعمال «تجلات بليزر الثالث» ٧٤٥–٧٢٧ق.م
كانت قوة آشور الحقيقية في كل عصور تاريخها تتمثل في أخلاق سكانها، وهؤلاء قد ظلوا لا يُمسون بسوء في عددهم أو في قوتهم، ولذلك كان في مقدور دولة «آشور» أن تنهض بسرعة من الضربة التي صوبتها لها بلاد «أورارتو» التي كانت بدورها متأرجحة في مركزها، والواقع أن «تجلات بليزر» الذي قبض على مقاليد الأمور في عام ٧٤٥ق.م كان في استطاعته أن يعيد إلى «آشور» مجدها الغابر، بل كان في استطاعته أن يفعل أكثر من ذلك؛ إذ استرد لها ما كانت تسيطر عليه من ممتلكات في عهد كل من «شلمنصر الثالث» «وأداد نيراري الثالث».
ومما يلفت النظر هنا أن «تجلات بليزر الثالث» لم يلمح أبدًا إلى أحوال توليه عرش الملك، ولذلك يغلب على الظن أنه لم يكن وارثًا شرعيًّا للملك، بل أخذه بحد السيف، وبخاصة عندما نعلم أن البيت المالك قد هلك عن آخره في ثورة «كالح» التي مات فيها «آشور نيرارى الخامس» وكل أعضاء أسرته.
وقد دلت نتائج أعماله على ما كان منتظرًا، فقد لوحظ أن الدم الملكي الجديد الذي كان يحمله في عروقه هذا العاهل قد سرى في عروق كل الإمبراطورية، وأعاد لها شبابها في لمحة عين، وانتعش روحها الحربي كأنما تلا عليها عزيمة سحرية، ففي حين أنه وقف زحف ملوك «أورارتو» نرى من جهة أخرى أن الثوار في سوريا قد جبنوا وعادت إسرائيل إلى موقفها المعتاد الذي ينطوي على الذلة والمسكنة والتضرع والتوسل كما نجد أن آمال حزب بابل الذي كان يريد الانفصال عن «آشور» قد تحطمت وقُضي عليها.
وقد كان أول عمل قام به «تجلات بليزر» أنه أخذ يشعر أهل «بابل» بأنهم خاضعون «لآشور»، ولم يسعَ في خلع ملكهم «نابو-ناصير» أو العمل على إذلاله، بل اكتفى بالقيام بمظاهرة حربية في الجزء الشمالي من تلك البلاد الثائرة، وفي الوقت نفسه عاقب القبائل الآرامية المغيرة التي كانت قد احتلت المجرى الأوسط لنهر الفرات، وكانت بطبيعة الحال تتدخل في سبل التجارة، وفي الوقت نفسه أظهر للبابليين ما كان له من قوة حربية، وما كانوا يجنونه من فوائد تجارية بمهادنته ومصادقته.
والواقع أن عمله الحقيقي لحفظ كيان دولته كان متوقفًا على نفوذه في الأقاليم الغربية من بلاده، وبعبارة أخرى استرجاع الإمبراطورية السورية التي كان قد أقامها «آشور ناصير بال» هناك، ولكن قبل أن يقوم بهذا العمل وجه ضربة مفاجئة للأقطار الواقعة في الشمال الشرقي من بلاده، فاخترق جبال «يود داغ» وردَّ أهل القبائل الذين اقتربوا جدًّا من وسط مملكته، وبهذه الكيفية تلافى كل خطر في مؤخرته من جهة «بابل» أو من جهة «مديا»، ثم أخذ بعد ذلك «تجلات بليزر» يزحف في عام ٧٤٣ق.م بجيشه إلى نهر الفرات قاصدًا غزو بلاد سوريا، وقد أخذ الفزع يستولي على الزعماء السوريين عندما علموا بزحفه عليهم، ولذلك ألفوا حلفًا بقيادة «متبي اللو» زعيم «إرباد» وهي مدينة تقع في شمال حلب لمقاومته، وفضلًا عن ذلك طلبوا إلى ملك «أورارتو» المسمى «ساردوريس الثالث» مساعدتهم، وكانت ممتلكات الأخير تشمل «كوموخ» (كومجين)، وعلى ذلك وصلت حتى حدود «سوريا»، وقد أزعج هذا الزحف الملك «ساردوريس» فعزم على أن يضرب ضربته بسرعة خاطفة، فزحف فجأة على مضيق نهر «الفرات» لمهاجمة الآشوريين، وقد انقض «تجلات بليزر» لصد هذا الخطر، وهزم «ساردوريس» هزيمة ساحقة، وبذلك أصبحت سوريا عرضة لهجوم الجيش الآشوري بدون كبير عناء، وحوالي عام ٧٤٠ق.م استولى الآشوريون على «إرباد»، وخضع بعدها كل بلاد الغرب.
وفي هذا الوقت كان الرعب قد ملأ كل بلاد سوريا وفلسطين، وأصبح استقلال الممالك المختلفة فيها يتهدده الخطر.
وإذا فرضنا صحة وجود «عزريا» هذا فإنه يكون هو السيد المشرف على الولايات الإسرائيلية التي فتحها «ياربعام الثاني»، وأن الآشوريين كانوا يعدونه المحرض على المقاومة التي كانوا يلاقونها وقتئذٍ في جنوب «سوريا».
هذا ولم يأتِ في النصوص الآشورية ذكر جزية جُمعت من «يهودا»، ويحتمل أن سبب ذلك يرجع إلى أن «تجلات بليزر» كان مكتفيًا بالقضاء على الحلف، وكان في الوقت نفسه يتوق إلى العودة إلى آشور ليصفي حسابه مع بلاد «أورارتو»، ذلك الحساب الذي كان قد بدأ في السنة السابعة من حكمه، ولكنه أُوقف بسبب زحفه لمعاقبة «عزريا» وحلفه.
وفي أثناء غياب «تجلات بليزر» في حرب «أورارتو» أخذ أمراء فلسطين يعلنون الثورة، ولم يكونوا بعد قد خضعوا مثل أمراء شمال «سوريا» وعرفوا ألا فائدة من المقاومة، وذلك أن «فقحيا» بن «منحيم» قد قتله «فقح» بن «رمليا» الذي انضم وقتئذٍ إلى «رزين» ملك دمشق وزعماء فلسطين وأمراء «أودوم» لمهاجمة «يونام» ملك «يهودا» وخليفة «عزريا»، وكان السبب الذي دعا إلى هذا الهجوم هو حب الانتقام من أجل السيادة المؤقتة التي كان قد نالها «عزريا»، وقد حقد عليه من أجل ذلك كل الحلفاء حقدًا عظيمًا، والواقع أنه كان مما لا يتفق مع مجريات الأحوال أن تسيطر على هذا الحلف مملكة «يهودا» الصغيرة لمدة ما، غير أن مقتضيات الأحوال هي التي أدت إلى ذلك.
وفي خلال فترة هذا الارتباك مات «يوثام» وخلفه «آحاز» الذي ظن أن خلاصه الوحيد المباشر في أن يلتجئ إلى آشور على الرغم من معارضة النبي «أشعيا» لهذه الفكرة؛ إذ رأى نتيجة ذلك هو أن «يهودا» ستكون تابعة لآشور، غير أن ملك يهودا كان مستعدًّا لقبول هذه التبعية ثمنًا لخلاصه. وعندما التجأ إلى «تجلات بليزر» أجاره، إذ في عام ٧٣٤ق.م ظهر هذا العاهل بجيشه في «سوريا» على أثر تخريب بلاد «أورارتو». ومما يلفت النظر أن «تجلات بليزر» لم يهاجم بلاد الحلف من الخلف، وربما كان قد نهج هذه السبيل ليجعل الفلسطينيين يشعرون أن بعد المسافة بينهم وبين بلاده لم يكن ليقدم لهم أمانًا من نار حربه. وقد سار على الساحل حتى بلاد فلسطين التي لم تكن حتى الآن قد غزيت أو فتحت، إذ إنها قد حافظت على استقلالها من إسرائيل حتى في أيام سليمان، وفي خلال القرنين اللذين أعقبا ذلك لم تعترف قط بسيادة إسرائيل في عهد «عمري» الذي كان مليئًا بالحروب كما لم تعترف بسيادة «يهودا» في عهد «عزريا» الذي لم يمضِ على موته فترة طويلة. والواقع أن الدم الكريتي الذي يجري في عروق السكان الكريتيين الأجانب الذين وفدوا إلى فلسطين منذ زمنٍ قد بعث في نفوس الكنعانيين الذين يقطنون الساحل روح الاستقلال والشهامة الحربية.
وتدل الأحوال على أن الفلسطينيين لم يقبلوا في الحال الاستعباد الذي فرضه عليهم «تجلات بليزر»، ولذلك حاول ملك «عسقلان» أن يقوم بثورة في أثناء حصار الآشوريين لمدينة «دمشق»، غير أنه عندما أعلن سقوط «دمشق»، الأمر الذي لم يكن في الحسبان، جن جنون ملك «عسقلان» خوفًا ورعبًا مما عساه يكون نتيجة عصيانه، من أجل ذلك أسرع «روقبتي» في تقديم خضوعه للفاتح «الآشوري»، ثم قفا أثره «متنا» ملك «صور»، وذلك على أثر موت «رزين» ملك «دمشق». وقد فرض «تجلات بليزر» جزية كبيرة على «صور». ومن ثم أرسلت البلاد المجاورة وهي «عامورة» «ومؤاب» «وأودوم» جزية لملك «آشور» صاحب السلطان العظيم، وكذلك قدمت له الملكة «شمش» ملكة بلاد العرب الجزية وأصبحت خاضعة لسلطانه، وقد نصبت آشور في كل بلاطِ أميرٍ من البلاد التابعة لها موظفًا أو مقيمًا يدعى، «قبي»، ووضعت حدود مصر تحت ملاحظة مقيم يدعى «إدبي-إلو». والظاهر أنه كان هو زعيمًا بدويًّا أطلق عليه لقب «قبوموصور» (مصر)؛ أما عن المراكز التي ضمت إلى «آشور» فعلًا وتشمل «فلستيا» وكل «فلسطين» «وسوريا» شمالي جليلي وشرقي الأردن ما عدا بلاد «فينيقيا» فكان يعين فيها حكام يلقبون «شوت رش» (قائد حربي) أو «يل-بيجاتي» (رئيس مركز).
وتحدثنا النقوش عن أن ما يقرب من نصف السكان في كل مملكة فتحت كانوا يؤخذون أسرى يحل محلهم أسرى أجانب من «أرمينيا» وغيرها ومستعمرين من «بابل» إلخ، هذا وكان السكان الأصليون في كل حالة تضعف حالتهم لدرجة خطيرة، في حين أن الأجانب الدخلاء كانوا مكروهين من الأهالي بقدر ما كان الآشوريون ممقوتين منهم أيضًا، من أجل ذلك اتحد الأجانب مع الآشوريين النزلاء وعضدوا الحكم الآشوري، والواقع أن ملوك «آشور» السابقين كانوا يأخذون الأسرى المقهورين إلى بلادهم غير أن «تجلات بليزر» كان أول من وضع هذه السياسة المعقولة التي ذكرناها هنا.
وعلى إثر الانتهاء من إخضاع كل البلاد الغربية كانت الأحوال في «مسوبوتاميا» قد سادها الاضطراب، مما دعا «تجلات بليزر» إلى قيامه بحملته الأخيرة هناك؛ وذلك لأن النظام الحسن الذي وضعه في «بابل» نتيجة لحملة ٧٤٥ق.م، كان قد انتقض بموت «نابو ناصير» في عام ٧٣٤ق.م؛ إذ كان ابنه «نابو-نادين-زري» قد قتل في ثورة، واغتصب الملك «أوكين زر» زعيم قبيلة «كالدو» التابعة «لبيت أموقاني»، وكان معنى ذلك قيام اضطراب عام في تلك البلاد، ولذلك قام «تجلات بليزر» بجيشه عام ٧٣١ق.م متجهًا نحو ذلك الغاصب وحاصره في «سابيا» عاصمة «بيت أموقاني»، ولكنه لم يفلح في الاستيلاء عليها، وفي عام ٧٢٩ق.م انتهت هذه الحروب بخضوع قبيلة «كلداني» وهي مملكة «أو كيزير» «وبيت يكن» وهي أرض البحر، وكان ملكها هو «مروداخ-بلادان».
والواقع أن خضوع «مروداخ بلادان» كان من الأهمية بمكان؛ لأنه كان ملك أرض البحر «الذي لم يأتِ إلى حضرته واحد من الملوك آبائي وإنهم لم يقبلوا قدمي» كما يقول ملك «آشور».
عاد بعد ذلك «تجلات بليزر» إلى بلاد آشور من آخر حملة له بعد أن نصب حكامًا على البلاد المقهورة، وقد انتهى حكمه عام ٧٣٠ق.م دون وقوع حوادث تذكر، غير أن «بابل» كان لا يمكن أن تُترك دون تنصيب ملك عليها؛ ولذلك نجد «تجلات بليزر» في عامي ٧٢٩، ٧٢٨ق.م قد أخذ بنفسه يدي الإله «بل» كما كان المعتاد، وبذلك أصبح ملكًا على «بابل» بالاسم والفعل، فكان يعد أول عاهل آشوري حمل هذا اللقب منذ عهد الملك «توكولتي نينورتا الأول».
وبعد ذلك بقليل تُوفي «تجلات بليزر» بعد حكم كله مفاخر له، وتولى بعده الملك «شلمنصر الخامس».
أما عن أعمال «تجلات بليزر» الفنية فلا نعرف عنها إلا اليسير، والألواح القليلة التي تركها لنا منقوشة تصور مناظر الحرب العادية التي قام بها، غير أن شواهد الأحوال تدل على أن قصره كان أفخم مسكن أقامه ملك في بلاد «مسوبوتاميا»، فقد كان أعظم ملوك «آشور» يتخذونه نموذجًا يحذون حذوه، فقد قلده الملك «سنخرب» عندما أعاد بناء قصر «نينوة» كما سنرى بعد.
وعندما نذكر أن أعمال «تجلات بليزر» العظيمة قد أنجزت كلها في مدة حكمه التي لا تتجاوز ثماني عشرة سنة، وأنه حوالي عام ٧٢٨ق.م بسط سلطانه ووطد نفوذه من أول مياه «بيت يكن» الملحة حتى جبال «بكيني» (دمافند) في الشرق، ومن البحر الغربي حتى مصر، ومن أفق السماء حتى سمتها، نقرر بحق أنه أعظم شخصية بارزة في تاريخ «آشور».
ولا يفوتنا بحال أن نذكر هنا بعض حقائق بارزة عن هذه الإمبراطورية في عهد هذا العاهل لنستطيع تقدير استمرار قوة «آشور» في النمو والتطور من أول عهد عاهلها «آشور ناصير بال»، فنلحظ أن إخضاع شمال سوريا في مدة لم تتجاوز ثلاث سنوات كان ممكنًا فقط بسبب أن أسس قوة «آشور» كانت قد وضعت بذورها بحكمة ودراية في عهد أسلافه، أما أقاليم «قوى» (سيليسيا) «وتابال» فقد سقطت في يديه دون حرب؛ لأن «شلمنصر» كان قد أخضعها تمامًا في خمس حملات قام بها في تلك الجهات، يضاف إلى ذلك أن الاعتراف به ملكًا على «بابل» نفسها يجب أن يُعزى إلى أتباع «شلمنصر الثالث» «وأداد نيراري الثالث» ومساعدة السلطة المركزية في «بابل» على «الآراميين» «والكالدو».
أما استيلاؤه على عرش ملك «بابل» والقيام بتأدية واجباتها في مدنية «بابل» نفسها، وهي تلك الواجبات التي اقتضتها ضرورات الموقف فيظهر أنه كان إجراء خارجًا عن هذه السياسة لم يكن مقصودًا، وكان أكبر تقدم قام به «تجلات بليزر» في فتوحه هو بلا نزاع ما أحرزه في الغرب من بلاده من فتوح، وهنا نرى أنه اتبع بكل أمانة سنن أسلافه، هذا إلى أن فكرته بأن «سوريا» يمكن القبض على ناصيتها بقوة يكون في استطاعتها السيطرة تمامًا على مدن «فينيقيا» «وفلسطين» مما يجعله يمد الممتلكات الآشورية الواقعة في طريقه، كانت هي السياسة التي اتبعها أخلافه من ملوك آشور.
والواقع أن بسط السيادة على فينيقيا وإسرائيل لتكون حماية للأقاليم السومرية لم تلبث أن تحولت إلى التسلط المباشر على هذه البلاد، وبالاختصار نجد أن «تجلات بليزر» عندما أراد تنفيذ مرامي «آشور ناصير بال» «وشلمنصر» السياسية قد اتخذ طريقًا لا تؤدي إلا إلى الحملات التي قام بها فيما بعد كل من «إسرحدون» «وآشور بنيبال» كما سنرى.
تحدث بعض المؤرخين عن طريقة نقل هذا الملك لسكان البلاد المقهورة بالجملة، وقد رأى بعض الكتاب أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن «الآشوريين» أن يحكموا بها البلاد التي استولوا عليها بالقوة وحسب، وقد رأى آخرون أن هذا الإجراء كان فيه بذور الضعف في المستقبل؛ لتمزيق روابط الوطنية والدين، ومهما يكن من أمر فإنه ينبغي أن نلحظ هنا أن نقل السكان المفاجئ لم يكن بالأمر الغريب في الشرق القديم، حيث نجد أن قبائل كانت تهجر من تلقاء نفسها بلادها في طلب مساكن جديدة؛ كما حدث مع قبائل «اللوبيين» في عهد «رعمسيس الثالث»، وكما حدث مع قوم «الهكسوس» في مصر في نهاية الأسرة الثالثة عشرة، هذا إلى أن «تجلات بليزر» قد سار على نهج أسلافه في هذا الأمر، وكان رائده في ذلك خطة سياسية لها بعض الأهمية في إدارة الأقاليم الجديدة التي ضمها إلى ملكه، فنجد أن السكان الآراميين التابعين لمملكة «دمشق» كانوا قد نُقلوا إلى القبائل الآرامية الساكنة على حدود «عيلام»، ونُقل أهل «كالدو» إلى وادي «نهر الأرنت» (العاصي)، ونقل «الإسرائيليون» إلى «آشور»، ومن ثم لا نجد في أية حالة أن السكان الجدد كانوا يختلفون كلية في اللغة والعادات عن القوم الذين سكنوا معهم، وبذلك تخلص الحكام المحليون في المستعمرات الآشورية من الصعوبات التي قد تحدث من وجود أجانب بين أهلهم أنفسهم، هذا إلى أنه كان في مقدورهم أن يوردوا عددًا مُحَسًّا من العمال لأشغال السخرة والخدمة العسكرية في الجيش الآشوري.
(٢٦-٢) الملك شلمنصر الخامس ٧٢٧–٧٢٢ق.م
ليس لدينا سجلات تاريخية الآن عن حكم «شلمنصر الخامس» الذي لم يدم إلا مدة قصيرة، وتدل قائمة ملوك «بابل» على أنه اتبع «تجلات بليزر الثالث» في حكم «بابل» باسم «أولولالي»، وأهم حوادث حكمه تتصل ببلاد فلسطين، فنجد أنه بعد أن دفع «هوشع» الجزية بوصفه تابعًا مخلصًا لملك «آشور» دخل في مؤامرة مع مصر، كما جاء ذكر ذلك في كتاب (الملوك الثاني الإصحاح ١٧)، فثار على سيده ملك «آشور» الذي هاجمه وحاصره في بلدة «السامرة» مدة ثلاث سنوات، والواقع أن ترتيب تاريخ «هوشع» مرتبك، وعلى ذلك نجد أن الأعداد التي ذُكرت في (سفر الملوك الإصحاح ١٨ سطر ٩–١١) لا بد أنها خاطئة؛ وذلك لأن المؤرخ البابلي يقول: إن «شلمنصر» ضرب «شايار إت» (وهي سبرائم المذكورة في التوراة، راجع حزقائيل الإصحاح ٤٧ سطر ١٦).
وهذه الحادثة يمكن أن تكون تابعة لعهد الحصار، ويقول المؤرخ «جوسيفس» نقلًا عن «ميتاندور الصوري» عندما كان يتكلم عن الحصار الذي ضربه «شلمنصر» حول بلدة «صور» وتخريبه لكل بلاد «فينيقيا»، ومن الواضح أن «شلمنصر» قد مات قبل أن تسقط «السامرة» فعلًا، وعلى ذلك فإن الحصار كان قد ابتدئ عام ٧٢٤ق.م ومات الملك في شهر شباط وتسلم زمام الملك من بعد أسرة جديدة.
(٢٦-٣) الملك «سرجون الثاني» وتوطيد الإمبراطورية في عهده ٧٢٢–٧٠٥ق.م
لم يمضِ على موت «شلمنصر الخامس» أكثر من بضعة أيام حتى تولى بعده عرش الملك «سرجون الثاني» (ومعنى سرجون الملك الحقيقي)، ولم تحدثنا الآثار عن أصله، ولكن تدل شواهد الأحوال على أنه كان من فرع بعيد عن بيت الملك.
وبتولي هذا العاهل عرش البلاد أخذ الاهتمام بتاريخ «آشور» يتغير في شكله وفي اتجاهاته، ولا بد لنا هنا من أن نفحص المادة التي في أيدينا للحصول على الخطوط الرئيسية التي كان لها أثر في التطورات الاجتماعية والسياسية في هذا الوقت، مضافًا إلى ذلك القوائم التاريخية والسجلات الحربية التي يمكن الاعتماد عليها في عهود الملوك السابقين، على أن العهد الذي يبتدئ من حوالي عام ٧٢٠ق.م حتى عام ٦٤٠ق.م قد دعم بوثائق كافية كأي عصر من عصور التاريخ القديم لا يجعلنا نميز عهد أسرة سرجون عن عصور الملوك السابقين، والواقع أن التغيير في أهمية هذا العصر يرجع إلى سبب آخر، وذلك أنه إلى عهد هذا العاهل كان تاريخ «آشور» هو قصة أقوام مؤلفة من قبائل اندمج بعضها في بعض، وألفت دولة كان لا بد لها إذا أرادت الأمن والفلاح أن تصبح دولة حربية مسيطرة، وقد أدت الهجرات الغامضة للأقوام المختلفين، وهي تلك الهجرات التي حدثت في خلال القرن الحادي عشر ق.م إلى انهيار المجهود الذي عمل لإقامة إمبراطورية بسرعة يمتد سلطانها على إقليم شاسع أكثر من المعتاد، والواقع أنه منذ القرن التاسع حتى نهاية القرن الثامن كانت عملية النهوض البطيئة من هذا الانهيار وتأسيس نظام إمبراطوري من الأمور التي اقتفى أثرها المؤرخون، فنجد أن «تجلات بليزر» كان بداية سلسلة طويلة من الملوك الفاتحين والحكام الآشوريين الذين وطدوا أركان الدولة الآشورية بقدر ما تستطيعه طاقة بشرية، وإذا استعرضنا تاريخ ملوك «آشور» وجدنا أن الوضع في «آشور» منذ عهد الملك «سرجون الثاني» وما بعده قد تغير تغيرًا محسًّا، فقد واجهت الدولة الآشورية وقتئذٍ ممالك مماثلة لها في القوة مستقلة وهزمتها في كل الجهات المتاخمة لها أو البعيدة عنها، وبالفعل نجد أن الإمبراطورية الآشورية التي اعتلى «سرجون» عرشها قد اصطدمت مع أمم ودول عظمى ذات قوة لا تقل عن قوتها، ففي شرقي نهر الفرات نجد أن القبائل الإيرانية التي هاجرت حديثًا كانت تقوم بمعارضة قوية وتؤلف جبهة موحدة صلبة أكثر من القبائل الأصلية التي كانت تعيش في «ميديا»، وعلى ذلك فإن الحكام الآشوريين على الحدود الشرقية كانوا دائمًا في خطر من أن يهزموا بما لدى العدو من جموع ضخمة، وفي الشمال نجد أن الخوف من خطر مملكة «الأورارتو» (أرمينيا) الذي كان يهدد البلاد باستمرار قد انقلب على حين غفلة إلى رعب من جموع الأقوام المتوحشين الذين كانوا قد أخذوا يدخلون هذه الجهات.
وفي الشمال الغربي ظهرت ممالك وأقوام جديدة في السجلات الآشورية التاريخية، مما يظهر لنا أن «سيليسيا» وهي الإقليم الذي كان الآشوريون يتكلون عليه بوجه خاص في تجارة المعادن الهامة لهم، قد اغتصبه قوم آخرون ليسوا بأقل من «آشور» في المقدرة الحربية.
أما في الغرب فقد تصادمت آشور في فلسطين مع المصالح المصرية، مما أدى حتمًا إلى غزو مصر أو قيام مصر بغزو هذه الجهات دفاعًا عن نفسها.
وفي الجنوب نجد أن قوة بلاد «كالديا» التي كانت آخذة في النمو كان يديرها أمراء لهم سياستهم الماكرة التي كانت ترمي إلى ضم «عيلام» في الجنوب الشرقي إلى أهالي فلسطين في الجنوب الغربي لمقاومة الحكم الآشوري، مما أدى إلى حدوث مواقع حربية أشد من أية مواقع أخرى واجهها الجيش الآشوري في أية حروب قام بها.
والواقع أن كل حرب قام بها الآشوريون في خلال القرن الأخير من حكمهم في غربي آسيا ٧٢٠–٦٢٠ق.م كانت للدفاع عن كيانهم حتى لو كان الغرض المباشر لها أنها حرب هجومية، وهذا الموقف الدفاعي في تاريخ آشور له ما يماثله بشكل غريب في تاريخ الإمبراطورية الرومانية من أول عهد الإمبراطور «تيبريوس» وما بعده.
ولقد كان من المعتاد عند المؤرخين عند فحص أسباب تدهور وسقوط الدولة الآشورية أن يعلقوا على السرعة التي هوت بها هذه البلاد، ويشيرون إلى أسباب الضعف الداخلية في ذلك البناء الفخم في ظاهره، وهذا النقد على ما يظهر محق، غير أنه لا يحمل كل الحقيقة في ثناياه؛ إذ الواقع أن آشور كانت منهمكة في القيام بمجهود سياسي لم يسبق له مثيل بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا.
وقد ذكرنا من قبل أن نظام ضم البلاد المتاخمة وغيرها وحكم المديريات الذي نفذ بكل دقة في آسيا الغربية يميز السيادة الآشورية في شكلها عن أي نظام نفذ سابقًا في «بابل» أو «خيتا» أو في مصر، وهذا يشهد بمقدرة الآشوريين السياسية، فقد كانت ممتلكاتها تهاجم من جهات متعددة بأعداء أقوياء في داخل نفوذهم، وكذلك كانت تهاجم بأمم مهاجرة، ومع ذلك قد بقيت مدة قرن لم تنتقص أطرافها، بل مدت حدودها أكثر من أي وقت آخر، هذا فضلًا عن أنها في السنين الثلاثين الأخيرة من حياتها قد هزمت أعداءها الواحد تلو الآخر إلى أن سقطت هي على يد مملكة قد أخذت معظم فنونها الحربية والسياسية عن آشور نفسها، هذا؛ ونعلم أنه قد نبعت من آشور نفسها مباشرة صورة من صور النظام الدولي الباقي حتى الآن، وأعني بذلك نظام الملكية المعروف بالملكية الشرقية، وعلى ذلك فإن كثيرًا من الانتقادات التي توجه إلى نظام الملكية الشرقية يمكن أن يوجه إلى الحكومة الآشورية تمامًا؛ فهي ركنه الركين.
ومما تطيب الإشارة إليه هنا وتعم فائدته أن نتحدث عن الأعمال الفنية التي نشأت في هذه البلاد وتوحي بنمو وتطور في المستقبل، ونترك جانبًا الأخطاء التي ارتكبها نظام هذه البلاد، وكذلك مما له ثمرة مفيدة أن نذكر من صفات الحكم الآشوري ما أسبغ عليه القوة والثبات مما لم تصل إليه دولة فيما سبق، ونترك جانبًا الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة في بيئة كانت الدول تقوم وتختفي فيها بسرعة في كل عهود التاريخ.
(٢٦-٤) حروب «سرجون»
وعلى الرغم من أن تولي «سرجون الثاني» عرش الملك لم يعارضه فيه أحد فإنه قد اعترضته مشاكل ومصاعب في مختلف أقاليم إمبراطوريته في أوائل حكمه، فقد قام بعدة حملات في مختلف بقاع الإمبراطورية كان بعضها يحدث في وقت واحد في أماكن مختلفة.
- (١)
اتحاد كل من «كالديا» «وعيلام» في جنوب إمبراطوريته لمناهضته.
- (٢)
قيام عدة أقوام عليه في الشمال والشمال الشرقي.
- (٣)
مناهضة مملكة فرجيا الناشئة في الشمال الغربي من بلاده.
- (٤)
انتقاض سوريا وفلسطين على حكمه ومساعدة مصر لهما في الجنوب الغربي.
