مارجريت دوراس … وموجة الرواية الجديدة!
بقلم محمود قاسم
اجتمعت ثلاثة عواملَ هامَّة في رواية «العاشق» لمارجريت دوراس بحيث لا يمكن تجاهُلها عند الحديث عنها أو تقديمها إلى القارئ العربي … هذه العوامل تتمثَّل في أنَّها روايةٌ تنتمي كاتبتها إلى «الرواية الجديدة» التي أثارت نِقاشًا طويلًا حول ماهيَّتها وأهميتها وجدواها ومصيرها في الثلاثين عامًا الماضية. أمَّا العامل الثاني فهو أنَّها فازت بجائزة جونكور الأدبية عام ١٩٨٤م … وثالثًا لأنَّ كاتبتها هي مارجريت دوراس، وهي كاتبةٌ متنوعةُ الأنشطة والعطاء وتُعتبر من ركائز الإبداع الأدبي والسينمائي والمسرحي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وقبل أن نتحدَّث عن هذه الرواية … أو نقدِّمها إلى القارئ العربي يهمُّنا أنْ نتناول العوامل الثلاثة التي وراء هذه الرواية.
في عام ١٩٨١م وبمناسبة حديثٍ أُجري مع الكاتب المسرحي يوجين أونسكو حول مسرحِ العبث قال: إنَّ الذين هاجموا هذا المسرح في أوائل الخمسينيات وقذفوا أونسكو بالبَيض قد رشَّحوه بعد ثلاثين عامًا ليكون عضوًا في الأكاديمية الفرنسية … أيْ أنَّ هذا المسرح، بدخوله باب الأكاديمية، قد أصبح كلاسيكيًّا. نفس الشيء حدَثَ في عام ١٩٨٤م حين نال كلود سيمون جائزة نوبل في الأدب … ولأنَّ أكاديمية ستوكهولم تمنح جائزتها للأدب الكلاسيكي غالبًا؛ فقد كان إعلان فوز سيمون بالجائزة دليلًا أكيدًا على أنَّها أصبحت حالاتٍ كلاسيكية … وقد جاءت الرواية الجديدة كظاهرةٍ أدبيةٍ فريدةٍ تستحقُّ الاحترام والوقوف عندها؛ فهي لم تأتِ من فراغ، ولم تكُن محاولاتِ تجريبٍ عبثية، كما تصوَّر البعض، مثلما حدَثَ في بعض حركات الفنِّ التشكيلي. وإنما هي مدرسةٌ لها كتَّابها المبدِعون، ومنظِّرون، ونُقَّاد … وكان أغلبُ أبناء هذه المدرسة هُم كُتَّابها ومبدعوها … وهم الذين راحوا يؤصِّلون اتجاهاتها وعطاءها … وفيما بعدُ سَعَى هؤلاء إلى تقديمها لجمهورِ السينما والمسرح بأنفسهم؛ فأخرجوا رواياتهم مباشرةً دون الاستعانة بأيِّ مُخرِجين من أيِّ مدرسة.
«لقد تغيَّرتْ فرنسا كبلدٍ من البلدان، غيرَ أنَّ النقد الأدبي ما زال مرتبطًا بالقرن التاسع عشر. إنَّه نقدٌ محافِظ.»
«ربما لأنني لم يكُن تكويني أدبيًّا. بل كان عِلميًّا، «كمهندس بايولوجي»، وبالنسبة لي فقَدْ أدركتُ كرجلٍ علميٍّ أنَّ العلم شيءٌ مُخترَع. والعلم يعني بالنسبة لي التقدُّم إلى آفاقٍ أبعدَ. ففي العلوم لا نعود إلى المصادر الماضية بقَدْر ما نفكِّر في المستقبل، وعندما بدأتُ بكتابة الرواية اتَّبعتُ هذه القاعدة العلمية.»
