العاشق

(فازت بجائزة الجونكر عام ١٩٨٤م)

هذا هو بعض عالَم مارجريت دوراس. ولم يكُن للكاتبة أنْ تحصل قَط بإيداعها التجريبيِّ على جائزة جونكور؛ إلا إذا كان أعضاءُ هذه الأكاديمية قد رأوا في هذه الرواية عملًا تقليديًّا أكثرَ من أعمالها الأخرى التي كتبتْها في السنوات العشرين التي سبقتْ هذه الرواية. وهذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارُها … فنحن أمام موضوعٍ محدَّد، هو علاقةٌ عاطفيةٌ عاشتْها الكاتبة في مُقتبَل حياتها. حين كانت تعيش مع أُسرتها في شرق آسيا إبَّان الاحتلال الفرنسي لفيتنام. وهي علاقة تخصُّ جِلدَ الكاتبة ومسامَّها في المقام الأول … نابعةٌ من وجدانها الداخلي. تنخر في ذاتها كي تكتُبها … وقد قامت وهي المرأة العجوز باجترار أحداث هذه العلاقة العابرة بتفاصيلَ بالغةِ الدِّقة. ولنقُلْ إنَّها ليست تجربةً عابرةً بقَدْر ما هي تجربةٌ أُولى … وقد وظَّفت الكاتبة كلَّ ما لديها من أجل هذه العلاقة، حتى علاقاتها الأخرى بمَن حولها؛ بأُسرتها وأصدقائها، وزميلاتها في المدرسة … كلُّ هذا تمَّ توظيفه من أجل هذا العاشق. وهو عاشقٌ، كما سنرى، رقيقُ الجِلد والمسامِّ … هشُّ المشاعر … سلبيُّ الإحساس … يتعامل كثيرًا مع النساء بحُكم ثراء أبيه وليس بحُكم فُحولته … وهو رجُلٌ بلا اسمٍ، مثلُ كلِّ شخصيات الرواية. فتارةً هو «العاشق»، تارةً «هو»، وثالثة «حبيبي»؛ هو خيالٌ يمكن تجاوُزه وعدمُ ملاحظته مثلما تقول الحبيبة بعد أن أصابتْها الشيخوخة.

والمهمُّ في هذه العلاقة هو الشكل الذي صاغتْ به الكاتبة حدُّوتَتَها … فالشكل الروائيُّ غالبًا تقليديٌّ … أو أصبح تقليديًّا بحُكم تكراره في العديد من الروايات المماثِلة. ولكنَّ الجديد في هذا الشكل هو اللغة … وإصرارُ الكاتبة على استخدام محدِّدات خاصَّة، وخاصةً ما يُسمَّى بالتَّكرار … فلو قرأتَ هذه الرواية للوهلة الأُولى … ولم يكُن لديك أيُّ انطباعٍ عن الكاتبة وتاريخها؛ لقُلتَ إنَّ لغةَ الكاتبة هي لغةُ الخواطر التي يدوِّن بها الشباب المبتدئُون انطباعاتهم نحو الأشياء من حولهم. وخاصةً ما يتعلَّق بانفعالاتهم الأُولى تجاهَ طرَفٍ آخرَ من جنسٍ آخر … وفي مثل هذه الكتابات فإنَّ التَّكرار هو السمة الأساسية؛ التكرار اللفظي، والتكرار في وصف الحدث بعباراتٍ جديدة. التَّكرار اللفظي يُمثَّل في تكرار معنًى أو كلمةٍ ذاتِ مدلولٍ خاصٍّ أكثرَ من مرَّة. إمَّا لترسيخ المعنى، أو لإعطاء معنًى مغايرٍ لمَا قُصدَ به عند ذكرها أولَ مرَّة … والكاتبة هنا تجِدُ مشاعرها … وتتلذَّذ بهذا التكرار … ولعلَّها ظلَّت تفعل ذلك لمدَّةِ ثلاثةٍ وخمسين عامًا، هي المسافة بين زمنِ هذه التجربة وكتابتها بهذا الشكل … لذا راحتْ تحفر بكلماتها فوق الورق؛ فهي تُكرِّر العبارات التي تنتمي إلى هذه الآونة، وإلى خصوصية هذه العلاقة … وأعتقد أنَّ هذا قد ميَّز لغةَ الكاتبة، وجعَلَها تعود إلى اللغة التقليدية — أو قريبًا من ذلك — أو المترابِطة معًا في جُملٍ وفِقراتٍ وفصولٍ وهكذا؛ وهذا ما جعَلَ أعضاءَ أكاديمية جونكور يَرَونها عملًا تقليديًّا في المقام الأول.

ولأنَّ هذه الأحداثَ ظلَّت ماثلةً في مخيِّلة الكاتبة كلَّ هذه السنوات؛ فقَدْ أصبح من الصعب معرفةُ هل هي أحداثٌ من الحاضر أم من الماضي، ولذا فقد اختلطت الأفعالُ الزمنية معًا. المضارع يتداخل مع الماضي، وامتزجت الأزمنة معًا، في الفعل والحدث، وأصبحت الكلمات الجامدة والأسماء طيِّعةً للتحرُّك وسطَ هذه الأفعال … تنتقل حسب حركةِ وجدان الكاتبة من عام ١٩٨٤م إبَّان كتابتها إلى السنوات الأُولى من الثلاثينيات، بل حدَثَ ما هو أبعدُ من ذلك؛ حيث اختلطت الأماكن أيضًا … فهي تتكلَّم عن حياتها في باريس، وتتصوَّر كأنَّها لا تزال تتحدَّث عن سايجون أو شولن، والعكس بالعكس … وفي فقرةٍ تحدِّثُك عن مكانٍ تنتقل منه إلى مكانٍ آخر، له نفس الصلة الوجدانية، دون أن تُمهِّد إلى ذلك … فعقْلُها ينتقل بسرعةٍ بين هذه الأشياء دون أن يستأذنها؛ ولذا فهي لا ترغب أن تقوم بنفس العملية من الاستئذان لقارئها.

الأشياء الثابتة الوحيدة هي الإنسان … والأماكن … فهي لا تَخلط بين مشاعرها نحو البَشَر … وهي غيرُ متقلِّبة في حالة التنقُّل. فهذه أمُّها، لها دائمًا نفس السِّمات، وهناك مشاعر تكِنُّها نحوَها لا تتغيَّر، مهما تغيَّر الزمن. وهكذا بالنسبة للأخ الأكبر الذي لم تقُل فيه، أبدًا، كلمةً طيِّبة، بعكْسِ الأخ الأصغر الذي تحبُّه وكأنَّه عاشقٌ من نوعٍ خاص … وتذكُره بمناسبةٍ أو بدونها … وتحاول أن تُقيم على شرفه وليمةً أدبيةً خاصَّة. كذلك فإنَّ علاقتها بالأمكنة ذاتُ مدلولٍ خاص. كالغرفة الصغيرة التي كانت تذهب مع حبيبها الصيني من أجل اجترار رشفاتٍ من الحُب. وأيضًا العَبَّارة التي كانت تركبها يومًا لتعبُر النهر، والْتقت فوقها لأول مرَّة بهذا الرجُل الثريِّ صاحبِ السيارة السوداء الفارهة … هذه العَبَّارة هي شخصيةٌ رئيسيةٌ في الرواية؛ فالكاتبة دائمًا تروح تتحدَّث عنها، ثم تبتعد مسافةً زمنيةً وتعود إليها مرَّةً أخرى … فإليها يعود الفضل في اللقاء الأول … والعَبَّارة هي النبع الذي تصبُّ منه كلَّ التجربة، وإليها يعود المرء كي يرتشف … رغم أنَّه لم يحدُث سوى لقاءٍ واحدٍ بين الطرَفَين فوق العَبَّارة، إلا أنَّها ذُكرت في الرواية عددًا من المرَّات أكثرَ من غرفة «الجارسونيرة» التي ارتشفا فيها من الحُب أحلاه.

وإذا كانت الكاتبة قد انتقلتْ بسهولة بين الأزمنة؛ فإنَّها انتقلتْ بنفس الكيفية بين وجودها الخاص … فهي تتكلَّم عن نفسها أحيانًا بالضمير الحاضر المتمثِّل في je. ثم تنتقل لتتكلَّم عن نفس الوجود بضمير الغائب، وكأنها شخصٌ غريبٌ عنها تمامًا … وكأنَّها كائنٌ تتمُّ ملاحظتُه تحت العين المجرَّدة؛ لمعرفته وإدراك ما له … أو ما عليه.

كما يهمُّنا أن نشير إلى أنَّ قراءة هذه الرواية مرَّةً واحدة لا تكفي. فكلَّما قرأها القارئ أكثرَ من مرَّة اكتشف المعاني الخلفية فيها … واستطاع أن يربط أنسجتها التي قد تبدو له مفكوكةً في القراءة الأُولى.

إذا كان هذا هو بعضٌ من رأينا في هذه الرواية؛ فيهمُّنا أن نعرف ماذا كتبت الصحافة الأدبية بصفةٍ خاصة عن «عاشق» مارجريت دورا. يقول بيير بييار في مجلة لوبوان — ١٩ نوفمبر ١٩٨٤م — أنَّ مارجريت دورا لم تُحدِّثنا أبدًا في رواياتها السابقة عن نفسها ولا عن شيءٍ منها، وأنها اختارت أن تفعل ذلك وهي في سنِّ السبعين. فأخذتْ تتأمَّل الفتاة الصغيرة التي كانت تعيش عاطفةً جافَّة؛ فأرادت أن تمنحها كلَّ شيءٍ من ذاتها. وهذا يكشف لنا بشكلٍ جوهريٍّ الدَّور الملعوب في تكوين عواطفها، وتأسيس ذاكرتها، وتزيين عالَمها في السنوات الثماني عشرة التي سبقتْ وصولها إلى باريس. هذه السنوات التي عاشتها في الهند الصينية مع أمِّها مُدرِّسة البيانو، والتي قامت فيما بعدُ بشراء قطعةٍ من الأرض في كمبوديا؛ من أجل زراعتها بالأرز. وقد تحدَّثت عن هذه التجربة في رواية «خزَّان فوق المحيط الهادئ». هذه الأمُّ بالغةُ الحضور، ومحبوبةٌ للغاية. ولكنها ضدَّ كلِّ الأشياء التي يجب التمرُّد عليها، وتمنع ابنتها من الكتابة.

ويقول جان بيير آميت في لوبوان — ٢٤ سبتمبر ١٩٨٤م: «إنَّ مارجريت دوراس لا تصنع الكتب، ولكنها تعيش في الكتاب مثلما يعيش الإنسان داخل شعائرِ دينه، وفي كلِّ فقرة من الرواية تحمل شحنةً من التجربة؛ فهي تلميذةٌ في مدرسة الدراما، تعيش نوعًا من الارتجاف المرِن، الذي تبحث عنه بلا جدوى بين الكتب الأخرى التي ظهرتْ في الآونة الأخيرة. فها نحن أمام امرأةٍ تحترق وتُعنَّى، وتعيش وتموت بين حرارةِ الذكرى وبرودة الطفولة الضائعة.»

أمَّا الروائي لوسيان بودار فهو من أصولٍ صينيَّة، ويقول حول هذه التجربة: «الهند الصينية التي انتمتْ إليها دائمًا، وأجدُها في نفسي مثلما فعلتْ في هذا الوصف للسيارة السوداء للرجُل الصيني، فوق العَبَّارة التي تعبُر نهر الميكونج! وصفتْ كلَّ هذا بعباراتٍ محدَّدةٍ مليئةٍ بالهذيان. وفي نفس الوقت، فإنَّها لا تكشف عن شيء، والْتزم النصُّ بكلِّ ما هو ممكن حدوثُه؛ فلكلِّ إنسانٍ الحقُّ في التخيُّل، ولكن عليه أن يبرهن بشكلٍ طبيعي عن الجوِّ الذي عاشه في آسيا.»

ويرى كلود روا في مجلة لونوفيل أوبسرفاتور — ٣١ أغسطس ١٩٨٤م — أنَّه «يجب ألَّا نحكي «العاشق» سوى أنْ نفعل مثلما تُروى قصيدة شِعر؛ لأنَّ هذه الرواية هي شطرٌ من الحياة. هذه العُقدة من السيرة الذاتية، مثلما يكتب المؤلفون عادةً، قد تمَّ تكوينُها على غِرار قصيدة. فهل هناك شخصٌ يجرؤ على تلخيص قصيدةِ شِعر؟ لن يبقى له سوى حفنةٍ من دماءَ متناثِرةٍ، وشظايا موضوع الحُب والصراع. والحُب هو المعركة للصغيرة مارجريت؛ من أجل أمِّها، هذه المجنونة بسايجون. والأخ الأكبر المتشرِّد، والأخ الأصغر الذي مات في سنٍّ مبكِّرة. والعاشق الملياردير الصيني، والذي يمكن أن يُقال إنَّها تطلُب أن ينتزعها من عالَمها.»

هذه هي بعضٌ من ملامح الرواية التي نقدِّمها اليوم إلى القارئ العربي وقد يجِدها القارئ قريبةً في شكلها، تقليديةً في مضمونها؛ لذلك فإنَّ القارئ في حاجةٍ إلى تدريبٍ خاصٍّ من أجل قراءة هذا النوع من الروايات، ثم من أجل الاستمتاع بها.

•••

ذات يوم، وكنتُ قد أصبحتُ امرأةً عجوزًا، رأيتُ رجلًا في قاعةٍ عامَّة، يسير ناحيتي، بدا كأنَّه يعرفني، وهو يقول لي: «أعرفكِ منذ وقتٍ طويل، يقول جميع الناس إنَّكِ كنتِ جميلةً وأنتِ شابَّة؛ لذا جئتُ لأخبركِ أنني أراكِ الآن أكثرَ جمالًا ممَّا كنتِ عليه وأنتِ شابَّة. أحببتُ وجهكِ كشابَّةٍ صغيرةٍ أقلَّ ممَّا أحبُّ وجهكِ الآن؛ إنه فاتن.»

أفكِّر دائمًا في هذه الصورة؛ فأنا الوحيدة التي أراه كذلك، لذا لم أتكلَّم عنه أبدًا. إنَّه هناك دائمًا داخل نفس الصمت. يبدو رائعًا. إنه في كلِّ الأحوال يحجبني عن نفسي. رغم أنني أتعرَّف فيه على نفسي؛ فأشعُر بالسعادة.

حدَثَ كلُّ شيءٍ بسرعة في حياتي. في وقتٍ مبكِّر. أجل؛ فسنُّ العاشرة كان وقتًا مبكِّرًا. وبين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين يَمَّمتُ وجهي إلى ناحيةٍ غير معروفة. شعرتُ بالشيخوخة في الثامنة عشرة. لم أكُن أعرف هل أُشبه كلَّ الناس. لم أطرحْ هذا السؤال أبدًا. يبدو أنَّهم حدَّثوني عن هذه الدفعة من الزمن التي تَطرُق عليك بابك بغتةً، وتجتاز سنوات الشباب التي هي أكثر شهرةً في العمر. أمَّا هذه الشيخوخة فهي قبيحة. رأيتُها تتسرَّب إلى ملامحي الواحدة تلوَ الأخرى، وتغيِّر الروابطَ فيما بينها؛ فتجعل العيونَ أكثرَ شيخوخةً، والنظرةَ أعمقَ حُزنًا، والفمَ أشدَّ خشونة. وتبدو الأخاديد عميقةً فوق الجبهة. وبدلًا من أن أخاف، رأيتُني أستعرِض، باهتمامٍ، هذه الشيخوخةَ التي أصابتْ وجهي. عاملتُها كأنَّها مسلسلٌ لعملٍ أدبي. كنتُ أعرف أنني لا أخدع نفسي. وأنَّها سوف تخفِّف من سرعتها يومًا، وستمشي في مجراها الطبيعي. أحَسَّ بذلك الناسُ الذين عرفوني في سنِّ السابعة عشرة وأنا في رحلتي إلى فرنسا؟! كانوا يَبدون مندهشين، وكأنَّهم يرون فيَّ وجهًا جديدًا. وبعد عامَين، وعندما بلغتُ التاسعة عشرة، كنتُ لا أزال أحتفظ بهذا الوجه الجديد. إنَّه وجهي. أصابتْه الشيخوخة أكثرَ بكلِّ تأكيد. ولكنْ بنسبةٍ أقلَّ ممَّا يجب. إنَّه وجهٌ مليءٌ بالأخاديد اليابسة والعميقة، والبشرة المتهدِّلة. لم يكُن قد أصابه الإرهاقُ مثلَ بعض الوجوه ذواتِ البشرة الناعمة. لا يزال يحتفظ بنفس خطوطه العامة، ولكنَّ مكوناته متهدِّلة. أجل، كان وجهي متهدِّلًا.

كما أخبرتُكم، فأنا في الخامسة عشرة والنصف.

أقفُ فوق عَبَّارةٍ خشبيةٍ على نهرِ الميكونج.

وتمتدُّ أمامي المناظر طيلةَ عبورِ النَّهر.

عمري خمسة عشر عامًا ونصف. لا شيءَ معقولٌ في هذا البلد؛ فنحن نعيش في فصلٍ واحدٍ حارٍّ، طيلةَ العام، له نفس الوتيرة. نحن في منطقةٍ واسعةٍ شديدةِ الحرارة؛ فلا ربيعَ هناك، ولا أيَّ شيءٍ جديد.

أُقيم في بنسيون حكوميٍّ في مدينة سايجون، أنام وآكل هناك. من هذا المكان، أذهب إلى مدرستي البعيدة: الليسيه الفرنسية. تعمل أمِّي مُدرِّسةً، وتريد لابنتها الصغيرة أن تلتحق بالمدرسة الثانوية. «المدرسةُ الثانوية ضروريةٌ بالنسبة لكِ.» وما يُرضيها أنني لستُ صُغرى أبنائها. الالتحاقُ بالمدرسة الثانوية أولًا، ثم الحصول على شهادةٍ في عِلم الرياضة. سَمعتُها تُكرِّر هذا الكلام مِرارًا منذ سنواتِ الدراسة الأُولى. لم أتخيَّل أبدًا أنَّه يُمكنني الإفلاتُ من الحصول على شهادةٍ في عِلم الرياضة. كنتُ سعيدةً أنْ أجعلها تأمل. أرى أمي تعمل كلَّ يومٍ من أجل مستقبلِ أبنائها ومستقبلها. لم تكُن هكذا من قبل. تتصرَّف بكبرياءَ من أجل مصلحةِ أولادها، كأنَّها صنعتْهم من رجالٍ آخرين. مستقبلٌ بعيدٌ جدًّا، يملئُون فيه وظائفهم، ويدفعون الزمن أمامهم. أتذكَّر دروسَ المحاسَبة لأخي الصغير في المدرسة الدولية، في كلِّ سنوات الدراسة وعلى كافَّة المستويات؛ يجب أن يَبلغ الهدف كما تُردِّد أمي. يستغرق هذا الأمر ثلاثة أيام، أبدًا. بل أربعة، أبدًا أبدًا. سرعان ما انتبذ المدرسة الدولية عندما غيَّر وظيفته، وقرَّر البدءَ من جديد. انتظرتْ أمي عشر سنوات، لكنَّ شيئًا لم يحدُث؛ أصبح الأخُ الأصغرُ محاسِبًا صغيرًا في سايجون. ولأنَّه لا يوجد نظيرٌ لمدرسة فيوليه في المستعمَرة؛ فإننا مُدانون بذلك لرحيل أخي الأصغر إلى فرنسا. بقي في فرنسا بضع سنوات من أجل الدراسة في مدرسة فيوليه، لكنه لم يفعل ذلك. لم تودَّ أمي أن تُخدع. لم يكُن أمامها خيار. عليها أن تفصل هذا الولد عن ولدَيها الآخَرَين؛ فمنعتْ أيَّ شخصٍ من الأسرة عن الرحيل طوال سنوات. وفي غياب أمي قدَّمتُ تنازلًا، مغامرةً مرعبة، خاصةً بالنسبة لنا نحن الأطفال الذين كان علينا البقاء. إنها أقلُّ رعبًا؛ حيث لا تتضمَّن سوى حكاياتٍ عن سفَّاح الأطفال في الليل، وحكاياتٍ عن ليل الصيادين.