وقد كان أول ما شغل بال «سرجون» هو بلاد «بابل»، وكان «مروداخ-بلادان الثاني» الحاكم المطلق فيها عام ٧٢١ق.م، ولما كان «سرجون» يرغب في أن يكون هو الحاكم الشرعي لبابل كان لزامًا عليه أن يستولي عليها، فقام بحملة في أول شهر نيسان عام ٧٢١ق.م، ولكن «مروداخ-بلادان» كانت تعاضده بلاد عيلام، وقد زحف فعلًا ملكها على حدود «آشور» واحتل بلدة «دور إيلو» الواقعة على الفرات السفلي، وكان جيش «سرجون» في تلك اللحظة لا يزال يحارب فلسطين لإخضاع بلدة «السامرة» ولكنه زحف بما استطاع جمعه من جيوش في سرعة خاطفة نحو الشاطئ الشرقي للفرات ونازل العدو هناك في موقعة لم تكن فاصلة، إلا أن العيلاميين تقهقروا، وكان في مقدور «سرجون» أن يعاقب الآراميين الذين انحازوا مع «مروداخ-بلادان»، إلا أن الأخير اعترف بسرجون ملكًا على بابل فتركه في هذا الموقف مدة اثنتي عشرة سنة تقريبًا.
وقد كان في مقدور ملك «بابل» في هذه الفترة أن يغير الحياة الاجتماعية في «كالديا»، ولا نزاع في أن الحزب الآشوري في هذه البلاد قد فقد أرضه وسلعه، وكانت القبائل المنضمة إليه تنتظر بطبيعة الحال أن تنال غنائم من هذه البلدان، وإلا فإن التغير كان لا يمكن ملاحظته؛ وذلك لأن الكلدانيين كانوا يعبدون الإله «مردوك» والإله «نابو» وهم في ذلك على السواء مع البابليين، هذا إلى أن لغتهم ومدنيتهم كانت واحدة أيضًا، وعلى أية حال فإنه كان من المؤكد أن المدن الكبيرة قد قاست الأمرين من عسف «مروداخ بلادان» مدة الاثنتي عشرة سنة التي حكمها، وربما كان ذلك هو السبب في شغف القوم «بسرجون» آشور الذي كان لا يهمه إلا تشجيع التجارة ويمقت النهب والسلب، وعلى أية حال فإن حكم «مروداخ-بلادان» في تلك المدة لم يقوَ مركزه على الآشوريين.
ويلحظ أن «عيلام» حليفة «بابل» قد أُهمل سير الأحوال فيها، وفي عام ٧١٧ق.م مات ملك «عيلام» المسمى «خومبابيجاش» وخلفه على عرش الملك آخر يدعى «شونروك-ناخخوتي»، والظاهر أنه كان منهمكًا بأحوال بلاده؛ لأنه عندما بدأ الملك سرجون يوجه نشاطه إلى حدوده الجنوبية لم تتدخل عيلام في زحفه، وكانت خطة الآشوريين في هذا الزحف حكيمة، فقد كان رجال القبائل الآرامية في شرق دجلة متسلطين على أقصر طريق بين آشور «وبيت يكن»، وهذه الطريق في الوقت نفسه هي طريق المواصلات بين «سوس» «وبابل»، وعلى ذلك وجه «سرجون» ضربة مزدوجة نحو هذه القبائل، فكان غرض إحدى هاتين الحملتين القبائل الآرامية الواقعة على الحدود الشمالية لعيلام، والأخرى القبائل الواقعة بين «سوس» ومصب نهر دجلة، وقد استولى «سرجون» في هاتين الحملتين على مدن عيلامية، كما اشتركت جنود عيلامية في هذه الحرب، غير أن ملك عيلام لم يحرك ساكنًا وقتئذٍ، وعندما استعد «سرجون» عام ٧١٠ق.م للقيام بهجومه الشامل على «مروداخ-بلادان» العاصي أخذ الرعب يدب في نفسه، وقد حاول أن يضم ملك عيلام إليه بالرشوة، ولكنه لم يفلح قط، وعلى ذلك اضطر الجيش الكلدي الذي كان زاحفًا نحو دجلة للانضمام إلى جيش عيلام إلى التقهقر، وكان ذلك نذيرًا بالتسليم العام في كل البلاد الشمالية للملك «سرجون»، وبعد أن اقتحم «سرجون» طريقه في عيلام عسكر بجيشه في قلعة «دور لادينا» الواقعة في بلاد «بيت دا كوري» القريبة من «بابل»، وهناك جاء رسل «بابل» للترحيب بهذا الفاتح، وقد سار «سرجون» في «بابل» على نهج أسلافه مع تغيير طفيف، فقد أخذ يدي الإله «بل» بما يليق من الاحتفال، غير أنه لم يحمل لقب ملك «بابل» مفضلًا أن يحمل اللقب القديم «شاك كانو كو».
ولم تحدث بعد ذلك أية اضطرابات في الجنوب طوال مدة حياة «سرجون»، والواقع أن سياسته كانت حكيمة ناجحة؛ إذ وجدناه في بادئ الأمر منطويًا على نفسه أمام عدو قوي لم يكن في الحسبان ملاقاته دون أن يهزم، ثم انتظر حتى انفصمت عرى التحالف بين كلديا وعيلام، ودبر حملة بمهارة أسفرت عن إخضاع كلديا، وبذلك استولى على بابل غنيمة له في مقابل ذلك، هذا إلى أنه أحاط إقليم عيلام من الشمال بحاميات وأقاليم آشورية فجعلها حبيسة في عقر دارها.
(أ) «أورارتو» (أرمينيا)
وقد اقتضت سياسته إثارة العصيان بين حكام المديريات الشرقية من مملكته وهاجموا «إرانزو» في بلاده، فلم يلبث أن أرسل عليهم «سرجون» جيشًا هزمهم هزيمة منكرة، واستولى على مدنهم ونقل سكانها إلى الغرب، وبعد ذلك بعامين هدد «إزا» بن «إرانزو» بخطر أشد من السابق، وذلك أن «روسا» ملك «أورارتو» وغيرها من البلاد الموالية له هزموا جنود «إزا» في سفح جبل يقع شرقي بحيرة «أورميا» مباشرة وتركوا جثة «إزا» على الأرض، فسار عليهم «سرجون» على جناح السرعة لنجدة جيش «إزا» فهزم الأعداء في نفس المكان الذي كانت فيه جثة «إزا».
وفي عام ٧١٥ق.م أغرى «روسا» ملك «أورارتو» ملك ماناي المسمى «دايوكو» على الثورة، فجاء إليه «سرجون» في الحال وهزم العدو ونفى «دايوكو» مع أسرته إلى «حماة»، ونهب المراكز التي على حدود «أورارتو»، كما فرض على رؤساء المدن المجاورة الجزية، هذا؛ وكانت الموقعة الحاسمة مع «روسا» في عام ٧١٤ق.م، وقد ظلت «أورارتو» في حرب مع «آشور» حتى تضعضعت في عهد ملكها «أرجيستي» فهزمه «سرجون» غير أنه بقي حاكمًا عليها.
وفي الشمال الغربي وجه «سرجون» عنايته إلى الأراضي التي حول خليج «أيسوس»، ففي أوائل حكمه لم يكن لبلاد سيليسيا حاكمًا قويًّا عليها من قبله وهو «أمباريس»، وكان يسكن على الحد الغربي من مقاطعة «خيلاكو» قوم «موشكي»، وهم قوم «الفريجيون» فيما بعد، وكان «ميتا» ملك هذه البلاد يحرض على قيام الثورة على «سرجون»، وقد اتخذ معه «بيسيريس» ملك «كركميش» وقام بثورة عام ٧١٧ق.م، فزحف عليهم «سرجون» واستولى على «كركميش» وأصبحت ولاية آشورية، وفي عام ٧١٥ق.م قامت مظاهرة على «ميتا» ملك «موشكي» من إقليم «سيليسيا»، وكان «ميتا» هذا قد استولى منذ زمن على اثنتين وعشرين مدينة من مدنها فاسترجعها «سرجون»، وبعد ذلك قام «أمباريس» بن «خولو» بثورة على «سرجون»، وكان «خولو» هذا قد نصبه «تجلات بليزر» ملكًا على بلاد «تابال»، وعلى الرغم مما فعله بيت الملك له ولأبيه، وعلى الرغم من زواجه من ابنة «سرجون» فإنه تحالف مع «ميتا» ملك «موشكي» ومع «روسا» ملك «أورارتو» مما اضطر «سرجون» للقيام بحملة على بلاد «تابال» في عام ٧١٣ق.م.
وقد أخذ «سرجون» بعد ذلك يصرف النظر عن محاولته تنصيب أمراء تابعين له، بل حول هذا الإقليم الهام إلى مديرية آشورية، وفي السنة التالية لذلك جاء دور معاقبة بلاد «ميليد» بسبب الثورة التي قامت بها وغزو ملكها لمديرية «كمانو»، فهزمت ونُفي ملكها وأسرته، وكذلك رؤساء السكان، واستعمرت البلاد بقوم «سوتي»، ثم أقام «سرجون» حصونًا لمقاومة بلاد «موشكو» «وأورارتو» وضمت بلادهما جزئيًّا لملك بلاد «كوماجين» الذي كان مواليًا لسرجون.
وفي عام ٧١١ق.م انتهز «سرجون» فرصة قتل ملك «جمجوم» على يد ابنه واستيلائه على الملك، فغزا بلاده ونفى سكانها ونصب عليها حاكمًا «آشوريًّا» في «مرقاس» (وهي مرعش الحالية)، ومن المحتمل أن «سرجون» بعد أن لاحظ هذه الاضطرابات في الشمال الشرقي من ممتلكاته صمم على أن يتخذ خطة حازمة مع بلاده «موشكي» التي كان يرى أن ملكها هو السبب في قيام تلك الفتن، وعلى ذلك أمر حاكم مديرية «قوى» بالسير على «ميتا» ملك «موشكي» عام ٧٠٩ق.م، فهزم «ميتا» هزيمة منكرة، ولم يرَ بعد ذلك بدًا من الاعتراف بسيادة «سرجون» ودفع الضرائب له، وبذلك أصبحت مديريات الحدود الآشورية من هذه الناحية آمنة، وقضى على كل مقاومة في الشمال الغربي من «آشور»، وتحدثنا النقوش كذلك أن ملوك «قبرص» السبعة أرسلوا جزيتهم «لسرجون» وأعلنوا تبعيتهم لآشور؛ وذلك لأن كل المواني التي كان هؤلاء الملوك يحملون تجارتهم إليها إلى اليابسة كانت في يد «آشور»، ومن المحتمل كذلك أنه كانت تعسكر حاميات من الجنود الآشوريين في الجزيرة نفسها، هذا ويدل وجود لوحة باسم «سرجون» في بلدة «سيتيوم» بقبرص على سيادة الآشوريين وسيطرتهم على هذه الجزيرة.
وفي عام ٧٠٨ق.م قضي على آخر الأمراء التابعين «لآشور» في هذه الجهة، وذلك أن «ماتلو» ملك «كموخ» قد حرضه «إرجستي» ملك «أورارتو» على الامتناع عن دفع الجزية «لآشور»، فحاصر «سرجون» عاصمة بلاده واستولى عليها، ولكن ملكها هرب أمامه، فحول «سرجون» بلاده إلى مديرية آشورية بدلًا من مديرية تابعة.
والواقع أن الأهمية الرئيسية في التحول الذي جرى في المديريات الشمالية الغربية هو ما نلحظه من تغير تام في سياسة «سرجون» منذ سنة ٧١٣ق.م، وذلك أنه رأى أن سياسة إقامة أقاليم تابعة له على حدود مملكته قد أدت إلى الفشل في كل عهد التاريخ «الآشوري»، وبخاصة في الأقاليم التي يمكن للثوار أن يعتمدوا فيها على مساعدة بلاد «موشكي» ومملكة «أورارتو» في الخفاء دون أن تمد الثوار بجنود، مما يدل على خوفهما من سلطان «آشور»، ومن أجل ذلك صمم «سرجون» على ضم كل هذه الأقاليم المجاورة لبلاده وجعلها تحت حكمه مباشرة، وبذلك يمكنه أن يعتمد على حاكمه فيها لقمع أية ثورة تشب في أية ناحية من نواحيها.
(ب) حروب «سرجون» في «سوريا» «وفلسطين» ومساعدة مصر لهما
كان أول بدء المناوشات بين آشور ومصر في عهد الملك «سرجون» وذلك خلال حروبه في سوريا وفلسطين، ومن ثم أخذ الاحتكاك بين الدولتين يزداد شيئًا فشيئًا إلى أن انتهى الأمر بغزو آشور بلاد مصر والاستيلاء عليها مدة من الزمان، وقد كانت المناوشات التي قامت بين الدولتين أمرًا طبعيًّا؛ وذلك لأن مصر كانت ترى أن استيلاء آشور على سوريا وفلسطين يهدد كيانها.
هذا فضلًا عن أنها هي الدولة الوحيدة التي لها حق السيطرة على بلاد فلسطين وسوريا؛ لأنها كانت من ممتلكاتها منذ أزمان سحيقة، ولم تنفصل عنها تقريبًا إلا في فترات تكاد لا تذكر، فلما بدأت آشور في تثمير هذه البلاد أخذت مصر في مساعدة هذه البلاد سرًّا أحيانًا، وبالتحريض والدس إلى أن أعلنت الحرب بين مصر وآشور جهارًا لهذا السبب.
وقد كان ملوك آشور يعطون عناية خاصة للأقاليم الواقعة غربي بلادهم، فكانوا يرسلون الحملات على سوريا وفلسطين ومدن ساحل البحر الأبيض المتوسط كلما قامت ثورة هناك، فلما تولى «سرجون» الملك وقعت في سوريا وفلسطين حادثة من الأهمية بمكان بعد توليته مباشرة، وذلك أن «شلمنصر الخامس» مات قبل أن ينتهي الحصار الذي أقامه على السامرة بعد انتصار الآشوريين عام ٧٢٢ق.م، ولا نعلم على وجه التأكيد إذا كان قد حدث في تلك الآونة نفي السكان الأسرى من هذه الجهة، وجلب سكان أسرى من قوميات مختلفة مكانهم، وأنه كان من بين هؤلاء أسرى من العرب في السامرة في عام ٧٢٢-٧٢١ق.م أو كان وفودهم إلى السامرة قد حدث فيما بعد، ومن المحتمل أن هذا الإجراء الذي جعل السامرة مقاطعة آشورية لم يكن قد فُرض على أهلها إلا بعد أن انضمت البقية الباقية من إسرائيل إلى الحلف العظيم الذي أُلِّف لمقاومة «سرجون» عام ٧٢٠ق.م، وقد كان المحرض على تأليف هذا الحلف ملك «حماة» المسمى «ياوبيدي» (وكذلك يسمى الموياوبيدي)، ومن المعلوم أن «حماة» كانت قد خضعت للملك «شلمنصر الثالث»، والظاهر أنها ظلت إمارة تابعة لآشور منذ ذلك الوقت، ومن المحتمل أن «ياوبيدي» هذا كان يأمل في أن ينال نجاحًا بحلفه هذا على غرار النجاح الذي ناله «مروداخ-بلادان»، أو يجوز أن الأخير قد تآمر معه ليضمن نجاح هذا العصيان في الغرب.
وهي سياسة اتبعها فيما بعد، والحلف الذي ألفه «ياوبيدي» كان من طراز خاص؛ إذ لم يكن تابعًا لآشور إلا هو وأمير آخر هو «هنونو» أو «خنو» أمير غزة، أما البلاد الأخرى التي انضمت إلى هذا الحلف فكانت أقاليم آشورية وهي «إرباد»، «وسميرا»، «ودمشق»، ثم «ساميرينا»، ولم تذكر لنا النقوش الأسباب التي أدت إلى انضمام هذه المديريات لهذا الحلف والقيام بعصيان على آشور، وإذا كان الحكام الآشوريون قد اشتركوا في هذه المؤامرة فقد كان من الطبيعي ومن الأمور المنتظرة أن يعلن «سرجون» ما وقعه عليهم من عقوبات في نقوشه، من أجل ذلك ينبغي أن نعزو هذا العصيان إلى السكان أنفسهم، وأنه حدث في الأماكن التي اشترك سكانها في الثورة، وهذا بلا شك هو سبب الاضطراب في «حماة» لأم ملكها «ياوبيدي» على ما يظهر كان قد قتل أميرها «إني إيل» الحاكم على «حماة» وعزله، ثم رفع راية العصيان بعد ذلك، وقد كان في مقدوره هو وحلفاؤه أن يؤلفوا جيشًا عظيمًا لمحاربة سرجون في مدينة «قرقار»، وقد انتصر سرجون على هذا الحلف انتصارًا ساحقًا كان من نتائجه أسر «ياوبيدي» وإخضاع «حماة» وجعلها ضمن أقاليم آشور، وقد كان ذلك من مصلحة الآشوريين بدرجة عظيمة؛ إذ بذلك أصبح الأمير الوحيد المستقل في سوريا ضمن كتلة الأقاليم الغربية التابعة لآشور، وبعد هذا النصر زحف «سرجون» بجيشه لمقابلة «حنونو» ملك غزة الذي كان جيشه قد تأخر لسبب ما عن الاشتراك في الموقعة التي هزم فيها ملك «حماة»، ومن المحتمل أن هذا التأخير كان سببه انتظار مدد عسكري من مصر، وكان أمير غزة هذا على ود ومصافاة مع الدولة المصرية، فقد هرب إليها كما نعلم في عهد «تجلات بليزر الثالث»، وفي هذا الموقف الحرج أتى لنجدته «سبا» (شباكا) قائد الجيش المصري الأعلى في هذه اللحظة.
وقد قامت مناقشات عدة عن «سبا» أو «سبو» هذا، فقد وحده كثير من المؤرخين بملك مصر «شبكا» كما جاء في التوراة (راجع كتاب الملوك الثاني الإصحاح ١٧ سطر ٤ وما بعده) حيث يقول: «ووجد ملك آشور في «هوشع» خيانة؛ لأنه أرسل رسلًا إلى «سو» ملك مصر، ولم تؤد جزية إلى ملك آشور على حسب كل سنة، فقبض عليه ملك «آشور» وأوثقه في السجن، وصعد ملك «آشور» على كل الأرض، وصعد إلى الساحرة وحاصرها ثلاث سنين، في السنة التاسعة «لهوشع» أخذ ملك آشور الساحرة، وسبى إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في «كالح» «وخابور» نهر جوزان وفي مدن «مادي».»
غير أنه من الواضح تمامًا من السجلات الآشورية أن «سبا» لم يكن فرعون مصر وقتئذٍ، وأن توحيده بهذه الكيفية فيه شك، ويقول المؤرخ «هول» في هذا الصدد ما يأتي: لما كانت نظرية وجود أرض لم تُعرف حتى الآن تحمل نفس الاسم الذي تسمى به مصر وهو «موصور» في شمال بلاد العرب ينسب إليها «سيف» وهو «سبو» كما يسميه «الآشوريون»، «وبرعو موسري» قد ذكر كذلك في النقوش الأثرية الآشورية، قد أصبحت غير مقبولة بوجه عام فقد رجعنا إلى الأصول فاتضح منها توحيد اسم «سبو» أو «سيبو» باسم «شبكا» (وهو الذي يسمى عند الإغريق «سبيكس») «وبرعوموسري» بفرعون مصر، ومن المحتمل أن ذكر الملك «سيف» في التوراة بمناسبة «هوشع» في عام ٧٢٥ق.م يعد وضعًا خاطئًا لهذا التاريخ بالنسبة لانتصار «سرجون» في موقعة «رفح» في عام ٧٢٠ق.م، عندما ذكر «سيبو» بوصفه قائد فرعون الأعلى «تورتان» وأنه هزم على يد الآشوريين ولم يذكر في عام ٧٢٥ق.م، ولا بد أن نفرض أن «سيبو» «وسبو» هما شخص واحد، وعلى ذلك لا بد أن نتبع ما جاء في الوثائق الآشورية المعاصرة ونعد تاريخ حرب «سيبو» وقع في عام ٧٢٠ق.م، بدلًا من ٧٢٥ق.م كما جاء في التوراة، وعلى ذلك فإن احتمال توحيد «سيبو» «وسو» بالملك «شبكا» يكون واضحًا.
ومن الطبعي أن الملك «بيعنخي» عندما ترك مصر إلى عاصمة ملكه في «نباتا» قد ولى «شبكا» الذي لم يكن بعدُ ملكًا على مصر قائدًا لجيش الدلتا في مصر، ثم يقول المؤرخ «هول» في ملاحظة: إن موضوع الكشف عن اسم «سيبو» بوصفه ملكًا موضوعًا في طغراء على تمثال مجيب في برلين لم يُعرف تاريخه بالضبط من الأمور المشكوك فيها، وهذا الاسم هو «خو-توي-رع-سب»، ولا يمكن أن نقبل هذه القراءة إلا إذا نشرت نقوش هذا التمثال نشرًا علميًّا واضحًا.
(ﺟ) المتون الآشورية التي وصلت إلينا عن حروب «سرجون الثاني» مع بلاد سوريا وساحل البحر الأبيض
تحدثنا باختصار عن الحروب التي قام بها «سرجون الثاني» في مملكته الغربية؛ أي في «سوريا» «وفلسطين» وموانئ البحر الأبيض المتوسط وقبرص، ومساعدة مصر لهما خفية، وسنحاول هنا أن نستعرض المتون الآشورية التي وصلت إلينا حتى الآن عن هذه الحروب؛ لأهميتها في تاريخ الشرق الأدبي، وبخاصة عندما نعلم أن هذه البلاد كانت تؤلف أحلافًا فيما بينها عندما كانت تشعر أن الخطر الأجنبي كان يهدد كيانها فتفسد عليه خططه، وكانت مصر دائمًا هي السند العظيم لهذه البلاد تساعدها، لا حماية لها وحسب، بل لحفظ كيانها نفسها.
وهاك النصوص التي وصلت إلينا حتى الآن عن حروب «سرجون الثاني» في هذه الجهات:
- (١)
«سرجون» ملك آشور … إلخ فاتح «سماريا» وكل «بلاد» «إسرائيل» (بيت عمري)، والذي ضرب «أشدد» «وشنوهتي»، والذي اصطاد الإغريق الذين «يسكنون على الجزر» في البحر مثل السمك، والذي قضى على «كاسكو» وجميع بلاد «تبالي» «وسيليسيا» (خيلاكو) والذي طارد «ميداس» (ميتا) ملك «موسكو»، وهزم «موصور» (= مصر) في «رفح»، والذي أعلن أن «هانو» ملك غزة بمثابة غنيمة، والذي أخضع سبعة الملوك الحاكمين لبلاد «يا»، وهو إقليم في جزيرة قبرص، وهم الذين يسكنون «جزيرة» في البحر «على مسافة» مسيرة سبعة أيام.
- (٢)
وكذلك من لوحة تدعى لوحة قبرص نقرأ ما يأتي: «لقد حطمت كالفيضان العاصف بلاد «حماة» جميعًا، وقد أحضرت ملكها «ياوبيدي» وأسرته ومحاربيه في الأغلال أسرى من بلاده إلى «آشور» وقد ألفت من هؤلاء الأسرى فرقة تتكون من ثلثمائة عربة وستمائة فارس مجهزين بدروع من الجلد وحراب وأضفتهم إلى حرسي الملكي، وقد أسكنت ٦٣٠٠ آشوريًّا ممن يعتمد عليهم في بلاد «حماة» ونصبت ضابطًا من رجالي حاكمًا عليهم وفرضت عليهم جزية.
أما سبعة الملوك أصحاب «يا» وهو إقليم في جزيرة قبرص يقع في وسط البحر الغربي على مسافة مسيرة سبعة أيام، فقد كانت بلادهم بعيدة جدًّا، لدرجة أنه لم يسمع واحد من الملوك أجدادي بأسماء بلادهم تذكر منذ الأيام البعيدة جدًا، فقد عرفوا وهم بعيدون جدًّا في وسط البحر، الأعمال العظيمة التي أحرزتها في «كالديا» وفي بلاد «خيتا»، وقلوبهم بدأت تدق وانصب عليهم الرعب، وقد أرسلوا إليَّ في بابل ذهبًا وفضة وأشياء مصنوعة من الأبنوس وخشب البقس، وهي كنوز بلادهم، وقبلوا قدمي.»
- (٣) ومن التقارير الحولية نقرأ ما يأتي٢٩ من السنة الأولى من حكمه:
في بداية حكم الملك أنا … بلد السامريين حاصرتها وفتحتها «يلي ذلك سطران مهشمان»، «لأجل الإله … الذي» جعلني أحرز هذا النصر … وقد سقت سجناء ٢٧٩٠٠ من سكانها، وجهزت من بينهم جنودًا ليقودوا خمسين عربة لأجل حرسي الملكي … وقد أعدت بناء المدينة بأحسن مما كانت عليه من قبل، وأسكنت فيها أناسًا من ممالك فتحتها «أنا» نفسي، ونصبت ضابطًا من ضباطي حاكمًا عليهم، وفرضت عليهم ضرائب كما «هي العادة» للمواطنين الآشوريين.
- (٤) من نقش استعراضي:٣٠ نقش ما يأتي: «لقد حاصرت وفتحت «سماريا» وسقت غنيمة ٢٧٢٩٠ نسمة من سكانها، وقد ألفت من بينهم فرقة لخمسن عربة، وجعلت السكان الباقين يأخذون أماكنهم «الاجتماعية»، وقد نصبت عليهم ضابطًا من ضباطي، وفرضت عليهم ضرائب الملك السابق، أما «هانو» ملك غزة وكذلك «سبا» (شبكا) قائد مصر وحاكمها فقد سار من «رفح» علي، فقابلتهما في موقعة فاصلة فقهرتهما، وقد فر «سبا» (شبكا) خائفًا بمجرد أن سمع ضوضاء جيشي الزاحف، ولم يُرَ بعدُ ثانية، أما «هانو» فقد قبضت عليه شخصيًّا، وتسلمت جزية من فرعون مصر، وكذلك تسلمت من «سماس» ملكة العرب ومن «إتامار السبئي» ذهبًا في صورة تبر وخيلًا وجمالًا.»
وعلى أية حال فإن فخار «آشور» سيدي الذي يبعث الفزع قد تغلب على ملك «ملوخا» (بلاد كوش)، فألقى به «أي إماني» في الأغلال في يديه وفي قدميه وأرسله إلى بلاد «آشور»، وقد فتحت ونهبت بلاد «شينوهتي» «وسماريا» وكل «إسرائيل» (حرفيًّا أرض عمري)، وقبضت على الإغريق «أهل أيونيا» الذين يسكنون في وسط البحر الغربي.
وتسلمت من فرعون ملك مصر ومن «سامسي» ملكة بلاد العرب «وإتامر السبئي» «وهؤلاء هم ملوك الشاطئ» ومن الصحراء هدايا تبر من الذهب وأحجارًا كريمة وعاجًا وحبوبًا وأبنوسًا «هذه الحبوب من عقاقير «مسوبوتاميا»» وكل أنواع المواد العطرية، وتسلمت كذلك خيلًا وجمالًا.»
إن «أزوري» ملك «أشدد» قد صمم على عدم دفع الجزية وأرسل رسائل مفعمة بالعداء «لآشور» إلى الملوك الذين يعيشون بجواره، وقد كان من جراء هذا العمل الذي ارتكبه أني محوت حكمه على قوم مملكته، ونصبت «أهيميتي» أخاه الأصغر ملكًا عليهم غير أن هؤلاء الخيتيين الذين كانوا دائمًا يدبرون أعمال السوء كرهوا حكمه ونصبوا إغريقيًّا حاكمًا عليهم، وعلى الرغم من عدم وجود أي حق له في إدعاء العرش لم يكن يكنُّ أي احترام للسلطة، فكان في ذلك مثلهم، وفي حالة غضب مفاجئة لم أنتظر حتى أجمع كل جيشي أو لأجهز معدات المعسكر، ولكن سرت نحو «أشدد» ولم يكن معي غير محاربيَّ الذين كانوا حتى في الأماكن المسالمة لا يفارقون جانبي، ولكن هذا الإغريقي سمع عن تقدم حملتي من بعيد وهرب إلى مصر، وهي التي كانت الآن ملك «إثيوبيا» (ولم يمكن الكشف عن المكان الذي اختبأ فيه) وقد حاصرت وهزمت مدن «أشدد» «وجات» «وأشدوديموا»، وقد أعلنت أن صوره وزوجه وأولاده وكل متاعه وكنوز قصره وكذلك كل سكان بلاده غنيمة، وأعدت نظام إدارة هذه المدن وأسكنت فيها أناسًا من أقطار الشرق التي فتحتها شخصيًّا، ونصبت ضباطًا من ضباطي عليهم، وأعلنت أنهم مواطنون آشوريون، وبهذه الصفة جروا سيور نيري «أي أصبحوا تحت سلطاني»، وملك «إثيوبيا» الذي يسكن «في مملكة بعيدة» في إقليم لا يمكن الاقتراب منه؛ إذ كانت الطريق إليه … ومَن آباؤهم لم يرسلوا رسلًا من أزمان بعيدة حتى الآن عن صحة أجداد الملوك، فقد سمع على الرغم من بعد المسافة بقوة الآلهة «آشور»، «ونبو»، «ومردوك»، وقد أعماه ما يبعثه رهبة فخار ملكي واستولى عليه الفزع، من أجل ذلك أُلقي به «أي الإغريقي الحاكم المغتصب لملك أشدد» في السلاسل والأغلال ومقابض من حديد وأحضروه إلى «آشور»، وهو سفر طويل.