«أعتقد أنَّ الحداثة تتجسَّد هنا، فالحداثة بالنسبة لي خَلقُ شيءٍ مستقبليٍّ دائمًا. وفي هذا الإبداع الحداثيِّ توجد نقاطٌ عديدة. وأولُ نقطةٍ يوجد الفراغ. وأريد أن أشرح الفكرة بشكلٍ أفضل. فمنذ مائةٍ وخمسين عامًا مضتْ كانت شخصيةُ الإنسان في علمِ النفس كاملةً. وعلى سبيل المثال كان الرَّجُل البخيل — جوريو — عند بلزاك بخيلًا بصفاتٍ محدَّدة، لديه وجهٌ يشير إلى البُخل ومفرداته تدلُّ على أنَّه بخيل. وحتى إذا كان عنده شاربان؛ فإنَّهما شاربا بخيلٍ. وسُترته سترةُ بخيل. وأيُّ فعلٍ من أفعاله هو عبارةٌ عن فعلٍ للرَّجُل البخيل. إذن، في هذه الحالة ليس هناك ثمَّةَ فراغٌ في الشخصية؛ فكلُّ شيءٍ مليءٌ ومنسجِمٌ ومحدَّدٌ. ولكنْ في العالم الحقيقي، هذه الشخصية ليست موجودة. وبالنسبة لعلم النفس؛ فإنَّه كان دائمًا يبحث عن هذا النوع في الإنسان. وهنا كلُّ شيءٍ انقلب. فلماذا يقوم البخيل بفعلٍ يفنِّد فكرة البُخل؛ فتتغيَّر كلُّ الموازين …؟»
ويقول جرييه أيضًا — انظر الحديثَ المنشورَ معه في جريدة القادسية العراقية في ٢٦ نوفمبر ١٩٨٨م — إنَّ: «مسألةَ الفراغ مفهومةٌ في العلوم. فمنذ أينشتاين انقلبت المفاهيم العلمية وأصبحت النظرية العلمية الصارمة الآن هي النظرية الناقصة التي يكون فيها نقصٌ، وليست النظرية التي تكون كاملةً وقاطعةً منذ مائةٍ وخمسين عامًا.»
«لقد كان الكاتب الكلاسيكي آنذاك كاتبًا مبدعًا يفهم كلَّ حقائق العالَم، تتركَّز مهمَّته ووظيفته في أنْ يجلس إلى مائدةِ الكتابة ليكتبَ عن حقيقةٍ يعرفها جيدًا. ويشرحها للقُرَّاء. لكنَّ الكاتب الحديث هو رجلٌ يجلس إلى مائدةِ الكتابة؛ لأنَّه لا يفهم العالَم.»
ويرى جرييه «أنَّ الرواية الجديدة كاللوحة التي يصنعها الرسَّام من خلال اللون؛ فالروائي يصنع الرواية بالكلمات. في اللوحة خطوطٌ وألوان، وعندما تتحوَّل إلى كلماتٍ مثلِ الموسيقى التي تصنع النوتات؛ إنَّها نفس الشيء، لكنَّ الموادَّ الأولية هي التي تختلف. واللغةُ مادةٌ مختلِفة تمامًا عن الموادِّ الأخرى؛ لأنَّها تُستخدم في عملية التواصل.»
ويرى نزار صبري أنَّ مسار الرواية الجديدة يتحدَّد فيما أرادت من الأشكال الجديدة، التي تقوم على اللغة التي تُقيم بشكلٍ ذاتيٍّ عدَّةَ علاقاتٍ بين العناصر التي يمكن أن تكون متباعِدةً في الزمن والمكان. وتكشف الرواية الجديدة عن هذه اللغة التي تتحدَّث فينا من خلال الاستعارة التي تُقيم شبكةً من العلاقات.
وتعالج الرواية الجديدة في مجملها عدَّةَ موضوعاتٍ من بينها: مشاكل الالتزام والتأثير والتقنيات الروائية، والعلاقة بين التنظير والإبداع. ومثلما جاء في كتاب «نحو روايةٍ جديدة» الذي ترجَمَه مصطفى إبراهيم أنَّ أهمَّ سمات الرواية الجديدة أنَّها رفضتْ فكرةَ الشخصية والحكاية والالتزام. وأنَّ التفسيرات غائبةٌ ومفترَضَةٌ في مواجهةِ حضور البَطَل. وأنَّ على اللغة الأدبية أن تتغيَّر. وأنَّه ليس هناك أيُّ عملٍ من الأعمال الأدبية المعاصرة يتَّفق والقواعد النقدية الثابتة. وأنَّه يلزم لتفَهُّم وتَناوُل الرواية الجديدة ناقدٌ له مُفرداته اللغوية الخاصَّة التي تتناسب ولغة ومفاهيم هذا اللون من الرواية. كما أنَّ الرواية الجديدة فقَدَت اليوم سَنَدها الأكبرَ، وهو البطل … والحدُّوتة.