قيل لي دومًا إنَّ حرارة الشمس كانت لافحةً أثناء سنوات الطفولة، لكنني لم أصدِّق ذلك. قيل لي أيضًا إنَّ ذلك هو انعكاسٌ للمأساة التي يسبح فيها الأطفال. لكن أبدًا ليست الأمور على هذه الشاكلة؛ فالأطفال يشيخون من الجوع القارص. أجل، لكنْ نحن، لسنا بجوعى، فنحن من الأطفال البِيض. ولأنَّ لدينا حياء؛ كنا نبيع أثاثَ بيتنا، لكننا لم نجُع. كان لدينا خادمٌ وطعام. نأكل أحيانًا، وهذا واقعٌ، طعامًا من النُّفايات والطيور المائية والتماسيح الصغيرة. الخادم هو الذي يطهي هذه النُّفاية ويقوم بالخدمة علينا، وفي إمكاننا أن نرفضها. كنا نتمتَّع بهذا الامتياز، وأنَّ في قدرتنا العزوف عن الطعام. لا، شيءٌ ما كان يحدُث عندما كنت في الثامنة عشرة، ممَّا جعل الوجه يتشكَّل على هذا النحو. أخاف من نفسي، ومن الله؛ وعندما ينبلج النهار أحسُّ بخوف أقلَّ، فيبدو الموت أقلَّ مهابة، لكنه لم يبرح دارنا. تنتابني الرغبة في أن أقتل أخي؛ كم وددت أن أقتله! أشعُر أكثرَ من مرَّة أنَّ لي الحقَّ في قتله. مرَّةً واحدةً أراه يموت؛ إنه يشكِّل كلَّ عواطفِ أمي. هذا الولد، قدَري فيه أنَّ أمي أحبَّته بشدَّة، وبشكلٍ يُسيء إلينا؛ ممَّا آلم أخي الأصغر. لقد صُدم أيضًا ذلك الأخ الصغير. طفلي أنا، أحَسَّ الأخُ الأكبر طوال حياته أنَّه فوق أقرانه، وأنَّه يعيش في غلالة سوداء طيلة النهار، وأنَّ له قانونه الإنساني. صنَعَ منه نوعًا آدميًّا، يستمد منه قانونًا حيوانيًّا. وفي كل لحظة، وفي كل يومٍ من حياة هذا الأخ الصغير، يتشكَّل الخوف. خوفٌ تسرَّب يومًا إلى قلبه فأماته.

كتبتُ الكثير عن هؤلاء الناس من أسرتي. فعلتُ ذلك وهم لا يزالون على قيد الحياة. أمي وإخوتي، كتبتُ عنهم وعن أشياءَ عديدةٍ تخصُّهم. لكنَّ كلَّ هذا لم يصِلْ إليهم.

لم تحدث قصةُ حياتي يومًا ما. وكأنَّها شيءٌ لم يوجد. وليس لها مركزٌ، ولا دربٌ، ولا خطٌّ. هناك أماكن فسيحة تصوَّرنا أنَّ بها شخصًا ما. لكننا اكتشفنا أنَّ أحدًا ليس بها. لكنْ هناك جزءٌ بسيط من شبابي كتبتُ عنه الكثير. أردتُ أن أتكلَّم وأن أُلحَّ. أن أتحدَّث عن عبور النهر بشكلٍ خاص. وأنَّ ما فعلتُه هناك يختلف، أو لعلَّه يتشابه. ففيما قبلُ، كنتُ كثيرةَ الحديث عن هذه الفترة الجليَّة. كما تكلَّمتُ عن فتراتٍ أخرى غامضة؛ عن سنواتِ الشباب وبعض الحميَّة التي أبديناها حول بعض الأمور، وحول بعض المشاعر وبعض الأحداث. بدأتُ في الكتابة عن هذا العالم الذي صنَعَ منِّي مخلوقًا قويًّا فيما يتعلَّق بمسألةِ الأخلاق؛ لذا فالكتابة من أجْلهم شيءٌ مُميت. تبدو الكتابةُ الآن كأنها ليست بذات أهميةٍ مطلقًا. أحسُّ بهذا أحيانًا. وأنه في لحظةٍ ما، فإنَّها ليست بذاتِ أهمية. حين تختلط الأشياء وتذهب أدراجَ الرياح؛ الكتابةُ ليست شيئًا، سوى لحظةٍ بلا جدوى. في كلِّ مرَّةٍ تختلط الأشياء في شيءٍ واحد ذي جوهرٍ غير مميَّز، ليست الكتابة سوى دربٍ من الإعلان. لم أُؤمن قَط بهذا الرأي، بل أرى الحقول مفتوحةً، وأنَّ الجدران لم تعُدْ موجودة، وأننا لا نمارس الكتابة سوى لنختفي وراءها ثم نقرأها، وأن قراءتها ليست سوى شيءٍ أكثرَ وقارًا. لكنني لم أفكِّر في هذا من قبل.

الآن، أرى نفسي في مُقتبَل الشباب. في الثامنة عشرة، في الخامسة عشرة. صاحبةَ وجهٍ، قدَري حصلتُ عليه، بفضل الكحول، في مرحلةٍ وسطى من حياتي. لقد قام الكحول بالمهمَّة التي لم تستطع السماء أن تفعلها. في إمكانه أن يقتلني؛ يقتل هذا الوجه الثَّمِل. جاءني قبل الكحول، وجاء الكحول ليؤكِّده. وتماسكتُ في مكاني. عهدتُ فيه وجهًا مثل بقيَّة الوجوه الممتلئة بهجةً ولم أكُن أعرف البهجة بعد. هذا الوجه الذي يرى نفسه مليئًا بالقوة. حتى أمي كان يجب أن تراها بهذه الصورة. وكذلك إخوتي بدا كلُّ شيء بهذه الطريقة بالنسبة لي. فالوجه الشفَّاف منهوك. والعيون تتطلَّع إلى الأمام وكأنها مليئة بالتجربة.

عبَرتُ النهر وأنا في الخامسة عشرة والنصف، عندما عُدت إلى سايجون، أحسَستُ أنني في رحلةٍ خاصة وأنا أقَلُّ بالسيارة. ركبتُ السيارة في الصباح متوجِّهة إلى سادك، حيث تدير أمي مدرسة البنات. لم أكُن أعرف أكثر من أنَّ الإجازات الدراسية قد انتهت. ذهبتُ لقضائها في منزل أمي الوظيفي الصغير. في هذا اليوم عُدت إلى البنسيون في سايجون. أمَّا سيارة الأهالي فقد غادرتْ موقفَ السيارات في منطقة سادك وكالعادة اصطحبتني أمي وعهدتْ بي إلى السائق. مثلما تعهد بي دائمًا إلى سائقي هذه السيارات بسايجون؛ تفاديًا للحوادث، وخطر الحريق والاغتصاب وهجوم قُطَّاع الطُّرق. أو لعُطلٍ مفاجئ في العَبَّارة. وكالعادة يأخذني السائق بالقرب من مقعده في مقدمة السيارة، في الأماكن المخصَّصة للمسافرين البِيض.

وأثناء رحلة السَّفر تكون الصورة مبهَمة. والصورة يجب أن تكون ماثلةً بشكلٍ عام. كان من الواجب أن تلتقط لي صورةً وأنا في هذا الوضع. هنا، أو تحت أيِّ ظروفٍ أخرى. لكن هذا لم يحدُث؛ فالْتقاط صورٍ في هذه المناسبات أمرٌ بالغُ الرِّقة. لكنْ، مَن يمكنه التفكير في هذا؟ لم نكُن نستطيع أن نلتقط صورةً إلا إذا أمكن الأخذ في الاعتبار أهمية هذا الحدث في حياتي. عبور النهر؛ إنه منظرٌ ماثلٌ في الذاكرة دومًا. رغم أنَّنا كنَّا نجهل أهميته في الوجود، فالله وحده يعلم. لذا فهذه الصورة لا يمكن أن تكون صورةً أخرى قَط. لقد تمَّ نسيانها فترةً طويلة، ولم نعُد في حاجةٍ إلى انتزاعها أو الْتقاطها من الذاكرة بشكلٍ نهائي. لكنَّها بالنسبة للمؤلف تصبح بذاتِ أهميةٍ لمَا تمثِّله.

حدَثَ هذا أثناء عبور نهرِ الميكونج فوق العَبَّارة التي تعبُر بين مدينة فنلونج وسادك، قريبًا من التلِّ الكبير المليء بالطين، وحقول الأرز الجنوبية الواقعة في وديان كوشين الصينية بوادي الطيور.

نزلتُ من السيارة. وسِرتُ عبْر شريطٍ ضيِّق وأنا أتطلَّع إلى النهر. تقول لي أمي أحيانًا إنني لن أرى النهر أبدًا، في حياتي، أكثر جمالًا من منظره هذا. ولا أكثر اتساعًا ممَّا هو عليه في تلك اللحظة، ولا أكثر توحُّشًا. هذه الأراضي المائلة التي تختفي داخلَ تجويف المحيط، في المسطحات على مَرمَى البصر، تتحرَّك هذه الأنهار بسرعة، وتصبُّ كأنَّ الأراضي معلَّقة فيها.

أنزل دائمًا من السيارة عندما تصِلُ العَبَّارة، يكون الليل قد حلَّ، فأُصاب بالخوف. الخوف من الأسلاك الممتدَّة التي تجذبنا في اتِّجاه البحر، في تيارٍ مُخيف، وكأنني أتطلَّع إلى اللحظة الأخيرة من حياتي. التيار بالغُ العنف؛ يشدُّ كلَّ شيء إليه، حتى الحجارة والكاتدرائية والمدينة. وكأنَّ هناك عاصفة تهبُّ من أعماق مياه النهر؛ فتجعل الرياح تهبُّ بشِدَّة.

أرتدي ثوبًا من الحرير الطبيعي. قديمًا وشفافًا. كان فيما قبل ثوبَ أمي. لم تعُدْ ترتديه؛ لأنَّه بالغُ الشفافية بالنسبة لها، فأعطته لي. ثوبٌ بلا أكمام يكشف عن جزءٍ من الصَّدر. وهو داكن، من الحرير الطبيعي المُستعمَل. ثوبٌ كثيرًا ما أذكُره يجعلني جميلة. فأضع حزامًا من الجلد على وسطي. لعلَّه حزامُ أحدِ أشقَّائي. لا أذكُر الأحذية التي كنتُ أرتديها في تلك السنوات، لكنني أذكُر فقط بعض الأثواب. ففي أغلب الوقت كنتُ أمشي بصندل من الكتَّان. إنني أتكلَّم عن المرحلة التي سبقتْ زمن المدرسة في سايجون. بدءًا من هنا، على وجه التأكيد، بدأتُ في ارتداء الأحذية. وفي هذا اليوم، كان يجب أن أرتدي الحذاء الشهير ذا الكعب العالي والطرَف المدبَّب الذَّهبي. لا أرى شيئًا آخر سوى أنني أستطيع أن أرتديه في ذلك اليوم. إذن فقد ارتديتُه، كبقايا للتصفية اشترتْه لي أمي. ارتديتُ هذا الطرَف الذَّهبي كي أذهب إلى الليسيه. ذهبتُ إلى المدرسة بحذاءِ السهرة المرصَّع بحبَّاتِ الماس الصناعي. حسب رغبتي. لم أحتمل نفسي أبدًا بهذا الزَّوج من الأحذية وما زلتُ، حتى الآن، أجِدُ نفسي على هذه الشاكلة. هذه الكعوب العالية، هي أول ما ارتديتُ في حياتي، إنَّها جميلة. وهي تغلب كافةَ الأحذية التي ارتديتُها فيما قبل، سواء للجري أو للعب. مسطَّحة، من التيل الأبيض.

ليست الأحذية، فقط، هي التي تصنع ما هو غريب، وغير مألوف. ففي هذا اليوم، كنت أرتدي ملابسَ فتاةٍ صغيرة. كلُّ ما ارتديتُه في هذا اليوم قُبَّعةُ رجُلٍ ذات قمَّةٍ مسطَّحة. قبعةٌ من اللبَّاد المرن، لها لونُ الخشب الوردي، وعليها شريطٌ أسودُ طويل.

تمثِّل الغموض هذه الصورة من خلال هذه القبَّعة.

لقد نسيتُ كلَّ ما حدَثَ لي، لا أرى لماذا أعطتْني إيَّاها. أعتقد أنَّ أمي قد اشترتْها لي وبناءً على طلبي؛ كي تؤكِّد أنَّها بقايا التَّصفيات. كيف يمكن أن أشرح هذه الحالة الشرائية؟ فلا توجد امرأةٌ، أو أيُّ بنت، يمكن أن ترتدي مثلَ هذه القبَّعة اللبَّادية الرُّجُوليَّة في هذه المستعمرة في تلك الآونة، حتى المرأة الوضيعة. هذا ما كان يجب أن يحدُث. كلُّ ما فعلتُه بهذه القبَّعة، أنني ضحكتُ أمام مرآة البائع وأنا أرى نفسي مرتديةً قبَّعة رَجُل. أبدو كامرأةٍ نحيفة. لقد تحوَّلتْ هذه الطفلةُ إلى شيءٍ آخر، أشبهَ بهديَّةٍ من السماء وقحةٍ وقدريَّة. أصبحتُ، رغم كلِّ شيء، أمثِّل اختيارًا معاكِسًا لكلِّ هذا. فكلُّ ما أردتُه فجأةً هو اختيارُ الفكرة. رأيتُ نفسي فجأةً امرأةً أخرى. كأنَّ امرأةً أخرى تراني من الخارج، تضع كلَّ شيءٍ في اعتبارها، وتضع في هذا الاعتبار كافةَ الأنظار الموجودة داخل حركةِ المدينة، والطُّرق. أخذتُ القبَّعة، ولم أنفصلْ عنها لحظة. لقد نِلتُ بهذه القبَّعة كلَّ ما يجعلني لها وحدي. لذا لن أتركها أبدًا. أمَّا الحذاء فعليه أن يتلاءم معها … يبدو متناسبًا مع القبَّعة مثلما تتلاءم القبَّعة مع الجسد النحيف، التي بدتْ كأنَّها مصنوعةٌ من أجلي، وأنني لن أتركها. سوف أذهب بهذا الحِذاء إلى كلِّ مكان، وأخرُج بهذه القبَّعة في كلِّ الأوقات وفي كلِّ المناسبات، وسأنزل بها إلى المدينة.

عثرتُ على صُورٍ فوتوغرافية لابني وهو في سنِّ العشرين. إنَّه في كاليفورنيا مع صديقتَيه أريكا وإليزابيث لينارد. يبدو بالغَ النَّحافة. يُقال إنَّه أصبح أبيضَ في أوغندا. رأيتُه يبتسم في كبرياءَ، ويبدو عليه بعض السخرية. أراد أن يظهر في الصورة كشابٍّ متشرِّد. إنَّه معجَبٌ بنفسه هكذا. في هذه الهيئة المُزدرِية، أصبح نحيفًا بشكلٍ مُلفتٍ للنَّظر، أكثر نحافةً في الصورة ممَّا كانت عليه فتاةُ العَبَّارة الصغيرة.

هي التي اشترت قبَّعةً ورديةً ذات حافةٍ مسطَّحة وشريطٍ أسودَ عريض. هذه المرأة التي تظهر في بعض «التصاوير»، إنَّها أمي. عرفتُها أفضلَ في بعض الصُّور الحديثة. في فناء منزلٍ يطلُّ على بحيرةِ هانوي الصغيرة. كنَّا معًا، هي ونحن: أطفالها. كنتُ في الرابعة. أمَّا أمي فتقِفُ في منتصف الصورة. أدركتُ جيدًا أنَّها تُعاني من ألمٍ؛ لذا فهي لا تبتسم، وكأنَّها تنتظر أن يتمَّ الْتقاطُ الصورة على وجهِ السرعة. في ملامحها شحوبٌ وملابسها غيرُ مُهندَمة. وعلى عينَيها نظرةٌ ناعسة، أعرف أنَّ الجوَّ كان حارًّا وأنَّها كانت مريضة، وتحسُّ بالملل. لكننا بهذا الأسلوب الذي ارتدينا به ملابسنا — نحن أبناءها — نبدو أشبه بالمساكين، أمَّا أمي فتبدو وكأنَّها سوف تقع. في تلك الآونة التي يعود إليها زمنُ الصورة، كانت هناك دلائلُ التبشير. إنَّها أمورٌ تحدُث فجأةً، فلا يمكن أن نغتسل أو أن نرتدي ملابسنا، وأحيانًا لا نتناول غذاءنا. هذا الإحباط الحياتي الكبير، كانت أمي تجتازه يوميًّا. وفي بعض الأحيان يستمر، أو يختفي مع حلول الليل. كنتُ محظوظةً أن تكون لي أمٌّ أشدُّ بأسًا من اليأس، رغم كلِّ مباهج الحياة. فهي مليئةٌ، أحيانًا، بالحيوية، ولم يحدُث أنْ شردَتْ يومًا. كلُّ ما كنتُ أجهله هو تلك الأمور المتعمَّدة التي تمارسها يوميًّا. وتتركنا على هذه الشاكلة، مثل هذه المرَّة، بعد أن ارتكبت غلطةً شنعاء. فهذا المنزل الذي شيَّدته والموجود في الصورة، لم تكُن أمي في حاجةٍ إليه، خاصةً عندما كان أبي مُلازمًا الفِراش، وعلى وشكِ الموت، طوال عدَّة أشهر؛ ربما لأنَّها علمتْ أنَّه مُصابٌ بهذا المرض الذي سوف يقضي عليه. لقد توافقت التواريخ، وكنت أجهل كلَّ هذا مثلها تمامًا. تلك هي طبيعة الظروف التي كانت تمرُّ بها، والتي سبَّبتْ كلَّ هذا الإحباط الذي تراءى أمامها. هل كان موتُ أبي ماثلًا لها؟ هل حدَثَ في نفس اليوم؟ هل تشكَّكتْ في هذه الزيجة وهذا الزوج، وهؤلاء الأطفال؟ أو — بصفة عامة — في كلِّ هذه الأشياء؟

في كلِّ يومٍ، أحسُّ كم أنَّ هذا مؤلم! ففي لحظةٍ ما تحسُّ بهذا اليأس البادي على ملامحها، وأن المستحيل يتقدَّم خطاها. تلجأ إلى النوم أحيانًا، أو قد لا تفعل شيئًا. وفي بعض الأحيان تتصرَّف بأسلوبٍ معاكِس؛ فتذهب لعملِ المشتريات، أو تُغيِّر أماكنَ الأثاث كحالةٍ مزاجية — أحيانًا تحسُّ بالإرهاق، وفي أحيانٍ أخرى تحسُّ أنَّها ملكةٌ وعلى الجميع أن يطلب ودَّها. ففي هذا المنزل الذي يطلُّ على البحيرة، مات أبي بدون جُرمٍ ارتكبه. وفيه أيضًا قبَّعةٌ ذاتُ حافةٍ مسطَّحة، ترتديها الصغيرة بإلحاحٍ، وهذا الحذاء المدبَّب الطرَف — أو على هذه الشاكلة؛ حيث لا شيء سوى النوم أو الموت.