… في إقليم بلدة «نخال موسور» (ومعناه حرفيًّا بلدة نهير مصر، وموقع هذا النهير غير مؤكد، وقد وُحِّد بالخليج الذي بين مصر وفلسطين)، وقد جعلت جيشي يقطع الطريق عند الغروب … شيخ بلدة «لابات» … «شلكاني» أو «شلهيني» ملك مصر الذي … سخر آشور، سيدي الذي يبعث الفزع، قد تغلب عليه فأحضر هدايا اثني عشر جوادًا عظيمًا من مصر ليس لها مثيل في هذه البلاد.
«أزيرو» ملك أشدد … بسبب هذه الجريمة من … «أهيميتي» … أخاه الأصغر «عليهم …» وجعلته حاكمًا … جزية … مثل الملوك السابقين فرضتها عليه «ولكن هؤلاء» «الخيتا» الملعونين قد فكروا في عدم دفع الضرائب، وبدءوا بثورة على حاكمهم فطردوه … «أمانو» وهو إغريقي من عامة الشعب وليس له حق في إدعاء العرش ليكون ملكًا عليهم، وقد جعلوه يجلس على نفس العرش الذي كان عليه سيده السابق، «وهم …» بلدهم للهجوم؟ «يأتي بعد ذلك فجوة قدرها ثلاثة أسطر» … في جوارها وجهزوا خندقًا عمقه عشرون + س ذراعًا، وقد وصل عمقه حتى الماء السفلي لأجل أن … وبعد ذلك نشر أكاذيب لا حصر لها عند حكام فلسطين «ويودا» «ومواب» وعند سكان الجزائر، وأحضروا جزية وهدايا لرب «آشور»، وقد نشر أكاذيب لا حصر لها ليقصيهم عني، وكذلك أرسل رشوة لفرعون ملك مصر وهو مستبد عاجز عن خلاصهم وسأله أن يكون حليفًا، ولكني أنا «سرجون» الحاكم الشرعي المخلص لما ينطق به «نبو» «ومردوك» قد حافظت على أوامر الإله «آشور» وسرت بجيش إلى دجلة والفرات في وقت قمة فيضانهما؛ أي فيضان الربيع كأنه أرض جافة، وعلى أية حال فإن هذا الإغريقي ملكهم الذي وضع ثقته في قوته نفسه فلم يخضع لحكمي «المنزل من عند الإله» قد سمع باقتراب حملتي وأنا لا أزال بعيدًا فتغلب عليه بهاء رب «آشور» … فر …
ولا نزاع في أن هذه النقوش التي ترجع كلها إلى عصر «سرجون الثاني» تكشف لنا عن عدة حقائق عن مصر في تلك الفترة، فنرى أولًا أنها كانت تساعد فعلًا مدن فلسطين وسوريا على التخلص من النير الآشوري، فقد تحالفت مع غزة وحاربت آشور في موقعة هزم فيها جيش مصر وجيش غزة عند «رفح» وهرب قائد الجيش «شبكا»، وكذلك نجد أن مصر كانت تحمي الفارين من حكام البلاد الذين تحت السيطرة الآشورية، غير أنها كانت تسلمهم ثانية إلى ملك آشور، مما يدل على قوة هذا الملك وخوف ملك مصر وكوش منه، فقد أعاد إليه حاكم أشدد، هذا ونجد ملك مصر يقدم الهدايا إلى ملك آشور، كل هذا يدل على خوف ملك مصر والسودان من ملك آشور، ولكن هذه الحقائق التي نثبتها هنا هي من جانب واحد وهو الجانب الآشوري وحده، ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم يصل إلينا حتى الآن أية وثيقة مصرية عن علاقة مصر ببلاد آشور في هذا العهد، ولذلك سيبقى مصدرنا الوحيد عن هذا العصر من جانب واحد وهو الجانب الآشوري، وفيه من المبالغة ما فيه، حتى قيل إن ملك مصر والسودان في ذلك العهد كان يقدم جزية لملك «آشور».
(د) خاتمة حياة «سرجون»
كانت آخر حملة قادها «سرجون» في الشمال الغربي من إمبراطوريته، ولا نزاع في أن تدبير هذه الحملة ونتيجتها يمكن اعتبارها مقياسًا لقدرة «سرجون الثاني» بوصفه رجل سياسة وقائد حرب، فقد كانت الهزيمة التي حاقت بملك «أورارتو» (أرمينيا) المسمى «أرجستي» في عام ٧٠٧ق.م بمثابة نذير لملك «آشور» بخطر جموع قوم السميريين على حدوده الشمالية، وقد صمم «سرجون» على مقابلة هؤلاء القوم المتوحشين في الحال عند النقطة التي كانوا يزحفون منها على حدوده، فسار بجيشه عام ٧٠٦ق.م إلى «تابال» وقابلهم في موقعة عام ٧٠٥ق.م، وعلى الرغم من سقوط سرجون قتيلًا في ميدان الحرب في هذه الموقعة فإن سياسته كانت قد حققت أكثر مما كان ينتظر، وذلك بما وصل إليه من نتيجة، فلم نعد نسمع بعدُ بتقدم هام من ناحية هؤلاء السميريين المتوحشين في خلال مدة حكم خلفه الملك «سنخرب»، وليس من السهل علينا أن نقدر هذا العمل الذي قام به «سرجون» أكثر مما يجب؛ إذ لا نزاع في أن «سوريا» بل ومن الجائز كل غربي آسيا كانت مدينةً بخلاصها من الغزو في هذا الوقت للحملة التي فقد فيها «سرجون» حياته؛ وذلك لأن قوم السميريين كانوا قد أصبحوا في زوايا النسيان لمدة عدة سنين انقضت بعد هذه الموقعة، وقد تُركوا يهيمون على وجوههم في الأراضي المجهولة في داخل آسيا الصغرى، أما جثمان «سرجون» الذي ظل في ميدان الموقعة فقد عثر عليه بين القتلى وحمل إلى آشور.
ولا ريب في أنه يظهر لنا مما ذكرناه سابقًا عن حكم «سرجون» في أقاليم إمبراطوريته المختلفة البرهان المبين عن نشاطه ومقدرته، ومع ذلك فقد كان من البشر، عرضة لارتكاب أخطاء، وأظهر هذه الأخطاء اختياره لموقع عاصمته الجديدة التي سماها باسمه «دور-شاروكين» (أي بيت سرجون) تعظيمًا لنفسه، وتقع في الشمال من «نينوة» على شاطئ مجرى صغير يصب في دجلة من الشرق، وهي المعروفة الآن باسم «خورسباد»، ولا غرابة إذا وجدنا أن أخلافه قد هجروها، غير أنها بقيت بمثابة حصن، وعلى أية حال ينبغي أن نلحظ هنا أن السبب في اختيار «سرجون» لهذا الموقع يرجع على الأرجح إلى انهماكه في المسائل المتعلقة بحدوده الشمالية الشرقية، فمن بلدة «دور شاروكين» (خورسباد) كان يمكنه أن يجمع ويرسل بطريقة أسهل معلومات إلى حكامه على هذه الحدود، والواقع أن هذه المدينة وما أنفق عليها من أموال طائلة كان لإشباع شهوة شخص واحد، وهو الملك الذي هُجرت على أثر وفاته؛ أي «سرجون الثاني»، وهذا العمل يتناقض مع ما كان عليه كل من «شلمنصر الثالث» والملك «سنخرب» من حسن اختياره لعاصمته، فإن كلا منهما كان ينظر في اختياره بمنظار الحقائق المفيدة، فقد صرف كل منهما مجهوده وأمواله على تحسين مدن «آشور» «وكالح» «ونينوة» عواصم البلاد الطبيعية، مراعيًا في ذلك الفوائد الحقيقية التي كانت تعود على الإمبراطورية.
ويمتاز فن النحت في عصر «سرجون الثاني» بإبرازه باتساع وجلال، وبخاصة نحت الأشكال البشرية، أما في الفن عامة فليس هناك تقدم يذكر على وجه عام.
أما في الأدب فنجد أن المعلومات التي جمعها تبعث فينا حب الاستطلاع أكثر مما تمدنا به من معلومات عن التطورات التي حدثت في عهده، فمن الجائز أن هذا الملك كان يدير بنفسه نسخ متون منوعة خاصة بالأعمال العظيمة التي قام بها «سرجون أجادي الأول»، أما ما خصصه من عناية للتفاصيل الجغرافية فكان في الواقع سببه اهتمام «سرجون» شخصيًّا بالفنون الحربية.
وعلى أية حال فإن «سرجون» لم يكن ملكًا عظيمًا وحسب، بل كان كذلك رجلًا مثقفًا نحس فيه نفس الذوق الفني والمجهود الأدبي اللذين يمتاز بهما أخلافه من الملوك العظام.
(٢٦-٥) عصر الملك «سنخرب»٤٠ ٧٠٥–٦٨١ق.م
خلف «سنخرب» والده «سرجون الثاني» على عرش الملك عام ٧٠٥ق.م، وتحدثنا النقوش بأن والده قد دربه على أساليب الحكم وفنون الحرب، وتدل رسائله التي كتبها لوالده عن شئون الحدود الشمالية للدولة على أن واجباته باعتباره وليًّا للعرش كانت تحتم عليه أن يقوم بنصيب وافر في مهام الحكم، والظاهر أنه قد اتبع نفس السياسة التي اختطها والده لنفسه في إدارة شئون الملك، ومن الغريب أن بعض المؤرخين قد نسب إلى «سنخرب» أن توليته العرش كانت نذيرًا باندلاع ثورة في الأقاليم، والظاهر أن هذا الخطأ قد جاء عن طريق ذكر حوادث عهد هذا العاهل باختصار فأدى ذلك إلى سوء فهم المتون.
والواقع أن الجيش الآشوري قد مكث عدة سنين لا عمل له قط، وكان «سنخرب» في خلالها مشغولًا في أفخم عمل قام به مدة حكمه وهو إعادة بناء مدينة «نينوة»، ولا نزاع في أن هذه الفترة التي كان لا عمل فيها للجيش تدل على ما كانت عليه الإمبراطورية الآشورية من أسس ثابتة، كما كانت تدل على أن الإدارة كانت مكينة في عهد «سرجون» العظيم.
كان أول من ناهض حكم «سنخرب» عبد مُدَّعٍ اغتصب عرش «بابل»، وذلك في الوقت الذي كان يدبر فيه «مروداخ-بلدان» مؤامرة على «سنخرب» مع من حوله من الممالك القوية، وبخاصة مملكه «عيلام» وبلاد العرب للاستيلاء على عرش «بابل»، فلم يكد يعلم «مروداخ بلدان» بهذه المؤامرة التي قام بها هذا المدعي حتى زحف بجيشه وهزمه واستولى على ملك «بابل»، واتخذ «بور-سبا» عاصمة له، وعندما علم «سنخرب» بذلك زحف بجيشه بدوره وقضى على جيش «مروداخ بلدان» وأحلافه من العيلاميين والعرب في «كوتا» ثم في «كيش»، وبعد ذلك سار «سنخرب» إلى «بابل» حيث قابله الأهوان بالترحاب، ثم قام بتخريب معاقل «الكلدانيين» واستولى على ثمانية وثمانين مدينة محصنة، والظاهر أن الملك «سنخرب» قد ولى رجلًا عظيمًا من أهل «بابل» كان قد تربى في بلاط «آشور» في حداثة سنه ملكًا على «سومر» «وأكاد» «كما كان يفعل ملوك مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة، فقد كانوا يربون أولاد الأمراء التابعين لهم ثم ينصبونهم ملوكًا بعد آبائهم»، وجعل بجانبه موظفين حكامًا لأقاليم «كلديا»، ولكن لم يلبث أن عاد «مروداخ بلدان» الذي كان قد هرب إلى بلاده «بيت يكن» وأخذ يستعد لمهاجمة «بابل» ثانية.
دُعي «سنخرب» بعد حادث «بابل» بعامين إلى الزحف نحو حدوده الغربية وذلك لقيام معارضات وثوارت على الحكم الآشوري، ولا يبعد أن ذلك كان بتحريض رسل «مروداخ بلدان» عندما أراد الاستيلاء على «بابل» ثانية، وكذلك بتحريض من مصر التي كانت تخاف شر «آشور» وتوغلها في أراضي فلسطين التي كانت في سالف الزمان تسيطر عليها، وكان أقوى ملك في فلسطين عند تولية «سنخرب» الملك هو «حزقيا» ملك «يهودا» الذي كان قد قام بمحاولة جرئية لتحسين مركزه الحربي، وذلك بتوسيع رقعة بلاده، على الرغم من أنها كانت محاولة خطرة، فبعد أن هزم الفلسطينيين جعل نفسه بصورةٍ ما المسيطر عليهم (راجع سفر الملوك الثاني الإصحاح ١٨، سطر ٨) ولا نعلم على وجه التأكيد إذا كان الغرض من حروبه مع فلسطين هو كسر شوكة الدويلات التي كانت تنتمي إلى الآشوريين مثل «بادي» «وإكرون» أو لاسترجاع المدن التي كان قد استولى عليها «سنخرب»، وقد جعل «حزقيا» مدينة «أورشليم» منيعة لتدافع عن نفسها، وذلك ببناء مجرى ماء تحت الأرض ليصبح جلب الماء إليها يسيرًا إذا حوصر، ومن المحتمل أن هزيمة «مروداخ بلدان» قد جعلت «حزقيا» يحجم عن مهاجمة الآشوريين، ولكنه كان مع ذلك قد توسط في إعلان الثورة هو وممالك أخرى كان غرضها تدبير مؤامرة على آشور، وهذه المؤامرة التي أشير إليها في التوراة (في كتاب إشعيا الإصحاح ٣٠، سطر من ١–٥) لا بد أنها ترجع إلى عامي ٧٠٢-٧٠١ق.م، عندما شاعت خيبة ثورة «مروداخ بلدان» ملك «كالديا»، أما المصريون الذين قاموا بهذه المؤامرة فهم ملوك الدلتا الإقطاعيون الذين كانو يعملون بعلم من «شبكا» الكوشي فرعون مصر في ذلك العهد، وهذه المؤامرة الجديدة التي تورطت فيها معظم مدن جنوب فلسطين قد اشتركت فيها «صور» «وصيدا»، وهما أهم مدينتين في «فينيقيا»، ومما يلفت النظر هنا أن هذه كانت أول مرة يشترك فيها ملوك «فينيقيا» في مقاومة مباشرة لبلاد آشور، وبذلك يكونون قد خرجوا عن عادتهم المتبعة، وهي الاعتراف بأي دولة تكون لها السيادة في الشرق، والواقع أننا لا نعرف السبب في موقفهم الجديد، ولكن يحتمل أن حكام آشور كانوا يستعملون نفوذهم على حساب التجارة والتجار «الفينيقيين»، وواضح مما ذكرنا عن الحملة الآشورية أن «حزقيا» «ولولي» ملك «صيدا» كانا يخفيان المشروع الذي تورطا فيه، وكان مصير المؤامرة المصرية إلى الفشل قبل أن يواجههم «سنخرب» بجيشه.
وقد بدأت الثورة التي كان يرأسها «حزقيا» بطرد الملوك والأمراء الذين عينهم الآشوريون في المدن الجنوبية الفلسطينية، فطُرد ملك «عسقلان» المسمى «شارولو داري» (وهو الذي قد خلف «روكبتو» الذي نصبه «سرجون») على يد «صيدقا» ملك عسقلان، وطُرد «ميتيني» حاكم أشدد من قبل الآشوريين، وفي «أمقارونا» (إكرون) قامت ثورة طرد من جرائها «بادي» الذي كان قد بقي على ولائه للحكم الآشوري، وسُلِّم مكبَّلًا في السلاسل والأغلال لحزقيا ملك «يهودا»، وهذا العمل الذي تورط فيه حزقيا بما أعلنه من تردد في إعلان الثورة قد جعل سنخرب يسير إلى ساحة القتال في عام ٧٠٠ق.م، فزحف أولًا على إقليم «صور» ثم على «صيدا»، غير أن «لولي» ملك الأخيرة لم ينتظر هجوم «سنخرب» وهرب إلى جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، فنصب «سنخرب» مكانه «إتبعل» (توبعلو) على «العرش»، وأضاف إليه عدة مدن هامة تشمل مدينة «عكا»، وقد كان من جراء ظهور الجيش الآشوري أن خضع في الحال عدد عظيم من أعضاء الحلف الذي ألفه حزقيا للملك «سنخرب»، وحضر جماعة من الأمراء لتقديم الجزية في بلدة لجيش ومن بينهم «منحيم» ملك «ساميورون» وعبد اللاتي ملك «أرواد» «وأرو ملكي» ملك «جبيد» وميشينتي ملك «إشدودو» (أشدد) «وبادوئيل» ملك «بيت عمون» «وكموسونادبي» ملك «مواب» «وآي-رمو» ملك «أدوم»، أما «صيدقا» ملك «عسقلان» فقد حوصر وأُسر، وكذلك خضعت بعدها المعاقل التي حول «عسقلان» قبل أن يزحف «سنخرب» إلى «إكرون».
والواقع أن السرعة الخاطفة التي قام بها «سنخرب» في حملته هذه قد جعلت كل الاستعدادات التي جهزها الثوار عديمة الجدوى، فقد كان «حزقيا» على غير استعداد، هذا إلى أن المصريين كانوا قد تأخروا جدًّا في الوصول إلى «إكرون»، وكان ملوك الدلتا في مصر قد حصلوا وقتئذٍ على مدد من بلاد النوبة أرسله إليهم الفرعون، ومع ذلك فإنهم لم يكونوا في موقف يمكنهم من مواجهة الآشوريين بدون مساعدة حلفائهم كما اضطروا أن يفعلوا في «التاقو» (التقة).
والواقع أن المعركة التي دارت بين الفريقين لم تمكث طويلًا كما أنها لم تكن عنيفة، فقد سلم عدد عظيم من الجنود المصريين من بينهم قائد العربات المصري وبعض صغار الأمراء المصريين هذا إلى قائد عربات الملك «شبكا»، وبعد المعركة سار الملك «سنخرب» للاستيلاء على «إكرون» فعاقب قواد الثورة بقسوة وقوَّى مركز الحزب الموالي لآشور، وأعاد «بادي» حاكم «إكرون» إلى منصبه بعد أن فك أسره من «أورشليم».
أما حزقيا «اليهودي» فإنه لم يخضع لنيري، وقد وضعت الحصار على ست وأربعين من مدنه القوية وحصونه المسورة، وعلى القرى الصغيرة المجاورة التي لا حصر لها، وفتحتها بوساطة بناء منحدرات من الطين مكينة ومنجنيقات نصبت بالقرب من الجدران، هذا بالإضافة إلى هجوم المشاة الذين كانوا يستعملون الألغام والنقب والتقويض، وقد سقت منها ٢٠٠١٥٠ نسمة صغارًا ومسنين وإناثًا، وكذلك خيلًا وبغالًا وحميرًا وجمالًا وماشية صغيرة وكبيرة يخطئها العدُّ، واعتبرتها غنيمة، أما هو «حزقيا» فقد جعلته سجينًا في «أورشليم» مقره الملكي كالطائر في القفص، وقد أحطتها بمتاريس لأجل أن أضايق أولئك الذين يطرقون باب مدينته.
أما مدنه التي نهبتها فقد انتزعتها من بلاده وأعطيتها «متينتي» ملك «أشدد» وبادي ملك «إكرون» «وسيليبل» ملك «غزة»، وبذلك انتقصت بلاده، ولكني زدت في الجزية والهدايا المستحقة «لي» بوصفي سيده الأعلى، وهي التي فرضتها عليه «فيما بعد خلافًا للجزية السالفة لتدفع سنويًّا.»
أما «حزقيا» نفسه الذي استولى عليه بهاء سيادتي الذي يبعث الرهبة فقد هجره جنوده غير النظاميين المختارون، وهم الذين جلبهم إلى «أورشليم» مقره الملكي لأجل أن يقووها، وقد أرسل إليَّ فيما بعد في «نينوة» مدينتي المسورة خلافًا لثلاثين تلنتا من الذهب وثمان مائة تلنتا من الفضة والأحجار الكريمة والتوتية، وقطعًا كبيرة من حجر أحمر ومتكآت مطعمة بالعاج، وكراسي مطعمة بالعاج، وجلود فيلة وخشب أبنوس وخشب بقس وكل أنواع الكنوز الثمينة، بناته وحظيات وموسيقارين ذكورًا وإناثًا، كما أرسل رسوله الخاص لأجل أن يسلم الجزية ويقدم فروض الطاعة.»
«وقد حرمت «لولي» ملك «صيدا» مملكته، ونصبت «إتبال» (تابولا) على عرشه، وفرضت عليه الجزية «المستحقة» «لي» بوصفي سيده الأعلى، وخربت إقليم «يودا» الواسع، ووضعت النير على عاتق «حزقيا» ملكها.»
ومن مضمون المتن السابق نرى أن «سنخرب» على الرغم من انتصاراته على مصر وحلفائها، وعلى الرغم من إخضاع جزء كبير من أملاك حزقيا ملك يهودا، فإنه لم يمكنه التغلب على «أورشليم» بكل ما أوتي من قوة لمناعتها، فحاصرها، والظاهر أن حصارها كان غاية في الأهمية؛ إذ قد خلده هذا العاهل على جدران قصره في «نينوة»، وقد بقي «حزقيا» حبيسًا داخل جدرانها كعصفور محبوس في قفص، كما عبر عن ذلك «سنخرب» في نقوشه، أما باقي إقليم «يهودا» فقد ضرب كما ذكر لنا ذلك هو بنفسه واستولى على ٢٠٠١٥٠ نسمة، ويحتمل أنه يقصد بذلك العدد أن سكان يهودا كانوا أسرى حرب في نظره؛ وذلك لأن نقل مثل هذا العدد الضخم من الأسرى الذي يعادل عشرة أمثال عدد الأسرى الذين استولى عليهم سرجون من إسرائيل يكاد يكون مستحيلًا، هذا فضلًا عن أننا لم نقرأ أية إشارة عن نفي مثل هذا العدد في التاريخ اليهودي.
وأرسل ملك آشور «ترتان» «وربساريس» «وربشاقي» من الجيش إلى الملك «حزقيا» بجيش عظيم إلى «أورشليم» فصعدوا وأتوا إلى «أورشليم»، ولما صعدوا جاءوا ووقفوا عند قناة البركة العليا التي في طريق حقل القصار (١٨) ودعوا الملك فخرج إليهم «الياقيم بن حلقيا» الذي على البيت «وشبنة» الكاتب «ويواخ بن آساف» المسجل، فقال لهم «ريبشاقي»: قولوا «لحزقيا»: هكذا يقول الملك العظيم ملك آشور، ما الاتكال الذي اتكلت؟ قلت إنما كلام الشفتين هو مشورة وبأس للحرب، والآن على من اتكلت حتى عصيت عليَّ؟ فالآن هو ذا قد اتكلت على عكاز هذه القصبة المردودة، على مصر التي إذا توكأ أحد عليها دخلت في كفه وثقبتها، هكذا هو فرعون ملك مصر لجميع المتكلين عليه، وإذا قلتم لي على الرب إلهنا اتكلنا، أفليس هو الذي أزال «حزقيا» مرتفعاته ومذابحه وقال «ليهودا» «ولأورشليم» أمام هذا المذبح تسجدون في «أورشليم»، والآن راهن سيدي ملك آشور فأعطيك ألفي فرس إن كنت تقدر أن تجعل عليها راكبين، فكيف (٢٤) ترد وجه والٍ واحد من عبيد سيدي الصغار، وتتكل على مصر لأجل مركبات وفرسان (٢٥) والآن هل بدون الرب صعدت على هذا الموضع لأخربه، الرب قال لي: اصعد على هذه الأرض وخربها، فقال «الياقيم» بن «حلقيا» «وشبنة» «ويواخ» «لريبشاقي» كلم عبيدك بالآرامي؛ لأننا نفهمه، ولا تكلمنا باليهودي في مسامع الشعب الذي على السور (٢٧) فقال لهم «ريبشاقي»: هل إلى سيدك وإليك أرسلني سيدي لكي أتكلم بهذا الكلام، أليس إلى الرجال الجالسين على السور ليأكلوا عذيرتهم ويشربوا بولهم معكم (٢٨) ثم وقف «ريبشاقي» ونادى بصوت عظيم باليهودية وتكلم قائلًا: اسمعوا كلام الملك العظيم ملك آشور (٢٩)، هكذا يقول الملك، لا يخدعكم «حزقيا»؛ لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يده، ولا يجعلكم «حزقيا» تتكلون على الرب قائلًا إنقاذا ينقذنا الرب، ولا تدفع هذه المدينة إلى يد ملك آشور (٣١) لا تسمعوا «لحزقيا»؛ لأنه هكذا يقول ملك «آشور» اعقدوا معي صلحًا واخرجوا إليَّ وكلوا كل واحد من جفنته وكل واحد من تينته واشربوا كل واحد ماء بئره (٣٢) حتى آتي وآخذكم إلى أرض كأرضكم، أرض حنطة وخمر، أرض خبز وكروم، أرض زيتون وعسل وحيوان، ولا تموتوا ولا تسمعوا لحزقيا؛ لأنه يغركم قائلًا الرب ينقذنا (٣٣) هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك آشور؟ أين آلهة «حماة» «وأرواد»؟ أين آلهة سفرا ويم «وهينع» «وعيوا»؟ هل انقذوا الساحرة من يدي؟ مَن مِن كل آلهة الأراضي أنقذوا أرضهم من يدي حتى ينقذ الرب «أورشليم» من يدي؟ (٣٦) فسكت الشعب ولم يجيبوه بكلمة؛ لأن أمر الملك كان قائلًا لا تجيبوه، فجاء «الياقيم بن حلقيا» الذي على البيت «وشبنة» الكاتب «ويواخ بن أساف» المسجل إلى «حزقيا» وثيابهم ممزقة فأخبروه بكلام «ريبشاقي».
وهذا الخطاب لا يبعد عن الحقيقة؛ لما نعرفه من روح هذا العصر في مملكة «آشور»، فقد كان الآشوريون قومًا لا يختلفون عن قوم «الهون» المتوحشين، وهذا هو ما نلحظه في صلاة «حزقيا» عندما قال في السطر السابع عشر من الإصحاح نفسه: «حقا يا ربي إن ملوك «آشور» قد خربوا الأمم وأراضيهم، ودفعوا آلهتهم إلى النار؛ لأنهم ليسوا آلهة، بل صنعة أيدي الناس، خشب وحجر.» كل ذلك لم يكن من وضع مؤرخ يحتمل أنه قد عاش بعد هذا الحادث بزمن طويل بعد انتهاء عهد الإرهاب الآشوري، بل الواقع أن قصة حصار «أورشليم» كما نقرؤها في سفر الملوك كانت معاصرة للنقوش التي نقشها «سنخرب» عن هذا العهد، ولا نشك إذن في أن مقال «ريبشاقي» الذي جاء في التوراة قد قص على حقيقته، ولا بد أنه كان يختمر في ذهن كل من سمع.
ولكن كلام النبي «إشعيا» قد شجع «حزقيا» وأدخل عليه السرور بعد سماعه لما قاله «ريبشاقي»، ولذلك دافع عن المدينة إلى أن اضطر بعد تخلي جنوده المختارة عنه، وهم الذين كانوا يؤلفون جزءًا من القوة المدافعة إلى فرض شروط تسليم غير التي أملوها عليه أولًا، وقد قبل الآشوريون شروطه؛ إذ كان قد أنهكهم طول الحصار وهم مرابطون أمام المدينة، وبعد ذلك أرسل «حزقيا» جزيته إلى آشور.
أما المدن الفلسطينية التي كان يحتلها فقد أعطيت «بادي» ملك «إكرون»، ولما كان «حزقيا» يعتقد أن «يهوى» وحده هو الذي خلصه من شر الآشوريين فإنه أعلن عودة السلام، وتمسك بحرارة وحماس بعقيدة التوحيد، وأتلف «نحشتان»؛ أي الثعبان النحاس، وهو الذي على حسب ما جاء في الأساطير كان قد نصبه موسى في الصحراء، ومن المرجح أنه كان تمثالًا قديمًا جدًّا قد أتى به أجداد الإسرائيلين من مصر (راجع سفر الملوك الثاني الإصحاح ١٨ سطر ٤): هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها وعدوها «ناحشتان». على الرب إله إسرائيل اتكل، وبعده لم يكن مثله في جميع ملوك «يهودا» ولا في الذين كانوا قبله.»