وفي الرواية الجديدة نرى الأشياء ليست على شيء من التنظيم الذي نشاهده في الواقع الذي هو مليء دومًا بالفجوات والانقطاع. وهو لا يمكن أن نحدِّد به شكلًا متكامِلًا، بل هناك مجموعةٌ من الجزئيات المتناثرة … التي يمكن جمعُها في إطارٍ عام.
-
في الوقت الذي تتَّسم فيه الروايات المعاصرة بضخامة الحجم؛ فإنَّ الروايات الجديدة تتَّسم بصغر حجمها، مثل رواية «العاشق»، وذلك على غير عادةِ ما اعتاد القارئ قراءته من روايات. وأكثر هذه الروايات لها ناشرٌ مؤمنٌ بأهميتها، مثل دار نشر «مينوي» الفرنسية.
-
يُنكر الكثيرون من الروائيين الجُدد أنَّ لهم مدرسةً، بل هناك حركاتٌ أدبية. وفي هذه الحركات هناك نوعٌ من الشعور بالمشاكل الحياتية المطروحة في العالم. لكنَّ ذلك يتمُّ من خلال إعطاء أهميةٍ ثانويةٍ للغة — هذه اللغة — التي تفقد معانيها دائمًا. وتصبح شيئًا غير واضح؛ فتصبح مجرَّدة.
-
يرى كُتَّاب الرواية الجديدة أنَّ النقد الذي يتطرَّق إلى الرواية الجديدة، يتفاوت في أهميته. ويقول بوتور: إنَّ النُّقاد لا يهتمُّون سوى ببعضِ ملامح هذا العمل؛ فهو مثل بِذرةٍ تنبُت تدريجيًّا وتُزهر أزهارًا في عقول الناس … بينما يرى جرييه أنَّ النقدَ مُهمٌّ، حتى وإنْ كان سلبيًّا؛ «إذ إنَّه يكشف النقاب عن أساطيرَ ثقافيةٍ لا يرغب في تقبُّلها، ولكنها في الحقيقة ذاتُ تأثيرٍ سُلطويٍّ واجتماعي».
-
يقول جان ريكاردو في العدد رقم ٢٤٢٧ من مجلة لونوفيل ليترير: «إنَّ الرواية الجديدة تستقبل دائمًا عملاءَ جُددًا، ويمكن أنْ نقول إنَّ الفكرة التي جاءت بالرواية الجديدة هي فكرةٌ ثقيلةٌ لها العديد من القُرَّاء، ويكفي أنْ نذكُر ما كتبتْه الصحفُ منذ أكثرَ من اثني عشر عامًا؛ حيث قالت إنَّ الأمر يتعلَّق بموضةٍ ستختفي مثلما اندثرتْ أشياءُ كثيرةٌ، ومن الأفضل أنْ تنكسر …» ويقول الكاتب: «إنَّ الصُّحف التي راحتْ تتحدَّث عن هذا قد اختفتْ، وبقيت الرواية الجديدة.» لا أقول هذا لأنَّهم أعلنوا عن موت الرواية الجديدة. ولكنهم؛ لأنَّهم هم قد ماتوا. ويكفي أنَّ سجلات الوفيات قد تضمُّ أحيانًا أسماءً لم يُدفن أصحابها بعدُ. اليوم الأمور تستمرُّ.»