لم أرَ قط الفيلم الذي يرتدي فيه الجنودُ مثلَ هذه القبَّعات ذواتَ الحافة المسطَّحة والجدائل المسترسِلة على أجسادهم. في تلك الآونة، لم أكنْ أُطلق جدائلي مثلما أفعل عادةً. اعتدتُ أن أُطلق ضفيرتَين طويلتَين ينزلان فوق جسدي مثل ممثِّلات السينما اللائي لم أرَهُن. كانت ضفائر طفلة. لكنْ بعد أن ركبتُ العَبَّارة، لم أعُد أُطلق لشَعري العِنان. وآثرتُ أن أسحب شَعري وأقصَّه إلى الوراء؛ أردتُه أن يكون مسطَّحًا، وأن يبدو قصيرًا. أُمشِّطه كلَّ مساءٍ، وأصنع دوائر قبل أن أنام مثلما علَّمتني أمي. كان شعري ثقيلًا، مرِنًا، رقيقًا. وكأنَّه كتلةٌ نحاسيةٌ تكاد أن تطال خاصرتي. سمعتُ دومًا أنني كنتُ صاحبةَ أجمل شَعرٍ، وهذا يعني أنني لستُ جميلة؛ لذا قصصتُ هذا الشَّعر المثير للالتفات وأنا في الثالثة والعشرين بباريس. بعد خمس سنواتٍ من ابتعادي عن أمي، قُلت «قُصَّه» فقصَّه كلَّه بضربةِ مقصٍ واحدة بهدف تشذيبه. بدا المقصُّ باردًا وهو يلمس رقبتي. سقط فوق الأرض. سألني إن كنتُ أريده، وأن يصنع لي منه باقة. أجبتُ بالرفض، فبعد هذا لن يُقال إنني صاحبةُ أجمل شَعر. أريدهم ألَّا يردِّدوا هذا فيما بعدُ مثلما كان يحدُث قبلًا. قبل أن أقصَّه. سوف يقولون بعد ذلك: إنها ذاتُ عيونٍ جميلة، وابتسامةٍ عذبة.

أنظُر إلى نفسي فوق العَبَّارة وأنا في الخامسة عشرة والنصف، أبدو شاحبة؛ فأضع من مسحوقِ التوكالون على وجنتي، أحاول أن أُخفي البقع الحمراء التي تحت عيني، وأضع فوق مسحوق التوكالون مساحيقَ لها لونُ الجِلد، تحمل اسم هوبيجان. إنَّه نفسُ المسحوق الذي كانت تضَعُه أمي قبل أن تذهب إلى الإدارة العامة في كلِّ مساء. في هذا اليوم كان معي أحمرُ شفاه داكنٌ أشبهُ بالكرز. لم أعرف من أين أحضرته، ربما أنَّ هيلين لاجونيل قد سرقتْه لي من أمِّها، لا أعرف على وجه التحديد لم أكُن أمتلك عطورًا. أمَّا أمي فكانت لديها كولونيا وصابون بالموليف.

فوق العَبَّارة، وبجوار السُّور، وقفتْ سيارة ليموزين سوداءُ، يرتدي سائقها سُترةً من القطن الأبيض، أشبه بأجمل سيارةٍ شاهدتُها في كتبي. من طراز موريس ليون-بولليه. ذاتُ مخطاف، وأشبه بسيارةِ السِّفارة الفرنسية اللانشا السوداء في مدينة كلكتا.

في هذه السيارات، توجد ستائرُ زجاجيةٌ تفصل السائقين عن السَّادة. وهنا أيضًا مقاعدُ هزَّازة، وتبدو السيارة كبيرةً، أشبه بغُرفة.

في السيارة الليموزين، يجلس رجلٌ بالغُ الأناقة. ينظُر إليَّ. إنَّه ليس أبيضَ البشرة. يرتدي ملابسه على الطريقة الأوروبية؛ بدلة من الحرير الهندي الفاتح أشبه ببِدَل موظَّفي بنك سايجون. ينظُر إليَّ. اعتدتُ على نظرات الناس لي، مثلما ينظرون إلى نساء المستعمَرة من البِيض، خاصةً البنات الصغيرات من البِيض اللائي بلغنَ الثانية عشرة. فمنذ ثلاث سنواتٍ والبِيض، أيضًا، ينظُرون إليَّ في الشوارع. ويسألني أصدقاءُ أمي، بلُطفٍ، أن أذهب إلى منازلهم لتناول مشروبٍ في الساعات التي يلعب فيها زوجاتُهن التِّنس بالنادي الرياضي.

أستطيع أن أخدع نفسي، وأعتقد أنني جميلةٌ مثل كلِّ النساء الجميلات، مثل النساء اللائي يجذبنَ الأنظار؛ فهم ينظرون بالفعل إليَّ، لكنني أعرف أنَّ هذه مسألةً لا تتعلَّق بالجمال وإنما بشيءٍ آخر. مثلًا، أجمل بشيء آخر، فكرة مثلًا؛ فكلُّ ما أريد أن أظهَرَ به أُراهن عليه. وأن أكون جميلةً أمرٌ مطلوب؛ لذا سأكون جميلةً، وحلوة. حلوة، مثلًا، في عيون الأسرة، في عيون الأُسرة وحدها. هذا كلُّ ما يريدونه منِّي، وما يمكن أن أغدوه ويصدِّقونه. يصدِّقون أنَّني ساحرةٌ كذلك، وبمجرد أن أصدِّق هذا؛ فسوف أُحدث تأثيري لمَن يراني، ويرغب أن أكون متَّفقة مع ذوقه، وأعرف ذلك أيضًا. وينبغي أن أكون فاتنةً رغم إصابتي بالهلع من وفاةِ أخي؛ ففي الموت هناك شريكٌ واحدٌ، هو أمي. وأردِّد كلمةَ «فاتنة» وكأنَّني أنطلق بكلمةٍ جامدةٍ حول الأطفال.

لقد تمَّ تحذيري من عدَّة أشياء. أعرف أنَّ هذه ليست الملابس المناسبة التي ترتديها النساءُ الأكثرُ أو الأقلُّ جمالًا. دون الأخذ في الاعتبار ما يتمتَّعنَ به من فتنةٍ أو ثمَن المساحيق أو أسعار الحُلي. أعرف أنَّ هناك بُعدًا آخر للمشكلة، لكنني لا أعلم مكانها بالتحديد. أعرف أنَّها ليست موجودةً هناك حيث تؤمن بها النساء. فأنظر إلى النساء في شوارع سايجون، وفي مكاتب البورصة، وأرى نساءً بالغاتِ الجمال، وذوات بشرةٍ ناصعة البياض، يُولينَ بشرتهن عنايةً خاصة. وبالذات في مكاتب البورصة، لا يعملنَ شيئًا سوى الاحتفاظ بأنفُسهن جميلاتٍ، يُحافظنَ على أنفُسهن من أجل العُشَّاق والإجازات في أوروبا، خاصةً إيطاليا. في إجازات العمل الطويلة، التي تستغرق ستةَ أشهر كلَّ ثلاث سنوات، هناك يمكنهنَّ الحديث عمَّا يدور هنا، عن هذا الكِيان الاستعماري البالغ الخصوصية، عن هؤلاء الناس، وصبية المحلات، وكمْ هو رائعٌ الحديثُ عن الخُضرة والحفلات والفِيلَّات البيضاء الكبيرة، التي يسكنها الموظفون العامين في المكاتب البعيدة! ترتدي النساءُ ملابسهن بلا سبب، تتبادلن النَّظرات في ظِلال هذه الفِيلَّات. يتبادلن النظرات حتى وقتٍ متأخر من الليل، ويعتقدن أنَّهن يعِشْن وقائعَ رواية. دواليبُهنَّ الكبيرة مليئةٌ بالفساتين، ولا يعرفن ماذا يفعلْنَ بها. قُمن بجَمْعها عبْر الأيام، طيلة فترة الانتظار. أصاب الجنونُ بعضَهنَّ. أمَّا البعض الآخر فقَدْ وهبن أنفُسهن لخادمٍ شابٍّ، عليه الْتزام الصَّمت. وخوفًا أن تطالهن كلمةٌ؛ ففي بعض الأحيان نسمع صوتَ صفعةٍ من إحداهنَّ لخادمتها. ماتت بعضُهنَّ بحسرتهن.

كثيرًا ما بدا لي هذا الانتقاد النسائي لبعضهن البعض ولأنفسهن؛ خطيئةً كبرى … فأنا لم أكُن أمتلك شيئًا يوحي بالرغبة. فقَدْ كنَّ يبحثنَ عن شيءٍ يثيرهنَّ، يفهمن ذلك من النَّظرة الأُولى. لذا فهنَّ يتمتعنَ بذكاءٍ خارق لمَّاح. كنت أعرف كلَّ هذا قبل أن أصِلَ إلى سنِّ الرُّشد.

كانت هيلين لاجونيل هي الفتاة الوحيدة التي تجاوزتْ قانونَ الخطأ؛ ببساطةٍ لأنَّها تأخَّرتْ في طفولتها.

ظللتُ لا أمتلك فستانًا زمنًا طويلًا؛ فقد صنعتُ فساتيني من ملابس أمي القديمة التي كانت تُطرَّز فيما يُشبه الحقائب. إنَّها الملابس التي كانت تصنعها أمي بواسطة دوو، المرأة التي لم تكُن تترك أمي قَط، حتى لو عادتْ إلى فرنسا. تعمل في مكتبِ توظيف سادك، حتى ولو لم يدفعوا لها. تربَّتْ دوو بين الراهبات، وكانت تطرِّز وتصنع ثنايا الملابس، وتطرِّزها بطريقةٍ انقرضتْ منذ قرون بإبرةٍ رفيعة كالشَّعر؛ لذا جعلتْها أمي تطرِّز الملاءات. ولأنَّها تصنع الثنايا؛ فقد جعلتْها أمي تصنع ثنايا ملابسها. فساتين واسعة، أرتديها مثل الحقائب؛ فتجعلني أبدو كطفلة. طبقتان من الثنايا في المقدِّمة، وياقة على طراز كلودين. أمَّا الجونلة فمحسورةٌ عند الخصر، والفساتين مطرَّزة بفتحاتٍ؛ كي تبدو وكأنَّها يدوية. أرتدي هذه الفساتين الأشبه بالحقائب، وحولها أحزمةٌ تضبطها؛ فتصبح شيئًا أشبهَ بالأبدية.

فتاة في الخامسة عشر عامًا والنصف، رقيقةَ الجسم أو لعلَّها هزيلة. ذاتُ صدرٍ مسطَّح كالأطفال، باهتٍ كالورد، كأنه أحمرُ شاحب، ثم هذا الرداء الذي يمكن أن يُثير السخرية فلا يُضحك أحدًا. أرى كلَّ هذا ماثلًا، كلَّ شيء هناك، ولا شيء موجود هناك. أراه في العيون؛ كلُّ شيء موجودٌ في العيون. أريد أن أكتب. أخبرت أمي بهذا، أنني أريد أن أكتب. في المرَّة الأُولى لم تردَّ، ثم سألتني: ماذا ستكتبين؟ أجبتُ: كُتب، روايات. قالت بجديَّة: بعدَ أن تحصلي على شهادة الرياضيات ستكتبينَ ما تشائين؛ فهذا أمر يهمُّني كثيرًا. إنَّها ضدُّ الكتابة. وليس في هذا ما يشين، وكأنَّ الكتابة ليست بمهنة، بل حالة من المزاج. قالت لي فيما بعد: هذه أفكارُ أطفال.

فتاةٌ صغيرة، ذاتُ قبَّعة من اللبَّاد، تقف وحدها فوق جسر العَبَّارة وقد انعكس الضوء على صفحة النهر. تستند على الدَّرَابزين، وتبدو قبَّعة الرَّجُل الملوَّن ورديةً في كلِّ حالاتها. إنه اللون الوحيد الذي تعكسه الشمس التي تحرق النَّهر، الشمس الحارَّة والشاطئان المسطَّحان. يبدو الشاطئ وكأنَّه يلاحق الأفق، ويجري النَّهر بصمتٍ، دون أن يُثير صوتًا. كأنَّه الدم في الجسم؛ فلا رياح على صفحة المياه. أمَّا موتور العَبَّارة، فهو الذي يسبِّب الضجَّة الوحيدة في المكان؛ صوتُ التُّروس الملتصِقة للموتور. ومن وقتٍ لآخرَ تهبُّ نسمةٌ خفيفة، ونسمع أصواتَ ضجَّة ونباح كلابٍ، تأتي من كلِّ مكان، من وراء الضِّياع، ومن كافَّة القرى. عرفَت الصغيرة العبورَ منذ أن كانت طفلة؛ فهي تذهب دومًا إلى أرض كمبوديا. وتُردِّد الصغيرة: إنني بخير. وحول العَبَّارة يتحرَّك النَّهر على مستوى الضفاف، وتتموَّج مياهه عابرةً المياه الراكدة فوق حقولِ الأرز، فلا تختلط بها أبدًا. وتُزيح أمامها كلَّ ما يمكنها أن تقابله في نهر التونلساب الواقع في غابات كمبوديا، تزيح كلَّ ما يعترض طريقها من قشٍّ وأخشاب، ونفايات وحرائق مُطفأة، وطيور ميِّتة وكلابٍ نافقة، ونمور وثيران، وغرقى، وجُثث الموتى، وقِطَع اللحم، وجَزْر من أزهار الياقوت، ومياه جيلاتينية. ويزحف كلُّ هذا ناحيةَ المحيط الهادئ. لا شيء لديه وقتٌ للجري؛ فكلُّ الأشياء تحملها عواصفُ الأعماق الهوجاء من تيار النهر الداخلي، ويبقى كلُّ شيء معلَّقًا فوق السطح بقوة النهر.

أخبرتُها أنني أرغب في الكتابة قبل أيِّ شيءٍ آخر، لا شيء سوى الكتابة. بدتْ غيورةً، ولم تردَّ. وبنظرةٍ دائريةٍ سريعةٍ هزَّتْ كتفها بلا مبالاة، شيءٌ لا يُنسى. كنتُ أولَ مَن رحَلَ، وكان عليَّ أن أنتظر بضع سنواتٍ حتى تفتقدني، حتى تفقد هذه الطفلة. أمَّا الأولاد فلا خوفَ عليهم، لكنَّ هذه الفتاة سوف تعرف يومًا، وسترحل وسيمكنها التحرُّر، أولًا في فرنسا.

قال لها مدير المدرسة الثانوية: ابنتُكِ يا سيدتي، هي الأُولى في فرنسا، لم تُعلِّق أمي بشيء، لم تحسَّ بالسعادة؛ لأنَّ أبناءها هم أولُ مَن رحلوا إلى فرنسا. وتسأل أمي حبيبتي: والرياضيات؟ فيكون الردُّ: لم يحِن الوقتُ بعدُ، سوف يأتي الوقت. فتسأل أمي: متى سيحدُث؟ فيكون الجواب: عندما تريد ذلك يا سيدتي.

وتقف أمي بقيافتها المضحِكة اللامعقولة، وبجوربها القطني الذي غزلتْه دوو، تعتقد أنَّ على السيدات في مناخ مدار السرطان أن يرتدين الجوارب خاصةً بالنسبة للسيدة مديرة المدرسة مثلها. أمَّا فساتينها فقَدْ بدتْ مثيرةً للسخرية، وقد بدتْ غيرَ مُهندَمة؛ فما تزال دوو هي التي تطرِّزها. أتتْ بها مباشرةً من مزرعتها التي يسكنها أبناءُ عمومتها، فتظلُّ تستخدم هذه الملابس إلى أن تهترئ تمامًا. تعتقد أنَّها يجب أنْ تستفيد من أحذيتها، أحذيتها التي بليتْ، فتسير بها في كلِّ مكانٍ وخلفها كلبٌ صغير. وقد سحبتْ شَعرها وضمَّته في جديلةٍ على الطراز الصيني؛ ممَّا أثار في أنفُسِنا الخجل. يظهر هذا الخجل في الشارع الذي أمام المدرسة. وعندما وصلَت المدرسةَ في سيارةٍ طراز ب ١٢ تَطلَّع إليها كلُّ الناس، لكنها لم تلحظْ شيئًا، وكأنها عزلتْ نفسها عنهم. حاولتُ أن أُثير انتباهها؛ فنظرتْ إليَّ وقالت: ربما لأنكِ تسحبين شَعركِ ليلَ نهار بطريقةٍ جامدة — وهذا شيء لا يجب حدوثه — يجب أن نخرج من هذا المكان الذي نحن فيه.

وعندما وصلتُ وأمي إلى هذا الحدِّ من الحديث؛ أحسَّتْ باليأس. واكتشفتْ أنني أرتدي قبعة للرجال، ورأتْ حذائي المدبَّب؛ فسألتني عنهما. فأجبتُ لا شيء. تَطلَّعت إليَّ، وبدا وكأنَّ هذا يعجبها؛ فابتسمتْ وقالت إنَّه لا بأس بهذه، وأنَّها لن تجعلني أبدو سيئةً، وأن الأمر سوف يتغيَّر. لم تسألنْي هل اشتريتُها؛ فهي تعرف مصدرها، وتعرف أنَّها صالحةٌ، صالحة لعدَّة مرَّات. لذا فهي لا يمكن أن تكون ضدَّنا. قلتُ لها: على كلٍّ، فهي ليست غالية؛ فلا عليكِ. سألتْ عن مكان ابتياعها؛ فقلتُ: اشتريتُها من شارع كانيتا، في تصفيةٍ للتصفيات. ونظرتْ إليَّ بمودَّة؛ لعلَّها رأتْ أنَّ هذا دليلٌ طيِّب على صحةِ خيالِ طفلةٍ صغيرة تتصرَّف كما تشاء بهذا الأسلوب. ليس هذا فقط، بل باركتْ هذا التهريج، وهذه المخالفة، وتصرَّفت كأرملةٍ ترتدي الألوان الرَّمادية. وكأنها تترك فترةَ الحِداد، وتبدو هذه المخالفة وكأنها تُعجبها.

يبدو الفقر أيضًا في قبَّعة الإنسان؛ لأنَّه يجب على المنزل أن يدبِّر الأموال التي تلزمه بطريقةٍ أو بأخرى، فمن حولها الأشياء تغزو الأولاد القُصَّر الذين لا يعملون شيئًا، والأرض موحِلة، وستظلُّ النقودُ ناقصةً. لذا، فعلى الصغيرة أن تبقى هنا كي تنمو، وسوف تعرف يومًا كيف تأتي بالنقود إلى هذا المنزل. ولهذا السبب كانت أمي تسمح لطفلتها بالخروج مرتدية هذه الملابس التي لا ترتديها سوى امرأةٍ عاهرة. ولهذا أيضًا فإنَّ الطفلة تعرف كيف تتصرَّف، فتحول الانتباه عنها؛ لأنها ترتديه بدافع الحاجة إلى المال. وقد أضحك هذا الأمَّ كثيرًا.

لم تمنعها الأمُّ أن تفعل ذلك ما دام هذا يوفِّر المال. تقول الطفلة: طلبتُ منها خمسمائة قرشٍ من أجل العودة إلى فرنسا. تردِّد الأمُّ إنَّ هذا شيئًا حسنًا، وهو مبلغٌ يكفي للإقامة بباريس. ثم تُعلِّق: ستذهبينَ والخمسمائة قرش، وتحسب الصفقة. ثم سترضخ الأم لمَا ستفعله ابنتها، فإذا سيطر الشرُّ على الفكر فلن يكون سوى الإرهاق.