والواقع أن «حزقيا» كان متعبدًا مخلصًا غير أنه لم يكن سياسيًّا؛ لأنه بعد خلاص «أورشليم» مباشرة وصل به الحمق أن استقبل رسلًا من «مروداخ بلادان» ملك «كلديا» الذي قام مرة أخرى يطالب بعرش «بابل»، وقد وبخه على هذه الحماقة النبي «أشعيا» الذي رأى أن معنى الصداقة مع «مروداخ بلادان» هو زحف «سنخرب» بجيشه مرة أخرى على «أوشليم» التي لم يصبها إلا ما أصاب السامرة (راجع سفر الملوك الثاني الإصحاح ٢٠)، ولكن الظاهر هنا أن هذا الرسول الذي جاء من قبل «مروداخ بلادان» كان قد جاء إلى «حزقيا» في بداية حكم «سنخرب» يقصد بث الثورة في غرب أملاك آشور.
والواقع أن «مروداخ بلادان» قد انتهز فرصة غياب «سنخرب» في الجهة الغربية من أملاكه وقام بغزو «بابل» كرة أخرى، وقد زحف عليه «سنخرب» بجيشه بعد أن عاد من «أورشليم» في الحال، وقضى على هذا الأمير الكلدي الثائر قضاء تامًّا؛ لأنه لم يكتفِ بطرده من «بابل» فقط، بل أقصاه عن مسقط رأسه «بيت يكن»، وقد استقل «مروداخ بلادان» سفينة من هناك وهرب إلى إقليم «ناجيتو» في عيلام بالقرب من بوشير الحالية، وقد نصب «سنخرب» مكانه «إسرحدون» ابنه ملكًا على «بابل» بدلًا من ملكها الأسمى المسمى «بل-إبني».
ولم تحدث حرب على اليابسة بين الإغريق والآشوريين على ما نعلم حتى عام ٦٩٨ق.م، وقد حدثنا الملك «سنخرب» أنه في هذا العام ثار «كيروا» حاكم «قوى» (سيليسيا) يعاضده القوم الذين كانوا يسكنون «أنجيرا» «وطرسوس» واستولوا على الطريق التجاري العظيم الذي يمر ببوابات «سيليسيا» من سوريا إلى بلاد الأناضول، وبذلك تعطلت كل التجارة، وقد قامت آشور بحملة قاسية غاية في الخطورة على بلاد «سيليسيا» هُزم فيها ملكها وأحلافه هزيمة منكرة، وقد غنم منها الآشوريون غنائم كثيرة حملت إلى «نينوة»، وبعد ذلك سار «سنخرب» في حفل عظيم إلى المكان الذي انتصر فيه قواده على الرغم من أنه لم يشترك في المعركة، وأقام هناك تذكارًا من المرمر تخليدًا لهذا النصر في مدينة «اللوبرو».
وقد وصف لنا المؤرخ البابلي «بروسس» حملة عظيمة قام بها «سنخرب» في «سيليسيا» على الإغريق، غير أن الوصف الذي حفظه لنا كل من المؤرخين «ألكسندر بوليهستور» «وأبيدنوس» ونقله عنهما «يوزيب» يختلف كل منهما عن الآخر؛ فقد ذكر أحدهما أن الموقعة التي كانت مع الإغريق كانت برًّا، وذكر الآخر أنها كانت بحرية، فيقول «بوليهستور»: إن «سنخرب» قد وصله تقرير بأن الإغريق قاموا بهجوم على «سيليسيا» وأنه زحف عليهم وهزمهم وتكبد خسائر فادحة، ثم يستمر متن المؤرخ «يوزيب» قائلًا: إن «سنخرب» قد أقام تمثالًا لنفسه ليخلد هذا النصر في المكان الذي وقعت فيه الواقعة، وأمر أن يدون هذا النصر عليه بحروف كلدانية ليراه الخلف، ثم يضيف «بوليهستور» إلى ذلك أن «سنخرب» قد أقام مدينة «طرسوس» على غرار مدينة «بابل».
أما رواية «بروسس» فتجعل «سنخرب» يهزم أسطولًا من السفن الإغريقية في حرب بعيدة عن ساحل «سيليسيا»، وكذلك يقول: إن «سنخرب» أسس معبدًا في «أثينا» له عمد من البرنز حفرت عليها أعماله العظيمة، ويفسر ما قاله «بوليهستور» عن التشابه الذي بين «طرسوس» «وبابل» بقوله: إن «سنخرب» جعل نهر «كدنس» يخترق وسط المدينة كما يخترق الفرات مدينة «بابل»، والواقع أننا لا نعرف إلا حملة واحدة حدثت في حكم «سنخرب» وهي التي قام بها في عام ٦٩٨ق.م على بلاد «كيروا». هذا ولم يذكر شيء عن حروب «سيليسيا» قبل الكشف عن الأسطوانة الجديدة السالفة الذكر، إلا في وثيقة واحدة أخرى، وقد اختلط ما جاء فيها بالحملة الخامسة، فقد ظن أن جبال «تيبور» هي «طرسوس» وأن الهجمات التي وقعت في عام ٦٩٩م والتي حدثت فعلًا في «يودي داغ» وهي التي لا تبعد أكثر من خمسين ميلًا عن «نينوة» في أنها «سيليسيا».
وقد أمضى سنخرب عدة سنين منهمكًا في إقامة جدرانه وقصوره في «نينوة» ولم يقم بأية حملة أخرى بعد التي قام بها أخيرًا.
ولم يلبث أن قام الجيش الآشوري في عام (٦٩٢) بحملة سادسة، فعزم «سنخرب» على أن يضرب «مروداخ بلدان» في المكان الذي كان قد تقهقر إليه على ساحل عيلام عند الخليج الفارسي، وقد اتخذ العدة لتنفيذ مشروعه هذا، فبنى سفنًا كبيرة على غرار السفن الفينيقية في تل يرسيب «وهي الآن التل الأحمر القريبة من جرابيس» الواقعة على أعالي نهر الفرات، وجهزها ببحارة من أهالي صيدا، وبعد أن استعد أسطوله نزل في النهر حتى الخليج الفارسي فعبر بجيشه إلى ساحل عيلام، وكان الإله «يا» إله المحيط يرعاه بحظوته، وكان قد استجلب رضاءه بالقرابين التي تحتوي على سفينة من النضار وسمكة من الذهب وأشياء أخرى كانت قد ألقى بها في البحر، وذلك على غرار ما كان يفعله المصريون؛ إذ كانوا يلقون القرابين المؤلفة من تماثيل وحلي في النيل جلبًا لرضاء «حعبي» إله الفيضان.
وقد ضرب بهذا الجيش ساحل «عيلام»، وحمل قواده مئات الكلدانيين من الأسرى وآلهتهم، كما ساقوا أسرى من «عيلام» إلى «بابل»، حيث كان ينتظر «سنخرب» الذي لم يسلم نفسه إلى حظوة إله البحر «يا» الذي لم تكن حظوته مضمونة، ولا نعرف إذا كان «مروداخ بلدان» قد قُتل في هذه الحرب أم لا، وكل ما نعلمه أنه لم يظهر في التاريخ بعد هذه الحرب.
وهذه الحملة في الواقع كانت بمثابة إعلان حرب على عيلام وملكها «حالو-شو»، فقد أهاجه تخريب ساحل بلاده، ولذلك رد في الحال على هذا التخريب بغزو «بابل»، واستولى على مدينة «سبار»، كما أسر «آشور نادين شوم» ملكها ابن «سنخرب»، وولى مكانه على عرش «بابل» رجلًا يدعى «نرجال-أوشريب»، ثم عاد إلى عيلام حاملًا معه «آشور نادين شوم» في ركابه، وبذلك أصبحت طريق «سنخرب» مسدودة في وجهه إلى «آشور»، غير أن «برجال-أوشريت» ملك بابل الجديد لم يكن في مقدوره مقاومة زحفه الجارف من الجنوب، فهزم في «نبور» وسيق إلى «آشور» سنة ٦٩٣ق.م، وبعد ذلك هاجم سنخرب عيلام، غير أن ملكها «كودور تحخونت» الذي خلف «حالو-شو» في تلك الغزوة تقهقر أمامه واعتصم بالجبال، ولذلك لم يحصل الآشوريون على أي نصر، وفي النهاية عادوا إلى نينوة، وعلى أثر مغادرة الآشوريين للبلاد نصب البابليون عليهم ملكًا يدعى «موشزيب مردوك» عام ٦٩٢ق.م، وفي السنة التالية زحف سنخرب عليه، فطلب هذا الملك الذي استحوذ على قلبه الرعب إلى خلف كودور تحخونت المسمى «أومان مينانو» أن يساعده، ورشاه بكنوز معبد الإله «مردوك» الذي أخذه من بينهم وأرسله إلى عيلام، وقد قبل «أومان مينانو» وأرسل الجيش العيلامي لمقابلة «سنخرب» عند «خالولي» على نهر دجلة، وقد نشبت بينهم معركة وصفها مؤرخ «سنخرب» وصفًا رائعًا، فاستمع إلى بعض ما جاء في هذا الوصف: «ومشوا نحوي منقضين انقضاض أرجال الجراد العظيمة في وقت الربيع، في استعراض حربي للمعركة، وقد ارتفع مثار نفع أقدامهم أمامي كالعاصفة الهوجاء، وقد انتشرت عند مدينة «خالولي» قوتهم على شاطئ نهر الفرات، فاستولوا على الأماكن التي أستسقي منها وأرهفوا أسلحتهم، ولكني تضرعت للآلهة «آشور» «وسن» «وشماشي» «ووبل» «ونبو» «ونرجال» «وإشتار» إلهة «نينوة» «وإشتار» إلهة «أربلا»، وهم الآلهة الذين وضعت ثقتي فيهم لأهزم العدو الجبار، وقد استجابوا لتضرعاتي وأتوا للآخذ بناصري.»
وباقي المتن يصف شجاعة الملك نفسه بلغة ملؤها الزهو والإعجاب، وهي تلك اللغة التي كانت محببة بلا شك لأذني الملك، ولا نزاع في أن هذا الوصف يذكرنا بما جاء في ملحمة «قادش» التي شنها «رعمسيس الثاني» على الخيتا عند وصفه لما قام به من ضروب الشجاعة والإقدام. هذا مع الفارق أن «رعمسيس الثاني» كان في وسط المعمعة وقد نادى الإله آمون لينصره ويعزه، ولكنه قد انتصر على العدو نصرًا غير مؤزر، والواقع أننا لا نعرف إلى أي حد يتفق وصف المعركة الذي نحن بصدده الآن والتي خاضها «سنخرب» مع الحقيقة.
وقد مكث «سنخرب» عامًا دون حرب إلى أن مات «أومان مينانو» في عام ٦٨٩ق.م، وقد كان ذلك فرصة لتنفيذ خطة انتقام من «بابل» ينبغي أن تكون حاسمة ودائمة، فزحف على حين غفلة واستولى على المدينة، وأسر «موشزيت مردوك» ومعه تمثال الإله «مردوك» نفسه، ثم خرب بابل عن قصد، فطرد سكانها وأحرقها، ثم أطلق قناة «أرختو» على خرائبها، وبعد أن فرغ سنخرب من تخريب مدينة بابل عاد إلى مدينة «نينوة» ودخلها ظافرًا، ولم تحدثنا آثاره التي عثر عليها حتى الآن عن ثمانية السنين التي بقيت من حياته؛ إذ يحتمل أن تواريخه قد انتهت عند هذا الحد، ويجوز أن هذا الصمت في تلك المدة من تاريخه يحمل في طياته مصيبة كبرى قد وقعت له في ممتلكاته القريبة نلحظ منها لمحات خاطفة من المصادر الأخرى.
وفي عام ٦٨٩ق.م اعتلى مصر والسودان الملك «تهرقا» بعد موت عمه «شبتاكا»، وهو أخ أصغر للملك «شبكا» وابن الملك «بيعنخي» الفاتح العظيم. ومن المحتمل أن «تهرقا» أخذ يبعث القلاقل في الغرب؛ أي في «فلسطين» «وسوريا» وكان يسودهما السلام أكثر من عشرة أعوام، وكان «حزقيا» يميل إلى الثورة على «آشور»، فنصحه النبي «أشعيا» بعدم الاشتراك في تلك الثورة.
والظاهر أن الرواية اليهودية مرتبكة كما وصلت إلينا عن الحملة التي قام بها «سنخرب» عام ٧٠٠ق.م، ففي قصة سفر الملوك الثاني ذكر «تهرقا» بأنه ملك مصر في تلك السنة؛ أي سنة ٧٠٠ق.م، والواقع أنه لم يكن قد تولى ملك مصر والسودان حتى عام ٦٨٩ق.م على أحدث تقدير، وأنه من المؤكد كذلك أن «حزقيا» بعد أن فك حصار «أورشليم» عام ٧٠٠ق.م قد أرسل جزية فادحة إلى «نينوة»، وعلى ذلك فإنه من المرجح ألا يكون «تهرقا» قد قام بالانتقاض على «آشور» في هذه السنة إذا كانت هي السنة التي اجتاح فيها الوباء جيش «سنخرب» الذي أجبر بعدها على العودة إلى آشور، والظاهر أن ذكر هذه الكارثة على لسان «هردوت» كما جاءت على لسان المصريين بعد حدوثها بأكثر من قرنين من الزمان وكذلك ورود اسمها في التوراة قد يبرر عدم ذكرها بطبيعة الحال في الوثائق الآشورية بوصفها كارثة حلت بهم، والواقع أن «تهرقا» كان ملكًا على مصر والسودان منذ عام ٦٨٩ق.م ومن المعقول أن نفرض حدوث حملة أخرى مر على ذكرها الآشوريون مر الكرام دون الإشارة إليها، وهي تلك الحملة التي يُعزى إليها حصار «بليزيوم» والكارثة التي ذكرت في التقاليد المصرية وذكر «تهرقا» وحصار «لبنة» والمصيبة التي حلت بمملكة يهودا المستقلة، أما باقي قصة التوراة فخاصة بحرب عام ٧٠٠ق.م، ومن المحتمل أن هاتين الحملتين قد اختلط أمرهما في رواية متأخرة، وقد سهل ذلك الخلط أن «تهرقا» كان على ما يُرجح يعمل قائدًا «ترتان» في جيش «شبكا» عام ٧٠٠ق.م، ولما كنا نعلم أنه رافق أخاه شمالًا عام ٧١٢ق.م وكان ضمن رجال بلاطه فإنه يحتمل أنه قاد الحرب في موقعة «التقة» عام ٧٠٠ق.م، وعلى ذلك فإن ظهوره مرتين «وكان في أخراهما ملكًا» يمكن أن يُقدر كأنهما مرة واحدة.
وقد حكم بلاد كوش في ذلك الوقت ملك يدعى «زت» (كشتا)، وقد كان معروفًا تمامًا باسم «زت» على ألسنة الناس وكانت التقاليد تربطه ببلدة «بلزيوم»، ومن ثم فإن «سيتي» الذي جاء ذكره في «هردوت» هو «زت» الكوشي «كشتا»، وعلى أية حال فإنه من المستحيل أن نعزو كل القصة إلى عهد «سيتي» الحقيقي؛ وذلك لذكر «سنخرب» مباشرة هنا، مما يجعل من البدهي توحيد كارثة جيشه في القصة المصرية بكارثة جيشه كما ذكرت في التوراة.
ومهما يكن من أمر فإن السيادة الآشورية على الرغم من أنها فرضت ضرائب فادحة على قوم «يهودا» فإنها لا بد كانت من بعض الوجوه ذات فائدة عظمى له، ويمكننا أن نستنبط من تنبؤات النبي «إشعيا» أن بلاد «أودوم» وبلاد «مواب» وهما المملكتان اللتان على حدود «يهودا» الشرقية كانتا منهمكتين في القيام بغارات على بلاد «يهودا» الجميلة المعمورة، والظاهر أن «حزقيا» لم يكن في مقدوره مقاومتهما مقاومة فعالة.
(أ) أعمال «سنخرب» الداخلية
لا ريب في أن اسم «سنخرب» سيبقى مقرونًا باسم بلدة «نينوة» التي تدين بشهرتها له كمدينة، وإنها أهم ممثلة لبلاد آشور في أعين المؤرخين الذين أتوا فيما بعد، وذلك لاختياره لها عاصمة فأحسن الاختيار، حقًّا إنه وجدها مدينة قديمة مذكورة في التاريخ منذ عهد «حمورابي»، غير أنها كانت قد انحطت من حيث الشهرة، كما أنها كانت عرضة للفيضانات، وقد كان شغل «سنخرب» نفسه الشاغل طوال مدة حكمه هو إعادة بنائها وتنسيقها حتى حولها في حياته إلى عاصمة عظيمة فخمة خليقة بإمبراطوريته المترامية الأطراف، وقد قصد من بنائها أن يجعل مدينة بابل العظيمة تتضاءل بجانبها، وهو يحدثنا في نقوشه عنها وكيف أن أجداده لم يفكروا قط في تجميلها واستقامة شوارعها وغرس الأشجار فيها وإقامة سور مناسب لها، وكان هو أول من نفذ تصميمًا تامًّا لإعادة بناء هذه العاصمة فاستمع لما يقول تنفيذًا لخطته: لقد حملت أهل «كلديا» والآراميين وأهل «مناي» ورجال «قو» «وسيليسيا» والفينيقيين وأهل «صور» الذين خضعوا لنيري وجعلتهم يقومون بأعمال السخرة فصنعوا اللبنات، وقد وسعت التل العظيم الذي أقيمت عليه مباني القصر الملكي، وهو المعروف الآن باسم «كويوجيك»، وذلك بتحويل نهر «خوسور»، وهناك أقيم قصر فاخر سماه المنقطع النظير، ووصف هذا القصر يدل على أن مهندسي العمارة في هذا العهد كانوا أكثر تقدمًا مما كان يظنه الإنسان، فقد جهز السقف بِكُوَّات للنور، كما كانت العمد التي يرتكز عليها البناء مغطاة بأشرطة من الفضة والنحاس، مما أفاض الضوء على كُوَّات القاعات.
هذا؛ وقد فحصت الجبال للكشف عن موارد جديدة لأحجار البناء، فجلب المرمر من جبال «أمنانا» «والبرشيا» من إقليم تل «برسيب» (تل أحمر) والحجر الجيري الأبيض بكميات كبيرة من «بلتاي» الغربية من «نينوة» (إسكي موصل) وقد قطعت التماثيل الضخمة من هذه المحاجر لإتمام البناء الجديد، وقد مثلت صناعة المعادن في القصر الجديد بقطع فريدة في بابها، فقد صب تماثيل اثني عشر أسدًا واثني عشر ثورًا بأحجام هائلة، مما يدل على أن هذه الصناعة كانت نامية في هذه البلاد قبل عصر هذا العاهل، ومن الطريف أن «سنخرب» قد شبه صب هذه التماثيل الهائلة في نظره بصب قطع من النقود التي تساوي نصف شكل، وهذا يدل دلالة واضحة على أن العملة كانت معروفة في ذلك العهد.
هذا؛ وقد سهل توريد المياه إلى «نينوة» من الآبار بإدخال طرق أحسن للري والتصفية، فقد حل محل الفسقية القديمة مبانٍ من المعدن أو من الخشب، وأنشئت حديقة تشمل بستان فاكهة بجوار القصر الجديد، أما مساحة المدينة نفسها فقد أصبحت ضعفي ما كانت عليه في الأصل، ووضعت أسس الجدران الخارجية في مجرى النهر، وأضيفت مساحات واسعة مكشوفة إلى شوارعها المزدحمة، وأتي بالماء إلى المدينة من عيون جديدة عثر عليها في التلال الشرقية بوساطة قنوات، وهذه المياه كانت مفيدة لري الأراضي المزروعة حول المدينة عندما يكون الجو باردًا، وكذلك أسست مزرعة كبيرة في شمالي المدينة وقسمت بين سكانها، وفي هذه المزرعة جلبت نباتات جديدة منها القطن، وقد أدى جلب زراعة القطن إلى تأسيس صناعة مثمرة بقيت عدة قرون، فذكر الجغرافي المتوفى (حوالي ١٣٤٠ ميلادية) محصول القطن الطيب حول مدينة «إربل» وليس من شك في أنه لا يوجد إلا القليل من ملوك الشرق الذين أظهروا اهتمامًا بصالح مدنهم أكثر من «سنخرب» كما يدل على ذلك إقامته «لنينوة».
وقد يطول بنا المقام إذا أخذنا في سرد مباني «سنخرب»، ويكفي أن نذكر هنا إصطبلاته ومخازن أسلحته التي تقع الآن في سفح التل المسمى «النبي يونس» وغير ذلك، وليس من شك في أن فكرة إصلاح «نينوة» وما ابتدعه فيها سنخرب كان من عبقريته، وفوق ذلك فإن فخامة المدينة لم يكن راجعًا إلى الثروة التي نالها من فتوحه وما اغتصبه من الأهلين وحسب، بل كذلك يرجع إلى فحص حكيم لمنابع ثروة البلاد الطبعية واستعمالها في وجوهها مما لم يكن يتأتى من أي إنسان، بَلْهَ من شخص منح مواهب تفُوق المعتاد.
ومما يؤسف له أن أفاريز عصر «سنخرب» التي بقيت لنا وجدت مهمشة تهشيمًا مشينًا، ومع ذلك فإنه من الممكن أن نرى فيها الصناعة الفنية الدالة على هذا العصر، وما أحرزه البناءون من إتقان فائق في التفاصيل والقدرة على تركيب الأشكال التي دُرست بصورة فائقة فيما بعد، وأجمل تمثال من هذه الصور صنع في الحجر هو الذي ظهر فيه «سنخرب» في معسكره في «لجيش»، وكذلك صورة نقل التماثيل الضخمة، وقد يكون من الغريب حقًّا ألا تظهر الانطباعات الأجنبية بصورة واضحة جلية في هذا العصر، ففي العمارة نجد أن الخارجة أو قاعة العمد كانت مجلوبة إلى آشور من الغرب، ومن المحتمل كذلك وجود تفاصيل أخرى قد استعيرت من بلاد «خيتا»، أما في الصناعات الصغيرة فلدينا ما يثبت التأثير المصري فيها في ذلك العهد، فمن ذلك آنية من الزجاج تحمل اسم «سرجون»، وكذلك وعاء عليه نقش باسم «سنخرب»، وهذان الإناءان كان شكلهما عاديًّا في مصر في ذلك الوقت، ولا بد أن نشير هنا إلى أن الإفريز الآشوري بقي على أية حال آشوري الأصل خالصًا، فلم يتأثر بصناعة أجنبية، وينسب إلى عهد «سنخرب» أنه كان بداية أرفع عصر للفن.
هذا؛ وقد تقدمت اللغة في عصر هذا العاهل كما سنرى بعد، والواقع أنه على الرغم من نهاية هذا العاهل المفجعة؛ إذ قد اغتيل بيد أثيمة في القصر، فإن ما قام به من مجهود جبار لحماية إمبراطوريته التي خلفها له أسلافه وبخاصة إدارته في داخل البلاد يكاد يرفعه إلى المرتبة الأولى بين ملوك الأسرة التي ينتمي إليها.
ومع ذلك فإنه حتى الآن وإلى أن تصل إلينا معلومات جديدة مغايرة لا بد أن نعده قائدًا قديرًا مثل والده وحاكمًا حذرًا وأعظم إداري حدثتنا عنه الوثائق الآشورية، يضاف إلى ذلك أنه أظهر ميلًا إلى الفن واللغة بصورة لم يضارعه فيها إلا حفيده «آشور بنيبال» كما سنرى بعد.
(٢٦-٦) عصر الملك «إسرحدون» ٦٨٠–٦٦٩ق.م
كان إسرحدون غائبًا في أثناء قتل والده، وتحدثنا الوثائق الآشورية على أنه قتل في ٢٠ شباط يناير سنة ٦٨١ق.م وقاتله هو ابنه الذي كان أكبر سنًا من «إسرحدون» الذي نصبه والده وارثًا على العرش، ولدينا متن عن حرب «إسرحدون» من أجل العرش جاء فيه صفة «إسرحدون» الملك العظيم والملك الشرعي وملك العالم وملك آشور ووصي بابل وملك «سومر» «وأكاد» وملك جهات العالم الأربع والراعي الحقيقي وحظي الآلهة العظام ومَن أعلنه كل من الآلهة «آشور» «وشماش» «وبل» «ونبو» «وإشتار» صاحبة «نينوة» «وإشتار» صاحبة «أربلا» ملكًا على بلاد «آشور» منذ أن كل طفلًا، قال:
وقد كنت أصغر إخوتي الكبار، ولكن والدي على حسب أمر الآلهة «آشور» «وشماش» «وبل» «ونبو» «وإشتار» صاحبة نينوة «وإشتار» صاحبة «أربلا» قد اختاروني عن طيب خاطر وفي حضرة كل إخوتي، قائلين: إن هذا هو الابن الذي سيرقى إلى منصب وارث «لي»، وبعد ذلك وضع هذا السؤال أمام الإله «شماش» والإله «أداد» بوساطة وحي وقد أجاباه: إنه حقًّا هو الذي يحل محلك، وقد أصغى «سنخرب» إلى نطقهما الهامِّ، وجمع أهل «آشور» صغيرًا وكبيرًا وإخوتي وكل الذكور من نسل أسرة والدي، وجعلهم يعقدون يمينًا مقدسًا أمام «صور» آلهة بلاد آشور، وهم «آشور» «وسن» «وشماش» «ونبو» «ومردوك» وكل الآلهة الآخرين القاطنين في السماء وفي العالم السفلي لأجل أن تضمن وراثتي «الملك».
وفي شهر مناسب في يوم موافق دخلت بسعادة «على حسب أمر وحيهم الموقر» قصر ولي العهد، وهو هذا المكان الذي يسكن فيه من كان مقدرًا لهم تولي الملك.
وعندما انبثق الفجر الحقيقي لهذا العمل على إخوتي نبذوا القداسة ووضعوا ثقتهم في القيام بأعمال جرئية مدبرين مؤامرة آثمة فاختلقوا على النميمة، والاتهامات الباطلة وكل ما هو ممقوت من الآلهة دائمًا، يطلقون الإشاعات الخبيثة الكاذبة والمعادية من وراء ظهري وعلى ذلك باعدوا عني «على غير إرادة الآلهة» قلب والدي الذي كان من قبل على مصافاة «لي»، على الرغم من أنه كان في قرارة قلبه دائمًا يكن لي الحب، وكانت ميوله دائمًا أن أصبح ملكًا، وقد أصبحت خائفًا، وسألت نفسي بما يأتي: هل هناك أعمال عنف مبنية على ثقة في آرائهم أو أنهم قد ارتكبوا هذا الإثم على غير إرادة الآلهة؟ وقد تضرعت إلى الإله «آشور» ملك الآلهة وإلى «مردوك» الرحيم، وهما اللذان كانا يعدان الدناءة لعنة، بالصلوات والعويل والسجود، وقد اتفق أن يعطي الوحي جوابًا على أن الإخوة «قد عملوا» على حسب قرار الآلهة العظام «أربابي»، وقد جعلني «الآلهة» انتظر في مكان خفي في وجه هذه الدساس الآثمة ناشرين ظل حمايتهم الطيبة فوقي، وبذلك حفظ لي الملك.
وعندئذ خرج إخوتي عن شعورهم مرتكبين كل شيء أثيم في أعين الآلهة وبني الإنسان، واستمروا في دسائسهم الخبيثة؛ لدرجة أنهم استلوا السلاح في وسط «نينوة» وهذا ضد إرادة الآلهة، وتناطحوا فيما بينهم كالجديان لينالوا الملك، وقد نظر «آشور» «وسن» «وشماش» «وبل» «ونبو» وإشتار صاحبة «نينوة» «وإشتار» صاحبة «أربلا» بعدم الرضا لأعمال هؤلاء المغتصبين ولم يساعدوهم، «وعلى العكس» أحالوا من قوتهم ضعفًا، وجعلوهم في النهاية ينحنون تحتي، «يضاف إلى ذلك» أن أهالي بلاد «آشور» الذين أقسموا يمين الآلهة العظام بوساطة الماء والزيت على ألا يحموا أعدائي للملك ولا يأتوا لمساعدتهم، ولكني أنا «إسرحدون» الذي لم يُولِّ ظهره للمعركة معتمدًا على الآلهة العظام أربابه قد سمعت بسرعة عن هذه الأحداث المحزنة، وصحت قائلًا: الويل! ومزقت حلة الإمارة وأخذت في العويل بصوت عالٍ، وقد صرت مثل أسد مجنون، وكان روحي مشتعلًا، وناديت الآلهة بالتصفيق على يدي بقصد تولي الملك وهو وصية والدي، وقد صليت إلى الآلهة «آشور» «وسن» «وشماش» «وبل» «ونبو» «ونرجال» وإلى «إشتار» صاحبة «نينوة» «وإشتار» صاحبة «أربلا»، وقد اتفقوا على أن يوحى إليَّ بوحي، وقد أرسلوا إليَّ بجوابهم الصحيح المؤكد للوحي الأمين التالي: سر «إلى الأمام» ولا تتوانَ، ونحن سنسير معك، اقتل أعداءك! فلم أنتظر حتى اليوم التالي ولا جيشي، ولم ألتفت إلى الوراء لحظة، ولم أجمع فرق الخيل المخصصة للعربات أو معدات الموقعة، وحتى لم أجمع مؤنًا للحملة، ولم أكن أهاب الثلج وبرد شهر شباط الذي يكون فيه الشتاء على أشده، ولكن نشرت جناحي مثل طائر عاصفة سريع للقضاء على أعدائي، فسرت في الطريق المؤدية إلى «نينوة»، وقد كانت وعرة المسلك إلا أنها كانت قصيرة، وقد كان أمامي في إقليم «خاتي جالبات» كل أحسن جنودهم «أي جنود إخوتي» يعترضون تقدم جيش حملتي، وقد أرهفوا أسلحتهم استعدادًا للموقعة، غير أن الفزع الذي كان يبعثه منظر الآلهة العظام «أربابي» هزمهم، وانقلبوا إلى مجانين عندما رأوا هجوم جنودي القوي في المعركة، وقد وقفت بجانبي «إشتار» سيدة المعركة، وهي التي تحب أن أكون كاهنها الأعظم، كاسرة أقواسهم ومشتتة شمل جموعهم، وعندئذ تحدثوا فيما بينهم: «هذا هو مليكنا (؟)» وقد ساروا إليَّ على حسب أمرها السامي في كتل بشرية، وتجمعوا خلفي، وقد كانوا يقفزون كالخراف الصغيرة، واعترفوا بي بوصفي سيدهم بتضرعهم إليَّ.