«ومن أجل تأصيل حركتهم الأدبية؛ أنشأ الروائيون الجُدد في فرنسا جائزةً أدبيةً تُمنح للأدب التجريبي القريب في شكله من الرواية الجديدة … وهي جائزة «مدسيس». وفي السنوات الأخيرة خُصِّص فرعٌ من هذه الجائزة للأدب الأجنبي المترجَم إلى اللغة الفرنسية. وفي السنوات الأخيرة مُنحتْ لكُتَّابٍ تقليديِّين حاولوا التجريب في بعض رواياتهم مثل: مارت روبير، وكلود ديوران، وكرستيان روشفور … فضلًا عن أبناء الرواية الجديدة، وعلى رأسهم من الجيل الجديد جورج بيريك.
يعني هذا أنَّ الجوائز الأدبية الأخرى لا تُمنح للروايات الجديدة أو الرواية التجريبية، مثل: جائزة فيمينا وإنتراليه، وجائزة الأكاديمية الفرنسية. وبالطبع جائزة جونكور … وهي أكثر الجوائز الفرنسية كلاسيكيةً، كما أنَّها أكثر الجوائز أهميةً في الأدب العالمي بعد جائزة نوبل في السويد … وقد مُنحتْ على مدى تسعين عامًا لأهمِّ كُتَّاب الرواية الفرنسية على الإطلاق، مثل: رومان جاري، وأندريه مالرو، وهنري ترويا، والطاهر بن جلون، وميشيل تورنيه، وباتريك موديانو … كما مُنحت للعديد من الكُتَّاب المغمورين عن رواياتٍ جيدةٍ كتبوها؛ فهي تُمنح للروايات الجيدة أكثرَ منها للأدباء، حيث يتمُّ تصفية الروايات المنشورة خلال العام الذي تُمنح فيه الجائزة إلى ستِّ روايات يتمُّ الاقتراع عليها من قِبَل أعضاء أكاديمية جونكور … والجائزة تُمنح إذَن للرواية وليس للكاتب … فكَمْ من رواياتٍ هامَّة راح كُتَّابها، فيما بعدُ، في طيِّ النسيان! … وكَمْ من كُتَّابٍ كِبَار، لم ينالوا قَط شرفَ الفوز بهذه الجائزة! … وهي تُمنح للكاتب مرَّةً واحدةً فقط في حياته.
وقد أسَّسَ أكاديميةَ جونكور اثنان من الأدباء، هما الأخوان أدمون وجول جونكور، في أواخر القرن الماضي. وقد كانا صحفيَّين يكتُبان الرواية، ولهما دراساتٌ في تاريخ الفنِّ ونظريات الطبيعة. أسَّسا معًا جريدة «جورنال» وكتبا فيها. ومن أهمِّ رواياتهما: «الفتاة إليزا»، و«فوستين»، ثم «جرمين لاسرتو»، و«سليمان». وقد مات أدمون عام ١٨٧٠م وأوصى، مثلما فعَلَ ألفريد نوبل، فيما بعدُ، أنْ تُخصَّصَ ثروتُه لتشجيع الإبداع الفنيِّ. ومن حيثيات منْحِ الجائزة أنْ تُمنح «للتعبير الصادق عن معاناة الإنسان المعاصِر إزاءَ قضايا الإنسانية، وأنْ تبتعد هذه الأعمال عن الصِّراعات السياسية والطائفية داخلَ فرنسا والعالم.»
ومُنحت أولُ جائزة جونكور عام ١٩٠٣م لكاتبٍ راح طيَّ النسيان، يُدعى جون أنطون عن روايته «قوة العَدُو» وقد منحت الأكاديميةُ جائزتَها للعديد من الشباب … ويتكوَّن مجلس إدارتها من عشرةِ أعضاءٍ يُعتبرون من الأدباء المميَّزين في فرنسا؛ مثال: هيرفيه بازان (الرئيس)، وميشيل تورنيه، وفرانسوا نورسييه، وآرمان لانوا، وفرانسواز ماليه جوريس.