في كتبي الروائية التي تتحدَّث عن طفولتي، لم أذكُر أشياءَ كثيرةً عمَّا كنتُ أتجنَّب قوله، وما قُلته. أعتقد أنني قلتُ إنَّ الحُب نكتةٌ لأمهاتنا، ولكنني لا أعرف هل تحدَّثتُ عن الحقد الذي نُكنَّه أيضًا، والحبِّ الذي نشعر به تجاه شخص أو آخر. فالحقد شيءٌ مرعِب، وفي الحكايات العديدة من الانهيار والموت التي كانت تحدُث في أُسرتنا، كانت هناك قصصُ حبٍّ، وقصصُ حقد — والتي تناقلت بصورةٍ متتابعة — فاختبأتُ في أعماق جسدي، عمياء كمولودٍ جديد في يومه الأول. وعلى عتبتها يبدأ الصمت؛ كل ما حدَثَ، بشكلٍ محدَّد، هو الصمت، وهذا العمل الرتيب في كلِّ حياتي. فما زلت هنا، أمام هذه الطفولة المحسوسة، على نفس المسافة من الغموض، الذي لم أكتُب عنه قَط. مؤمنةٌ أنني يمكن أن أفعل ذلك يومًا، لكنني لم أفعل شيئًا أبدًا سوى الانتظارِ أمام الباب المغلق.

عندما وقفتُ فوق عَبَّارة نهر الميكونج، في يوم سيارة الليموزين الداكنة، لم تكُن أمي قد غادرتْ حافة السدِّ. ومن وقت لآخر، تسير في الطريق مثلما كانت تفعل فيما قبل ليلًا، حيث كنا نذهب معها نحن الثلاثة دائمًا لقضاء بضعة أيام، ونبقى هناك فوق العَبَّارة، أمام جبل سيام، ثم نعاود الرحيل. لم يكن أمامها شيءٌ تفعله ولكنَّها تعود إليه. نظلُّ أنا وإخوتي على مقربةٍ منها فوق العَبَّارة أمام الغابة — أصبحتُ الآن كبيرة — فنستحمُّ كثيرًا في المَرفَأ، ولا نذهب لصيد الفهود السوداء في مستنقعاتِ المصبَّات. لا نذهب إلى الغابة، ولا إلى القرى، حيث تُزرع أشجار الفلفل الأسود. لقد كبر كلُّ شيءٍ حولنا، ولم يعُد هناك أطفالٌ يركبون الثيران، ولا في أماكن أخرى. أحسَسنا، أيضًا، بالغربة، ببطء شديد مثلما أحسَّتْ أُمُّنا. لم نتعلم شيئًا سوى التطلُّع إلى الغابة، وأن ننتظر، وأن نبكي؛ فقد ضاعت أراضي الفقراء تمامًا، وقام الخدَم بزراعة قِطعٍ صغيرة من سطح الأرض، حيث ينمو الأرز، ويعيشون هناك بلا موردٍ يُذكر. يستغلُّون الأكواخ التي شيَّدتها أمي. يحبُّوننا وكأنَّنا أعضاءٌ في أُسرتهم. يتصرَّفون وكأنَّهم يحتفظون بحبَّاتِ البنغل. يحتفظون به فعلًا؛ فالفقراء لا يتركون شيئًا في أطباقهم، ورغم ذلك فإنَّ أثاث كوخهم نظيف. أمَّا البنغل فيبدو نقيًّا أشبهَ برسمٍ جميل تراه وأنت على الطريق، أمَّا البيوت فمفتوحةٌ طيلةَ اليوم؛ كي يمكن للرياح أن تمرَّ وتجفِّف الأخشاب، وفي المساء يغلقونها في وجه الكلاب الضَّالة أو في وجوه لصوصِ الجبال.

وكما كتبتُ، فقد تذكَّرتُ يومًا وأنا في مقصف ريام، بعد أن تركتُ المكان بعامَين أو ثلاثة أعوام، لقائي بالرَّجُل الثريِّ صاحبِ السيارة الليموزين السوداء. تذكَّرتُ ذلك اليوم الذي أحكي عنه وسط الضوء المنبعث من الضباب والجوِّ الحارِّ.

فبعد عامٍ ونصف، عادت أمي إلى فرنسا في صحبتنا. وباعت كلَّ أثاثها ثم ذهبت عند الخزَّان لآخر مرَّة. جلست فوق العَبَّارة تترقَّب الغروب، وتطلَّعتْ من جديدٍ إلى جبل سيام لآخر مرَّة. تعرف أنها لن تفعل ذلك قَط فيما بعد، حتى لو غادرتْ فرنسا من جديد، أو حتى لو غيَّرت رأيها ثم عادتْ إلى الهند الصينية من جديد؛ كي تنسحب إلى سايجون. تعرف أنها لن تقف قَط أمام هذا الجبل، أمام هذه السماء الصفراء … وتلك الغابة الخضراء.

أجل، كما أقول، فمهما كان؛ تأخَّرت الأمور في حياتها. فعليها أن تبدأ من جديد، وسوف تؤسِّس مدرسةً للغة الفرنسية، مدرسةً فرنسيةً جديدة، تُمكِّنها أنْ تدفع جزءًا من مصاريف دراستنا، وأن تحتفظ بابنها الأكبر إلى جانبها فيما بقي لها من العمر.

مات الأخ الأصغر عقبَ مرضٍ صدري استمرَّ ثلاثة أيام، لم يحتمل القلبُ. كنت قد تركتُهم في تلك الفترة. حدث ذلك إبَّان الاحتلال الياباني، وانتهى كلُّ شيء في هذا اليوم. لم أطرح عليها أسئلةً قَط عن هذا اليوم، ولا عن طفولتها أو عنها. ماتت أمي بالنسبة لي يوم أن مات أخي الأصغر، وحدَثَ هذا أيضًا مع أخي الأكبر. لم أستطع تجاوُز الرُّعب الذي اجتاحنا فجأة. ولم يعُد أيٌّ منهما يهمُّني كثيرًا، ولم أعرف شيئًا عنهما عقب ذلك اليوم. لم أعرف كيف نجحتْ في دفع ديونها إلى الدائنين الذين توقَّفوا فجأةً عن الحضور. رأيتُهم جالسين في قاعةِ سادك الصغيرة، يرتدون تَنُّوراتٍ بيضاءَ. ظلُّوا هناك دون أن ينطق أحدٌ منهم بكلمة. لقد ظَلِلْنا نسمع أمي تبكي طوال شهور وسنوات، وهي تسبُّهم. لزمتْ غرفتها ولم تودَّ الخروج إليهم، ولم تصرُخ فيهم أن يتركوها في حالها. رنا عليهم الهدوء وهم يبتسمون. بقُوا هناك ثم غادروا المكان ولم يأتوا قَط بعد ذلك؛ لقد ماتوا جميعًا، أمي وشقيقاي. وأيضًا ذكرياتي معهم، وتقدَّم بي الزمن، والآن لم أعَد أحبُّهم كثيرًا. لا أعرف هل كنتُ أحبُّهم حين تركتُهم. لم يعُد في رأسي شيءٌ عن روائح بشرتهم … ولم أعُد أرى بعيني ألوان عيونهم، ولم أعُد أتذكَّر أصواتهم. عدا أنَّه تهبُّ نسمةٌ رقيقةٌ، أحيانًا، عندما يطلُّ المساء. لم أعُد أسمع ضحكاتهم ولا أصواتهم. انتهى كلُّ شيء، ولم أعُد أتذكَّر شيئًا. ولذا أكتب الآن عنهم بسهولة؛ فقَدْ مرَّ زمنٌ طويل، زمنٌ سحيقٌ بعيد. وأصبحتُ خلاله كاتبةً غزيرةَ الإنتاج.

كان عليها أن تبقى في سايجون، بين عامي ١٩٣٢ و١٩٤٩م. وفي ديسمبر ١٩٤٢م مات أخي الأصغر ولم تستطع المرأةُ أن تغادر المكان إلى بقعةٍ أخرى. ظلَّتْ هناك على مقربةٍ من مقبرته كما تقول، ثم انتهتْ بالعودة إلى فرنسا. عندما الْتقينا ثانيةً كان ابني قد بلَغَ الثانية من العمر. بدأ الوقت متأخِّرًا لمثل هذا اللقاء. أدركتُ ذلك عند النظرة الأُولى. لم يعُد هناك شيءٌ مُشترَك بيننا؛ فقد أتى ابنها الأكبر على البقيَّة الباقية من حياتها. ذهبتْ لتعيش وتموت في «لواشيه» بمبنًى، مبنًي على طرازِ قصرِ لويس الرابع عشر. أقامتْ مع دوو؛ كانت تخاف، أيضًا، من الليل. فاشترتْ بندقيَّة، جلستْ دوو تترقَّب في الغُرَف المسقوفة بالطابق الأخير من القصر. كما اشترتْ مسكنًا لابنها الأكبر، قريبًا من أمبواز، تحوطه الغابة، حيث عليه أن يقوم بقطع الأخشاب، إلا أنَّ أخي كان يذهب ليلعب القِمار في نادي البكاراه بباريس. وراحت الأخشاب في ليلةٍ واحدة هناك، حيث تلتوي الذكريات بغتة. وحيث يدخل أخي مصحوبًا بدموعه، يخبرها أنَّه خسر نقودَ الخشب. كلُّ ما أذكره أننا عثرنا عليه نائمًا في سيارته، في مونبارناس، أمام مبنى الأكاديمية الفرنسية. وأنَّه أراد أن يموت. لم أعُد أعرف شيئًا بعد ذلك، عمَّا فعلتْه معه؛ فهي تتصرَّف دائمًا بما يُثير الدهشة من أجل ابنها الأكبر الذي لا يعرف شيئًا في عُرف أمِّه. الطفل الذي بلغ الخمسين من العمر، والذي عندما أراد أن يكسب نقودًا، اشترتْ له مَفرَخة دواجنَ كهربائية. ووضعتْها في الصالة الكبيرة وأصبح لديها، فجأةً ستمائة فَرُّوج، أربعمائة مترٍ مربَّعٍ من الفراريج. لكنَّه فشل في إدارة ذوي العُروف الحمراء، ولم ينجح في توفير الغذاء للستمائة فَرُّوج ذوي المناقير التي لا تَشبَع أبدًا، ولا تنغلق عن الطعام؛ فنفقوا جميعًا من الجوع. ولم تتكرَّر التجربة مرَّةً ثانية. حضرتُ إلى القصر أثناء فقس الفراريج، وبدا كأن هناك حفلًا؛ حيث فاحت روائح الفراريج النافقة وأغذيتها. لم أعُد أستطيع أن آكل في القصر، أنا وأمي دون أن نتقيَّأ.

ماتت أمي بين دوو وما تسمِّيه طفلَها المدلَّل، في غرفتها الكبيرة بالطابق الأول، الذي كانت تضع فيه الخِراف النائمة. من أربعة إلى ستَّة خِرافٍ حول سريرها في فترة الكُمون أثناء فصول الشتاء الطويل، آخر الفصول التي عاشتْها.

هناك، في منزلها الأخير في منطقة اللوار، انتهى كلُّ شيءٍ من مرواحها ومجيئها اللذين لم يتوقَّفا وحلَّت نهايةُ كلِّ أمور هذه الأسرة. أرى، هناك، الجنونَ سافرًا للمرَّة الأُولى. أرى جنون أمي جليًّا، وأرى أنَّ دوو وأخي كانا سببًا لإصابتها بالجنون. أمَّا أنا فلا؛ لم أكُن قد رأيتُها قبلَ ذلك بفترة. ولم يسبق أنْ رأيتُ أمي في حالةٍ مماثِلة لهذا الجنون، رغم أنَّ الجنون كان، منذ ولادتها، ساكنًا في دمها. لم تكُن مريضةً بالخبل، بل عاشت الجنونَ في صمتها. بين دوو وابنها الأكبر، دون أن يكون هناك شخصٌ آخر بينهما؛ كي يمكنه أن يشهد ذلك. رغم أنَّ لديها العديد من الأصدقاء، الذين احتفظتْ بهم سنواتٍ طويلة. يتجدَّدون دائمًا. وإنما هناك شبابٌ من الوافدين على وظائفِ البورصة، وفيما بعد انضمَّ إليهم ناسٌ من سكان تورين، ومن بينهم العائدون من المستعمرات الفرنسية. جمعتْ حولها ناسًا من كافَّة الأعمار، معجبين بذكائها وحيويتها وبهجتها وتلقائيتها التي لا تُقارن أبدًا ولا تثير مللًا.

لا أعرف من الْتقط تلك الصورة التي تُعبِّر عن اليأس، تلك التي الْتُقطت في فناءِ منزلِ هانوي. يظهر أبي في الصورة لآخر مرَّة؛ فبعد بضعة أشهرٍ رحَلَ إلى فرنسا لأسبابٍ صحيَّة. وقبل ذلك غيَّر وظيفته وعُيِّن في بنوم بنه، في هذا المنزل العجيب الذي يطلُّ على نهر الميكونج. قصرٌ قديمٌ كان يسكنه ملكُ كمبوديا، وسط هذه الحديقة المفزِعة، التي تبلغ مساحتها عشرات الهكتارات. هناك كانت أمي تُصاب بالهلع؛ فالليل يُخيفنا. لذا كنَّا ننام نحن الأربعة في سريرٍ واحد. تردِّد أنَّها خائفةً من الليل، وفي هذا المنزل علمتْ بوفاة أبي. علمتْ قبل وصولِ البرقية، في الليلة السابقة على رحيله. بادرةٌ واحدة جعلتْها تحسُّ أنها الوحيدة التي رأتْ وعرفتْ وسمعتْ. هذا الطائر الذي سمعتْه يئنُّ مجنونًا وسط الليل، ضائعًا في المكتب الذي يقع في الطرَف الشمالي للقصر. أتحسَّستْ أنَّه أبي؟ هناك أيضًا بعد أيامٍ من وفاة زوجها، ووسط الليل، وجدتْ أمي نفسَها أمام صورةِ أبيها، أبوها هي. أضاءت الأنوار، رأتْه هناك يقف قريبًا من المائدة. منتصِبًا في القاعة الكبرى المثمَّنة الزوايا ينظُر إليها. أذكر صرخاتها؛ أيقظتْنا بنداءاتها. قصَّتْ علينا الحكاية. كيف كان يرتدي ملابسَ يوم الأحد الرَّمادية. وكيف كان يقف، ونظرته المثبَّتة عليها. قالت ناديتُه مثلما كنتُ أفعل وأنا صغيرة. قالت: لم أخَف، هرولتُ نحو الصورة التي سرعان ما تلاشتْ. لقد مات الاثنان في نفس التاريخ، وصدح عصفورُ ساعة الحائط، وتحرَّكت الصورة. وتملكتْنا الدهشة التي ورثناها عن أُمِّنا، إزاءَ كلِّ شيء، ومن بينها الموت.

نزل الرَّجُل الأنيق من السيارة الليموزين، يدخِّن سيجارةً إنجليزية، ينظُر إلى الفتاة الشابة ذات القبَّعة الرُّجوليَّة والحِذاء الذهبي. تقدَّم نحوها في بطءٍ. من المُلاحَظ أنَّه أكثرُ جرأةً؛ لا تُسفر شفتاه عن أيِّ ابتسامة. بدأ بأنْ مدَّ لها سيجارة. يداه ترتعدان؛ فهناك اختلافٌ في العنصر. فهو ليس برجُلٍ أبيض. ولأنه يجب أن يتفوَّق عليها؛ فقد ارتعد. أخبرتْه أنها لا تدخِّن: «شكرًا.» لم تُضِف المزيد. لم تقُل له دعْني في حالي. أصبح أقلَّ خوفًا. حدَّثها أنَّه تصوَّر أنَّه في حُلم. لم تردَّ؛ فهي ليست مستعدَّة للردِّ، فبمَ تُجيب؟ انتظرتْ؛ فسألها: من أين أنتِ؟ أخبرتْه أنها ابنةُ مُدرِّسة البنات بسادك، فكَّر، ثم قال إنَّه انتظر طويلًا كي يحادث هذه المرأة، أمَّها، وعن حظها السَّيئ فوق هذه الأرض المستعمرة التي اشترتْها في كمبوديا. أليس كذلك؟ نعم، هو كذلك.

كرَّر عليها أنه لأمر غريب أنْ يراها فوق العَبَّارة، في وقتٍ مبكِّر من الصباح فتاةً صغيرةً وجميلةً مثلها. أنتِ لا تعرفين قيمةَ نفسكِ، هذا أمرٌ غير متوقَّع، فتاةٌ صغيرةٌ في عرَبة لا تليق بمقامها.

حدَّثها أنَّ القبَّعة جميلة، بل أنها بالغةُ الجمال، وأنها … فريدة في نوعها. قبَّعة رجُل، ولمَ لا؟ إنَّها حلوةٌ جدًّا. فهي يمكن أن تُتيح لها التصرُّف بتلقائية.

نظرتْ إليه وسألتْه مَن هو؟ أخبرها أنه عائدٌ من باريس، حيث كان يدرس ويُقيم هناك، في منزلٍ يطلُّ على النَّهر مباشرةً. منزلٌ كبيرٌ في مواجهته توجد أراضٍ فسيحةٌ وله دَرَابزين من السيراميك الأزرق. سألتْه مَن هو؟ أجابها أنه صيني وأنَّ أُسرته من شمال الصين، من مقاطعة فوشوان، «هل تسمحين لي أن أصحبكِ إلى منزلكِ في سايجون؟» وافقتْ. أمَرَ السائقَ أن يأخذ الحقائب من الفتاة الصغيرة من سيارة الأجرة، وأن يضعها في سيارته السوداء.

صينيٌّ؛ إذن فهو من الأقليَّة البيضاء ذاتِ الأصل الصيني التي تملك غالبية العقارات السُّكانية بالمستعمرة. وفي ذلك اليوم كان متوجِّهًا إلى سايجون.

دخلَت السيارة السوداء، وأغلق الباب، أحسَّتْ، فجأةً بتوتُّرٍ وتعب. ورأَت الأضواء المنعكِسة فوق صفحة النهر، وأحسَّتْ أنها تكاد أن تُصاب بصممٍ خفيف في أُذنها، بينما يعمُّ الضبابُ المكان.

لن أَقُم قَط برحلةِ سفَرٍ في سيارات المستوطنين. ومن الآن فصاعدًا، أصبحتْ لي سيارة ليموزين تذهب بي إلى مدرسة الليسيه وتُعيدني إلى مسكني. أتناول غدائي في الأحياء الراقية بالمدينة، وأصبح لديَّ كلُّ ما أُقْدِم على فعله وأتحرَّك في إطاره، وما أنا له من الخير والشَّر. سيارة، وسائق سيارةٍ أُضاحِكه؛ فراحَ زمنُ العواجيز اللائي يجلسنَ خلفي في سيارات الأجرة وهنَّ يمضغن اللبان، والأطفال الذين يحملون الأمتعة، وأسرة سادك، والرعب الذي يستولي على أسرة سادك، وصمتها الذي يصِلُ إلى حدِّ إثارة الجنون.

تكلَّمَ؛ قال إنَّه أحسَّ بالملل من باريس، ومن الباريسيَّات الحسناوات، ومن حفلات الاستقبال والزفاف، ومن القنابل. آه، وأيضًا من مبنى الكوبول «الأكاديمية الفرنسية»، ومن أسطح المنازل ذوات القِباب المستديرة. أمَّا أنا فأُفضِّل القِباب المستديرة، وعُلَب الليل، وهذا الكِيان «المدهش» الذي عاشه طيلة عامَين. استمعتُ بانتباهٍ شديد إلى خطابه الذي ألقاه حول الثراء. لم يكُن ينقصه الدليل، أن يقول إنَّ رصيده يبلغ الملايين. استكمل حكايته وقال إنَّ أمَّه ماتت وهو طفلٌ، طفلٌ وحيد. لم يعُد له سوى أبيه الذي يمدُّه دائمًا بالنقود. لكن أتعرفين مَن هو، إنَّه مشغولٌ دائمًا بغَليُون الأفيون، يُدخِّنه طوال عشر سنوات وهو يجلس أمام النهر، أدار ثروته منذ نعومة أظافره. علَّقتْ أنَّها تلاحظ ذلك جيدًا.

هذا الأبُ سيرفض، بلا شكٍّ، أن يتزوَّج ابنه من عاهرةٍ بيضاءَ صغيرةٍ تعمل أُسرتها في إدارة سادك.