أما أهل آشور الذين عقدوا يمينًا بحياة الآلهة العظام من أجلي فقد أتوا لمقابلتي وقبلوا قدمي، وأما الغاصبون الذين بدءوا بالثورة فقد هجروا أخلص جنودهم عندما سمعوا بجنود حملتي وفروا إلى بلاد مجهولة.
وقد وصلت إلى شاطئ دجلة وجعلت كل جنودي يقفزون من فوقه كأنه حفرة صغيرة، وذلك على حسب ما أوحى به الإلهان «سن» «وشماش» وهما بالشاطئ السماوي.
وقد دخلت بفرح مدينة «نينوة» في شهر «أزار»، وهو شهر حسن «الطالع»، في اليوم الثامن منه، وهو يوم عيد الإله «نبو»، «وهي البلدة التي كنت أبسط فيها سيادتي، وجلست بسرور على عرش والدي وقد هبت ريح الجنوب، وهو النسيم الذي أزجته «يا»» في هذه اللحظة «وهذا الريح هو الذي يبشر هبوبه بالخير لتولي الملك قد أتى في الوقت المناسب من أجلي، وقد حدثت تطهيرات حسنة في السماء وفي الأرض» وتفسيرها على حسب تفسير المنجم كانت رسائل من الآلهة والإلهات باستمرار لي وجعلت قلبي واثقًا.
أما الجنود المذنبون الذين تآمروا على الاستيلاء على ملك آشور لإخوتي فقد حسبتهم في مجموعهم مجرمين وأوقعت بهم عقابًا صارمًا، بل قضيت على نسلهم من الذكور.
وأظن أنه لا يخفى على قارئ هذه الأحداث وما أتاه «إسرحدون» من الأعمال ما يدل على أنه لا بد كان مشتركًا في قتل والده، وأنه في هذا المتن كان يريد أن يبرئ نفسه من هذه التهمة الشنعاء.
وتذكر لنا التوراة في (سفر الملوك الثاني الإصحاح ١٩ سطر ٣٧) أن «سنخرب» قتل في بيت نسروخ: وفيما هو ساجد في بيت نسروخ إلهه ضربه «أدرملك» «وشرآصر» ابناه بالسيف ونجوا إلى أرض أرراط وملك «إسرحدون» ابنه عوضًا عنه.
غير أن هذين الاسمين لم يمكن توحيدهما بأي اسم من أسماء أولاد «سنخرب»، ويمكن فقط القول إن نسروخ هو تحريف لاسم «نيتورتا».
وعلى أية حال فإن هذه الجريمة كانت إعلانًا لقيام ثورة، غير أن «إسرحدون» لم يجد عناءً كبيرًا في إخضاعها وتولي العرش كما شرح لنا ذلك في الوثيقة التي أوردناها فيما سبق.
وأول عمل قام به «إسرحدون» كان عملًا سلميًّا على خلاف ما كان يتبعه كل أسلافه، فقد أراد أن يقوم بإصلاح مدينة «بابل» إرضاءً للبابليين، فهدم الجدران والأبراج والبوابات وأخذ في إصلاحها، فلم يأتِ عام ٦٨٠-٦٧٩ق.م حتى كانت قد أصلحت كلها من جديد، وقد طرد الكلدانيين الذين كانوا قد احتلوا مكان المدينة ودعا أهلها الأصليين ليسكنوا في مساكنهم الأصلية، وبعد ذلك بثلاث سنوات كانت المدينة كلها قد عمرت، وبهذا العمل أرضى البابليين.
تدبير الحملة على مصر: والواقع أن مصر كانت خلال عشر السنوات الأولى من حكم «إسرحدون» قد اتخذت بلاد فلسطين آله لتكون مصدر اضطرابات وثورات تحركها بيد خفية على «آشور»، وقد قضى «إسرحدون» عليها جميعًا. هذا؛ وقد كان منظر استعراض اثنين وعشرين ملكًا من الملوك الذين هزمهم «إسرحدون» في سوريا وفلسطين عند تأسيس قلعة «إسرحدون» التي أقامها بالقرب من «صيدا» بعد هدم جدرانها من المناظر الرائعة في التاريخ، فقد كان من بينهم ملوك المدن والأراضي التي لها علاقة وثيقة بمصر، نذكر منها كل موانئ خليج إنطاكية وساحل فينيقيا التي كانت في أيدي الآشوريين إلا «صور»، وقد أعلن ملكها المسمى «بعلو» خضوعه لإسرحدون بحضوره في «كار آشور آخ إدبن»، وكان في هذا الحفل على ما يظن منسة ملك «أورشليم» (راجع سفر أخبار الأيام الثاني الإصحاح ٣٣ سطر ١١) فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منه بحزامه وقيدوه بسلاسل نحاس وذهبوا به إلى بابل، وأمراء فلسطين هذا إلى إغريق وفينيقيين من «قبرص».
وقد كان من الأمور الهامة تمكين السيادة الآشورية في قبرص، ولا أدل على ذلك من تسليم ملكها «عبد ملكوتي» بسرعة، ولا نزاع في أن السيادة الآشورية في هذه الجزيرة كانت تعني بطبيعة الحال خسارة فادحة للتجارة في الدلتا، على أن إثارة الفتن فيها كانت سهلة كما كانت من قبل، وذلك لوجود فرق آشورية في كل مدينة لتستطيع أن تكشف بسرعة عن رسل مصر وتمنع قيام أية فتن متفق عليها في الخفاء، وكانت «صيدا» وقتئذٍ لا نصير لها؛ لوقوعها تحت رحمة حاكم الإقليم الآشوري، وكان «بعلو» ملك «صور» الذي زاد «إسرحدون» في حدود ممتلكاته هو الوحيد الذي كان في استطاعته أن يقوم بمؤامرة على «آشور»، ولذلك انتهز «تارقو» (تهرقا) فرعون مصر هذه الفرصة وفاوضه في القيام بحملة على «إسرحدون»، ويحتمل أن ذلك كان في عام ٦٧٦-٦٧٥ق.م، ولا نعرف سبب الإغراء الحقيقي الذي جعل «بعلو» ينصاع لعروض «تهرقا» للقيام بثورة، ولكن الأمير الفينيقي كان يثق بنفسه وقوته، وهذا ما حققته الحوادث بعد، هذا وكان «إسرحدون» دائمًا على علم بمجريات الأمور وما كانت تحوكه مصر له من دسائس منذ سنين مضت، مما جعله يعقد العزم على القضاء على أرض الكنانة وإبادتها، والواقع أن «إسرحدون» كان يجمع في شخصه سياسة «سرجون» وتهور «سنخرب»، ولا ينبغي أن نرجع باللائمة على «إسرحدون» لعدم فطنته من جهة استحالة ضمه مصر لبلاده ضمًّا نهائيًّا دائمًا، ومن المحتمل أن الآشوريين كانوا على علم خاطئ جدًّا في فهم خاصيات سكان وادي النيل؛ إذ لم يفقهوا تمامًا الفرق الهائل بين المصريين وإخوانهم الساميين الذين كانوا يسيطرون عليهم عدة قرون، وكذلك لم يفهموا أنهم كانوا قادمين على فتح بلاد قوم وحكمهم بالسيف بعيدين عن بلادهم كل البعد من كل الوجوه؛ إذ كانوا يعبدون آلهة تختلف كل الاختلاف عن آلهتهم، يضاف إلى ذلك أنهم كانوا قومًا لا يزال متأصلًا في نفوسهم ذكريات استعباد الآسيويين لهم منذ ألف سنة مضت، وأعني بذلك قوم الهكسوس الذين استعمروا مصر حوالي قرن ونصف قرن من الزمان، والواقع أن الآشوريين كان في استطاعتهم أن يجدوا أصدقاء أو أعداء بين الآسيويين، ولكن كل مصري كان مفطورًا بكل طبعه أن يكون عدوهم الألد وتمتلئ كل جزئيات نفسه بالكره والبغضاء لهم، ولا ريب في أن البلاد والناس الذين كانوا بهذه النفسية لا يمكن أن يسيطر عليهم مدة طويلة قوم يكرهونهم، وعلى الرغم من أن الحيوية المصرية المتأججة التي كنا نشاهدها في عهد الدولة الحديثة، عندما كان على رأس البلاد فراعنة الأسرة الثامنة عشرة العظام، أمثال «أحمس الأول» «وتحتمس الثالث» «وأمنحتب الثاني»، قد خبا سناها وخفت مصباحها، فإنه كان مع ذلك لا يزال يوجد وميض نار تحت هذا التراب يصرفه الخوف من احتلال الآشوريين الذين كانوا في الواقع أقسى قلوبًا وأكثر فتكًا بالبشرية من الهكسوس، ولا نزاع في أن نتيجة الاحتلال الآشوري كانت النهضة المصرية التي قامت في العهد الساوي بعد طرد هؤلاء المستعمرين، كما كان من قبل طرد الهكسوس والقضاء عليهم على يد «أحمس الأول» بداية لنهضة جديدة.
والواقع أن كلًّا من «إسرحدون» «وآشور بنيبال» ضل السبيل الوحيدة التي كان بها يمكن الحصول على ولاء مصر وخضوعها لهم، وذلك أنهم عندما فتحوا مصر لم يعتلوا عرش الفراعنة بوصفهم ملوكًا لمصر، ولو أنهم كانوا قد فعلوا ذلك وتلقبوا بالألقاب بالفرعونية وقدموا طاعتهم للإله «آمون» ودخلوا حجرة «بنبن» المقدسة للإله «رع» في معبد «هليوبوليس» (عين شمس) وخرجوا منها حاملين لقب أبناء «رع»، فإنه عندئذ فقط كان من المحتمل أن قصة نهاية الدولة الآشورية قد تكون مختلفة عما كانت عليه، ولكن ملك آشور لم يكن في استطاعته أن يفعل ذلك، كما لم يكن في مقدور ملك مصري أن يأخذ بيد الإله «بل» في «بابل» ويصبح بعد ذلك ملكًا على «سومر» «وآكاد» لو أتيح له فتح بلاد «بابل»، ولا ريب في أن الهوة التي تقع بين نفسية الشعبين وتكوينهما كانت جد عميقة، ولسنا في حاجة إلى القول بأن مجرد مثل هذه الفكرة كانت لا بد أن تقابل بالرفض في الحال إذا ما عُرضت على «إسرحدون»، ومن أجل ذلك كان جعل مصر إقليمًا آشوريًّا أمرًا مقضيًّا عليه بالفشل، وفي مقابل ذلك نشاهد أن «قمبيز» ملك الفرس الذي لا يضره أمر الدين ما دام ذلك يسهل له تنفيذ سياسته لم يتردد في إعلان نفسه فرعونًا على مصر واعتناق الديانة المصرية ولو ظاهريًّا، ولذلك لما تولى «دارا الأول» بعده وكان يتصف بالحكمة وسداد الرأى فطن إلى أن السياسة التي تورط فيها «قمبيز» كانت السياسة الوحيدة التي بها يمكنه ضم مصر لإمبراطوريته، وبتولي «دارا» عرش الفراعنة على هذا النمط عُبِّد الطريق للأسرتين المقدونية والرومانية لحكم مصر قرونًا طويلة؛ إذ قد اتبعوا السياسة التي رسمها الفرس لهم.
وعلى ذلك فإن «إسرحدون» على جهل منه بكل هذه الأمور وباعتباره المصريين دساسين جبناء وعباد قطط وكلاب خاضعين لحكم قوم سود أخذ يستعد لفتح مصر، وكأنه بذلك كان يجهز نفسه للخطوة الأولى التي أدت إلى إضعاف إمبراطوريته وسببت سقوطها نهائيًّا.
زحف «إسرحدون» على مصر: ففي عام ٧٧٥ق.م زحف إسرحدون بمعظم جيشه على مصر واخترق الحدود المصرية، غير أن جيشه اضطر للتقهقر بسبب قيام عاصفة (ويظن المؤرخ «سدني سمث» أن هذا الحادث هو أصل الكارثة التي تعزوها التقاليد للملك «سنخرب»).
وهاتان الحملتان كانتا الأساس لإخضاع مصر، وكان حصار «صور» الذي كان قد بدأ في باكورة عام ٦٧٣ق.م يعد شيئًا ثانويًّا من الوجهة الحربية، ومع ذلك فقد اتضح أن الاستيلاء على المدينة كان صعب المنال جدًّا؛ وذلك لأن الآشوريين لم يكن في مقدورهم أن يستولوا عليها بالهجوم المباشر، ولم يكونوا يأملون في الوقت نفسه وضع حصار عليها، غير أن ملك «بعلو» ضايقه وجود الجنود الآشوريين خارج أسوار المدينة، ففضل تسليمها بشروطه هو ولم يقبل شروط «إسرحدون» الذي كان يريد تملك حصونها التي على اليابسة ووضع حكام آشوريين فيها، وعلى ذلك بقي «بعلو» يقاوم هجوم «الآشوريين» بنجاح، غير أنه لم يكن في مقدوره التدخل في صد مرور الجنود الآشوريين وهم في طريقهم إلى مصر.
وعندما قام «إسرحدون» بمشروع غزو مصر وجه له كل عنايته وقوته، وقد كان نفوذ «آشور» وشدتها في هذا الموقف يتطلب ذلك بسرعة؛ لأن ما كانت عليه مصر من سؤدد وفخار في الماضي كان دائمًا عالقًا بأذهان أقوام «فلسطين» «وسوريا»، وأن آشور لو فشلت في مشروعها فإن هذا الفشل يكون إعلانًالقيام الثورات في الأقاليم التي تحت سلطانها في هذه الجهات، وعلى ذلك فإنه عندما انسحب الجيش الآشوري من مصر لم يكن إلا لإعادة تنظيمه وتجهيزه للقيام بحملة أخرى عظيمة، وقد أمضى «إسرحدون» عام ٦٧٢ق.م في الاستعداد لهذه الحملة، وفي عام ٦٧١ق.م انقض بسرعة خاطفة على مصر، وقد ظهر أن الجيش الآشوري كان يفوق بدرجة هائلة أي عدد من الجنود تضعه مصر في ساحة القتال، فقبل اجتياز الحدود المصرية وقعت واقعة عند مكان يدعى «سنجرى» أسفرت عن تشتيت شمل جيش «تهرقا»، وبعد مضي خمسة عشر يومًا على هذه الموقعة تقدم الجيش الآشوري وحاصر «منف» التي سقطت بعد زمن قليل، وقد هرب الفرعون «تهرقا» نحو الجنوب ولكن أسرته أسرت، وخربت «منف»، وقد أدى هذا النصر المبين إلى استسلام الوجه القبلي، وأخذ «إسرحدون» في الحال ينظم حكومة البلاد كلها، ونصب حاكمًا وطنيًّا على كل مقاطعة، وعين حكامًا آشوريين على حسب المعتاد، وأطلق أسماء آشورية على أمهات المدن في مصر، وهاك النصوص الآشورية التي وصلت إلينا عن حروب «إسرحدون» في مصر.
«في …» مضيت الليل، وتقدمت من بلدة «مجدالي» نحو بلدة … مسافة ثمانين ساعة قيست … وهذا الإقليم كان مثل حجر «كا …» «ربما يقصد هنا حجر السيديان» «… حادًّا» مثل رأس السهم أو الحربة … الدم والقيح … العدو الشقي حتى … إلى بلدة أشهو بري.
وقد شتت شمل قوة موقعتهم المرتبة ترتيبًا حسنًا … وأخوه وحكامه «… من» «أشهو بري» حتى «منف» قد قُضي عليهم.
وعلى الرغم مما جاء من تهشيم وتمزيق في هذا المتن فإنه يصف لنا بصورة رائعة مشاق السفر في الصحراء، وما كان يلاقيه المسافر من مخاطر ومصاعب وصفها لنا «إسرحدون» بوضوح.
وهاك المتن: «إلى «آشور» ملك الآلهة المحب لرجال كهانتي، والإله «آنو» القوي الممتاز الذي يدعوني باسمي، «وبعل» الإله المفخم مثبت أسرتي، «ويا» العاقل العليم بكل شيء والذي يحدد مصيري، «وسن» (إله القمر) النور الساطع الذي يمنحني تفاؤلًا حسنًا، «وشماش» قاضي السماوات والأرض الذي يقرر قراراتي، «وأداد» السيد الجبار الذي يجعل جيوشي ناجحة، «ومردوك» الملك السيد صاحب «إجيجي»، «وأنوناكي» الذي يجعل ملكي عظيمًا، «وإشتار» ربة الواقعة والحرب التي تسير بجانبي، وسبعة الآلهة المحاربين الذين يهزمون أعدائي، والآلهة العظام كلهم الذين يحددون مصيري، والذين يمنحون ملكهم وقوتهم المحببة وبطشهم، «إسرحدون» الملك العظيم، والملك الجبار، ملك العالم، وملك آشور، ونائب «بابل»، وملك «صور» «وآكاد»، وملك «كاردونياش» كلها «مملكة بابل»، وملك ملوك مصر «وباتوريس» «وكوش» (الوجه البحري والوجه القبلي وكوش) الذين يخافون قوة آلهتهم، والمسيطر المفخم من آشور «وشماش» «ونابو» «ومردوك»، ملك الملوك القاسي الذي يفتك بالخبيث ويلقي الرعب في القلوب، والذي لا يخاف في المعركة، والشجاع تمامًا، والذي لا يألو جهدًا في القتال، الأمير المهيمن بقوته، والقابض على أعنة الأمراء، والكلب المفترس، والمنتقم للوالد الذي أنجبه، والملك الذي بمساعدة الآلهة «آشور» «وشماش» «ونابو» «ومردوك» (وهم الآلهة أحلافه) يمشي على الصراط السوي ويصل إلى أغراضه، وكل الذين لم يطيعوه والأمراء الذين لم يخضعوا له قصفهم وداسهم تحت قدميه كبوصة المدقة، وهو الذي يورد قربانًا غزيرة للآلهة العظام، ومن فكره هو خوف الآلهة والإلهات …
… باني معبد آشور ومن أتم زينته، وهو مصلح «إزاجيل» «وبابل»، والذي نفذ كل تفاصيل خاصة بعبادته، والذي أعاد أسرى الأراضي من … إلى أوطانهم، والملك الذي تحب الآلهة العظام ضحايا قربانه، ومن كهنته في المعابد قد ثبتتها لكل الآباد، ومن قدموا أسلحتهم الكثيرة له بمثابة هدية ملكية، والملك الذي أصبحت سيادته عظيمة بوساطة «مردوك» رب الأرباب، أكثر من تلك التي في يد ملوك الأقاليم الأربعة «للعالم»، ومن جعل كل الأراضي خاضعة تحت قدميه، ومن فرض جزية وضرائب عليها، قاهر أعدائه، ومهلك أقرانه، والملك الذي مشيته هي العاصفة، وأعماله كأعمال الذئب العقور، وأمامه عاصفة وخلفه سيل، ومن هجمة موقعته جبارة، وأنه نار ملتهمة ولهيب لا يخمد، ابن «سنخرب» ملك العالم وملك «آشور» وحفيد «سرجون»، ملك العالم وملك «آشور» ونائب «بابل» وملك «سومر» «وأكاد»، ومن بذرة الكهانة الأبدية من نسل «بلباني» بن «أداسي» الذي أسس مملكة آشور، ومن بأمر آشور «وشماش» «ونابو» «ومردوك» الآلهة العظام أربابه قضى على عبودية «مدينة آشور» (أنا هو).
وإني قوي، وإني كل القوة، وإني بطل، وإني ضخم، وإني هائل، وإني معظم، وإني منقطع النظير بين كل الملوك، والواحد المختار من «آشور» «ونابو» «ومردوك»، ومن يناديه «سن» (إله القمر) وحظي «آنو» ومحبوب الملكة إشتار إلهة كل «العالم»، والسلاح القاسي الذي يهلك كلية عدو الأرض «أنا هو».
الملك الجبار في الموقعة والحرب، مخرب مساكن أعدائه، ومن يقتل أعداءه ويفني أضداده، ومن يجعل من لم يكونوا خاضعين له صاغرين، ومن قد جعل تحت سلطانه مجموع كل الأقوام، ومن اختار له منذ الأزل «آشور» «وشماش» «ونابو» «ومردوك» أسيادي المفخمين، من لا تغير كلمتهم مملكة لا نظير لها، في حين أن «إشتار» السيدة محبة كهانتي قد جعلت يدي تقبض على قوس قوي وحربة جبارة تطيح بالخائن، وقد جعلتني أصل إلى ما يرغب فيه قلبي وأحضرت عند قدمي كل الأمراء الذين لم يكونوا خاضعين.
وعندما أراد «آشور» السيد العظيم أن يرى الناس ضخامة أعماله الجبارة جعل ملكي قويًّا على كل ملوك أركان العالم الأربعة وجعل اسمي عظيمًا، وعندما جعل يدي تحملان سيفًا بتارًا للقضاء على أعدائي، أثمت الأرض «يقصد المديريات الغربية من ممتلكاته بما فيها مصر» في حق «آشور» وعاملوه باحتقار وثاروا، وقد شجعني الآلهة على أن أسرق وأنهب وأمد حدود آشور بعد أن أمرني «آشور» والآلهة العظام أسيادي أن أسير في طرق بعيدة وجبال وعرة وصحراء شاسعة وأقاليم قاحلة، فإني بقلب واثق سرت في أمان.
ففي مسافة مسيرة خمسة عشر يومًا من بلدة «أشهو بري» حتى مدينة «منف» عاصمة ملكه، وهي مسيرة خمسة عشر يومًا، قد حاربت يوميًّا باستمرار في مواقع دموية ضد «تهرقا» ملك «مصر» «وكوش»، وهو الفرد الذي تمقته كل الآلهة العظام، وقد أصبته خمس مرات بظبي سهامي محدثًا جراحًا لم يكن ليشفى منها، وبعد ذلك قدت حصارًا على «منف» مقره الملكي، وفتحتها في نصف يوم بالألغام والنقب والهجوم بالسلالم، وخربتها ومزقت جدرانها وأحرقتها، أما الملكة ونساء قصره «ويوشانهورو» ولي عهده وأولاده وممتلكاته وخيله وحيواناته الكبيرة والصغيرة التي يخطئها العد فإني استوليت عليها غنيمة لبلاد «آشور»، ونفيت كل الكوشيين من مصر دون أن أترك واحدًا ليقدم لي فروض الطاعة، وقد نصبت في كل مكان في مصر ملوكًا محليين وحكامًا وضباطًا ومشرفين على الميناء وموظفين ورجال إدارة، وقد خصصت ضرائب منتظمة لقربان الإله آشور والآلهة الآخرين العظام أربابي لكل زمان، وفرضت عليهم ضرائب لي بوصفي السيد الأعلى تدفع سنويًّا دون انقطاع، وقد أقمت كذلك هذه اللوحة وهي تحمل اسمي، وقد دونت عليها مديح شجاعة ربي «آشور» وأعمالي العظيمة عندما كنت زاحفًا على العدو على حسب الوحي الأمين من ربي «آشور»، كما دونت أعمالي العظيمة المظفرة وأقمتها لكل الأزمان المقبلة حتى تراها كل بلاد العدو.
وإن كل من سيحطم هذه اللوحة من مكانها أو يمحو اسمي المدون عليها ويكتب اسمه بدلًا منه أو يغطيها بالتراب أو يلقي بها في الماء أو يحرقها في النار أو يضعها في مكان لا يمكن رؤيتها منه، فإني أرجو من «إشتار» ربة الحرب والموقعة أن تقضي على حيويته «رجولته» حتى يصبح كالمرأة، وتجعله يرسف في الأغلال تحت أقدام أعدائه، وليت أمير المستقبل يحفظ اللوحة التي باسمي وليتهم يقرءونها أمامه، وليته يعطرها بالزيت، وليته يصب الماء عليها قربانًا، وليته يعظم اسم «آشور» ربي.»
ونقرأ بعد الديباجة ما يأتي: دخلت منف «ميمبي» مقره الملكي في وسط ابتهاجات عامة وفرح … على الشدالوم الذي كان مرصعًا بالذهب، وجلست في سعادة … أسلحة … كورناناتي من الذهب والفضة ولوحات «من» … وبعد ذلك … «دخلت» ومتاعه الشخصي «قصره» وآلهة وإلهات «تهرقا» ملك «كوش» وأمتعتهم … أعلنتها بمثابة غنيمة، وملكته، وإماء بلاطه «وبوشانهورو» الوارث لعرشه … وموظفو بلاطه … وأملاكه … مرصعة بأحجار «كور» والعاج و… خشبية وترصيعها كان بالذهب وفتحاتها من … وأدوات أخرى من الذهب والفضة، … حجر … وأي شيء كان في القصر لم يكن له مثيل في «آشور»، وكان مصنوعًا بمهارة، وكذلك فتحت الصناديق والسلات و… التي كانت مخزونة فيها ضرائب مملكته، وفعلت … ملك … فقد تركوها خلفهم، هذا بالإضافة إلى ستة عشر إكليلًا وثلاثين لباس رأس للملكات … حجر … ألواحًا من الحجر … بكميات كبيرة، وخزانات المال كانت ملأى بالذهب والفضة والفيروزج … والكتاب الجميل … والباتبات الذي يشبه … والنحاس والقصدير ومعدن «آبارو» والعاج … من أهل سوتى … أصهاره وأسرته … أمراء … وأطباء ومنجمين … وصياغ ونجارين مهرة … ابن ننروقي … التي عملها «تهرقا» لمعاقلهم.
العمود الأول
… أحجار كريمة يخطئها العد … التي … نسل أسرة والده … ثالث رجال على العربات، وسائقو عربات … «وسائقون» ورماة وحاملو دروع … «رجال» وأطباء بيطريون … وكتاب … ومصانع نسيج كتان ومغنون وخبازون شرحه … صانعو الجعة … شرحه … رجال وسماكون … رجال شرحه … وصناع مركبات العجلات وصناع سفن … شرحه … وحدادون …
العمود الثاني
… «على المدينة …» «موكن-بالو-كوسو-أبيشو»، … على المدينة «ماهري-جار-سري»، سا … وعلى المدينة «آشور-ماتسو-أورابيش»، سك … وعلى المدينة «آشور-نا كامتي-لال» وبوديمي … على المدينة «ليمير إشاك آشور»، ديمو … وعلى المدينة «كاربنيت»، وسن … على المدينة بيت مردوك، والمدينة «شا-آشور-تارو»، والمدينة … «أراد-نانا»، وضابطي «مور ككيسو» … أواربيس في المدينة … «وكيزير إشتار» في بلدة «شا-إموق-آشور» … بمثابة قربان تضحية منظمة لآشور والآلهة العظام» تسعة تلنت وتسعة عشر مينا من الذهب وثلاث مائة … و١٥٨٥ لباسا … وخشب أبنوس «أو شجر» و١٩٩ جلد ١٠٠٠ … ٤٠ حصانًا … ٤١٨ و٣٠ كبشًا … ٣٢٣ و١٩ حمارًا … بمثابة جزية تدفع لحكم بلاد آشور … آشور …
هذه هي المتون التي وصلت إلينا عن غزو «إسرحدون» الآشوري لمصر في حملته العاشرة، كما تحدثنا الوثائق الآشورية، ومما يؤسف له جد الأسف أن المتون المصرية التي كشف عنها حتى الآن لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى هذا الغزو قط؛ لأنه كان على ما يظهر سلسلة هزائم للمصريين.