وفي الثمانينيات مُنحت الجائزة لكُتَّابٍ تتراوح أعمارهم بين الأربعين والخمسين إلا في حالتَين، هما: لوسيان بودار عام ١٩٨١م، ومارجريت دوراس عام ١٩٨٤م. أمَّا بقيَّة الأدباء الذين حصلوا عليها فهُمْ أقلُّ شهرةً، في أغلبهم، ولم تواتِهم أيُّ شُهرةٍ، سواءٌ بعد الجائزة أو قبلها سوى الطاهر بن جلون. أمَّا بقيَّة الأسماء فلَمْ يلتفتْ إليهم أحدٌ بعْدَ فوزهم بالجائزة؛ مثل: إيف نافار، وميشيل هوست، وإريك أورسنا، ودومنيك فرنانديز.»
في باريس درست الكاتبةُ القانونَ والعلوم السياسية واستمرَّت في نشْرِ رواياتها … وإذا كانت مارجريت دوراس قد نشرتْ روايتها الأُولى عام ١٩٤٣م؛ فإنَّ أُولى مسرحياتها قد نُشرتْ في عام ١٩٥٩م، أمَّا أولُ فيلم أجرَتْه فقَدْ ظهَرَ عام ١٩٦٦م تحت عنوان «الموسيقى».
ومن الصعب رصْدُ عالَم مارجريت دوراس في مقالٍ واحد؛ ولذا سنحاول التعرُّف على عالَم الكاتبة من خلال النفاذ إلى نقاطٍ محدَّدة في هذا العالم الرَّحيب؛ فأدبُ الكاتبة يدور حول قطبَين دون أن يتناقضا. وبدا هذا واضحًا في رواياتها خاصةً الأُولى منها. وفي «خزَّان فوق المحيط الهندي» تتحدَّث عن أمِّها دون الإشارة إليها صراحةً، مثلما فعلتْ في «العاشق»، المُدرسة التي تخطَّى بها الزمن؛ وهي امرأة تتَّسم بالسذاجة والبساطة، وتواجه الظروف الصعبة التي تحيطها. وهي محصورةٌ بين طموح أولادها الذين يريدون العودة إلى فرنسا، وبين أصدقائها الذين يدورون مثل بقرةِ الساقية بلا هدفٍ محدَّد.
ويقترب كلٌّ منهما من الآخر بعد عِدَّة لقاءات. يدور دائمًا كلامٌ بينهما. لكنْ على الكلام أنْ يُصبح نغمةً واحدة، وعلى الإيقاع أن يتوحَّد بينهما؛ كي يقتربا أكثر. تقصُّ عليه قِصصًا من حياتها، يفكِّر فيها، يحدِّثها أنَّه يودُّ الارتباط بها. يا له من ارتباط!
الجدير بالذِّكر أنَّ الرواية الأُولى التي بدأ فيها التجريب واضحًا؛ هي «خيولُ تاركينا الصغيرة» … وفي هذه الروايات اختفى الموضوعُ وانحسرت الشخصياتُ … وضاقت الأماكنُ بشكلٍ واضحٍ. مثلما حدَثَ في «هيروشيما حُبِّي» حيث هناك امرأةٌ فرنسيةٌ تحبُّ رجُلًا يابانيًّا شهِدَ في طفولته ما حدَثَ في مدينة هيروشيما من فظائعَ عقب إلقاءِ القنبلة الذرِّية.
وبدءًا من المرحلة التجريبية، بدأت الكاتبةُ في تجريد شخصياتها من أسمائهم، والأماكن التي يعيشون فيها. وهُمْ أشخاصٌ ليس لديهم أيُّ شيءٍ بطوليٍّ؛ إنَّهم يتبادلون الإشارات والكلام دون أن يَصِلُوا إلى أهدافٍ محدَّدة. ولا يُظهرون أفكارهم ولا مشاعرهم، ويجهلون أو يُخفون الأخطار التي تحيق بهم: الانفراد، والإعياء، والجنون، وإدمان الخمر، والجريمة. ولا يتمُّ بينهم أيُّ اتصالٍ حقيقيٍّ ولا أيُّ حوار. يَبدون كأنَّهم يُلاحقون مناجاة متوازية. ويتكلَّمون — ليس للتعبير عن أنفسهم — من أجل استكشاف حيواتٍ سريَّة تصبح ملموسةً بفضل حالتهم ذاتِ الوعي النصف، وذلك رغم تفاهة كلماتهم الظاهرة.