بدتْ ملامح الصورة قبل أن يلمس الطفلة البيضاء، وهي مستندة إلى أحبال العَبَّارة، وفي اللحظة التي نزل فيها من سيارة الليموزين السوداء. وعندما بدأ في الاقتراب منها، عرفتْ وأدركتْ أنه خائف.

عرفتْ كلَّ شيء منذ الوهلة الأُولى. عرفت أنَّه يستحقُّ الشكر، ومن ناحية أخرى فهي أيضًا تستحق الشكر؛ لأنها أتاحت له الفرصة. فهي تعرف، أيضًا، شيئًا آخر. ومن الآن فصاعدًا سيُصبح الزمن في صفِّها، فلا يمكنها الفرار من بعض الحقوق الواجبة إزاء نفسها؛ وعلى هذا فيجب ألَّا تعرف الأم شيئًا، وأيضًا إخوتها. أدركتْ ذلك منذ اللحظة الأُولى، عندما قَبِلتْ أن تركب السيارة السوداء. لقد عرفتْه، وأحسَّتْ أنَّ مسافةً بعيدة تفصلها عن هذه الأُسرة للمرَّة الأُولى، وربما للأبد. فيجب ألَّا يعرفوا ما يحدُث معها؛ وإلا أمكنهم أن يمسكوا عليها شيئًا، وسيضغطون فوق كاهلها، وسيضعون ثُقلًا فوق جرحها؛ وهذا سيفسد الأمر. لذا يجب ألَّا يعرفوا، لا أمُّها ولا إخوتها. سوف تتصرَّف على هذا المنوال؛ لذا بكتْ وهي داخل سيارة الليموزين السوداء.

كان يوم خميس، بدأ في الحضور يوميًّا لمرافقتها عقبَ خروجها من المدرسة ليصحبها إلى البنسيون، وفي أحد أيام الخميس، أيضًا، اصطحبها من البنسيون في سيارته السوداء إلى مكانٍ آخر … في ضاحية شولن.

سارت بهما السيارة تخترق الطُّرق الواسعة التي تربط المدينة الصينية بوسط مدينة سايجون. هذه الطُّرق البالغة الاتساع على الطِّراز الأمريكي، تخترقها عربات الترام والمركبات، والسيارات. كان الوقت مبكِّرًا، بعد الظهيرة مباشرةً. وكانت سعيدة لأنَّها استطاعت الإفلات من نزعةٍ إجبارية مع بنات البنسيون.

وهناك، ذهبا إلى حُجرةٍ صغيرة في جنوب المدينة، في أحد الأحياء الحديثة المُشيدة على أحدث طرازٍ معماري، حيث العمارات الفخمة العالية. قال لها: لا أحبُّ ركوب العَبَّارات. عندما دخلت الحُجرة كان المكان مظلِمًا، لم تطلُب أن يفتح النوافذ المغلَقة. لم يخالجْها شعورٌ محدَّد؛ فهي بلا حقدٍ، أو استنفار. لكنْ هناك شيءٌ تجهله تمامًا من قبل. أحسَّت بشيءٍ ينتابُها عندما قال لها مساءَ الأمس إنهما سيذهبان هناك، حيث يجب أن يكونا. لمَسَها. فسَرَت فيها رعشةٌ بسيطة من الخوف. أحسَّ أنَّ هذا شيءٌ يتَّفق مع ما تنتظره منه. وأنَّ هذا الشيء يجب أن يحدُث في مثل هذه الأمور (حالتها) وبدتْ شديدةَ الانتباه لمَا يحدث في الخارج إلى ضوضاء المدينة بالغرف الأرضية. أمَّا هو فوقف يرتجف. نظر إليها، كأنه ينتظر أن تتكلَّم، لكنَّها لم تتكلم. أمَّا هو فلَمْ يتحرك من مكانه. قال إنَّه يحبُّها بجنون. قال ذلك بصوتٍ خفيض، ثم سكت. لم تردَّ عليه، ورغم أنَّها في استطاعتها أنْ تُخبره أنَّها لا تحبُّه؛ لكنها لم تقُل شيئًا. أدركتْ ذلك، فجأة، وبالغريزة؛ أحسَّت أنه لا يعرفها جيدًا، وأنه لن يعرفها قَط، وأنَّه لا يمتلك الوسيلة للتعرُّف عليها. بل وأنَّه سوف يجرِّب آلاف الطُّرق الملتوية من أجل النيل منها، لكنه لن يبلغ ذلك قَط. وعليها أن تعرف ذلك، بل إنها تعرف؛ فقَدْ بدا مدى جهله بها. أحسَّت فجأةً أنَّه أعجبها، وأنَّها أعجبتْه وأنَّ الأمر يتعلَّق بها، بها وحدها.

قالت له: أُفضِّل ألَّا تحبُّني أبدًا. حتى إن كنتَ تحبُّني؛ فإنني أريدك أن تتصرَّف مثلما تفعل مع بقيَّة النساء. نظَرَ إليها مندهشًا، وسألها: هل هذا ما تريدين؟ ردَّتْ بالإيجاب. وبدأت المعاناة؛ فهما في هذا المكان لأول مرَّة، وهو لم يكذب عليها حتى الآن خاصةً فيما يتعلَّق بهذه النقطة. أخبَرَها أنه يعرف أنها لن تحبُّه أبدًا. تركتْه يتكلَّم. في أول الأمر أخبرتْه أنَّها لا تعرف، ثم تركتْه يتكلم.

أخبرها أنه إنسانٌ وحيد، وحيدٌ بصورةٍ موحِشة. مع هذا الحُب الذي يكِنُّه لها. قالت أنها أيضًا وحيدة، لكنها لم تقُل كيف. قال: لقد تبعتِني إلى هنا مثلما تتبعينَ أيَّ شخص. أجابت أنَّها لا يمكن أن تعرف، وأنها لم تذهبْ أبدًا مع أيِّ شخصٍ إلى غرفته، أخبرتْه أنها لا تريده أن يتكلَّم معها، وأنَّها تريده أن يتصرَّف مثلما اعتاد مع النساء اللائي يأتي بهنَّ إلى غرفته. ثم توسَّلتْ إليه أن يتصرَّف بهذا الأسلوب.

استدار إلى الناحية الأخرى من السرير وأجهَشَ. وببطءٍ وبتؤدة جذبتْه نحوها.

أغلقتْ عينَيها؛ فتسلَّل بخفَّة حتى لا يضايقها.

كان ذا بشرةٍ رقيقةٍ ملساء. أمَّا عن جسده، فالجسد نحيف، بلا حولٍ أو قوة، وبلا عضلات. لعلَّه مريضٌ وفي حالة نقاهة. إنَّه بلا شَعر في جسمه. إنه بالغُ الضَّعف. معاناةٌ شديدة. لم تتطلَّع إلى وجهه، ولم تنظُر إليه. لمستْه، لمستْ بشرته الرخوة، وداعبتْ شعره الذهبي فبكى. إنَّه في حالة حُب غيرِ مكتمِلة.

وبينما هو يبكي، أحسَّ بالألم. وعقب هذا الألم الذي تملَّكه أحسَّت بالتغيُّر؛ فنزعتْ نفسها من الجوِّ الذي وجدتْ نفسها فيه، وبدا شديدَ الارتباك.

وأحسَّت أن هذا الخِضَم العنيف من البحر … لم يُسفر عن أيِّ شيء.

لم تتَّضح لها الصورة الأولية عنه فوق العَبَّارة، سوى في هذه اللحظة.

صورةُ امرأةٍ ذاتِ جوربٍ مرتق عبْر الغرفة. وبدتْ أخيرًا كطفلةٍ يعرفها الصِّبية جيدًا، لم تنضج بعدُ. لم يتكلَّموا معًا عن الأم، ولا عن معرفتهم بهذه الأمور التي تجمعهما وتفرِّقهما عن هذه المعرفة المحدودة، ولا عن طفولة الأم.

فلا شكَّ أنَّ الأمَّ لم تعرف المتعة قَط.

سألني إنْ كان قد أصابني مكروه؛ فأجبتُه بالنفي. قال إنَّه سعيد بهذا.

تساءلتُ كيف واتتْني القوة أن أسير في عكس الممنوع الذي فرضتْه أمي وسط هذا السكون، وهذا التحديد. لم أستطع أن أصِلَ إلى أطراف هذه الفكرة.

تبادلنا النظرات، سألني لماذا جئتُ معه. قلت إنَّه كان يجب أن أفعل ذلك. وكان هذا أمرًا حتميًّا. إنها المرَّة الأُولى التي نتكلم فيها. حدثتُه عن وجود شقيقي. أخبرته أننا نفتقر إلى المال. كان يعرف أخي الأكبر، الْتقاه في الأماكن المخصَّصة للتدخين في المكاتب. قلت إنَّ هذا الأخ سرَقَ أمي كي يدخِّن. وأنَّه يسرق الخدَم، وأحيانًا يسرق مديري المداخن الذين يأتون لإعطاء المال لأمي. حدثتُه عن أحوالنا المالية، وأخبرته أن أمي ستموت إذا ظلَّت الأمور على هذا الحال. وأن الموت قريبُ الطرَف من أمي، وأن ما حدث لي اليوم قد يُعجِّل بموتها.

رثى لحالي، سألني إن كنتُ أرغب فيه. فأجبتُه بالنفي، وأنني لستُ محلَّ رثاء. وأنَّ أحدًا لم يرثِ لحالي سوى أمي. قال لي: لقد جئتِ لأنَّ معي نقودًا. قالت إنني أرغب فيه أيضًا فضلًا عن أمواله، منذ أن رأيتُه في هذه السيارة. ومع هذه التصريحات لم أستطع أن أعرف ما يمكن أن يحدُث لي من ناحيةٍ أخرى. قال لي: أريد أن أصحبكِ. وأن أرحل معكِ. قلتُ: لا أستطيع؛ فالوقت لم يحِن كي أترك أمي. خاصةً أنها تكاد أن تموت من الألم. قال إنَّه قرَّر ألَّا يُجرِّب حظَّه معي، ومع هذا سوف يعطيني نقودًا. وعليَّ ألَّا أقلق. وتمدد مرَّةً ثانيةً. ومن جديدٍ ران صمتٌ.

تسرَّبت إلينا ضوضاءُ المدينة البالغة الحدَّة. أذكرها الآن أشبه بصوتٍ عالٍ في شريط سينمائي، يكاد يُصِم الآذان. أذكُر جيدًا كمْ كانت الحُجرة مظلِمة. الْتزمنا الصمت. تحوطُنا ضوضاءُ المدينة التي لا تتوقَّف. تتسرَّب من المدينة، من قطار الضواحي عبر النوافذ التي تَحطَّم زجاجُها. ليس بها سوى الستائر والنوافذ الخشبية. ومن خلال الستائر نرى الناس يمرُّون بظِلالهم عبر الأرصفة. هذه الحشود المزدحمة المتدفِّقة دومًا — وتتسلَّل الظِّلال بشكلٍ منتظِم عبر فتحاتِ «الشيش» المغلَق، وقرقعات القباقيب، كأنها تُفقد الرءُوس صوابها — حادَّة بأصواتها؛ فالصينيون ينطقون لغتهم دائمًا، كما تخيَّلت، وكأنها لغةٌ مصنوعةٌ من الصحراء، لغةٌ عربيةٌ بشكلٍ مثير.

انتهى اليوم في الخارج. عرفنا ذلك من خلال الضوضاء التي يُحدِثها المارَّة الذين يتزايدون ويضطرد اختلاطهم معًا. إنَّها مدينة المتعة التي تعجُّ بأبنائها طيلة الليل؛ حيث يبدأ الليل مباشرةً عقب غروب الشمس.

يفصل السرير عن المدينة من خلال هذه النافذة التي تحجب الصوت، وستائر من القطن. ولا توجد أيَّة حواجز صُلبة تفصلنا عن هؤلاء الناس؛ فهم يجهلون وجودنا، أمَّا نحن، فنلاحظ كلَّ شيء يتعلَّق بهم. أصواتهم العالية، وتحركاتهم، وكأنَّها نفيرُ سيارة يُطلق نداءاتٍ متقطعةً حزينةً، لا رجْعَ لصَدَاها.

تسربتْ إلى الغرفة روائحُ الحلوى. رائحة فستقٍ محمَّص، والحساءات الصينية، واللحوم المشوية، والأعشاب وأزهار الياسمين، والغبار، والبخور، وروائح احتراقِ الفحم النباتي. وانتقلتْ روائح النيران بين السِّلال، وكأنها تُباع في الشوارع فتبدو رائحة المدينة أشبه بروائح القرى التي يُباع فيها الجبن، ورائحة الغابات.

رأيتُه، فجأةً، يجلس في المقصورة الداكنة يحتسي الويسكي ويدخِّن، أخبرني أنَّ النوم غلبني، وأنَّه انتهز هذه الفرصة كي يستحمَّ. أحسَستُ بالنُّعاس، فأشعَلَ مِصباحًا فوق المائدة الواطئة.

إنَّه رجُلٌ له عاداته، يُحبُّ أن يأتي دائمًا إلى هذا المكان. رجُلٌ يحبُّ ممارسة الحُب بشكلٍ دائم، رجُلٌ خوَّاف وعليه أن يمارس الحُب كثيرًا من أجل قهر الخوف. أخبرتُه أنني أُحبِّذ أن يكون بصحبته نساءٌ كثيرات. وأن أكون من بين نسائه اللائي وقعنَ في طريقه. تبادلْنا النَّظرات، وفهِمَ ما قُلتُه. تبدَّلت النظرة فجأةً وأصبحتْ زائغةً، يكسوها الشرُّ، والموت.

طلبتُ منه أن يأتي إليَّ. وأنَّ علينا أن نعاوِد الكَرَّة مرَّةً أخرى؛ جاء. كان يحسُّ بالمتعة وهو يدخن السيجارة الإنجليزية. ثم ينفثُ دخانه الكثيف. أحسَّ بالكسل وبقوةِ بشرته فوق الفِراش الحريري، وبالنسيج الحريري الهندي المرصَّع بالذهب. شعَرَ أنَّه رجُلٌ مرغوب. طلَبَ منِّي أن أنتظر بعض الوقت. كلَّمني وقال إنَّه عندما رآني أولَ مرَّة، عند عُبور النهر، أحسَّ أنَّ شيئًا سيحدُث بيننا، وأنَّه سيصبح حبِّي الأول. قال إنَّه عرَفَ آنذاك أنني أحببتُه. قال إنَّ ذلك، بالنسبة له، يُشكِّل أداةً خاصَّة للحزن. أمَّا أنا فقد شعرتُ بالسعادة لكلِّ ما قاله. وأخبرتُه بما أحسُّ. إلا أنه أصبح جافًّا، وصدَمَني إحساسُه باليأس. فجأةً رمى نفسه، وتأوَّه وهو يشتمني. أغلقتُ عيني وأنا أشعُر بمتعةٍ لا حدَّ لقوَّتها، وأنا أفكِّر: لقد اعتاد أن يفعل ذلك في الحياة، وفي الحُب أيضًا. فيداه خبيرتان بشكلٍ مروِّع ومميَّز. كمْ أنا امرأةٌ محظوظة للغاية! وهذا واضح. قال لي إنني حبُّه الأوحد. وأنه يجب أن يقول هذا، وأنَّ هذا هو ما يجب أن يُقال عندما نترك أنفُسَنا نتصرَّف. وآنذاك يبدو كلُّ شيء على ما يُرام.

أصوات المدينة قريبةٌ، قريبةٌ للغاية، أكثرُ اقترابًا وكأننا نسمعها تَحتكُّ بخشبِ النافذة. نسمعها وكأنها تتحرَّك مع العربة. داعبتُه وسط هذه الأصوات، وهذا الممرِّ، والبحر المتلاطِم، وتزايدت أصواتُ المجاميع. ثم انخفضتْ مرَّة أخرى.

أشعل سيجارةً، ومدَّها لي بين شفتيَّ ثم أخذ يكلِّمني.

تكلَّمتُ معه، أيضًا، بصوتٍ خفيض.

ولأنَّه لا يعرف شيئًا عن نفسه، أخذتُ أتحدَّث معه عن نفسه. وعن مكانه ولأنَّه لا يعرف أنَّه يحمل في نفسه جاذبيةً شديدة؛ فقَدْ أخبرتُه بذلك.

ثم حلَّ المساء، أخبرني أنني عليَّ أن أتذكَّر حياتي بأكملها، منذ تلك اللحظة التي الْتقيته فيها. حتى لو نسيتُ وجهه واسمه، قال لي: انظري نحوي جيدًا. نظرتُ إليه. قلتُ إنَّه مثل كلِّ البيوت. هزَّ رأسه بالإيجاب، وقال إنَّه مثل كلِّ المنازل.

إذا كان الوجه قد مُحِي من الذاكرة؛ فلا زلتُ أذكُر الاسم، وأرى الجدران البيضاء، والستار الكتَّاني الذي يفصلنا عن أَتُّون الشارع الشديدِ السُّخونة. والباب الآخر الذي يُفتح على ممرٍّ يؤدِّي إلى الغرفة الأخرى. وإلى حديقةٍ مفتوحة تطلُّ على السماء، ماتت فيها كلُّ النباتات من الحرارة الشديدة. تحوطها أسوارٌ زرقاء مثل فيلَّات سادك الكبرى، وبها شُرفةٌ مفتوحة تطلُّ على نهر الميكونج.

أحسُّ أنني في مكانٍ مصنوعٍ للضغط على النفس، فأغرق فيه، سألني فيمَ أفكِّر؟ أخبرتُه أنني أفكِّر في أمي، وأنها ستقتلني لو عرفت الحقيقة. أحسَستُ به يبذل مجهودًا ثم تكلَّم؛ قال إنَّه يفهم ماذا يريد أن يخبر أمي. ثم علَّق: يا للعار! ثم قال إنَّه لا يمكنه أن يتحمَّل فكرة الزواج. تطلَّعتُ إليه، ونظَرَ إليَّ بدوره. ثم قال إنه لهذا لا يمارس الحُب أثناء النهار، ثم ابتسم وقال: المرعِب دائمًا، هو أن يكون المرءُ محبوبًا أو غيرَ محبوب.

أخبرتُه أننا لسنا في النهار، وكمْ هو مخدوع! وأنني حزينةٌ، أنتظره فلا يأتي إليَّ. لذا فأنا حزينة دومًا لهذا؛ حيث أرى نفسي صغيرة. ومع ذلك فقد آلفتُ الحُزن. وعرفناه وكأننا نمارسه دائمًا. أخبرتُه أنني يمكن أن أعطيه اسمي حتى لا يلومني، وقلت إنَّ الحزن لم يعُد أمرًا طيِّبًا. وإنَّ أمي تحدثني دومًا أنها كمَنْ يصرخ في صحراءَ واسعة. من كثرة أحزانها، قلتُ له: لا أفهم ما تعنيه بشكلٍ جيد، لكنني أعرف أنَّ هذه هي الغرفة التي كنتُ أنشدها. تكلَّمتُ دون أن أنتظر منه إجابة. أخبرتُه أنَّ أمي تصرخ بما تؤمن به وكأنه مبعوثٌ إلهي. تصرخ أنَّه يجب ألَّا ننتظر شيئًا من أحد، مهما كانت هُويته. فالأمر دائمًا موكَل إلى الله. ينظُر إليَّ وأنا أتكلَّم، لم يُبعد عينَيه عنِّي. نظَرَ إلى شفتيَّ وهما تتحرَّكان، ثم داعبني. لعلَّه لا يسمع شيئًا. لا أعرف. قلتُ له إنني لم أرتكب شرًّا حتى أجِد نفسي في هذا الحال. حكيتُ له أننا نعاني من صعوباتٍ في توفير الطعام، والملابس وأننا نعيش على حدِّ الكفاف، بمرتَّب أمي. شعرتُ بالألم وأنا أُفرِط في الكلام. سأل: كيف تتصرَّفون؟ قلتُ إنَّ المسألة أصبحت خارج إرادتنا. وأنَّ المأساة قد جعلتْ جُدران أُسرتنا تنهار ووجَدَ الجميع أنفُسهم خارج الدار. وبدأ كلُّ شخصٍ يتصرَّف على هواه.