وعلى الرغم مما جاء في هذه المتون من مبالغات، فإن شواهد الأحوال تدل على أن الآشوريين قد لاقوا صعابًا قليلة في فتحهم لمصر والاستيلاء على الدلتا، وقد كان ذلك من الأمور الهينة عليهم، وبخاصة عندما نعلم أن بلاد الوجه البحري كانت مقسمة إلى مقاطعات أو دويلات صغيرة لم يستطع الفتح الكوشي أن يصهرها ويؤلف منها وحدة متماسكة، فلما دخل جيش «إسرحدون» أفاد من الانقسام الذي كان بين حكام الدلتا، واتبع السياسة المشهورة «فرق تسد»، وقد أراد «إسرحدون» أن يجعل من أرض الدلتا مقاطعة آشورية، فأخذ يغير أسماء البلدان التي فتحها بأسماء آشورية، بل تغالى في آشوريته فغير بعض أسماء الحكام المصريين بأسماء آشورية ظنًّا منه أن يستطيع بذلك قلب أرض الكنانة إلى أرض آشورية، ولكن سنرى أن هدفه لم يصب المرمى، يضاف إلى ذلك أنه سار على نهج أسلافه فأخذ ينقل الكثير من أهل الحرف والصناعات الدقيقة إلى بلاده، كما استولى على كل ما في البلاد من كنوز ونقلها إلى بلاده، ورتب القربان لآلهته «آشور» والآلهة العظام بفرض ضرائب من الذهب والفضة والملابس والماشية ومن كل ما تنتجه أرض مصر.
والواقع أن هذه الغزوة كانت أول غزوة أجنبية حقيقية أحس مرارتها المصريون منذ احتلال الهكسوس بلادهم، ولذلك لم يصبروا كثيرًا على مضض الحكم الآشوري، عاد بعد هذه الغزوة «إسرحدون» إلى «آشور»، وفي طريقه أقام لوحة في «سامالا» وأخرى عند نهر الكلب في فينيقيا كما ذكرنا من قبل.
ومن العجيب أننا نراه مرسومًا في هذه اللوحة واقفًا كما قلنا بجلال، في حين أن «بعلو» ملك صور «وتهرقا» ملك مصر الذي رسم بتقاطيع زنجية قد صُوِّرا بصورة هزلية راكعين وهما يرسفان في السلاسل والأغلال ليقبِّلا طرف ثوب هذا العاهل، ومن سخرية القدر اللاذعة أننا نجد هذا الأثر الآشوري منصوبًا جنبًا إلى جنب بجوار اللوحة التي أقامها «رعمسيس الثاني» عندما أخضع هذه البلاد (راجع مصر القديمة الجزء السادس)، غير أن هذا الرسم الرمزي لانتصار ملك آشور لا يمثل الحقيقة الواقعة بل هو من نسج خياله؛ وذلك لأن «بعلو» ملك «صور» لم يقبل شروط الصلح التي أملاها عليه «إسرحدون» كما أن «تهرقا» لم يوضع قط في الأغلال، ولم يكن في حاجة لتقبيل طرف ثوب «إسرحدون»؛ إذ نجده بعد رحيل هذا العاهل مقيمًا في الوجه القبلي، وقد طلب إلى السكان مساعدته فلبوا نداءه؛ لأنهم كانوا غير راضين عن تصرفات «إسرحدون» التي أفاد منها أمير من الدلتا، وفعلًا هبوا مرة أخرى في وجه الحكم الآشوري مما اضطر عاهله إلى أن يدبر الأمر للزحف على مصر كرة أخرى حوالي عام ٦٦٩ق.م، غير أن الحملة قد أوقفت فجأة قبل أن تصل إلى الحدود المصرية؛ وذلك لأن «إسرحدون» أصيب بمرض ومات في الشهر الثامن من هذه السنة، ومن أجل ذلك رجع الجيش الآشوري أدراجه إلى بلاده دون أن ينجز مأموريته.
ويميز مشروع حملة «إسرحدون» إلى مصر بطابع فريد، فقد ذكرنا من قبل أن كل الحملات التي قام بها الآشوريون منذ عهد «سرجون الثاني» وأخلافه كانت حملات دفاعية، فنجد أن الأعمال العظيمة التي أحرزها كل من «سرجون» «وسنخرب» كانت مركزة في تمكين الحكم الآشوري في داخل الأقاليم الواسعة التي اعترفت بسلطان «تجلات بليزر الثالث»، ولكن نجد أن «إسرحدون» قد شغل نفسه بتدبير فتح بلاد لم يكن سلفه قد دخلها من قبل، وتفسير سلوكه في اتخاذ هذا السبيل ليس بالأمر الصعب، فقد كانت مصر كما ذكرنا من قبل منذ أكثر من عشرين عامًا تعمل على بث الفتن والقلاقل ضد آشور في الممتلكات المتاخمة لها، ومن المحتمل أنها كانت لها يد في تحريض «مروداخ بلدان» على القيام في وجه «آشور»، ولكن مما لا ريب فيه أنها تحالفت مع «حزقيا» وبلا شك كانت المحرضة لفينيقيا على القيام بثورة على آشور.
وعلى ذلك كان ينظر إلى الفرعون في نينوة بأنه العدو الأول لملكها، وقد كانت الطريقة الطبعية المثلى للقضاء على نشاطه الطبعي أبديًّا هو غزو مصر والاستيلاء عليها جملة، ومع ذلك فإن السعي لابتلاع أرض الكنانة في جوف الإمبراطورية الآشورية كان على الرغم من نجاحه مؤقتًا مصدر داء عياء لآشور، فقد كان الخطر الرئيسي في كل الأزمان السالفة على «آشور» ينبعث من حدودها الشمالية أو الشرقية، فإذا كان «إسرحدون» قد وجه عنايته الشخصية إلى مجريات الأحوال في «ميديا» «وآسيا الصغرى» فإنه لم يكن في حاجة للإقدام على غزو في ظاهره سهل كان سينكشف لأخلافه في الحال أنه من المستحيل عليهم المحافظة عليه أو البقاء فيه مدة طويلة كما ذكرنا من قبل.
وعلى أية حال فإن مدة حكم «إسرحدون» قد بلغت القمة في العزة والفخار، فإنه فضلًا عن ألقابه الوراثية الضخمة قد تحلى بلقب ملك ملوك مصر، وهو لم يكن لقبًا أجوف.
وتدل الوثائق على أن سير الأحوال في داخل بلاده في آخر حكمه أصبح صعبًا بسبب المنازعات في البلاط من أجل وراثة العرش من بعده، فقد كان بِكر أولاده الذي يدعى «شماش-رشوم-أوكن» ليس بالمرغوب فيه ليكون وليًّا للعهد؛ إذ كان هناك حزب قوي يعارض في ذلك، وكان قصد «إسرحدون» الأصلي تنصيب ابن آخر يدعى «سن-إدينا-أبولو» غير أن رغبته لم تنفذ؛ لأن هذا الأمير كان قد مات، أو لأن الملك عندما استشير في تعيينه وصيًّا كان جوابه بالنفي، وفي عام ٦٧٠ق.م عندما كان «إسرحدون» عائدًا من مصر كانت آشور مهددة بحرب داخلية؛ لأن رجال البلاط كانوا منشقين، بعضهم خارج على بعض، فريق منهم يعاضد «شماش – شوم-أوكن» والآخر يناصر «آشور بنيبال»، وكانت كفة الأخير هي الراحجة، وقد حل «إسرحدون» هذا النزاع ببعض الصعوبة، فعين «آشور بنيبال» الوارث لعرش آشور، أما «شماس-شوم-أوكن» فقد عين ولي عهد «لإسرحدون» في «بابل» على شرط أن يعترف بسلطان أخيه عليه بوصفه ملك آشور، غير أن بعض الأشراف لم يرضوا بذلك وشرعوا في القيام بثورة، ولكن «إسرحدون» أخضعها وقضى على مثيريها «والواقع أن حل «إسرحدون» لهذه المسألة كان موفقًا؛ لأنه لم يحدث أي اضطراب بعد وفاته».
(أ) حروب «إسرحدون» التي شنها على بلاد العرب
«وارزاني» الواقعة على نهر مصر وصلت إليه … وضربت … وأحضرت «فلان ومعه غنيمة ضخمة» إلى بلاد «آشور»، وقد ربطته كالخنزير في بوابة … «أما هزيل ملك بلاد العرب» فإن بهائي الذي يبعث الرهبة قد تغلب عليه، وأحضر إليَّ ذهبًا وفضة وأحجارًا كريمة «و …» وقبَّل قدمي، وفرضت عليه خمسة وستين جملًا أكثر من الجزية التي كان قد فرضها والدي، وبعد ذلك مات «هزيل» «وابنه ياتا» جلس على عرشه، وقد فرضت ثانية عليه جزية إضافية قدرها عشرة مينات من الذهب و١٠٠ حجر «بيروتي» وخمسين جملًا فوق الضرائب التي كان يدفعها والده، وعلى أية حال أغرى «وهب» كل العرب على أن يقوموا بثورة على «ياتا» و… «ولكني» أنا «إسرحدون» الذي … الالتواء لعنة أرسلت فرقة من الرماة ممتطين صهوة الجياد من جيشي وهدأت العرب وجعلتهم يخضعون له «أي إلى ياتا»، وقد أحضروا «وهبًا» ومعه القواد الآخرون إلى بلاد «آشور»، وقد ربطوه في الجانب الأيسر «لبوابة عامل المعدن» في «نينوة» وجعلوه يحرس «عبدي ميلكوتي» ملك «صيدا» (وساندواري) ملك كوندي وسيزو …
ولم يميز عصر «إسرحدون» بأي طابع فني جديد، ولكن المباني في عهده سارت على قدم وساق في كل من «بابل» «ونينوة»، وقد ارتكب في حياته حادث تخريب يعد فريدًا في بابه في التاريخ الآشوري، لو حدث في عهد أي ملك من ملوك مصر القديمة في عهد الدولة الحديثة لعد أمرًا عاديًّا، وذلك أنه خرب بعض مباني مدينة «كالح» فقد وُجدت أحجار منقوشة عليها تواريخ الملك «تجلات بليزر الثالث» قد نزعت من مكانها ووضعت في جدران قصر جديد كان يقوم ببنائه «إسرحدون» بعد أن محا ما عليها من الكتابة جزئيًّا وكتبها من جديد باسمه، والواقع أن احترام آثار الأجداد والمحافظة عليها كان من الأمور التي يمتاز بها ملوك «آشور» «وبابل» على السواء، وإنه لمن المهم جدًّا أن نصل إلى سبب البغض الذي حرض «إسرحدون» على ارتكاب مثل هذا العمل الشائن ضد ملك خدم بلاده خدمة صادقة.
وعلى أية حال فإن أهمية عهد «إسرحدون» كانت بوجه خاص منحصرة في سياسته، فإنه كان في كل جهة من جهات إمبراطوريته ثابت القدم موطد الأركان، إلا في الشمال الغربي فكان مهددًا بقوى عظيمة متزايدة لم تكن معروفة من قبل؛ إذ الواقع أنه بالبدء في فتح مصر قد خلق مشاكل وصار ذلك مصدر داء عياء لم تُشْفَ منه إمبراطوريته.
(٢٦-٧) عصر «آشور بنيبال» ٦٦٩–٦٢٦ق.م
يمتاز الملك «آشور بنيبال» بأنه نشئ تنشئة أدبية علمية راقية دون أن يترك جانبًا التفوق في فنون الحرب التي كانت ضرورية لرجل يجري في عروقه الدم الملكي الآشوري، غير أن أهم ما كان يفخر به ويعتز سيطرته على فن كتابة اللوحات المسمارية «أي فن الإنشاء»، هذا بالإضافة إلى إتقان صناعة الكتابة وتجديد الخط المسماري، وقد جاء مصداقًا لما ادعاه من إتقان هذا الفن المكتبتان الفاخرتان اللتان جمع وثائقهما بنفسه في مدينة نينوة، حقًّا إن بعض من سبقه من الملوك مثل «سرجون الثاني» قد جمع مؤلفات عظيمة، ولكن «آشور بنيبال» قد تخطاه في ذلك بدرجة ممتازة، فنعرف من بعض إمضاءات على بضع لوحات من المؤلفات التي احتوتها مكتبته أن بعض المتون قد قرئت له ليوافق عليها بنفسه، وليس من باب الخيال أننا نجد سلسلة السجلات التاريخية التي ترجع إلى بداية حكمه كانت من عمل «آشور بنيبال» نفسه، هذا؛ وكان ولعه بالفن عظيمًا كما كانت الحال مع «سنخرب» جده، فقد كشف في قصره عن مناظر متقنة الصنعة ستبقى دائمًا أجمل أمثلة للفن الآشوري، ولا نزاع في ذلك؛ فإن عصر «آشور بنيبال» في نظر المفتنين الأحداث يعد من العصور الممتازة في تاريخ الفن والثقافة، والتعبير الحديث الذي يربط اسم هذا الملك بالثقافة التي أوجدها يمكن قرنه بعصر ثقافة الإمبراطورية الرومانية التي ازدهرت باسم «أغسطس» العاهل الروماني العظيم، وإنه لمن المستحيل الآن أن نزن بميزان العدل هذه الثقافة، وبخاصة لأن المدن الآشورية لم تكشف للأثريين إلا عن القليل من البقايا المعمارية والسجلات المكتوبة بالخط المسماري، والواقع أن الأشياء التي كان يستعملها هؤلاء القوم القدماء سواء أكانت مصنوعة من المعدن أم من الخشب لم يبقَ منها إلا القليل، هذا بالإضافة إلى الكنوز النادرة التي كانوا يكنزونها في معابدهم وقصورهم ومقابرهم، فقد نهبت وأصبحت كأن لم تغنَ بالأمس في كثير من الأحوال، ولما كان من الضروري وجود شواهد مادية مقنعة من هذه الأشياء فإنا نضطر عند البحث والاستقراء إلى اللجوء للمواد المكتوبة لنبني منها ثانية مدنية هؤلاء القوم وثقافتهم.
ولا نزاع في أن هذه الاستنباطات التي تأتي بهذه الصورة لا يمكن أن تكون كاملة، بل تكون أحيانًا خاطئة، فمن ذلك ما يظن عادة أن النظام الجماعي والسياسي في مملكة «بابل» وفي مملكة «آشور» يتشابهان كثيرًا بوجه خاص؛ لأن التفاصيل التي نعرفها عن أحد البلدين قد استعملت لتتمم معلوماتنا عن الأخرى، ولكن البحوث الحديثة قد أظهرت أن مدنية البلدين كانت تختلف الواحدة عن الأخرى كاختلاف المدنية الإغريقية عن المدنية الرومانية.
(أ) مقدمة لحروب «آشور بنيبال» وفتح مصر
يرجع المستوى الراقي الذي نراه في الثقافة الآشورية في عهد «آشور بنيبال» إلى أن السيادة الآشورية ظلت مستمرة بنجاح عدة قرون من الزمان، ولم يكن في باكورة حكمه أية بادرة تشير إلى أن السيادة الآشورية يمكن مهاجمتها والتغلب عليها، ولا ريب في أن السنين الأولى من حكم هذا العاهل كانت مفعمة بالمشاريع الحربية الموجهة إلى أجزاء مختلفة من حدود إمبراطوريته، وكان يقوم هو بنفسه على رأس جيشه ويقوده، غير أن هذه الحروب كانت من طراز الحروب العادية التي لم يكن فيها أمور معقدة إلا نادرًا.
ولدينا عدة نسخ من تواريخ «آشور بنيبال» تحتوي على بيانات عن حملاته المختلفة، ومما تطيب الإشارة إليه هنا أن كتابة نسخ هذه التواريخ في كل عهود ملوك «آشور» كانت تدون بالطريقة التالية بوجه عام: فكانت أول نسخة تكتب في باكورة حكم الملك، وما يكتب فيها لا يبعد عن الحقيقة كما كانت معروفة للمعاصرين، ولكن فيما بعد عندما يقوم الملك بفتح جديد هام أو يشرع في إقامة عمارة هامة، فإنه في هذه الحالة تعد نسخة جديدة يتخذ أساسًا لها النسخة السالفة، فكان المؤلف يقتبس منها باختصارٍ الحقائق التي يرى أنها هامة له، وعندما كان ينتهي من تدوين ما اختاره من أصل ينشئ بقلمه ما يريد تدوينه من الأحداث الجديدة بالتفصيل، وإذا احتاج الأمر فيما بعد إلى تدوين حادث آخر جديد كانت تتخذ النسخة الأخيرة أصلًا بمثابة مرشد، ثم يضيف إلى ما أخذه منها ما يريد تدوينه من الحوادث الجديدة؛ وهكذا إلى أن تصبح آخر نسخة كأنها سجل لحوادث تاريخ هذا الملك جاء فيها الحادث الأخير مفصلًا، على أنه كانت أحيانًا تضاف بعض تحسينات تشوه الحوادث باختصارها، ومن أجل هذه العملية يجب على المؤرخ إذا أمكن أن يستعمل المصدر الأصلي لكل حادثة الذي كتب خاصًّا بها، ومن ثم يتضح لنا قيمة النسخ المختلفة التي نجدها في تواريخ هؤلاء الملوك، وبعبارة أخرى يمكن القول إن ملوك «آشور» كانوا يلخصون ما قاموا به من قبل عند تدوينهم لحادثة خاصة تأتي في النهاية بالتفصيل.
ولدينا نسخ كثيرة جدًّا لتواريخ «آشور بنيبال» تحتوي على بيانات عن حملات تتفق الواحدة مع الأخرى إلا في حالة واحدة، وهي أن مؤلفًا من مؤلفي النسخ الأخيرة كان يرغب في إدخال بعض تعابير أدبية في سياق موضوعه، مما اقتضى معالجة حملات «آشور بنيبال» من الناحية الجغرافية لا من ناحية التسلسل التاريخي، في حين أنه قد استعمل عبارات يظهر أنها تشير إلى التأريخ، فمثلًا مجد أن الحملتين اللتين قام بهما «آشور بنيبال» على مصر قد وضعتا في أول الكلام، والحديث عن علاقات «آشور بنيبال» بمصر قد جعل الثورة التي قام بها «بسمتيك» كأن كل حوادثها قد وقعت في السنتين الأوليين من حكم هذا الملك، وهذا خطأ، والواقع أن هذا الخلط قد نشأ عن قلة المهارة في معالجة المادة التي تناولها المؤلف، ومن ثم نجد أن انحراف الكاتب عن الترتيب الحقيقي للحوادث كما وقعت قد سبب بعض الإبهام.
فتح مصر
إن أول حادث هام وقع في أول حكم «آشور بنيبال» هي الحملة التي سار على رأسها لفتح مصر من جديد، ولا ريب في أن موت «إسرحدون» وهو يتأهب لغزو مصر من جديد قد قوبل من ناحية «تهرقا» فرعون مصر والسودان بفرح عظيم؛ إذ مهد أمامه فرصة لإعادة حكمه على مصر بعد أن طرد من الوجه البحري، فسار هذا الفرعون بجيشه شمالًا ودخل «منف»، ومن ثم أرسل جنودًا إلى أعالي الدلتا ليقوموا بمظاهرات على الأمراء المحليين والحكام الآشوريين الذين ترك في أيديهم «إسرحدون» حكم هذه البلاد، فلم يُبْدِ أمراء الدلتا الموالين «لآشور» أية مقاومة، بل ولوا الأدبار شرقًا طالبين العون في حينه من «آشور»، وقد وصل الجيش الآشوري إلى مصر عام ٦٦٧ق.م، بعد أن قطع مسافة طويلة في أرض وعرة المسالك لينقذ موقف هؤلاء الحكام الذين كانوا في خطر عظم بسبب عدم الكفاية الحربية والجبن، وقد تلاحم الجيشان الآشوري والمصري في واقعة عند «كاربانيتي»، وتقع في مكان ما في شرق الدلتا، وكانت نتجية الموقعة كالمعتاد، فلم يكن في استطاعة النوبيين والمصريين مقاومة الهجوم الآشوري، وارتدوا على أعقابهم في غير نظام، وعندما وصل إلى مسامع «تهرقا» خبر هذه الهزيمة انسحب في الحال من «منف» متقهقرًا إلى «طيبة»، وقد حدث ذلك في سهولة ويسر؛ بسبب تأخر الجيش الآشوري الذي كان ينتظر مددًا مؤلفًا من عشرين فرقة أرسلها الأمراء الخاضعون لآشور في سوريا وقبرص وفينيقيا وفلسطين، وقد زحف الآشوريون في النهاية إلى «منف» التي وقعت في أيديهم بعد بضعة أيام، وعلى إثر ذلك أخذ «آشور بنيبال» أو نائبه في إعادة الأمراء المصريين الذين طردهم «تهرقا» من إماراتهم ومقاطعاتهم.
هذا؛ وتدل إعادة الحكام الوطنيين إلى مقر حكوماتهم على أن «آشور بنيبال» قد أخذ يفطن لمواطن الضعف الرئيسية في موقف الآشوريين في مصر، وذلك أنه إذا لم يتمكن الحكام الآشوريون من جعل الحكام الوطنيين يقومون بخدمته بكل صدق وأمانة فإنه سلطتهم لا يمكن أن توطد أركانها في بلاد مثل مصر بعيدة عن آشور، وقد دلت الأحداث القريبة العهد على أنه لا بد من وجود حاميات قوية في مصر أكثر مما كان يظن «إسرحدون»، وقد حدث ما أثبت ذلك قبل عودته إلى «نينوة»، والواقع أن مغادرة الجيش الآشوري الرئيسي مصر كان بمثابة إعلان لقيام ثورة من جانب نفس الأمراء الذين أعادهم «آشور بنيبال» إلى مقاطعتهم في الدلتا، وقد انضم «نخاو» وحاكم منف «وسايس» إلى «منتومحات» حاكم مقاطعة طيبة، وكذلك كل الأمراء العظام من حكام المقاطعات، وقدموا للملك «تهرقا» الذي كان وقتئذٍ في عاصمة بلاده «نباتا» في النوبة ولاءهم على شرط أن يعود لمحاربة المغتصب لبلادهم، وقد كان في استطاعة الحكام الآشوريين في الدلتا القضاء بسهولة على هذه المؤامرة في عام ٦٦٦ق.م؛ إذ قبضوا على رؤساء المتآمرين في الوقت المناسب، وبذلك استطاعوا أن يقبضوا على ناصية الحال في البلاد دون حاجة إلى استدعاء «آشور بنيبال» لمساعدتهم.
ولو كان «آشور بنيبال» يعتقد في قرارة نفسه أنه في استطاعته أن يجعل من مصر إقليمًا آشوريًّا بحتًا ما تأخر عن تنفيذ هذا العمل الجليل، إلا أنه كان يرى استحالة الوصول إلى غرضه؛ ولذلك لم يعامل الأمراء الذين أسرهم بقسوة بالغة كالقسوة التي كان يستعملها الحكام في مصر مع الجنود الوطنيين، وقد خص «آشور بنييال» حاكم «منف» «وسايس» «نخاو» بفضله وإنعاماته الملكية، وعند موت «تهرقا» عام ٦٦٤ق.م كان قد أعاده إلى «سايس»، في حين أن ابنه «بسمتيك» الذي سماه الآشوريون «نابو-شرباني» كان قد عُيِّن حاكمًا على «أتريب» (بنها الحالية)، وقد أفلحت سياسة «آشور بنيبال» لمدة، ولكن لما مات «تهرقا» وخلفه على عرش ملك مصر والسودان الملك «تانوت آمون» بن «شبتاكا» قام بمحاولة باسلة لإعادة سلطان بلاد النوبة على مصر، فزحف بجيشه على البلاد المصرية، وبعد أن استولى على «طيبة» «وعين شمس» زحف في الدلتا وحاصر الآشوريين في «منف» ظنًّا منه أنه لن يصل إلى الآشوريين مدد، ولكن جيش «آشور» كان قد زحف على مصر في أوائل عام ٦٦٣ق.م فلم يسع «تانوت آمون» إلا الارتداد بسرعة إلى «طيبة»، في حين أن ملك «آشور» أو نائبه قد رحب به الأمراء التابعون لآشور، ولم يرغب «تانوت آمون» في المقاومة عند «طيبة» بل استمر في هربه جنوبًا، فسقطت «طيبة» في أيدي الآشوريين بعد مقاومة طفيفة، وحمل منها الآشوريون مغانم ضخمة، وعلى ذلك قضى الآشوريون على سيادة الكوشيين في مصر، وقد أدى موت «نخاو» عام ٦٦٣ق.م إلى أن احتل «بسمتيك» ابنه الذي خلفه في حكم «سايس» مكانة قوية أكثر من المعتاد بين الأمراء التابعين لآشور، وقد بقي عدة سنين لم يحنث بيمين الطاعة الذي أخذه على نفسه لملك «آشور»، غير أنه أفاد من فرصة سنحت له من مساعدة خارجية للقيام بثورة على «آشور»، ففي المدة التي بين عامي ٦٥٦–٦٥١ق.م نجح في طرد الحاميات الآشورية من مصر بمساعدة الجنود الليديين المرتزقة الذين أرسلهم له حليفه «جيجنر» ملك «ليديا»، وتدل السهولة التي انتصر بها «بسمتيك» على الآشوريين على أن «آشور بنيبال» لم يكن مهتمًا بفقد مصر، ومن المحتمل أن حاجة «آشور بنيبال» إلى جيش كبير للمحافظة على مصر هو الذي صرفه عن محاولة فتحها كرة أخرى؛ وذلك لحاجته إلى هذا الجيش في جهات أخرى من حدوده، ولا نزاع في أن فقدان «آشور» لمصر لم يكن خسارة عظيمة في نظر ملك «آشور»، وعلى ذلك فإنه اكتفى بعقد محالفة هجومية دفاعية بينه وبين مصر.
هذا موجز عن الحملتين اللتين قام بهما «آشور بنيبال» لفتح مصر بعد موت والده «إسرحدون»، وسنورد هنا المتون التي جاءت في النقوش الآشورية عن هذا الفتح، أما ما قام به الكاهن الرابع «منتومحات» وحاكم مقاطعة «طيبة» والوجه القبلي تقريبًا في ذلك العهد، فإنا قد أفردنا له فصلًا عند التحدث عن حكم «تهرقا» وأخلافه.
وهاك النصوص التي وصلت إلينا حتى الآن على حسب ترتيبها بقدر المستطاع …
سرت في حملتي الأولى على مصر (ماجان) «وإثيوبيا» (ملوها) أن «تهرقا» (تارقو) ملك مصر (موصور) والنوبة (كوسو) الذي هزمه والدي «إسرحدون» ملك «آشور»، والذي حكم بلاده (أي إسرحدون). إن نفس «تهرقا» هذا قد نسي جبروت «آشور» «وإشتار» والآلهة الآخرين العظماء أربابي، ووضع ثقته في قوة نفسه، فانقلب على الملوك والنواب الذين عينهم والدي في مصر «وفي رواية أخرى لأجل أن يقتل ويسرق ويستولي على مصر لنفسه»، فدخل واستقر في «منف» وهي المدينة التي فتحها والدي وجعلها إقليمًا آشوريًّا، وقد حضر رسول مستعجل إلى «نينوة» ليخبرني بذلك، فاستولى عليَّ الغضب بسبب هذه الأحداث واشتعل روحي، فرفعت يدي وتضرعت إلى الإله «آشور» وللإلهة «إشتار» الآشورية، وبعد ذلك جمعت جيشي العرم الذي وكل إلى أمره الإله «آشور» والإلهة «إشتار» وسلكت أقرب طريق لمصر والنوبة، وفي خلال سيري إلى مصر أحضر إليَّ اثنان وعشرون ملكًا من ساحل البحر والجزر والبر، وهم «بعلو» ملك «صور»، «منسه» ملك «يودا»، «قاوشجبري» ملك «إدوم»، «موسوري» ملك «مواب»، «سيل-بل» ملك «غزة»، «ميتنتي» ملك «عسقلان»، «أكاسو» ملك «إكرون»، «ميلكي-أشابا» ملك «جبيل»، «ياكينلو» ملك «أرواد»، «وآبي بعل» ملك «سامسيمورونا»، «أمينادبي» ملك «بيت عمون»، «أخوميلكي» ملك «أشدد»، «وإكيشتورا» ملك «إديلي»، «بيلا جورا» ملك «بتروس»، «وكيسو» ملك «سيلوا»، «إتواندار» ملك «بابا»، «إريسو» ملك «سيلو»، «داماسو» ملك «كورى»، «أدمسو» ملك «تامسو»، «داموسو» ملك «قاري-ها داستي» (قرطاجنة)، «أوناساجوسو» ملك «ليدير»، «بوسوسو» ملك «نوري»، هذا إلى اثني عشر ملكًا من الساحل والجزر والبر، وهم خدام تابعون لي، أحضروا عطايا عظيمة لي وقبلوا قدمي، وقد جعلت هؤلاء الملوك يتبعون جيشي على البر وعلى طريق البحر ومعهم قواتهم المسلحة وسفنهم «على التوالي»، وقد زحفت بسرعة حتى «كاربانيتي» لأنجد بسرعة الملك والنواب في مصر وهم خدم تباعون لي، وقد سمع «تهرقا» ملك مصر والنوبة في «منف» بمجيء حملتي وجمع جنوده لمعركة فاصلة علي، وبمقتضى وحي أمين أوحى به «آشور» «وبل» «ونبو» الآلهة العظام، أربابي الذين يسيرون دائمًا بجواري، هزمت الجنود المدربين على الموقعة من جيشه في موقعة عظيمة مكشوفة، وقد سمع «تهرقا» بهزيمة جيشه وببهاء «آشور» الذي يبعث الذعر، وقد أعمته الإلهة «إشتار» حتى أصبح كأنه مجنون، وقد بهره فخامة ملكي الذي منحه إياي آلهة السماء والعالم السفلي، فترك «منف» وهرب لينجو بحياته في بلدة «ني» (طيبة). وقد استوليت على هذه المدينة كذلك وقدت جيشي إليها ليرتاح هناك.