والنساء في هذه الأعمال التي ظهرَت في تلك السنوات يعشنَ في عالَمٍ من اللامبالاة. ويعِينَ عُزلتَهنَّ ويقسنَ اتِّساع عالمهنَّ الرتيب البارد، إنهنَّ دونَ هُوية، وتجربتهنَّ هي الوصول إلى هُوية، مهما كان الثَّمن. وهنَّ يضعنَ أنفُسَهنَّ في استيداعٍ كلَّما ينتظرنَ الإشارة بأنَّ الشيء قد بدأ …
ولأنه لا يمكن أن نفصل إبداعَ مارجريت دوراس الروائيَّ عن المسرحيِّ والسينمائيِّ … فعلينا أن نتناول عطاءها السينمائيِّ، خاصةً أنَّها التي قامتْ بإخراجِ كلِّ كلماتها التي أبدعتْها. فكتبَت السيناريوهات؛ كي يُخرجها آخرون في بادئ الأمر، مثلما فعَلَ الآن رينيه وجول داسان … ومن قراءة القائمة الكاملة لأعمال الكاتبة، سوف تراها قد حوَّلتْ إحدى رواياتها إلى فيلم. وفي فترةٍ أخرى، حوَّلت فيلمًا من أفلامها إلى رواية … أو إلى مسرحية … وهكذا تتحرَّك أضلاعُ هذا المثلَّث في كلِّ الاتجاهات بلا حدودٍ أو ضابط.
وفي هذه الأعمال تلعب المرأةُ الدَّورَ الرئيسي، أمَّا الرجُل فهو مخلوقٌ ثانويٌّ هامشيٌّ. وقد أصبحت النساء بلا وجوهٍ أو هُويةٍ أو ملامح، مجهولةَ المنبع، غيرَ معروفةِ المصير، لا تتَّسم بذكاءٍ أو بسِماتٍ آدميةٍ مميِّزة، تعيش وجودها لحظةً بلحظتها. إنَّها أقربُ إلى الحيوانات الشاردة في الغابات؛ يريد الكلُّ أنْ ينهش في بشرتها الناعمة … وعليها أن تعطي بلا حدودٍ مثلما حدَثَ في فيلمها «أنشودة هندية». وهنا نجِدُ أنفُسَنا أمام امرأتَين تسيران في خطٍّ متوازٍ: الأُولى امرأةٌ ثريَّة، والأُخرى تعاني من إملاقٍ شديد. الأُولى محبوبةٌ، والثانية عاشقة؛ إنهما صورتان لامرأةٍ واحدةٍ نقابلهما في كلِّ مكان. الأُولى تعرف تمامًا وتَعِي قضية الوجود؛ فتهجُر الرجُل. والثانية لا تعرف، ولكنها تعيش بأيِّ ثَمَن. هناك الصِّراع والموت والكفاح من أجل الحياة، والبقاء.
وإذا كانت الكاتبة تميل إلى استخدام لغةٍ خاصَّةٍ في أدبها؛ فإنَّها تحوِّل كلَّ كلمةٍ إلى صورةٍ في أفلامها، وتقول إنَّها تمارس نوعًا من القهر والضغط النفسي على مُشاهدي أفلامها: «حدَّثني شخصٌ يومًا أنَّه قد اتَّفق أنْ يعرض أفلامي على مسافةِ أربعين كيلومترًا من باريس. إنها فكرةٌ رائعة؛ فهكذا نرغب أن تُعرض أفلامنا. فأنا أعرف أنني أوجِّه أعمالي إلى ثلاثين ألف شخصٍ، وأنا أعمل من أجلهم. ولن يحرمني هذا من إمتاع الآخَرين. وعلى كلٍّ، فلا يوجد جمهورٌ شعبي في فرنسا مثلما يحدُث في العالم بأسْره؛ فالكلُّ سوف يفهم، من العُمَّال وحتى المفكِّرين. لن يوجد طليعيون، لكنْ فقط أُناسٌ يُخلصون لتجاربهم.»