أبكتْني قُبلاته، يُقال إنَّ هذا يبعث على المواساة. وأنا لا أبكي مثلما بكيتُ في هذا اليوم؛ ففي تلك الغرفة داهمتْني كلُّ دموع الماضي والمستقبل. وأخبرتُه أنَّ أمي انفصلتْ عنِّي يومًا. وأنني لم أحبَّ أمي أبدًا. بكيت. وضَعَ رأسه فوقي، وبكى وهو يراني أفعل. أخبرتُه أنَّ فقر أمي، في طفولتي، قد شكَّل مكانًا من الحُلم، وأنَّ أمي كانت حُلمًا، وأنني لم أرَ أبدًا أشجار أعياد الميلاد، وأن أمي امرأةٌ وحيدة، وأنَّها أمٌّ مُطاردة تعيش المأساة التي عاشتْها بكافَّة أبعادها، وكأنَّها تتكلَّم في صحراءَ جرداء، وأنَّها ظلَّت طيلةَ عمرها تبحث عن غذاء، وعن شخصٍ تحكي له ما حدَثَ لها، وما كان يحدُث لها دومًا، مثل ماري لجران دي روبيه؛ فتكلمها عن براءتها، وعن ظروفها الاقتصادية، وعن آمالها.

نفَذَ إلينا الليل عبْر فتحات النوافذ الخشبية، وارتفعت أصواتُ الضوضاء. وأصبحتْ أكثرَ حِدَّة والْتزمتُ الصمت أكثر. وعندما أضاء المصابيح الحمراء، خرجنا من المنزل، وارتديتُ القبَّعة ذاتَ الشريط الأسود التي لا يرتديها سوى الرجال، ثم الحذاء الذهبي. ووضعتُ أحمرَ الشِّفاه الداكن، وارتديت الرداءَ الحريري، وأحسَستُ أنني غدوتُ عجوزًا. أدركتُ بذلك بغتةً، وعندما لاحظ هذا قال: لأنَّكِ مُرهَقة.

وعلى الرصيف، تسير جموعٌ غفيرة في كافَّة الاتجاهات ببطءٍ وحيويَّة. تذوب في الممرَّات وتتحرَّك كالكلاب الضالَّة. أصابها العماءُ مثل الشحَّاذين، حشدٌ من الكلاب، أراهم في ذاكرتي بكلِّ وضوح يسيرون معًا وقد أصابتْهم عُجالة — أمَّا أنا فأجِد نفسي كمَنْ يسير وحيدًا وسط هذا الجمع؛ لا أشعُر بأيِّ سعادة، وبلا أحزانٍ وبلا فُضول. أسيرُ كمَنْ يمشي دون أن يبدو عليه ذلك ودون أن تكون لديَّ الرغبة في الذهاب، لكنني أتحرَّك فقط من هنا إلى هناك — وحيدين في الزحام. أمَّا أنا فوحيدة دائمًا، وحيدةٌ وسط الزِّحام.

ذهبنا إلى أحد المطاعم الصينية الفخمة. يوجد في مدخل إحدى العمارات الكبيرة، وهو مثل كلِّ المحلات الكبيرة والبنايات. يطلُّ على المدينة بشرفاتٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ. وعادةً فإنَّ الضجَّة التي تصدُر من العمارات، لا تُحتمَل في أوروبا. تصدر من طلبات العمَّال الصارخة، وصدى الملاعق، وزعيق المطبخ. أمَّا في هذه المطاعم فلا أحدَ يتكلَّم. وفوق الشُّرفة يوجد أوركسترا صيني؛ لذا اتجهنا إلى الطابق الأكثر هدوءًا، الذي يؤمُّه الأوروبيُّون. فرغم أنَّ قائمة الطعام لا تتغيَّر؛ إلا أنَّ الضجَّة أقلُّ. وهناك هوَّايات وجُدران سميكةٌ تمنع تسرُّب الضجَّة.

سألتُه أن يحدثني عن ثراء أبيه، وكيف أصابه الثراء. قال إنَّ الحديث عن المال يُثير الملل. وعندما أصررتُ أن أعرف أخبرني أنه يعلم شيئًا بسيطًا عن ثروة أبيه؛ فقد بدأ كلُّ شيء في شولن من خلال المساكن الشعبية، حيث قام ببناء ثلاثمائة مبنًى، وهو يملك أكثر شوارع شولن. ويتكلم الفرنسية بلهجةٍ باريسيةٍ ثقيلةٍ قليلًا، ويتكلَّم عن النقود بوقاحةٍ بادية؛ فالأبُ يمتلك عماراتٍ باعها من أجل شراء أرض ليبنيها في جنوب شولن. كما باع أيضًا، كما يعتقد، حقول أرز في سادك. وسألتُه عن الوباء. أخبرتُه أنني رأيتُ شوارعَ داخليةً ذوات مبانٍ مغلَقة، ممنوعٌ دخولها ابتداءً من أول الليل وحتى صباح اليوم التالي. دقَّت الأبواب والنوافذ بالمسامير؛ بسبب وباء الطاعون. قال إنَّ الطاعون أقلُّ درجةً هنا. وأنَّ مكافحة الأوبئة أكثرُ عددًا من النقود في البورصة. ثم حكى لي حكايةً عن المساكن الشعبية؛ فقد ارتفعت أسعارها بنسبةٍ أقلَّ من أسعار العمارات أو المباني الخاصة. وذلك لزيادة الطلب على المساكن في الأحياء الشعبية التي تتَّصل أبنيتها. فالسكَّان هنا يحبُّون أن يكونوا معًا، خاصةً السكان الفقراء الذين نزحوا من الريف، ويميلون إلى المعيشة في الخلاء، في الشارع. لا يجب أن تُقتل عادةً للفقراء. وقد انتهى أبوه لتوِّه من تشييد سلسلة من المباني المفتوحة التي تطلُّ على الشارع. ممَّا جعل الشوارع مُضاءة دائمًا، وبالغة الجاذبية. ينامون فيها عندما تشتدُّ حرارة الجوِّ. أخبرتُه أنني بدوري أحبُّ أن أسكن في الأماكن المفتوحة وقد بدتْ لي هذه الفكرة نموذجيةً عندما كنتُ طفلة، وأننا يجب أن نكون في خارج المنزل كي ننام. أحسَستُ بالألم فجأة، ألمٍ خفيف، دقَّاتٍ في قلبي، في جراحي الحيَّة، المولودة لتوِّها، والتي يمكن أن يسببها لي، ذلك الذي يتكلَّم معي، ذلك الذي أحسَّني بالمتعة بعدَ الظهيرة. لا أسمع أكثرَ ممَّا يقوله لي، ولا أسمع كثيرًا ممَّا يدور حولي. عندما سكَتَ أخبرتُه أن يستطرِد في الكلام؛ ففعل، وسمعتُه من جديد. قال إنَّه يفكَّر كثيرًا في باريس، وأنه يجِدُني مختلفةً كثيرًا عن الباريسيات، وأنني أكثرُ لُطفًا. أخبرتُه أنَّ هذا النوع من المباني يجب ألَّا يزداد على حدٍّ معيَّن. فلَمْ يردَّ.

وإبَّان فترة علاقتنا، وطوال عامٍ ونصف، كنَّا نتكلَّم بنفس الأسلوب. لا نتكلَّم سوى عن أنفُسنا. منذ اليوم الأول، كنَّا نعرف أنَّ هناك مستقبَلًا مشتركًا غير محدَّد المعالم. ولم نتكلَّم أبدًا عن المستقبل، كنَّا نطرح أفكارًا مثل الصحافيين، متبادلة ومتوازية.

أخبرتُه أنَّ إقامته في فرنسا تُشكِّل حلًّا حتمًا بالنسبة له؛ فاقتنع بذلك. وقال إنَّه اشترى أشياءَ كثيرةً في باريس، نساءها ومعارضها وأفكارها. وإنَّه يكبُرني باثني عشر عامًا، وهذا وحده يثير الخوف. سمعتُه وهو يتكلَّم، ورأيتُه وهو يخطئ. وأحسَستُ به وهو يحبُّني بنوعٍ من التمثيل المتكلَّف فيه، ولكنَّه مليءٌ بالصِّدق.

لم يكُن يستطيع أن يُعبِّر عن مشاعره سوى من خلال المغالاة في التمثيل، اكتشفتُ أنَّه لا يمتلك القدرة أن يحبَّني ضدَّ رغبة أبيه، وأنه لا يمكنه أن يصحبني لمقابلته. بكى دومًا؛ لأنَّه لم يجِد القوة أن يجتاز حاجزَ الخوف. يمارس بطولته عليَّ وحدي. أمَّا ضعفُه فموجودٌ في نقود أبيه.

عندما حدَّثتُه عن أخي هوى في قاعِ هذا الخوف، وكأنَّه كان يرتدي قِناعًا خارجيًّا. اعتقد أنَّ الدنيا كلَّها من حولي تنتظر منه أن يطلُب الاقترانَ بي. يعرف أنَّه مخلوقٌ ضائع في عيون أفراد أسرتي، وأنَّه بالنسبة لها لا يمكنه سوى أن يضيع أكثر، وقد يفقدني في هذه الظروف.

قال إنه ذهَبَ من أجل الدراسة بالمدرسة التجارية في باريس، وأخبرني بالحقيقة كاملةً، وأنَّه لم يستكمل تعليمه. وأنَّ أباه قطَعَ عليه خطَّ الحياة، فأرسل له تذكرة العودة، وأجبره أن يغادر فرنسا. وكانت العودةُ حدَثًا مأساويًّا؛ فلم يُنهِ دراسته بالمدرسة التجارية. قال إنَّه اعتمد أن ينهي دراسته هنا، من خلال دروسٍ بالمراسلة.

بدأت اللقاءات مع الأُسرة من خلال دعواتٍ على الغداء في شولن. فبمناسبة حضور أمي وإخوتي إلى سايجون، أخبرتُه أنه يجب أن يدعوهم في أحد المحلات الصينية الكبرى التي لا يرتادونها، والتي لا يعرفونها أبدًا.

كانت تلك الأمسيات تمرُّ بنفس الوتيرة؛ فيصاب إخوتي بخيبة أملٍ ولا يوجِّهون لي أيَّ أسئلة، ولا ينظُرون إليه كثيرًا، ولا يمكنهم أن يفعلوا ذلك، وإذا استطاعوا أن يفعلوا؛ فمن أجل أن يرونه. كانوا قادرين، من ناحيتهم، على ممارسة ضغوطِهم، وأن يسيروا على حسب القواعد الأساسية للحياة داخل المجتمع. وأثناء هذه الدعوات كانت أمي هي الشخص الوحيد الذي يتكلَّم. في أول الأمر تتكلَّم قليلًا، ثم تُدلي ببعض التعليقات حول طريقة وضْعِ الأطباق وعن أسعارها الغالية، ثم تلتزم الصمت. أمَّا هو ففي المرَّتَين الأُوليَين كان يُصدِّق الكلام، ويحاول أن يروي حكاياتٍ عن مغامراته في باريس. لكن بلا جدوى، وكأنه لا يتكلَّم، وكأن أحدًا لا يسمعه. وكانت محاولاته تهوي داخل جُب سحيق، ويستمرُّ إخوتي في جعله يحسُّ بالخيبة. يبدو وكأنني مصابةٌ بخيبة أملٍ لم تحدُث لأحد.

يدفع، ثم يحسب النقود، ويضعها فوق الطَّبق؛ فينظر إليه الجميع. في المرَّات الأُولى، كما أذكر، كان يضع سبعةً وسبعين قرشًا. فكادت أمي أن تنفجر ضاحكةً، ثم قُمنا لمغادرة المكان بلا كلمةِ شكرٍ واحدة من أيٍّ منهم. ولم تنبث بكلمةِ شكرٍ لقاءَ دعوةِ عشاءٍ فاخرة. فلا سلام عند اللقاء أو الوداع، وكأنَّ لا شيءَ هناك، ولا كلامَ يُقال.

لم يوجِّه إليه إخوتي أيَّ كلمات. وكأنه شيءٌ غير موجود بالنسبة لهم، وكأنَّه شيءٌ غيرُ منظورٍ تصعب رؤيته، أو يصعب أن تسمعه. أمَّا هو فقَدْ وضع في أعماقه أنني لا أحبُّه، وأن ما يحدُث ضربٌ من المستحيل، وأنه يمكنه أن يتحمَّل أيَّ شيءٍ منِّي دون أن يكون طرَفًا في هذا الحُب. هذا لأنَّه صينيٌّ، وليس أبيض. لقد تجاهَلَ أخي الأكبرُ وجودَ حبيبي بأسلوبٍ يعكس مفهومًا خاصًّا لهذا المخلوق … مثل تصرُّف أيِّ أخٍ أكبرَ تجاه غراميَّات أخته. أمَّا أنا فلَمْ أكُن أتكلَّم كثيرًا في حضور أُسرتي، ويجب ألَّا أوجِّه إليه أيَّ كلامٍ سوى: «نعم» عندما أريد أن أبلِّغه رسالةً من طرَفهم، فأنا الذي عليَّ أن أخبره أننا يجب أن نذهب عند المنبع؛ كي نشرب ونرقص، فيتصرَّف كأنه لم يسمع. ولأنني يجب ألَّا أُراجع آراءَ أخي الأكبر، ويجب ألَّا أكرِّر ما قلتُه فإنَّني أسحب سؤالي؛ فتكرار السؤال شيءٌ خاطئ. وأستعطف رضاه، فيردُّ أخيرًا عليَّ بصوتٍ خفيض، كمَن يريد طلبًا خاصًّا؛ يقول إنَّه يجب أن ينفرد بي لحظة، يردِّد هذا كأنَّه يتوسَّل. هنا يجب أن أتظاهر أنني لا أسمعه جيدًا. وكأنَّه يريد أن يتَّهم أحدًا، وأن يتغاضى عن سلوك أخي الأكبر. وهنا يجب ألَّا أردَّ عليه، فيستمر في الكلام ويقول: أمُّكِ متعبة، انظري إليها. فأمي تُصاب بالنُّعاس بعد العشاء الصيني الثقيل في شولن. فلا أردُّ عليه، وأسمع أخي الأكبر يقول بعبارةٍ قصيرة، قاسيةٍ ومحدَّدة، إنَّ أمي تقول عنه أنَّه واحدٌ من ثلاثة أبناء. وأنَّه يتكلَّم بلباقة. تردِّد جملتُها ويسمع أخي، ويتوقَّف كلُّ شيء. وأعرف الخوف من حبيبي، ومن أخي الصغير. فلا يتردَّد ونذهب جميعًا إلى النبع. وتذهب أمي معنا عند النبع. وهناك عند النبع، تنام.

وفي حضور أخي الأكبر، يكفُّ عن أن يكون حبيبي، لا يكفُّ عن التواجد، لكنَّه لا يفعل شيئًا إزاء فتاته. التي تُطيع رغبةَ أخيها الأكبر، الذي يتجاهل، بدوره، حبيبها. وفي كلِّ مرَّة يكونان معًا يتبادلان النظر، فأنا لا أستطيع أن أتحمَّل رؤيتهما؛ فحبيبي يتمُّ تجاهله تمامًا. هذا جسده النحيل، هذا الضَّعف الذي ينقلني إلى عالم المتعة. وتبدو أمام أخي بشائرُ فضيحةٍ خفيَّة، وسببٌ لجلب العار عليه أن يُخفيه. فلا أستطيع أن أُناضل ضدَّ أوامر أخي الصامتة — يمكن أن أفعل ذلك فيما يتعلَّق بأخي الأصغر — وعندما يرتبط الأمر بحبيبي فلا أستطيع شيئًا ضدَّ نفسي؛ فالكلام عنه يجعلني أكشف الوجه الخبيث لأخي. وأحسُّ كأنَّ شخصًا ينظُر إليَّ من الجانب الآخر، وأن عينَيه تفكران في شيءٍ آخر؛ في فكَّيه اللذين تصطكان خفيفًا، ولكن من السهل رؤيتهما يبدوان وكأنهما ساخطان يعانيان، وكأنَّ عليهما حُكمًا يجب تحمُّله. هذا الامتهان فقط، من أجل أن نتناول وجبةً جيدةً في مطعمٍ فخم. أمَّا الأمر الطبيعي في كلِّ هذا؛ فهو أنَّ الذكريات تكشف عن ليلٍ صافٍ في أغواره تنطلق صرخةٌ حادَّة يُطلقها طفل.

وعند النبع أيضًا يكفُّ الجميع عن الكلام.

ويطلُب الجميع شرابَ مارتل برييه. سرعان ما يتجرَّعه أخواي، ثم يطلبان المزيد؛ فتقوم أمي وأنا بإعطائهما شرابنا. ويصاب أخواي بالثُّمالة. ومهما كان الأمر، فإنهما لا يبادلانِه الحديث، ولكنهما يعملان على تجريم ما نفعله. خاصةً الأخ الأصغر؛ فهو يشكو دائمًا أنَّ المكان كئيبٌ، وأنَّه ليس فيه ساقيات، وأنَّ المتنزِّهين عند النبع قليلون طيلة الأسبوع. وأرقص مع أخي الأصغر، أمَّا مع حبيبي فيجب ألَّا أرقص — لم أرقص قَط مع أخي الأكبر؛ فأنا ممنوعةٌ دائمًا من ارتكاب أيِّ خطأ يُشكِّل خطرًا — فهذا تصرُّف سيِّئ يتفق عليه الجميع؛ لأنه يجب في عُرف الأخ الأصغر ألَّا تتماسَّ أجسادنا.

وفي هذه الأثناء يشعُر كلُّ واحدٍ منَّا أنَّ وجهَينا يكادان أنْ يقتربا من بعضهما.

حدَّثني الرجُل الصيني القادم من شولن وهو يكاد أن يبكي قائلًا: ماذا فعلتِ لهم؟ أخبرتُه أنه يجب ألَّا يقلق؛ فهم هكذا دومًا معنا أيضًا، في كلِّ وقائع حياتنا اليومية.

شرحتُ له ذلك عندما الْتقينا، مرَّةً أخرى، في مسكنه. حدَّثتُه عن عنف أخي الأكبر، البارد، المُهين وأخبرتُه عن كلِّ ما جرى لنا وأصابنا؛ فقد بدا كأنَّه سيقتله، وأن يمحو له حياته. بل هو أبعد من ذلك؛ إنه يحتقره، ويتصيَّد له الأمور، ويتعمَّد أن يجعله يعاني. حدَّثتُه ألَّا يخاف، وألَّا يخاطر بشيء؛ لأنَّ الشخص الوحيد الذي يخشى أخاه الأكبر، أمام كلِّ هذه الأشياء الجادَّة التي تبعث على الخجل هو: أنا.