أما «نخاو» ملك «منف» وسايس، «وشارولو داري» ملك «سينو» (بلوزيم)، «وبيشانهورو» (وبيش حو) ملك «ناتو»، «وباكرورو» ملك «بيشابنو» (= بي سبد)، «وبوكوناني-بي» ملك «أتريب» (بنها الحالية)، «وناهكي» ملك «حننشي» (أهناسية المدينة)، «بوتوبشتي» (بتوباست) ملك «سانو» (= تانيس أو صان الحجر الحالية)، «ونامونو» ملك «ناتو»، «وهارسيا أشو» (حورسا إزيس) ملك «سبنوتي» (سمنود)، «بوايما» (= بيماي) ملك «بيتنتي» (منديس = تل الربع الحالية)، «وسو-سي-إن-قو» (شيشنق) ملك «بوشيرو» (بوزيس أبو صير)، «وتابنهتي» (= تفنخت) ملك «بونونو» (بنب)، بوكاناني-بي «باكننتي» ملك أحتي (= حنت أو إحنت)، «وإبتحار دشو» (بتاح أردي-شو) (= بتاح أعطاه) ملك «بيحاتيهورون بي» (كي) (= بي حتحور نبت تب آح = أطفيح)، «نهتيهور وانسنى» ملك «بيشابدي» (= بيسبد = صفت الحن)، «بوكورنينب» (بكنتفي) ملك «باحنوتي»، «وصيحا» ملك سيوط، «ولمنتو» (نمروت) ملك «خيموني» (الأشمونين)، «أسبيماتو» (بساموت) ملك «تايين» (طينة)، ومنتيمنحي (منتومحات) ملك «ني» (طيبة).
وهؤلاء الملوك والحكام والنواب الذين كان قد نصبهم والدي في مصر وهم الذين تركوا وظائفهم في وجه ثورة «تهرقا» وانتشروا في العراء أعدتهم إلى وظائفهم، وفي أماكن وظائفهم السابقة، وبذلك قبضت من جديد على زمام الأمور في مصر والنوبة، وهما اللتان فتحهما والدي من قبل، وقد جعلت الحاميات أقوى من قبل، وقوانينها أحزم، وقد عدت سالمًا بأسرى كثيرين، وغنيمة فادحة إلى «نينوة».
وعلى أية حال فإن كل الملوك الذين نصبتهم، نقضوا أيمانهم التي عقدوها، ولم يحافظوا على الاتفاقات التي أوثقوها بالحلف بالآلهة العظام، ونسوا أني عاملتهم بلين ودبروا مؤامرة خبيثة، وقد تحدثوا عن أمر العصيان واتفقوا فيما بينهم على القرار الدنس التالي: والآن حتى عندما طرد «تهرقا» من مصر كيف يكون في مقدورنا نحن أن نأمل في المكث؟ وعلى ذلك أرسلوا رسلهم ممتطين جيادهم إلى «تهرقا» ملك النوبة ليضع اتفاقًا وثيقًا هكذا: «دع السلام يكون بيننا، ودعنا نأتي إلى تفاهم متبادل، فسنقسم البلاد بيننا، ولن يكون أجنبي حاكمًا بيننا.» وقد استمروا في المؤامرة على الجيش الآشوري، وهي القوات التي كان يرتكز عليها حكمي، وهي التي كنت قد أحللتها في مصر لمساعدتهم، غير أن ضباطي سمعوا عن هذه الأمور وقبضوا على رسلهم الممتطين جيادهم، وبذلك عرفوا عن أعمالهم الثائرة، فقبضوا على هؤلاء الملوك ووضعوا أيديهم وأرجلهم في السلاسل والأغلال، وقد أصابتهم نتائج الأيمان التي نقضوها مع «آشور» ملك الآلهة، وقد حاسبت هؤلاء الذين أجرموا في نقض اليمين الذي حلفوه بالآلهة العظام، وهؤلاء الذين قد عاملتهم من قبل برأفة.
وقد أعمل «الضباط» السيف في السكان صغيرهم وكبيرهم في بلدتي «سايس» (صا الحجر) ومنديس «تل الربع» «وفي رواية أخرى نجد: وقلوب سكان «سايس» «ومنديس» «وتانيس» التي قد ثارت وساعدت «تهرقا» علقتها على عمد، وسلختهم وغطيت بجلودهم جدران المدن»، أما تانيس «صان الحجر» وكل البلاد الأخرى التي كانت قد اشتركت معهم في المؤامرة فإنه لم يفلت أي رجل منها؛ إذ علقوا جثثهم على خوازيق وسلخوا جلودهم وغطوا بها جدران البلاد، أما أولئك الملوك الذين كانوا يتآمرون تكرارًا فقد أحضروهم إليَّ أحياء إلى «نينوة»، ومن بينهم جميعًا رحمت «نخاو» فقط، ومنحته الحياة، وعقدت معه معاهدة مدعمة بمواثيق فاقت كثيرًا مواثيق المحالفة السابقة، وألبسته حلة مزركشة، ووضعت عليه سلسلة من الذهب رمزًا لملكه «وفي ذلك كان يتبع «آشور بنيبال» عادة مصرية»، وألبسته خواتم من الذهب في يديه، وكتبت اسمي هجاءة على خنجر من الحديد «يلبس» في الحزام، وهو مرصع بالذهب، وأعطيته إياه، وأهديته فضلًا عن ذلك خيلًا وبغالًا لحمل الأثقال تليق بمكانته بوصفه حاكمًا، وقد أرسلت معه لمساعدته ضباطًا من ضباطي بمثابة حكام وأعدت له «سايس» لتكون مقرًّا لملكه، وهي المكان الذي كان والدي «إسرحدون» قد نصبه فيه ملكًا، أما ابنه المسمى «نابوشيزيباني» فقد عينته في أتريب «بنها الحالية»، وبذلك عاملته بحظوة وصداقة أكثر مما عامله والدي من قبل، وقد تغلب فزع سلاح الإله «آشور» المقدس سيدي على «تهرقا» في المكان الذي لجأ إليه، فلم يُسمع عنه شيء بعد.
وبعد ذلك جلس على عرشه «أوردمان» (أوتندمان) بن «شبكا» «وفي رواية أخرى ابن أخته»، وقد جعل «طيبة» «وهليوبوليس» حصنيه، وجمع قوته المسلحة، وحشد جنود موقعته المدربين لمهاجمة جنودي، وعسكر الآشوريون في «منف» وحاصر هؤلاء الرجال واستولى على كل مواصلاتهم «أي المنافذ التي يمكن أن يخرجوا منها»، وقد حضر إلى «نينوة» رسول مستعجل وأخبرني بذلك.
هذا؛ ولدينا بعض نقوش أخرى تحدثنا عن فتحه لمصر جاءت على قطع آثار مختلفة نذكر منها ما يأتي لما فيها من بعض إيضاحات لم تذكر في النقش السابق.
«ماجان» «وملوخا» وهو «إقليم» بعيد … «وهو الذي» تقدم نحوه «إسرحدون» والدي ملك بلاد «آشور» هازمًا هناك «تهرقا» ملك النوبة «كوش»، مشتتًا جيشه، وفتح مصر والنوبة، وحمل منها جزية يخطئها العد، وحكم على كل البلاد وضمها إلى «مملكة آشور»، وغير أسماء البلاد السابقة وأعطاها أسماء جديدة، ونصب خدامه وحكامه في هذه البلاد، وفرض عليهم جزية سنوية تدفع له بوصفه السيد الأعلى … مسافة ستون ياردة؟ … منف …
خمسة وخمسون من تماثيلهم لملوك مصر … وكتب «عليها …» النصر الذي أحرزه بيده … بعد أن مات والدي «إسرحدون».
وقد أتى الملوك من الشرق والغرب وقبلوا قدمي، ولكن «تهرقا» (تاركو) دبر الاستيلاء على مصر ضد «إرادة» الآلهة، ولأجل … ولم يكترث بقوة الإله «آشور» ربي، ووضع ثقته في قوة نفسه، ولم يستعد إلى ذاكرته الطريقة الخشنة التي عامله بها والدي، فسار ودخل «منف» واستولى على هذه المدينة لنفسه، وسير جيشه على الآشوريين الذين كانوا في مصر وهم خدام تابعون لي، وهم الذين كان «إسرحدون» والدي قد عينهم هناك ملوكًا، ليذبحهم ويأسرهم ويجعلهم غنيمة لنفسه، وقد جاء رسول مستعجل إلى «نينوة» ليقدم إليَّ تقريرًا بذلك، فغضبت بسبب هذه الحوادث، وكان روحي مشتعلًا، فجمعت القائد الأعلى «تورتان» والحكام، وكذلك مساعديهم، وأصدرت الأمر في الحال لجيشي الحربي ليساعدوا بسرعةٍ الملوك والحكام والخدام التابعين لي، وجعلتهم يبدءون الزحف على مصر، وقد ساروا بسرعة جنونية إلى أن وصلوا إلى بلدة «كاربانيتي»، فترك «تهرقا» «منف» مقره الملكي، وفي المكان الذي كان قد وضع فيه ثقته، لينجو بحياته، وركب سفينة تاركًا معسكره هاربًا بمفرده، فدخل طيبة «ني»، فاستولى محاربو «آشور» على كل سفنه الحربية التي كانت معه، وقد بعثوا إليَّ بالخبر السار بوساطة رسول حمل إليَّ تقريرًا شفويًّا، وبعد ذلك أمرت بأن يضاف إلى قوتي الحربية السابقة في مصر الضابط «ربشباك» وكل الحكام والملوك التابعين للإقليم الواقع خلف النهر «أي الفرات»، وهم خدام تابعون ومعهم قواتهم وسفنهم ليطردوا «تهرقا» خارج مصر وبلاد النوبة، فساروا نحو طيبة، وهي بلدة «تهرقا» ملك النوبة الخصينة فقطعوا مسافة مسيرة شهر في عشرة أيام، وعندما سمع «تهرقا» بمجيء جيشي ترك طيبة بلده الحصين وعبر النهر وعسكر على الشاطئ الآخر للنهر، ولكن «نخاو» «وشارولو داري» «وبكرورو»، وهم ملوك كان قد عينهم والدي في مصر، لم يحافظوا على العهود التي وثقوها بحياة الإله آشور والآلهة العظام أربابي، ونقضوا أيمانهم ونسوا الود الذي عاملهم به والدي، وأخذوا يتآمرون عليه، فقد تآمروا باستمرار على الجيش الآشوري المجتمع في مصر، ولأجل أن يخلصوا حياتهم فإنهم دبروا هلاكهم التام، ولكن ضباطي سمعوا بهذه الأمور وقابلوا مكرهم بمثله، فقبضوا على «شارولوداري» «ونخاو».
أما أنا «آشور بنيبال» الذي يميل إلى المهادنة فرحمت «نخاو» خادمي الذي نصبه والدي ملكًا في مدينة «كاربلمتاني» (= سايس)، ونصبت ابنه «نابوشزيباني» ملكًا على «أتريب» (بنها الحالية)، وهي التي أصبح اسمها الجديد «ليمير إشاك آشور».
وقد جمع «تندماني» (تانوت آمون) قوته «المسلحة»، وأعد سلاحه وسار لمنازلة جيشي في موقعة فاصلة، ولكن على حسب وحي أمين أوحى به الإلهان «آشور» «وسن» والآلهة العظام أربابي هزمهم جيشي في موقعة عظيمة مكشوفة، وشتت شمل جيشه المسلح، وهرب «تندماني» وحيدًا، ودخل طيبة مقره الملكي، فتابعه جيشي قاطعًا مسافة مسير شهر في عشرة أيام في طرق وعرة حتى طيبة، ففتحوا هذه المدينة تمامًا وحطموها كأنهم فيضان عاصفة، ونقلوا من مدينته ذهبًا، وفضة وُجدت في هيئة تبر في جباله، وأحجارًا ثمينة، وكل أمتعته الشخصية من ملابس كتان مزركشة وجياد جميلة وخدم من رجال وأناث وقردة متوطنة في جباله؛ أي جبال «تندمان»، وكل شيء كان بمقادير كبيرة يخطئها العد، وأعلنوها غنيمة، وقد أحضروا «الغنيمة» سالمة إلى «نينوة»، وهي البلدة التي أدير فيها حكمي، وقبلوا قدمي.
حرب «آشور بنيبال» مع «سوريا» «وفلسطين» وإخضاع ملكي «تابال» «وسيليسيا» وعهد «جيجز» ملك «ليديا»: استمر «آشور بنيبال» في حصار «صور» الذي كان قد ضربه «إسرحدون» حولها، وتدل الأحوال على أن هذه الحرب قد انتهت بعقد معاهدة صلح كانت شروطها أسمى من التي كان قد عرضها «إسرحدون» من قبل، وأرسلت أميرات صورية إلى حريم «آشور بنيبال» في «نينوة»، وقدم «ياحيمليكي» بن «بعلو» فروض الطاعة لملك «آشور»، وعلى آية حال لم يحجزه «آشور بنيبال» عنده رهينة.
في حملتي الثالثة: زحفت على «بعل» ملك «صيدا» الذي يسكن «على جزيرة» في وسط البحر؛ لأنه لم يخضع لأمري الملكي، ولم يكترث لأوامري الشخصية «لشفتي»، فحاصرته بالمتاريس، واستوليت على طرقه في البحر والبر، وبذلك خنقتهم وجعلت مؤنهم شحيحة وأجبرتهم على الخضوع لنيري، وقد أحضر ابنته وبنات أخيه أمامي ليقمن بخدمات حقيرة، وفي الوقت نفسه أحضر ابنه «ياحيمليكي» الذي لم يكن قد عبر البحر بعدُ ليرحب بي بوصفه عبدي، وتسملت منه ابنته وبنات أخيه ومعهن مهورهن، وقد رحمته وأعدت له ابنه الذي أنجبه من ظهره «ياكنلو» ملك «أزواد» الذي كان يعيش كذلك على جزيرة ولم يكن قد خضع لأي ملك من أسرتي، فخضع الآن لنيري، وأحضر أخته ومعها مهر كبير إلى «نينوة» لتقوم بخدمات حقيرة، وقبَّل قدمي.
أما «موجالو» ملك «تابال» الذي خاطب الملوك آبائي بكلمات عداء فقد أحضر ابنة من صلبه بمهر كبير إلى «نينوة» لتكون حظيتي، وقبَّل قدمي، وقد فرضت جزية سنوية عليه من الخيل الكبيرة.
أما «سانداشارم» ملك «سيليسيا» الذي لم يخضع للملوك آبائي ولم يحمل نيرهم فقد أحضر ابنة من صلبه وقبَّل قدمي.
وبعد أن مات «ياكينلو» ملك «أرواد» فإن «آزي بعل» «وآبي بعل» «وآدوني بعل» «وسباتي بعل» «وبودي بعل» «وبعليا شوبو» «وبعل جنونو» «وبعل ملكوكو» «وآبي ملكي» «وأحي ملكي» أولاد «ياكينلو» الذي يسكن «جزيرة» في وسط البحر، فقد أتوا من البحر بهداياهم الثقيلة وقبلوا قدمي، وقد نظرت بسرور إلى «آزي بعل» وجعلته ملك «أرواد» وألبست «آبي بعل» «وآدوني بعل» «وسباتي بعل» «وبودي بعل» «وبعليا شوبو» «وبعل حنونو» «وبعل ملكوكو» «وآبي ملكي» «وأحي مليكي» ملابس مزخرفة، ووضعت خواتم ذهب على أيديهم وجعلتهم يخدمون في بلاطي.
وفي هذا الوقت بلغ النفوذ الآشوري قمته، ونفذ عن طريق إغريق قبرص إلى شواطئ بحر إيجه، وبدأت بلاد «ليديا» تحتل مكانة بلاد «فريجيا» بوصفها الدولة الرئيسية في الأناضول؛ وذلك لأن المملكة الفريجية كانت قد تحطمت بتصادمها مع «الكميريين» الذين شتت «إسرحدون» جموعهم غربًا عام ٦٧٨ق.م، فأوقعوا الدمار والخراب في كل شبه الجزيرة.
حرب «آشور» مع «عيلام»: وفي تلك الأثناء كان «آشور بنيبال» قد شرع في محاربة عيلام بقلب فرح، بخاصة بعد أن أكد له الوحي المنزل أن النصر المبين سيكون حليفه، ويرجع السبب في هذه الحروب إلى غزو العيلاميين «بابل»، فانتهز «آشور بنيبال» الفرصة ليقضي على عيلام قضاء مبرمًا أبديًّا، كما فكر هو وكما ظن والده من قبل أنه سيقضي على مصر نهائيًّا، وقد كانت كل الأحوال مواتية وتبشر بالفوز العظيم؛ إذ كانت الإمبراطورية وقتئذٍ في أوج رفعتها وفلاحها، وكانت مصر خاضعة لسلطات «آشور» وبلاد «ليديا» تطلب ودها ومصادقتها، ومملكة «أورارتو» (أرمينيا) لا حول لها ولا قوة، ولم يكن يقف في وجهها إلا «عيلام» وكانت صاحبة قوة وبطش، وعلى ذلك صمم «آشور بنيبال» أن يخضعها بدورها، وبذلك يدين له ملك العالم المتمدين قاطبة على وجه عام، غير أن «آشور بنيبال» لم يقدر الصعوبات التي كانت تقوم في وجهه لتنفيذ غرضه، حقًّا إنه نفذ غرضه بنجاح، ولكن ذلك كلفه عددًا هائلًا من الرجال، وقد كانت هذه الخسارة في الرجال مضافًا إليها ما كان عليه أن يبقيه من الجنود في مصر سببًا في تمزيق إمبراطوريته في نهاية الأمر، غير أن ظواهر الأحوال لم تكن تدل على مثل هذه النهاية المحزنة.
ومما يؤسف له أن معلوماتنا عن سير الحوادث في خلال نصف القرن الأخير من حياة الإمبراطورية الآشورية ناقصة بعض الشيء، وذلك بسبب اختفاء قائمة «لمو»، فقد انقطعت قوائم هؤلاء العظماء حوالي هذه الفترة، ولم تصل إلينا قوائم جديدة بعد عام ٦٦٦ق.م، ولذلك ليس لدينا عن التواريخ المضبوطة للحوادث التي وضعت وصفًا مفصلًا في عهود الملوك إلا ما يمكن استخلاصه بالحدس والتخمين.
والظاهر أن غزو «العيلاميين» «لبابل» قد حدث عندما كان «آشور بنيبال» غائبًا في مصر حوالي ٦٦٧ق.م بعد موت والده، وقد عقد صلحًا ظاهرًا مع العيلاميين، غير أن الملك «تومان» ملك عيلام الذي خلف الملك «أورتاكي» الغازي العيلامي كان أكثر جرأة من الأخير؛ إذ أشعل نار حرب ثانية بسبب إرساله طلبًا لا مبرر له إلى ملك «آشور» يسأله فيه إعادة كل الأفراد الذكور الذين هربوا إلى «آشور» على إثر موت الملك «أورتاكي» من «بيت عيلام» الملكي، ومن المحتمل أن هذا الطلب قد أرسل قبل حملة «آشور بنيبال» إلى مصر عام ٦٦٣ق.م.
على أن ذلك لم يهبط من همم «العيلاميين» بأية حال، فقد انتعش فيهم روح الوطنية بعض الشيء عندما قامت في «بابل» ثورة لم تكن قط في الحسبان، مما أحيا في نفوس «العيلاميين» الأمل لاسترجاع حريتهم، ففي عام ٦٥٢ق.م هب «شماس شوم أوكن» ملك «بابل» التابع «لآشور» بثورة على أخيه «آشور بنيبال»، وكان غرضه أن يخلع أخاه من الملك جملة وينفرد هو بالملك وحده، ويجعل «بابل» عاصمة ملكه بدلًا من «نينوة»، ومن المحتمل أن الأسباب التي دعت «شماس شوم أوكن» إلى القيام بهذه الثورة بعد أن مكث تسع عشرة سنة تحت ظل حكم أخيه هو أولًا مطامحه الشخصية، ثم ما رآه من عدم رضا «الكلدانيين» عن خضوعهم «لآشور» وبخاصة أنهم كانوا يؤلفون الجزء الأعظم من سكان «بابل»، هذا بالإضافة إلى وجود حركة عامة تهدف إلى العصيان في كل أنحاء الإمبراطورية الآشورية، مما جعل «شماس شوم أوكن» يسرع في تنفيذ غرضه زعمًا منه أنه إذا بقي مخلصًا لأخيه فإنه سيفقد بلا نزاع عرشه في «بابل» لمدة، ويمكنه أن يستفيد فقط بمساعدة أخيه غير أنه يصبح خاضعًا له أكثر مما كان من قبل، من أجل ذلك عقد حلفًا سريًّا حوالي ٦٥٤-٦٥٣ق.م مؤلفًا من عدة بلدان من التي كانت تحت سلطان «آشور»، وكانت بلدان هذا الحلف تمتد من «عيلام» حتى بلاد «يهودا» «وفينيقيا».
وايتي … «هرب» إلى بلاد «نباياتي»، «وقد ذهب» ليرى «نتنو» وقال «نتنو» «لياوتا» ما يأتي: «كيف يمكن أن أنجو من «آشور» وأنت الذي قد وضعتني بزيارتك في سلطانك!» وكان «نتنو» خائفًا واستولى عليه القلق وأرسل رسله ليسألوا عن صحتي وقبلوا قدمي، وقد رجاني تكرارًا بوصفي سيده لأعقد صلحًا موثوقة بأيمان، وأن يصير خادمي، «وأخيرًا» نظرت إليه بمودة ورمقته بوجه باسم، وفرضت عليه جزية سنوية.
أما «وايتي» الآخر ابن «هزيل» ابن أخي «وايتي» ابن «بيرددا» الذي نصب نفسه ملكًا على بلاد العرب؛ فإن «آشور» ملك الآلهة والجبل العظيم قد جعله يغير فكره وأتى لمقابلتي «خاضعًا»، ولأجل أن أبرهن أن الإله «آشور» والآلهة العظام أربابي يستحقون أعظم المديح فرضت العقاب الصارم الآتي، فوضعت على رقبته خشبة «المذنب» ودبًّا وكلبًا، وجعلته يقف حارسًا عند بوابة «نينوة» المسماة «نريب ما سنقتي-أدناتي»، وعلى أية حال فإن «أمولادي» ملك «قدار» قد هب لمحاربة ملوك الأرض الغربية التي وهبها إياي «آشور» «وإشتار» والآلهة الآخرون بوصفها ملكي، وقد أحقت به هزيمة على حسب وحي أمين أرسله الآلهة «آشور» «وسن»، «وشماش»، «وأداد»، «وبل»، «ونبو»، «وإشتار» صاحبة نينوة ملكة «كدموري» «معبدها في كالح»، «وإشتار» صاحبة «أربلا» «ونينورتا»، «ونرجال»، «ونوسكو»، وقد قبضوا عليه حيًّا، وكذلك على «عديا» زوج «وايتي» ملك بلاد العرب، وأحضروهم إليَّ «وهنا نجد أن متن المتحف البريطاني يزيد بعض تفاصيل على العبارة الأخيرة وهي: أما «عاديا» ملكة العرب فقد أحقت بها هزيمة دامية وحرقت خيامها وقبضت عليها على قيد الحياة، ونقلتها مع سجناء آخرين كثيرين إلى آشور».
وقد وضعت طوق كلب حول رقبته وجعلته يحرس بوابة المدينة، وذلك على حسب أمر وحي للآلهة العظام، وكذلك هَزمتُ في موقعة دامية وشتَّتُّ شمل جنود «أبياتي» وجنود «عامو» بن «تري» الذي سار لمساعدة «شماس-شوم-أوكن» أخي الشقي عندما كانوا على وشك دخول «بابل»، وذلك بأمر وحي من الآلهة «آشور» «وإشتار» والآلهة العظام، أما الباقون الذين أفلحوا في دخول «بابل» فقد أكل كل واحد منهم هناك لحم أخيه بسبب جوعهم الكافر، وبعد ذلك قاموا بمحاولة للخروج من «بابل» ليخلصوا حياتهم، وعلى أية حال كانت جنودي مرابطة هناك ضد «شماس-شوم-أوكن» فأوقعوا به هزيمة أخرى، حتى إنه «أي أبياتي» هرب بمفرده وأمسك بقدمي لينجي حياته فرحمته، وجعلته يعقد ميثاقًا بحياة الآلهة العظام، ونصبته بدلًا من «وايتي» ابن «هزيل» ملكًا على بلاد العرب.
وقد أتى «أبياتي» بن «تري» إلى «نينوة» وقبَّل قدمي، وعقدت معه اتفاقًا عن حالته بوصفه خادمي، وجعلته ملكًا بدلًا من «وايتي» أو شخص آخر، وفرضت عليه جزية سنوية من الذهب، وخرز في هيئة العين من حجر «أداش»، والتوتية وجمال وحمير، وبمساعدة الآلهة «آشور» «وسن» «وشماش» «وأداد» «وبل» «ونبو» «وإشتار» «نينوة» ملكة «كدموري» «وإشتار أربلا» «ونينورتا» «ونرجال»، وبنطق اسمي الذي جعله «آشور» قويًّا فإن «كما شالتو» ملك «مواب» وهو خادم تابع لي قد أوقع هزيمة في موقعة مكشوفة على «أمولادي» ملك «قدار» الذي كان مثله «أي أبياتي» قد ثار وقام باستمرار بغزوات على ملوك بلاد الغرب، وقد استولى «أمولادي» نفسه على أهله؛ أي أهل «أبياتي» الذين هربوا من قبل … ووضعهم في السلاسل والأغلال الحديد وأرسلهم إلى نينوة.
ولكنه تفاهم مع بلاد «النباطيين»، ولم يكن خائفًا من الأيمان التي عقدها بحياة الآلهة العظام، وأخذ يقوم بغزوات مستمرة في إقليم بلاده، أما «ننتو» ملك «نباياتي» التي تقع على مسافة بعيدة، وهي التي قد هرب إليها «وايتي» فقد سمع بهاتف من «آشور» «وسن» «وشماش» «وأداد» «وبل» «ونبو» «وإشتار» صاحبة «نينوة» «وإشتار» صاحبة «أربلا» «ونينورتا» «ونرجال» «ونوسكو» عن قوة «آشور» التي وهبتني القوة، ولذلك فإنه على الرغم من أنه لم يرسل رسولًا لأجدادي الملوك ليحييهم بوصفهم ملوكًا بالسؤال عن صحتهم، فإنه الآن يسأل خوفًا من ساعدي «آشور» المنتصر دائمًا بإلحاح عن صحتي الملكية.
ولكن «أبياتي بن تري» الذي كان مجردًا عن أية مقاصد حسنة، والذي كان غير مكترث بالأيمان التي أوثقها بالآلهة العظام قد تحدث عن الثورة عليَّ، واتفق مع «ننتو» ملك «نباياتي» فجمعوا جيوشهم للقيام بهجوم خطر على بلادي.
وقد جمعت جيشي وسرت مباشرة إلى «أبياتي» وذلك بأمر وحي الآلهة «آشور» «وسن» «وشماش» «وأداد» «وبل» «ونبو» «وإشتار» «نينوة» ملكة «كدموري» «وإشتار أربلا» «ونينورتا» «ونرجال» «ونوسكو»، فعبر «جيشي» بأمان نهري دجلة والفرات عند قمة فيضانهما، فاتبعوا طريقًا تؤدي إلى أقاليم بعيدة وقد تسلقوا سلاسل جبال عالية، وساروا في طرق ملتوية في غابات ملأى بالظل وساروا بسلام على طريق شائكة بين أشجار عالية وأعشاب ملأى بالأشواك على مسافة مسيرة مائتي ساعة من «نينوة» البلد المحبوبة من «إشتار» زوج «إلليل»، وقد ساروا متقدمين في الصحراء حيث كان هناك العطش المحرق، وحيث لم يكن هناك حتى الطيور في السماء، وحيث لم تكن توجد مراعٍ للحمير البرية أو الغزلان مقتفين أثر «وايتي» ملك العرب «وأبياتي» الذي كان يسير بجيش النباتيين، وقد قمت من بلد «هداتا» في شهر سمانو، وهو شهر «سن» (إله القمر) بِكر الإله «إلليل» وقائد إخوته في اليوم الخامس والعشرين، وهو يوم موكب سيدة «بابل» أهم الآلهة بين الآلهة العظام، وقد خربت خيمة في «لربدا»، وهي مدينة ذات جدار أحجاره ساذجة عند آخر أحواض الماء، وقد منح جيشي الماء هناك لشربهم، ثم تقدموا سائرين في أقاليم ذات عطش محرق حتى حورارنيا، وقد أوقعت هزيمة بقوم «إسامي» وهم اتحاد عباد الإله «أتار سامين» والنباتيين بين مدينتي «ياركي» «وأزلا» في صحراء نائية حيث لا توجد حيوانات برية، وحيث لا تبني هناك الطيور أعشاشها، وقد استوليت منهم غنيمة على أسرى يخطئها العد وحمير وجمال وماشية صغيرة، وبعد أن سار جيشي دون مقاومة مسافة مسيرة ست عشرة ساعة عاد في أمان وورد الماء في «أزلا» ليطفئ ظمأه، ثم ساروا إلى الأمام حتى بلدة «قوراسيتي» على مسيرة اثني عشر ميلًا في إقليم عطشه محرق، وهناك حاصرت حلف عباد الإله «أتارسامين»، وأهل «قدار» الذين كانوا تحت إمرة «وايتي بن بيرددا» وجعلتهم يسيرون معي على الطريق إلى «دمشق»، وكذلك آلهته وأمه وأخته وزوجه وأسرته وكل نساء «قدار» الآخرين، والحمير والجمال والحيوانات الصغيرة بقدر ما قبضت عليه بمساعدة «آشور» «وإشتار» سيدي.