لم يقُل أحدٌ منهم: صباح الخير أو مساء الخير أو عيدٌ سعيد، أبدًا. لم يردِّد أحدٌ كلمةَ شكر، ولا كلمة. فلا حاجةَ لهم في الكلام. ويبقى كلُّ شيء صامتًا، كأنها أُسرة من حجارة تحوَّلتْ دون أيِّ سبب. يحاولون قتلنا كلَّ مرَّة. أن يقتلونا، ليس فقط لأنَّهم لا يتكلَّمون، ولكن أيضًا لأنَّهم لا يتبادلون النظرات. حتى في لحظة اللقاء، فإنهم لا يتبادلون النظرات. النظرة الوحيدة هي حركةُ فضولٍ إزاء ما يحدُث؛ نظرةٌ مليئةٌ بالازدراء. أمَّا هي فترى أنه لا توجد في الدنيا نظرةٌ تُعادل نظرتها إليه، حتى لو كان في نظرهم شخصٌ غيرُ محترَم. حتى لو أُلغيتْ كلمة «حوار» فيما بينهم، وكأنَّهم اتَّفقوا أنَّ أفضل شيءٍ هو تجنُّب العار بكبرياء. اتَّفقت المجموعة التي تُشكِّل أُسرةً واحدة، وأصابتْها حالةُ كراهيةٍ تخفُّ حِدَّتها تدريجيًّا. إنها تشكِّل، معًا، حالةً من العار يتنافى مع مبدأ أن نعيش حياتنا. شيءٌ ما يرسخ فينا من أعماق التاريخ، وهو تاريخُ ثلاثةِ أبناءٍ من هذه المرأة ذات القلب الأبيض: أمي التي اغتالها المجتمع. نحن من هذا المجتمع الذي أصاب أمي بحالةِ يأس، وهذا هو السبب الذي جعل أُمَّنا أكثرَ حبًّا وأكثرَ ثقة، وأن نكره الحياة، ونكره أنفسنا.

لم تلحظ أُمُّنا ما أصبحنا عليه ابتداءً من هذا المشهد اليائس. أتكلَّم دائمًا عن غِلمان، وأولاد. ولكنْ هل هذا أمرٌ متوقَّع؟ فكيف استطاعتْ أن تُسكت ذلك الذي أصبح حكايتها نفسها؟ هل تُكذِّب وجهها وعينَيها وصوتها، وحبها؟ يمكنها أن تموت، وأن تنتحر؛ فتُشتِّت تلك المجموعة الميتة، وتجعل ابنها الأكبر ينفصل عن أخويه الصغيرَين. لكنها لم تفعل؛ فهي غير حريصة على ذلك، وهي تعارضه وغير مسئولة عنه، وهي كلُّ هذا مجتمِعًا. لقد عاشت، وأحببناها ثلاثتُنا، إلى أبعد درجات الحُب. ولنفس هذا السبب، لم تستطع، ولم يمكنها، أن تسكت، وأن تخبئ وتكذِّب شيئًا بشأن الاختلافات التي تجمعنا نحن الثلاثة.

استغرق هذا وقتًا طويلًا؛ استغرق سبعَ سنوات. بدأ عندما كنتُ في العاشرة، ثم أصبحتُ في الثانية عشرة، ثم ثلاث عشرة سنة، أربع عشرة. خمسة عشر عامًا، ثم ستة عشر، وسبعة عشر عامًا.

استغرق هذا وقتًا طويلًا؛ سبع سنوات. ثم تخلَّى الأملُ أخيرًا، فهجَرَنا. هجَرَ أيضًا كافَّة المحاولات ضدَّ بقائه أمام المحيط، وأن يبقى تحت ظِلال الشُّرفة، حيث كنَّا نتطلَّع إلى جبل سيام. ذلك الجبل الذي ممَّا يبدو بشِعًا وسط أشعَّة الشمس، أسوَد تقريبًا. وها هي الأم أخيرًا تبدو هادئةً وناضجة. أمَّا نحن، فأطفالٌ أبطالٌ يائسون.

مات الأخ الأصغر في شهر ديسمبر عام ١٩٤٢م أثناء الاحتلال الياباني. تركتُ سايجون بعد حصولي على شهادتي الثانية في عام ١٩٣١م. لم يكتُب لي سوى مرَّةٍ واحدةٍ طوالَ عشر سنوات، دون أن أعرف لذلك سببًا. وكأنَّ الخطاب متَّفق عليه؛ فهو مُعادُ الصِّياغة، وبلا أخطاء، ومصحَّح. أخبرني أنَّه على ما يُرام، وأنَّ الأمور تسير طبيعيةً في المدرسة. كان خطابًا طويلًا من صفحتَين كاملتَين. عرفتُ خطَّه الطفولي. أخبرني أيضًا أنَّ لديه شقةً وسيارة، وحدَّثني عن ماركتها، وأنه عاد لممارسة لعبة التنس، وأنه بخيرٍ وكلُّ شيءٍ يسير طبيعيًّا، وأنَّه يُقبِّلني، ويحبُّني بشدَّة. لم يتكلَّم عن الحرب، ولا عن أخي الأكبر.

أتكلَّم دائمًا عن أخويَّ كأنَّهما كائنٌ واحد. مثلما صنعتْهما أُمُّنا؛ فأقول «أخويَّ». وهي تسميةٌ تمارسها الأمُّ خارجَ نطاق الأُسرة؛ فتقول لي «ولديَّ» تتكلَّم دائمًا بحماسٍ عن ولدَيها باعتزازٍ شديد. وفي الخارج لا تقوم بتحديدهما، ولا تقول إنَّ الولد الأكبر أقوى من الثاني. تقول فقط أنَّه أقوى إخوته، مثلما يفعل مزارعو الشمال. كانت فخورةً بقوَّةِ ولدَيها، وكأنَّهما أخواها. وكأنَّ ابنها يحتقر الضعفاء، كما قالت عن حبيبي القادم من شولن، مثل ما قاله أخي الأكبر. لم أكتب له هذه الكلمات؛ إنها كلماتٌ أصبحتْ أشبه بالجثث العفِنة الموجودة في الصحارى. أقول «أخويَّ» لأنني هكذا أستعذب نطقها، وقد ظللت أفعل ذلك من ناحيةٍ أخرى، بعد أن كبر أخي الأصغر وأصبح شهيدًا.

لم تكُن أُسرتنا تشهد أيَّ احتفال، حتى في أعياد رأس السنة، ولم يكُن لدينا أيُّ مناديلَ مطرَّزة ولا أزهار أيضًا ولا نقوش، أو موتى نذكُرهم في مناسبات. كان لدينا شيءٌ واحد؛ أنَّ أخي الأكبر أصبح قاتلًا. أمَّا الأخ الأصغر، فقد مات من قِبَل أخيه الأكبر. أمَّا أنا فقَدْ رحلتُ وخلعتُ نفسي عنهما. حتى موته، فإنَّ أخي الأكبر قد ناله وحده.

في تلك الفترة، أصاب أمي جنونٌ من شولن، ومن الصورة، ومن العاشق. لم نعرف بالضبط ماذا حدَثَ في شولن، ولكنني كنتُ أراها ترقُبني. وكأنَّها تشكُّ في شيءٍ ما. كانت تعرف ابنتها. هذه الطفلة، تتحرَّك حول هذه الطفلة، منذ بعض الوقت. يبدو عليها شيءٌ غريب، وكأنها تتحشَّم من أجل جذب الانتباه. ويصبح كلامها أكثرَ بطئًا من المعتاد، وتغدو أكثر جديَّة من كلِّ شيء يسبِّب لها التَّوهان؛ فتغيَّرتْ نظرتها، وأصبحت الفتاةُ نسخةً من أمِّها، من بؤس أمِّها. وكأنَّها حاضرةٌ لأعمالها. ويظهر الرعب فجأةً في حياة أمي. لقد انزلقت ابنتُها، بسرعة، ناحيةَ الخطر؛ لذا فهي لن تتزوج أبدًا. ولن تجرؤ على الظهور أمام الناس. لقد جردتْها ابنتُها من الشَّرف؛ فأصبحت وحيدةً، ضائعة. وعندما تندلع المشاكل تُلقي أمي بنفسها عليَّ، ثم تحبسني في الغرفة، وتكيل لي اللَّكمات بيدَيها، ثم تصفعني، وتجرُّني من ملابسي، وتقترب منِّي، وتشمُّ جسدي، وتصرخ وتقول إنَّها ستطردني من البيت، وإنها تأمُل أن تراني ميتة، وأنَّ أحدًا لن يرغبني. وتبكي وهي تطلب، كل ما يمكنها أن تفعله في هذه المناسبة، خاصةً أنَّ الخروج من المنزل أصبح يُصيب المكانَ أكثر بالعفن.

ويقف الأخُ الأكبر وراء جدران الغرفة المغلَقة.

ويردُّ الأخ على أمِّه، ويقول لها إنَّها على حقٍّ في أن تضرب الطفلة. ويصبح صوته مُلبدًا، وحميمًا وعميقًا، ويقول لها إنَّه يجب أن يعرف الحقيقة مهما كان الثَّمن. وعليه أن يعرف؛ كي يمنع هذه الصغيرة ألَّا تضيع، وكي يمنع أمي من أن تُصاب باليأس. فتضرب الأم بكلِّ قوَّتها، بينما يصرخ الأخ الأصغر لأمِّه أن يتركها في حالها، ويذهب إلى الحديقة، ويختفي. يخاف أن تقتلني أمُّه، خائفٌ، خائفٌ دائمًا من هذا المجهول، من أخي الأكبر. ثم يهدأ. بكتْ أمِّي على خرابِ حياتها، وعلى طفلتها. بكيتُ معها، وكذبت حين أقسمت بحياتي أنَّ شيئًا لم يحدُث لي، لا شيء سوى قُبلة. قلت: كيف تريدين أن أتصرَّف؟ كيف تريدين أن أفعل مع حبيبي، إنه شيءٌ أكثر قُبحًا وسخافة. أعرف أنَّ أخي يلتصق بالباب ويُنصت، ويعرف ما تفعله أمي. يعرف أنَّ الصغيرة تُضرب، ويريد أن يستمرَّ الوضع هكذا. حتى لو اقترب الأمر من حدِّ الخطر؛ فأمي لا تريد أن تُبلغ هذا الأمر إلى أخي الأكبر الذي سيمتلئ بالغضب والثورة.

كنَّا في تلك الآونة صغارَ السنِّ، وكانت تدور مشاحناتٌ بين أخويَّ بصفةٍ دائمة. هناك احتجاجٌ بادٍ، يبدو في كلاسيكية أخي الأكبر الذي يقول للأصغر: اخرجْ من هنا. وعلى التوِّ يصيح: اضربْ؛ فيَتَشاحَنانِ دون أنْ يتبادلا كلمةً واحدة، نسمع فقط لهاثهما وأنينهما، وصوت ضرباتهما المكتوم. وكالعادة، فإنَّ أمي تُصاحب هذه المواقف بمجموعةٍ من الصُّراخات المدوِّية.

إنهما مدانان لنفس المنبع من الغضب، هذا الغضب الأسود الذي لا يعرفه الإخوة ولا الأخوات أو الأمهات، فالأخ الأكبر يعاني أنَّه لم يمارس شرَّه بحُريَّة، وأنَّه لم يتسلط بهذا الشَّر. ليس هنا فقط، ولكن في كلِّ مكان. وفي مثل هذا المشهد من الرعب البَشِع يمتثل الأخُ الأصغر دومًا لأخيه الأكبر.

وعندما يتشاجران نشعُر بخوفٍ مساوٍ من أنْ يقتل أحدهما الآخر؛ فتقول الأم إنَّهما كانا دائمي الشِّجار، وأنهما لم يلعبا قَط معًا، ولم يتبادلا الكلام أبدًا، وأن الشيء الوحيد المشترَك بينهما هو أمُّهما، وبصفةٍ خاصة هذه الأختُ الصغيرة. ولا شيءَ سوى رابطةِ الدم.

أعتقد أنَّ أمي كانت تنادي على ابنها الصغير «بطفلي» … كانت تسمِّيه أحيانًا بهذا الاسم. أمَّا عن ولدَيها الآخَرَين فتقول «الصغيرَين». ولم نكُن نتكلَّم عن كلِّ هذا في خارج المنزل. وقد تعلَّمنا أن تُسكتنا عن أن نطلُب أساسيات حياتنا، وتلك هي المأساة. ثم عن كلِّ ما يتبقى لنا، أهل الثقة القدامى، وتبدو الكلمة نشازًا. إنَّهم طعامُنا اليومي. ولقاءاتنا في خارج المكاتب، في شوارع سايجون أولًا، ثم في السُّفن الراسية والقطارات، ثم في كلِّ مكان.

استولى هذا، فجأةً، على أمي. وخاصةً في فصل الجفاف. وغسلت البيتَ بأكمله. وكي تنظفه قالت إن هذا بدافع التطهير. ثم تشعُر بالانتعاش؛ فقد بُني البيت فوق أرضٍ لبنة تعزلها عن الحديقة والثعابين والعقارب، وعن النمل الأحمر، وفيضان نهر الميكونج الذي يحدُث عندما تهبُّ الزوابع، وحيث تنمو الحشائش الطويلة بارتفاعٍ يصِلُ إلى أسطح المنازل. ممَّا يمكِّن غسْل البيوت بجرادلَ كبيرةٍ من المياه، أو الاستحمام بداخلها كأنَّها حديقة. وفي الداخل، توضع المقاعد فوق الموائد. أمَّا المنزل فقد ارتوى، وغرق البيانو الموجود بالقاعة الصغيرة في المياه. وانسالت المياه فوق الدَّرَابزين، زاحفةً نحو البَهْو والمطبخ. بدا الخدَم سعداء. كانوا معًا يرشُّون المياه، ثم يغسلون الأرضَ بالصابون الذي اشتريناه من مارسيليا، والجميع حُفاةُ الأقدام، والأم أيضًا. الأم تضحك. ليس لدى الأم ما تقوله ضدَّ أيِّ شيء؛ فالمنزل بكامله معطَّر، وتنبعث من الأرض رائحةٌ ذكيةٌ نديَّةٌ بعد العاصفة. رائحةٌ تبعث على الجنون من الفرحة، خاصةً عندما تختلط بالروائح الأُخرى. رائحةُ صابون مارسيليا، رائحةُ النقاء والبهجة والنصاعة والبياض. ورائحة أُمِّنا، الطهارةُ المُهابة هي أُمُّنا. ينزل الماء حتى الممرَّات، وتأتي أُسرات الخدَم وزوار الخدَم أيضًا، وأطفال المنزل المجاوِر من البِيض. وتشعُر الأم بالسعادة؛ لهذا النظام ربما. إنَّ الأم تشعُر، أحيانًا، بالسعادة. في زمن النسيان. هو زمنُ الغسيل الذي يمكن أن يجلب السعادة لأمي؛ فتذهب إلى الصالة، وتجلس أمام البيانو وتعزف المقطوعات التي تحفظها عن ظَهْر قلْب، والتي تعلمتْها في المدرسة الابتدائية، وتغنِّي وأحيانًا تعزف وهي تضحك، ثم تقوم وترقص وهي تغنِّي. ويفكِّر كلُّ واحد، والأمُّ أيضًا، يمكنهم أن يكونوا سعداءَ في هذا المنزل القذِر الذي تحوَّل، فجأةً، إلى بِركةٍ وحقلٍ على شاطئ النهر.

ها هما الشابان الصغيران، الفتاة الصغيرة، والأخ الأصغر هو أول مَن يتذكَّر. يتوقَّفان فجأةً من الضحك، ويسيران ناحيةَ الحديقة حتى يأتي الليل.

في هذه اللحظة التي أكتُب فيها، أذكُر أنَّ أخي الأكبر لم يكُن في فنلونج عندما نغسل المنزل بالمياه الكثيرة. كان عند الوصيِّ، قسِّ قريةِ لوت وجارون.

قد يُصيبه الضحك أحيانًا. ولكن أبدًا، لم يضحك مثلنا أو أكثر منَّا. وقد نسيتُ شيئًا؛ نسيتُ أن أقول إننا كنَّا أطفالًا ضَحوكِين، أنا وأخي الأصغر كنَّا ضاحِكَين حتى النَّفس الأخير من حياتنا.

أرى الحرب تحت نَفْس ألوان طفولتي. امتزج زمنُ الحرب بنفوذ أخي الأكبر، وهذا، بلا شكٍّ، لأنه في أثناء الحرب مات أخي الأصغر بداء القلب، كما قلتُ مسبقًا. لقد امتثل أخي الأكبر وهاج، كما أعتقد جيدًا، ولم يعُد يراه ثانيًا. لم يرَه قَط أثناء الحرب. وهكذا، لم يكُن يهمُّني كثيرًا أن أعرف هل هو حيٌّ أمْ ميِّت. فقد كنتُ أرى الحرب، مثلما يراها، منتشرةً في كلِّ مكان، في كلِّ الأرجاء. كان يسرق، ويُسجن، في كلِّ مكانٍ هناك بكلِّ مزيج. كأنَّه حاضرٌ في الجسد، وعلى البال. في الأمس، وفي النوم. في كافَّة أوقاته، يصبح فريسةً للإحساس الثَّمل للسيطرة على أرضِ جسَدِ طِفلة، جسدٍ أقلَّ قوةً، كأنَّه شعبٌ مقهور. كلُّ هذا لأنَّ الشرَّ كان هناك، وأيضًا عند الأبواب … قريبًا من الجِلد.

عاودْنا الذهابَ إلى شقَّته، نحن الاثنَين ولم نكفَّ عن الحُب.

لم أكُن أعود إلى البنسيون أحيانًا؛ فأنام على مقربة منه. لا أريد أن أنام بين ذراعَيه، في دفئه. ولكنني أنام في نفس الغرفة، ونفس السرير. وأشعُر أحيانًا بافتقاد المدرسة. نذهب إلى المدينة ليلًا لنتناول طعامنا. يفتح الدشَّ؛ إنه يقدِّس ذلك. يجفِّفني. رغم كل شيء، فأنا المفضَّلة في حياته. يعيش في فزعِ أن أقابل رجُلًا آخَر. أمَّا أنا فلَمْ أكُن أخاف من شيءٍ كهذا قَط. جرَّبَ خوفًا آخر، ليس لأنني بيضاء، ولكنْ لأنني صغيرةُ السنِّ. صغيرة السنَّ لدرجةٍ يمكن أن تؤدِّي به إلى السِّجن إذا تمَّ اكتشافُ حكايتنا. طلَبَ منِّي أن نستمرَّ في الكذب على أمي، وخاصةً أخي الأكبر، وألَّا أُخبر أحدًا بشيء؛ واستمررتُ في الكذب، وضحكتُ من خوفه. قُلت له أنَّنا بالِغُو الفقر، ممَّا قد يدفع أمي أيضًا أن تلجأ إلى القضاء. ومن ناحية أخرى فالقضايا التي دخلتْ فيها قد خسرتْها. وخاصةً التي رفعتْها ضدَّ مصلحة المساحة، وضدَّ المديرين، وضدَّ المحافظين والقانون. لم تعرف ماذا تفعل لهم. احتفظتْ بهدوئها وانتظرتْ. وظلَّتْ تنتظر؛ لم تستطع شيئًا. صرختْ ولعنتْ حظَّها. وقالت إنها يجب ألَّا تكون كذلك. وكانت على شفا حفرة من الإحساس بالخوف.