ولا ريب في أن «نينليل» البقرة البرية المسوَّدة، وأعظم الإلهات شجاعة، والتي يماثلها فقط في المكانة «آنو» «وإلليل»، كانت تناطح أعدائي بقرنيها الجبارتين، «وإشتار» التي تسكن في «أربلا» مرتدية نارًا «مقدسة» وحاملة لباس الرأس «ملامو» كانت تمطر لهيبًا على بلاد العرب، «وإرا» المحارب المسلح بأنونتو كانت تحطم «تحت قدمها» أعدائي، «ونينورتا» السهم، البطل العظيم ابن «إلليل» كان يقطع حناجر أعدائي بطرفه الحاد، «ونوسكو» الرسول الطيع «للآلهة»، المعلن عن سيادتي، الذي رافقني بأمر «آشور»، والمحاربة «نينليل» سيدة «أربلا» التي حمتني بوصفي ملكًا، أخذت قيادة جيشي وطوحت بأعدائي، وعندما سمع جنود «وايتي» باقتراب هذه الأسلحة الجبارة الخاصة بآشور وإشتار إلهي العظيمين، وسيدتي، وهي التي أتت في أثناء المعركة لمساعدتي، ثاروا عليه، فأصبح خائفًا ونزل البيت «المحراب» الذي هرب فيه، وعلى ذلك قبضت عليه شخصيًّا على حسب الوحي الأمين الذي أوحى به «آشور» «وسن» «وشماش» «وأداد» «وبل» «ونبو» «وإشتار» صاحبة «نينوة» ملكة «كدموري»، «وإشتار» صاحبة «أربلا» «ونينورتا»، «ونرجال»، «ونوسكو» وأحضروه إلى «آشور»، وبأمر وحي من «آشور» «ونينليل» خرقت خديه بحربة ظُبَاها حادٌّ، وهي سلاحي الشخصي، وذلك بوضع نفس اليدين اللتين تسلمتهما للتغلب على المعارضة ضدي، ووضعت الحلق في فكه، وطوقت عنقه بطوق كلب، وجعلته يحرس درباس بوابة «نينوة» الشرقية التي تسمى «نيريب-ماسناق-أدناتي»، وفيما بعد رحمته ومنحته الحياة لأجل أن يثني على فخار «آشور» والآلهة العظام أربابي.
وفي عودتي فتحت بلدة «أوشو» التي تقع على ساحل البحر «اسم الأرض الرئيسية لموقع صور»، وقتلت سكان «أوشو» الذين لم يطيعوا برفضهم دفع الجزية التي كان عليهم أن يدفعوها سنويًّا، وأخذت للعمل أولئك الذين لم يكونوا مطيعين من بينهم، أما أصنامهم ومن بقي حيًّا من السكان فقد سقتهم غنيمة إلى «آشور»، وقتلت كذلك أولئك السكان من «عكا» غير المطيعين، وعلقت أجسامهم على عمد نصبتها حول البلد، وأخذت الآخرين إلى «آشور» وألفت منهم فرقة عسكرية أضفتها للجيش العظيم الذي قدمه لي الإله «آشور»، وفي خلال المعركة قبضت شخصيًّا على «عامو» بن «تري» الذي كان قد انحاز إلى «أبياتي» أخيه، وقد جعلته يُسلخ في «نينوة» التي كنت أدير فيها الحكم.
استوليت على «وايتي» حيًّا، ملك إشمائيل «سو-مو-إيل» الذي كان متحالفًا معه «يقصد شماس-شوم-أوكن»، وأمولادي ملك «قدار» وقع في يدي جيشي في حومة الموقعة، وقد أحضروه «رجال الجيش» إليَّ حيًّا.
وقد أسرجت «تاماريتو»، «وباي» «وأما نالداسي» ملوك «عيلام» «وإيوتي» ملك «إشمائيل» وهم الذين قبضت عليهم شخصيًّا بأمر وحي من الآلهة «آشور» «ونينليل» «وإشتار» القاطنة في «أربلا» كمهارى مختارة لأجل جر عربة نصري، وهي لنقل جلالتي بعد أن خرجت في موكبي من المعبد … لأجل أن أضحي وأن أقوم بالشعائر، وقد قبضوا فعلًا على السيور لجر العربة.
أما «ننتو» ملك «نباياني» (وهي بلاد بعيدة) الذي لم يخضع لأجدادي الملكيين فإنه انحنى إلى نيري، وعلى ذلك فإن وحيًا بأمر من «آشور» «ونينليل» الإلهين العظيمين، سيديَّ اللذين شجعاني على ذلك، فهزمت «إيوتي» الذي وضع ثقته في مساعدة بلاد نباياتي.
وعلى ذلك منع هداياه «تامارتو» وقد قدته هو وزوجه وأولاده … بمثابة غنائم ثقيلة من بلاده، أما «نوهورو» (ناهور) ابنه الذي هرب أمام هجوم آشور وإشتار … فإن بهاء قدسيتهم قد أعماه، وأتى إليَّ بالهدايا وقبَّل قدمي، فرحمته وأقعدته على عرش والده.
«تألهونو» كاهنة الإلهة «دلبات» التي أصبحت غضبى من «هزيل» ملك العرب، وجعلته يسلم إلى يدي «سنخرب» جدي، وذلك بأن سببت هزيمته، وهو الذي أعلن أنه لن يعيش بعد قوم العرب وهاجر إلى «آشور»، وقد أتى «هزيل» إلى «إسرحدون» ملك بلاد «آشور» والدي، وهو محبوب الآلهة العظام، والذي نال النصر بسبب عبادته لكل الآلهة والإلهات، وهو الذي أعاد «هزيل» على عرش والده بأمر أعطاه الإلهان «آشور» «وشماش»، وأعاد كل الأصنام المستولى عليها إلى محاريبها، ملك بلاد العرب ليراه ومعه هدايا ثقيلة الوزن، وقبل قدميه وطلب إليه إعادة «تمثال» إلهته «إشتار»، فرحمه «أي إسرحدون» وسمح بإعطائه «تألهونو» كاهنتها السابقة. أما عن «الكاهنة» «تابوا» فإنه سأل وحيًا من الإله «شماش» كما يأتي: … وبعد ذلك أعادها ومعها تمثال الآلهة، وكذلك وضع نجمة (رمز الإلهة «إشتار») من الذهب الأحمر المحلى بالأحجار الثمينة و… لحياة سعيدة له، ومدة عمر دائم، وفلاح نسله … ودوام ملكه وهزيمة كل أعدائه …
هذا ما وصل إلينا من وثائق عن بلاد العرب في عهد «آشور بنيبال» ومنها نفهم ما كانوا عليه من حب للحرية وعدم الرضا بحكومة منظمة؛ إذ كانو لا يميلون إلا إلى الضرب في الأرض في مجاهل الصحراء وعدم الاستقرار في مكان، وقد كان هذا هو دأبهم إلى أن جاء الإسلام فوجدهم على نفس الحال التي كانوا عليها منذ ١٢٠٠ سنة مضت بل أكثر من ذلك.
ومن المحتمل أنه قبل هزيمة «أيوتي» التي وقعت على ما يظن حوالي ٦٣٩ق.م قبض على «منسة» ملك «يهودا» وهذه الحادثة دونت في كتاب «أخبار الأيام»، ولكن لم تذكر في سفر الملوك.
وهذا الحادث بعينه لم يذكر في تواريخ ملوك «آشور»، ولكن ليس لدينا شك في أن ما جاء في «أخبار الأيام» صحيح من الوجهة التاريخية، وأن «منسة» نقل في شيخوخته إلى «بابل» ليجيب عن اتهامه في الاشتراك في الؤامرة التي قام بها «شماس شوم أوكن»، وقد عاد في النهاية إلى «أورشليم» حيث مات عام ٦٣٨ق.م.
ولا بد أنه حوالي عام ٦٣٨ق.م كان قد وقع العقاب على كل من «صور» «وعكا» للمساعدة التي قدمها الفينيقيون للثورة التي قام بها «شماس شوم أوكن».
وبعد هذه الانتصارات في أنحاء الإمبراطورية الآشورية عقد «آشور بنيبال» مهادنة صداقة بين «آشور» «وساردرور الرابع» ملك «أورارتو» (أرمينيا) وبذلك انتهى نشاطه الحربي.
ولا نزاع في أنه لم يقم على رأس حملة من حملاته هذه في ساحة القتال منذ أن ذهب لمصر في عام ٦٦٣ق.م.
ومع ذلك فإنه حوالي عام ٦٣٥ق.م أقام حفل انتصار في «نينوة» شاكرًا الإله على الانتصارات التي أحرزها في عهده الطويل، فسار في موكب إلى معبد «إشتار» في عربته التي كان تحت نيرها «خومبا خالداش» ملك «عيلام» السابق، وكذلك «باي» الذي ادعى عرش «عيلام» عندما ثار على الآشوريين وضايقهم بعد هزيمة «خومبا خالداش»، ثم «تمريتو» بن الملك «أورتاكي» الذي حكم مدة على «عيلام»، ثم أيوتي ملك العرب، وهناك شخصية عظيمة هائلة لم تكن بين هؤلاء الملوك الذين صب عليهم هذا الإمبراطور جام غضبه، ووضع أنوفهم في الرَّغَام، وأذلهم أخس إذلال، وأهانهم أحقر إهانة يمكن أن توجه لبشر، وهذه الشخصية الغائبة عن هذا الحفل هو «بسمتيك» ملك مصر، وقد يرجع السبب في ذلك إلى الثورة التي قام بها «شماس شوم أوكن»، فقد أجبرت ملك «آشور» على سحب جنوده من مصر حوالي عام ٦٥١ق.م «ويلحظ هنا أن الملك «بسمتيك» قد حسب سني حكمه من أول السنة التي مات فيها تهرقا كما شرحنا ذلك في غير هذا المكان».
وقد ظلت مصر عشر سنوات هادئة بسبب عدم ظهور السيطرة الآشورية في أي جزء من أجزائها، وكان وجود أي جنود آشوريين فيها يعده المصريون بلا نزاع جنودًا مرتزقة استأجرهم «بسمتيك»، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن «بسمتيك» قد اتخذ خطة سياسية حكيمة؛ إذ لم يظهر عدم الولاء للملك «آشور بنيبال» أمام مواطنيه قط، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان مرتبطًا بمساعدة مليكه السابق عاهل «آشور» في بعض الأمور كما سنرى بعد، ومن ثم بدأت مصر تسير في سبيل جديدة من التطور بوصفها مملكة مستقلة تحت سيادة أسرة جديدة ظهر مؤسسها «بسمتيك الأول» بمظهر القوة والفطنة وحسن السياسة مما ميزه عن أولئك الملوك الكوشيين الذين لم يستطيعوا الوقوف أمام «الآشوريين» الغزاة، ومن أجل ذلك عزم «الآشوريون» على ترك وادي النيل لأهله، وتلك كانت سياسة حكيمة، قد كان الدافع على اتباعها أحداث جسام أدت إلى سقوط إمبراطورية «آشور» بعد قليل من الزمن، وقيام أخرى على أنقاضها، وهي دولة «كلديا».
(٢٦-٨) سقوط الإمبراطورية الآشورية
انتهت المصادر التي في متناولنا عن عهد الملك «آشتار بنيبال» عام ٦٣٩ق.م على الرغم من أن هذا الملك قد تُوفي عام ٦٢٦ق.م، ومن ثم نعلم أنه حكم البلاد ثلاثًا وثلاثين سنة بنجاح، وذلك من مجموع الاثنتين والأربعين سنة التي قبض فيها على زمام الأمور في «آشور»، وقد كانت مصر تعد بالنسبة للإمبراطورية الآشورية خارجة عن ممتلكاتها الفعلية، وإن كانت الحوادث التي أتت بعدُ قد برهنت على أن خروج مصر عن نطاق إمبراطورية «آشور» يعد كسبًا لها؛ وذلك لأن مصر قد أصبحت بعد نيل استقلالها حليفة مخلصة لآشور، هذا؛ وقد استقر السلام وحسن النظام في «فلسطين» «وفينيقيا» «وسوريا»، كما أصبحت «ليديا» على ود ومصافاة مع «آشور».
وكان «آشور بنيبال» في سلام مع قوم السيثيين في الشمال كما كان ملك عيلام الذي عينه أخيرًا يظهر له الإخلاص والطاعة، والواقع أن «عيلام» قد سُحقت ولم تقم لها قائمة بعد، كما أنه لم يكن في استطاعة الميديين أن يقاوموا جيوش الإمبراطورية الآشورية، وكان الآشوريون في كل أمهات بلاد الإمبراطورية يعملون على سيادة النظام وسير الأمور في مجراها الحسن، وبخاصة عندما نعلم أن بعض هؤلاء الحكام كانوا من البيت المالك.
وكان «آشور-إطيل-شام-آرسيتيلي – أو باليتسو» أصغر إخوة «آشور بنيبال» يحمل لقب الكاهن الأكبر للإله سن (= القمر) في مدينة «حران»، ومن كل ذلك نفهم أنه كان يحق «لآشور بنيبال» أن يفخر بما كانت تتمتع به إمبراطوريته من سلام ورخاء، ولكن على الرغم من كل ذلك السلام الظاهري السائد نجد أنه على حين غفلة قد تداعى ملكه وأخنى عليه الدهر وطوحت به الأيام إلى الحضيض لأسباب لم نصل إلى كنهها بعد، ويقف التاريخ أمام هذا الحادث مشدوهًا حائرًا.
لقد أعدت الشعائر الخاصة بعمل القربان للموتى ومياه الطهور لأرواح الملك والأجداد بعد أن كانت نسيًا منسيًّا، ولقد عملت كل خير للإله والإنسان والأحياء والأموات، فلماذا انتابني المرض واعتلال الصحة والبؤس والشقاء؟ فأصبحت وليس في مقدوري أن أقضي على الشغب في البلاد والأحقاد في أسرتي، فالفضائح المزعجة تضايقني دائمًا والبؤس العقلي والجمساني قد قوس قناتي، وإن أيامي الأخيرة تحتضر مصحوبة بصيحات ملؤها الفزع، وفي يوم إله المدينة، وهو يوم عيد، أجد نفسي بائسًا والموت يأخذ بخناقي ويودي بي إلى الأرض، وإني أنتحب بالبكاء والعويل ليل نهار وأتأوه قائلًا: يا إلهي امنح إنسانًا كافرًا حتى يرى النور، إلى متى يا إلهي ستعاملني هكذا؟ كأني أصبحت إنسانًا لم يخف إلهًا أو إلهة.
فماذا يا ترى تلك الآلام الجسمانية التي أصابت هذا الرجل الذي بلغ من الكبر عتيًّا؟ ذلك ما لا علم لنا به، أما الإشارة إلى القلاقل والشجار في أسرته ومملكته فواضحة ظاهرة لا تحتاج إلى فحص أو تدقيق.
قد قامت منازعات خاصة بوارثة عرش الملك، وذلك أنه عندما وافت «آشور بنيبال» المنية كان على ابنه «آشور-إطيل-إلاني» الذي اختاه لوراثة العرش أن يحارب مغتصبًا للملك قبل أن يتولى العرش، ولم ينجح إلا بمساعدة موظف يدعى «سن-شوم-ليشير» وكان النزاع بينهما شاقًّا طويلًا، وقد قاست الإمبراطورية الآشورية أهوالًا من جراء ذلك، وكانت بابل الجنوبية تحت سلطان «كاندا لانو» حتى موت «آشور بنيبال» عام ٦٢٦ق.م، غير أنها انخلعت عن طاعة «آشور-إطيل-إلاني» في عهد «نابو بولاسار» القائد الكلداني المختار الذي بدأ بالثورة على أثر تولية العاهل الجديد عام ٦٢٥ق.م، وفي نفس الوقت نجد أن فلسطين قد تخلصت من نير الحكم الآشوري، وأعلنت «فينيقيا» عدم الطاعة للقوانين الآشورية، أما بلاد «ميديا» فقد أصبحت الآن متحدة الكلمة تحت حكم ملك واحد، وانفصلت نهائيًّا عن الإمبراطورية الآشورية، ومن المدهش أنه في مدة حكم «آشور-إطيل-إلاني» القصيرة ٦٢٦–٦١٩ق.م لم تفقد «آشور» من أقاليمها شيئًا جديدًا؛ لأننا سنرى أن ممتلكاتها في الشرق والغرب بقيت على ولاء لحكومة «نينوة».
انتهى حكم الملك «آشور-إطيل-إلاني» بقلاقل كما ابتدأ، واستولى على العرش من بعده الملك «سن-شوم-ليشير»، فلم يمكث على العرش أكثر من بضعة أشهر بعد وفاة سيده، فقد طرده أحد أولاد «آشور بنيبال» الآخرين الذي يسمى «سن-شار-إشكون»، وهذه الحوادث قد جرت بين عامي ٦٢١–٦١٩ق.م.
وفي خلال الحروب الطويلة التي شنها «نابو-بولاسار» ملك «بابل» «وكياكازارس» ملك «ميديا» على ملك «آشور» لكسر شوكته كان على عرش «آشور» ملك قادر يدعى «سن-شار-إشكون»، ولو اتيحت له فرصة أحسن من التي كان فيها لكان في مقدوره أن ينازل هذا الحلف وينتصر عليه، ولو أن كثيرًا من الفرق التي كانت تابعة للجيش الآشوري سابقًا لم يعد من المستطاع تجديدها فإنه كان لديه حلفاء أقوياء، والواقع أن كلًّا من «بسمتيك» ملك مصر وقوم «الستيون» كانوا على استعداد لمساعدته، ولا نزاع في أن الحروب الداخلية التي وقعت في السنين السابقة قد أضعفت القوة المقاومة في الجيش الآشوري، هذا إلى أن أعداء «آشور» من البابليين والميديين كانوا يحاربون بقيادة قواد ليسوا أقل مهارة ومقدرة من القواد الآشوريين.
وكانت خطط أعداء ملك «آشور» سليمة محكمة، فقد عملوا على حصر القوات الآشورية، وجعلها تنكمش شيئًا فشيئًا في المربع المحصن الذي يشمل البلاد الآشورية الأصلية من أول قلعة «شرقات» حتى «كاروك»، ومن ثم حتى «إربل» إلى «خرسباد»، ففي عام ٦١٦ق.م كان في مقدور «نابو-بولاسار» ملك «بابل» أن يزحف بجشيه إلى أعالي «الفرات» في إقليم «سوخو» «وخندانو» دون مقاومة، وهزم الجيش الآشوري الذي وقف له في «قابلينو»، وكان في مقدوره في الوقت نفسه أن يرسل فرقة من جيشه إلى نهر «بلخ»، ولكن النجدة المصرية كانت قد وصلت وقتئذٍ لمؤازرة «الآشوريين»، ولذلك اضطر «نابو بولاسار» إلى التقهقر بسرعة إلى «بابل»، ولكن من جهة أخرى صادف البابليون نجاحًا عظيمًا عند «أراباجيا» (القريبة من «كاركوك») حيث هزم الجيش الآشوري وتقهقر عبر نهر «الزاب».
هذا؛ وقد كان لتدخل الميديين أثر في إضعاف قوة الدفاع عند الآشوريين، مما جعل عزيمة الملك «سن-شار-إشكون» تخور وتنحل، وربما كان سبب ذلك قلة الرجال، ففي عام ٦١٤ق.م زحف «سياكزرسس» حتى أصبح على أبواب «نينوة» نفسها واستولى على «تاريس» (شريف خان)، ثم تحول جنوبًا نحو «آشور» ليضمن مقابلة جيشه بجيش «نابو-بولاسار» حسب الخطة الموضوعة، والآن وللمرة الأولى على حسب ما وصل إلينا من تاريخ «آشور» سقطت العاصمة القديمة ونُهبت بوحشية مشينة كما دلت على ذلك الحفائر الحديثة، وقد وصل «نابو-بولاسار» متأخرًا ليشترك في المعركة، غير أن هذه الفرصة قد خدمته في توطيد عرى التحالف مع «سياكزرسس».
وعلى الرغم من أن أحوال ملك «آشور» كادت تكون على شفا اليأس في بلاد «آشور» نفسها فإن ممتلكاته الخارجية لم تكن قد انحلت بعد، فقد كانت إدارتها غاية في الحكمة طوال مدة قرن من الزمان، ولذلك لم يكن من المعقول أن تصل إلى درجة من الانحلال والتفكك بتلك السرعة الخاطفة.
وبسقوط «نينوة» طويت صفحة تاريخ آشور نفسها، وهي البلاد التي اضطرت أن تحارب قرونًا أولًا لتعيش، ثم لتبني إمبراطورية مترامية الأطراف، وأخيرًا هوت دون أن تقوم لها قائمة عندما آلت إلى الوهن والضعف لدرجة أنه لم يبقَ من بين أقاليمها العديدة الشاسعة إقليم يمكن أن يدافع عن كيانها.
ومع ذلك فإن قليلًا من الآشوريين الذين أمكنهم الهرب من «نينوة» قد استمروا في النضال، وهؤلاء الذين فروا نحو الغرب على الرغم منهم التجئوا إلى «حاران»، تلك القلعة الي سيطروا منها على «سوريا» باستمرار على وجه التقريب منذ عهد الملك «آشور ناصير بال».
وفي الوقت الذي كان فيه «نابو بولاسار» مشتغلًا في إخضاع نصيبين والمراكز المجاوة لها مباشرة عاد كل من الملك «سياكزرسس» وملك «السيثيين» إلى بلادهما محملين بالغنائم.
وقد نصب «آشور أوباليت» ملكًا على «آشور» الذي اتخذ عاصمة ملكه في «حاران»، ويحتمل أنه كان أخا «آشور بنيبال» الذي كان قبل ذلك يشغل وظيفة كاهن الإله «سن» إله القمر.
ولما لم يكن في مقدور هذا الملك أن يمنع تخريب أقاليم وطنه القديم الذي استمر حتى عام ٦١١ق.م لم يرَ بدًّا من انتظار الهجوم على «حاران»، فثبت هناك على أمل أن يسعفه المصريون في الوقت المناسب لصد عدوان أعداء بلاده، وكان «نابو بولاسار» يعلم فداحة العبء الذي سيلقى على عاتقه في هذا النزال، ولذلك فإنه لم يزحف على «حاران» إلا بعد أن انضم إليه الميديون والسيثيون عام ٦١٠ق.م.
ولما كان «آشور أوباليت» يرغب في بقاء جيشه في ساحة القتال هجر مدينته التي وقعت فريسة في يد العدو الذي خربها كما خرب المدن الآشورية الأخرى، وفي نهاية الأمر وصلت جنود ملك مصر «نخاو» وانضمت إلى جيش «آشور أوباليت»، وحاصر الجيشان الجيش البابلي في «حاران»، ولكن وصل إليه المدد في الوقت المناسب من «بابل»، وبذلك هزم جيش «أوباليت» وجيش «نخاو» المصري في ساحة القتال، ومن المحتمل أن هذه الحروب الضعيفة الفاترة قد امتد أجلها حتى عام ٦٠٥ق.م، عندما هزم «نخاو الثاني» على يد الملك «نبوخاد رازار» في كركميش، وبذلك حلت مؤقتًا مسألة السيادة في «سوريا»، وانتقلت بهذه الكيفية الأمة الآشورية إلى «سوريا».
وسيبقى اختفاء قوم الآشوريين دائمًا ظاهرة فريدة مدهشة في التاريخ القديم، حقًّا لقد اختفت ممالك وإمبراطوريات أخرى مشابهة لآشور، ولكن أقوامهم قد ظلوا عائشين معروفين من بعدهم، وقد دلت الكشوف الحديثة على أن مجتمعات عضها الجوع والفقر قد خلدوا أسماءهم الآشورية القديمة في أماكن مختلفة، كما نجد ذلك ممثلًا في مدينة «آشور» القديمة لمدة أجيال، ولكن الحقيقية الرئيسية ظلت كما هي، وذلك أن أمة عاشت مدة ألفين من السنين ومدت سلطانها على مساحة شاسعة قد فقدت صفتها المستقلة، ولتعليل هذه الظاهرة سببان: أولًا كان الآشوريون منغمسين في عادات شهوانية لا يمكن أن تؤدي في النهاية إلا إلى انتحار سلالتهم، ويمكن تفسير السنين الأخيرة من تاريخهم بنقص مُحَسٍّ في رجالهم، ولكن لا يرجع ذلك كله إلى الحروب الداخلية. وثانيًا: نعلم أن الميديين كانوا قد نقلوا إلى بلادهم عددًا عظيمًا من الآشوريين أصحاب الحرف الذين كانوا يشتغلون في المعادن والأحجار، فنجد كثيرًا من القطع الفنية العظيمة التي عثر عليها في مدينتي «برسبوليس» «وإكيتانا» قد عملها صناع أخذوا صناعتهم عن طوائف من «نينوة»، هذا وقد علم العبيد الآشوريون أسيادهم فن قطع الأختام.
والواقع أنه لا توجد بلاد أخرى في العالم خربت ونهبت تمامًا كآشور، كما أنه لا توجد أمة أخرى إذا استثنينا بني إسرائيل قد استعبدت استعبادًا تامًّا مثل آشور.
ومن جهة أخرى يلحظ أن سقوط «آشور» كان منقطع القرين، وذلك أنها بعد أن مدت نفوذها الحربي مدة هذه القرون الطويلة في «مسوبوتاميا» وبعد أن ظل سلطانها الإمبراطوري شامخ الذرى مسيطرًا على أقوام عدة أصبح المؤرخ الحديث لا يستطيع أن يتتبع أي تأثير باقٍ في تاريخ العصور التي جاءت بعد سقوطها، ولا ينبغي أن نعزو عدم قدرة المؤرخ على تتبع آثارها للجهل وحسب؛ إذ لو كان لدينا معلومات كافية عن قوم الميديين أو لو كان لدينا معلومات أتم عن تطور الفرس وتاريخهم ومعلومات أدق عن طائفة الزرواستيين؛ فإنه كان من المفهوم أن نصل إلى صورة ناطقة عن مصير هؤلاء القوم بصفة قاطعة، والواقع أنه من الوجهة السياسة أصبح في استطاعتنا الآن أن نؤكد أن الإمبراطورية الآشورية قد عاشت في الدولة الفارسية العظيمة التي خلفتها وكانت الأصل لطراز الحكم الباقي المعروف باسم «الملكية الشرقية»، ومن الجائز أنه لو وصلت إلينا معلومات أكثر لعرفنا أن المدينة الآشورية قد تركت طابعًا ثابتًا في بلاد «سوريا» وغيرها من المقاطعات الآشورية أكثر مما هو ملحوظ حتى الآن، وإنه لمن الخطأ أن نقول: إن حكام السراجنة قد ركنوا إلى العزلة وسموها سلامًا، ففي «حاران» مثلًا قد بقي حتى عهد الخلافة العباسية نوع من الوثنية يشبه في بعض صفاته الرئيسية الديانة الآشورية، ولكن فوق كل ذلك نجد أن قوة «آشور» الحربية ساعدت المدنية البابلية على أن تبقى قرونًا، في الوقت الذي لم تكن فيه «بابل» قد صارت بعد مركزًا ثقافيًّا، إلى أن أصبح في مقدور الأسرة الكلدانية التي حاكت بيديها كفن «نينوة» أن تأخذ على عاتقها مهمة حفظ المدنية في مهد من أقدم مهادها.
وعلى أثر سقوط الإمبراطورية الآشورية قسمت أملاكها بين الميديين الآريين والكلدانيين الساميين، ولم يمضِ أقل من قرن من الزمان حتى قام أمير آري وهو «كورش الفارسي» وحل محل الساميين، وأسس إمبراطورية آرية في كل الشرق الأدنى، وهي الإمبراطورية الفارسية.