كانت ماري كلود كاربنتر أمريكية. وكانت، كما أتذكَّر وأعتقد، من بوسطن. وكانت عيناها وضَّاءتَين للغاية. أزرقُ رَمادي. في عام ١٩٤٣م. كانت ماري كلود كاربنتر شقراء؛ رغم أنَّها على وَشكِ الذُّبول. وجميلةٌ كما أعتقد، وذات ابتسامةٍ خفيفة، سرعان ما تختفي وتذوب في الضوء، لها صوتٌ سرعان ما يرتدُّ صداه. خفيضٌ ونشاز في حِدَّته. كانت في الخامسة والأربعين، أو ما شبه. كانت تسكن الشقة رقم ستة عشر. على مقربة من «الما». كانت في آخِر شقة. في أكثر الشقق اتِّساعًا في عمارة، تطلُّ على نهر السين. تذهب لتناول العشاء عندها في الشتاء، وللغداء في الصيف. كانت الوجبات مجهَّزة عند أحسن مطاعم باريس. كانت شهيَّة دومًا. ولكنَّها، بالتقريب، غيرُ كافية. لم نرَ مثيلتها سوى في منزلها؛ فلا يوجد لها مثيلٌ في أيِّ مكانٍ آخر. كان هناك أحيانًا ضيوف، ودائمًا هناك واحدٌ أو اثنان أو ثلاثة من الأدباء. جاءُوا مرَّةً واحدة. ولم نرَهم بعد ذلك قَط. لم أعرف أين تقابلتْ معهم، ولا كيف تعرَّفتْ عليهم أو لماذا دعتْهم. لم أسمعها تتكلَّم عن أيٍّ منهم، ولم نسمعها تتكلَّم عن أيٍّ من أعمالهم. فتناوُل الطعام يستغرق بعض الوقت. تتكلَّم طويلًا عن الحرب، وعن معركة ستالينجراد. حدث ذلك في نهاية شتاء عام ١٩٤٢م. كانت ماري كلود كاربنتر كثيرةَ الإنصات. تستمع كثيرًا وتتكلَّم قليلًا، وتبدو مندهشةً دومًا من الأحداث التي تفوتها، وتضحك بسرعةٍ شديدة في نهاية الوجبة، وتعتذر أنَّ عليها أنْ تذهب بسرعةٍ؛ فلَدَيها ما تفعله، كما تقول. ولم تقُل شيئًا عمَّا تفعله. وعندما يكون العدد كافيًا، تبقَى هناك ساعةً أو ساعتَين بعد ذهابها. تقول: ابقوا على راحتكم. وفي غيابها، لا يتكلَّم أحدٌ عنها. فكما أعتقد أنَّ أحدًا لا يمكنه أن يتكلَّم عنها؛ لأنَّ أحدًا لا يعرفها. تذهب وتعود دائمًا، وقد ارتسم على وجهها نفسُ الانطباعات، كأنَّها تحسُّ بنوعٍ من الكابوس الأبيض. تعود وكأنَّها قضتْ بضعَ ساعات مع قومٍ غرباء. في وجود ضيوف يمرُّون بنفس الحالة، لا تعرفُهم بالمرَّة. يعيشون لحظاتهم بلا غدٍ، وليست لديهم أيُّ دوافعَ إنسانية. وكأنها اجتازت الحاجز الثالث، كأنَّها قامت برحلةٍ في قطار. أو تنتظر في عيادةِ طبيبٍ أو في فندقٍ أو مطار. في الشتاء، نتناول غداءنا في شُرفةٍ كبيرة تطلُّ على نهر السين، ونحتسي القهوة في الحديقة التي تشغَل سقيفةَ العمارة. كان هناك حمامُ سباحة، لا أحدَ يستحمُّ فيه. يطلُّ على باريس بطريقها الخالية، والنهر والشوارع، والأزقَّة خاويةٌ وزهور التقلايا. أتطلَّع إلى ماري كلود كاربنتر كثيرًا. طيلةَ كلِّ الوقت، لم تُبدِ اهتمامًا بذلك. لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي عن هذا. أنظُر إليها كي أجد ماري كلود كاربنتر. لماذا تتميز أكثرَ من الآخَرين؟ لماذا اختارتْ أن تكون بعيدةً عن بوسطن؟ ولماذا هي امرأةٌ ثريَّة؟ ولماذا لا يعرف أحدٌ عنها شيئًا إلى هذا الحدِّ؟ لا شيء. بل ولماذا هذه الاحتفالات كأنَّها شيءٌ جادٌّ؟ لماذا؟ لماذا تبدو عيناها بالغةَ الشُّرور إلى أبعدِ أعماق حدود البصر، وكأنها جزءٌ من الموت؟ لماذا؟ ماري كلود كاربنتر. لماذا كلُّ هذه الأثوابُ التي ترتديها وهي، بشكلٍ عام، تبدو وكأنَّها غيرُ مخصَّصة لها، وكأنها مغطَّاة بجسدٍ آخَرَ، أثواب محايدة، جامدة، فاتحة الألوان، بيضاء كأنها الصيف في قلب الشتاء؟

هناك أيضًا بيتي فرنانديز، التي تتمثَّل في ذاكرة الناس الأقلِّ إنتاجًا، القائمين في رُكن الضياء، اللامعة التي تنبعث من النساء. بيتي فرنانديز هي أيضًا امرأةٌ غريبة، غريبةٌ أيضًا في نطق اسمها. ها هي تسير في شوارع باريس عوراء، ضعيفة البَصَر. تقوم بتضييق عينَيها كي تعرف أنَّ كلَّ شيءٍ يسير على ما يُرام. تميل بإشارةٍ خفيفة: صباح الخير. هل كلُّ شيءٍ على ما يُرام؟ ماتت منذ أمدٍ طويل، ربما منذ ثلاثين عامًا. أذكُر تكريمها. لقد مرَّ وقتٌ طويل ولم أنسَ؛ فلا شيء فيها إلا ومسَّني، كلُّ ما تتَّسم به من سمات. لا تهتمُّ بالظروف ولا بالعصر، ولا البرد، أو الجوع، ولا بهزيمة ألمانيا، ولا التغلغُل في أعماق الجريمة. تسير في الشارع كأنها تجتاز التاريخ. فهذه الأشياء، هذه الأشياء مرعِبة، فهنا أيضًا العيون وضَّاءة والثوبُ ورديٌّ وقديم، ومليء بالأتربة. يلمع شَعرها الأسود في شمس النهار. رقيقةٌ، وطويلةٌ وكأنَّها مرسومةٌ بالحبر الصيني. تبدو عليها المهابة. يتوقَّف الناس وينظُرون إليها بدهشة. يتطلَّعون إلى مهابةِ هذه المرأة التي تمشي دون أن تلتفت حولها. امرأةٌ ساميةٌ لا تعرف قَط من أين جاءت. ثم نتساءل أنها لا يمكن أن تأتي سوى من هذه البُقعة من الأرض؛ فهي جميلةٌ تؤثِّر في مَن تحدِّثه. ترتدي أزياء مطرَّزة على النمط الأوربي القديم. أمَّا باقي الأنسجة؛ فإنها مقصَّبة بخيوطٍ حريرية. ملابسُ قديمةٌ انتهتْ مُوضتها، كأنها مصنوعة من ستائرَ قديمة. بقايا أشياء، قطع أثرية، قصاصات بالية من عِنديَّات الحائكين الكِبار. جلودُ ثعالب قديمة مقروضة. قناديس قديمة. ورغم ذلك يبدو جمالها مميَّزًا. كانت سريعةَ التأثُّر بالبرد. تبدو وكأنها قادمةٌ من منفًى، وأن لا شيءَ يستأهلها. ترتدي أشياءَ واسعةً عليها. تبدو جميلةً. تسير كأنها ترفل. بالغة الرِّقة. لا تحمل حقيبةً في يدها، ومع ذلك تبدو جميلة. لقد صُنعت على هذا المنوال، برأسها وجسدها؛ فكلُّ شيء يمسُّها يشارك على التوِّ، ودائمًا، في هذا الجمال.

استُقبلتْ بيتي فرنانديز. كان يمتلك مطعم «جور»، حيث كنَّا نذهب أحيانًا. إنَّه نفس المكان الذي كان يذهب إليه دريو لاروشيل. كاتبٌ يعاني من الكبرياء بشكلٍ ظاهر. يتكلَّم قليلًا حتى لا يتنازل عن كبريائه. لصوته عمقٌ مزدوَج. بلغةٍ كأنها مترجَمة، يتكلَّم بصعوبة. ربما هناك في براشيلاش أيضًا. لا أتذكَّر تفاصيلَ ذلك جيدًا. أسِفتُ على هذا كثيرًا. لم يأتِ سارتر قَط إلى هناك. جاء أيضًا شعراء من مونبارناس، لكني لم أعرف اسمَ أيٍّ منهم. لم يكُن هناك ألمان، ولم نتحدَّث في السياسة. كنا نتكلَّم عن الأدب؛ فيتحدَّث رامون فرنانديز عن بِلزاك، ونسمعه يتحدَّث حتى ساعة متأخِّرة من الليل. يتكلَّم عن معرفة. لقد نسيتُ الشكل الذي كان يبدو عليه، لكنه كان يضنُّ بمعلوماته، وأيضًا بآرائه. تكلَّم عن بلزاك كأنَّه هو نفسه، وكأنه جرَّب يومًا أن يكون بلزاك. رامون فرنانديز، كانت لديه كنوزٌ ثمينة في المعرفة. بطريقةٍ تبدو ضروريةً وواضحةً في أن يخدم المعرفة، ودون أن يجعلك تحسُّ بضروريتها وثقلها. إنه أحد الرجال الأنقياء. كنَّا نبدو وكأننا في عيدٍ حين نلتقي في الشارع، أو في المقهى. كان سعيدًا لرؤيتي؛ يُحيِّيني بامتنانٍ ويردِّد: صباحُ الخير، هل أنتِ على ما يُرام؟ ينطقها باللغة الإنجليزية، بلا فواصل، وبضحكةٍ رنَّانة … وأثناء الضحكات يُلقِ نكاتٍ حول الحرب، تُعبِّر عن معاناته المميَّزة التي تنسال منه؛ فالمقاومة عنده مثل حبَّات البُن، والجوع أشبه بالبرد. والشهيد إنسانٌ جوعان. أمَّا بيتي فرنانديز فلا تتكلَّم سوى عن الناس الذين تلمحهم في الشارع أو عمَّن تعرفهم: كيف هم يسيرون؟ وعن أشياء لا تزال معروضةً في واجهات المحلات، وعن توزيع الكميات الإضافية من الألبان. والسمك والمحاليل المسكِّنة لمَن تنقُصهم، وأيضًا عن البرد والجوع. كانت تتحدَّث دومًا عن تطبيق الوجودية. تبقى هناك محاطةً بمحبةٍ خاصة. بالغة الشاعرية، وبالغة الرِّقة إزاءَ رجال المقاومة، وآل فرنانديز. وأنا، وبعد عامَين من الحرب، أصبحتُ عضوًا في الحزب الاشتراكي الفرنسي. المعادلة مطلقة؛ إنها نفس الشيء، ونفس الحساسية، ونفس الجاذبية، ونفس الضعف والهشاشة. فلْنقل نفس المعتقدات التي تدفع للإيمان بالحلِّ السياسي للمشاكل الشخصية. لا تزال بيتي فرنانديز، تتطلَّع إلى الشوارع الخالية من أثر الاحتلال الألماني، تنظُر إلى باريس. وميادين طيور القتلايا المليئة بالزُّهور، مثل هذه المرأة الأخرى، ماري كلود كاربنتر، التي كانت تُقيم ولائمها في نفس الفترة.

صحِبَها من البنسيون في سيارته الليموزين السوداء، ثم توقَّف قليلًا قبل أن يدخُلا حتى يطمئنَّ أنَّ أحدًا لا يراهما، وأنَّ الليل قد حلَّ. نزلتْ وجرَتْ، ولم تلتفتْ إليه. وما إن اجتازَت البوَّابة، حتى لاحظتْ أنَّ الفناء الكبير الواسع مُضاءٌ أيضًا. وبمجرَّد أنْ عبرَت الممرَّ، حتى رأتْ أمَّها تنتظرها. بدا عليها القلق، والحميَّة، دون أن تبتسم، سألتْها: أين كنتِ؟ ردَّت: لم أستطع النوم. لم تقُل لماذا، ولم تطلُب هيلين لاجونيل منها ذلك، خلْفَ القبَّعة الوردية، وفكَّت جدائلها الليلية. قالت هيلين إنهم خابروها في الهاتف أنَّها لن تذهب بعد ذلك إلى المدرسة. وهكذا عرفتْ أنَّه يجب عليها أن تخضع للحراسة العامة في البنسيون، هناك الكثير من البنات مثلها. جميعهنَّ من البِيض. هناك مصابيحُ كبيرةٌ معلَّقة في الأشجار. وبعض صالات الدِّراسة لا تزال مُضاءةً كذلك. هناك تلميذاتٌ لا زِلنَ يعملنَ. وأُخرياتٌ يبقَينَ في الفصل من أجل الثرثرة، أو يلعبن الكوتشينة، أو يقُمن بالغناء. لا توجد مواعيد نومٍ للتلميذات؛ فالجوُّ حارٌّ وكأنَّه نهار. فيقضين الليلَ حسبما يشَأنَ، وكما يُرِدنَ البناتُ من الحرَّاس. فنحن البيضاوات الوحيدات من بنسيون الدولة. هناك الكثير من الملوَّنات. ترَكَ أغلبُهنَّ آباءهنَّ؛ فهو إمَّا جنديٌّ أو بحَّار أو موظَّفٌ صغير في الجمرك أو البريد أو الخدمات العامة. جاء أغلبهنَّ من مجلس المساعدات الشعبية. هناك أيضًا بعض الخلَّاسات، تعتقد هيلين لاجونيل أنَّ الحكومة الفرنسية تتولَّى تربيتهنَّ؛ كي تجعل منهن ممرِّضات في المستشفيات، أو حارسات على اليتامى. تُؤمِن هيلين لاجونيل أنَّهم سوف يُرسلونها أيضًا لتمريض مَرضَى الكوليرا أو الطاعون. هذا ما تُؤمِن به هيلين لاجونيل، وتبكي لأنَّها لا تريد إحدى هذه الوظائف. وتتكلَّم دائمًا كي تنقذ نفسها من البنسيون.

ذهبتُ لأرى ملاحِظة الخدمة. امرأةٌ شابَّة ملوَّنة. تراقبني كثيرًا أنا وهيلين، وتقول: لن تذهبا إلى المدرسة، ولن تناما هنا هذه الليلة. نحن مضطرون أن نُخبر أُميكما. قُلت لها إنني لم أفعل شيئًا من ناحيتي. ولكنْ بدءًا من هذه الليلة، ومن الآن فصاعدًا، سوف أحاول أن أعود كلَّ مساءٍ؛ كي أنام في البنسيون، وإنني كنتُ على وشكِ أن أُخبر أمي بذلك. نظرَت الحارسة إليَّ وابتسمتْ.

وعاودَت الكَرَّة، وتمَّ إخبارُ أمي؛ فجاءتْ لتقابل مديرة البنسيون، وطلبت منها أن تتركني على حريتي في هذا المساء. وألَّا يهتمُّوا بالساعة التي أعود فيها، ولا يجبرونني أن أذهب معهم في نُزهات يوم الأحد مع نزيلات البنسيون، وقالت: إنها طفلةٌ اعتادتْ على الحرية دائمًا، وبدون هذا سوف تفقدني. أنا أمُّها ولا أستطيع شيئًا إزاءَ هذا. إذا أردتُ أن أحتفظ بها؛ فيجب أن أتركها على حريتها. وافقَت المديرة؛ لأنني بيضاء، ومن أجل سمعة البنسيون. فوسط أغلب الملوَّنات يجب أن تكون هناك فتياتٌ بيضاوات. قالت أمي أيضًا أنني أعمل جِديًّا في المدرسة ما دمتُ حرَّة هكذا. وعمَّا سيحدث مع ولدَيها المزعجَين؛ فالأمر جسيم. ودراسة الصغيرة هي الأمل الوحيد الباقي لها.

وتركتْني المديرةُ أُقيم في البنسيون، وكأنَّه فندق.

وبعد قليلٍ أصبحتُ أرتدي في إصبعي خاتمًا كفتاةٍ مخطوبة. ومع هذا، لم تُعلِّق الحارسات بملاحظة. شككنَ أنني غيرُ مخطوبة. ولكنَّ الخاتم يساوي مبلغًا ثمينًا، ولم يشكَّ أحدٌ أنَّه من الماس الأصيل. ولم يقُل أحدٌ شيئًا؛ بسبب سعرِ هذا الماس الذي أُهدي إلى فتاةٍ صغيرة للغاية.

عُدت قريبًا من هيلين لاجونيل. تمددتْ فوق مقعد وبكتْ؛ لأنها اعتقدت أنني سوف أترك البنسيون. جلستُ بجانبها على المقعد. ودُهشتُ لجمال جسد هيلين لاجونيل الممدَّد بجواري. هذا الجسد الجميل، وقد انطلق سراحه. جسد هيلين لاجونيل هو أحد الأشياء الأكثر جمالًا التي وهبها الله لبَشَر. شيء لا يُقارن. هذا التوازن بين القوام والطريقة التي بها يحمل الجسد صدرها من الخارج. كأنهما شيئان منفصلان. لا شيءَ أكثر غرابة من هذه الاستدارة الظاهرة في صدرٍ ممدَّد. هذه الأشياء الخارجية الممدودة نحو الأيدي. أشبه بأجسادِ الحمَّالين الصغيرة، أندهش أمام هذه الروعة. جسد الرجال ذوي التكوينات النحيلة، المحجور عليها؛ لا تبرز أبدًا مثلَ تكوينات هيلين لاجونيل، التي لن تبقى طويلًا، ربما حسبما أتصوَّر حتى الصيف. هذا هو كلُّ شيء. جاءتْ من أعالي الدلتا؛ فأبو هيلين لاجونيل موظَّف بريد، وجاءت أثناء السنة الدراسية، قبل بعض الوقت، خائفةً وهي تجلس إلى جوارك. تظلُّ هناك دون أن تقول شيئًا. تبكي باستمرار. ذات بشرةٍ وردية وسمراء كالجبل. عرفناها دائمًا. وفي كلِّ الأطفال ذوي الجِلد الشاحب الخُضرة، والحرارة الشديدة. لم تذهب هيلين لاجونيل إلى مدرسة الليسيه؛ فهي لا ترغب أن تذهب إلى المدرسة. فهيلين لم تتعلَّم، ولم تُحصِّل درسًا، ولم تتلقَّ الدروس الأولية في البنسيون. لكنَّ هذا لن يُفيد في شيء. تبكي وهي تستند على جسدي. أُداعب شَعرها، ويديها. قُلت لها إنني سأظلُّ معها في البنسيون، لا تعرف أنَّها بالغة الجمال. هيلين لاجونيل، لا يعرف أهلها ماذا تفعل. يعملون على تزويجها بأقصى سرعة. وجدوا كلَّ الخاطبين الذين يريدونها، ولكنَّ هيلين لاجونيل لا تريدهم؛ فهي لا تريد أن تتزوَّج. تريد أن تعود مع أمها. هي هيلين ل. (هيلين لاجونيل). فعلتْ أخيرًا ما تريده أمُّها؛ إنها أكثر جمالًا منِّي. ومن قبَّعة البهلوان التي أرتديها، والحذاء المدبَّب الطرَف. وهي أكثر طلبًا للزواج منِّي. هيلين لاجونيل يمكن أن تتزوَّج، وأن ترتبط بالحياة الزوجية، لكنَّها تُخيفها. قالت لي إنها لا تعرف لماذا تخاف ولا تفهم سرَّ ذلك؛ فقد طلَبَ منها أهلها أن تبقى هنا وتنتظر.

هيلين لاجونيل، لا تعرف أيضًا ما أعرفه؛ إنها في السابعة عشرة، مثلما كنت أحدس. ومع ذلك، فهي لم تعرف قَط ما أعرفه.

جسدُ هيلين لاجونيل ثقيلٌ، وأيضًا بريء. وبشرتها رقيقة، أشبه بقِشر الفواكه. وهي لا تكاد تحسُّ به؛ يبدو موهومًا قليلًا، بل كثيرًا. ممَّا يُعطي لهيلين لاجونيل الإحساس أن جسدها يقتُلها، ويُثير فيها الرغبة أنْ تقوم وتقتل نفسَها بيدَيها. هذه الأشكال من زهور الدَّقيق، تحملها دون أن تعرف أسرارها. وتكشف هذه الأشياء حتى تعجنها الأيدي، وحتى تأكلها الأفواه. دون أن تحتفظ بها وأن تعرف شيئًا عنها، ودون أن تعرف شيئًا أكثرَ عن قوة جسدها الأسطورية. كنتُ أريد الْتهام صدر هيلين لاجونيل، مثلما يُؤكَل صدري في غرفة المدينة الصينية؛ حيث أذهب كلَّ مساءٍ آملةً في المعرفة. وأن أغمد هذا الصدرَ المصنوع من زهور الدقيق البارزة في طرْفه.

لقد كهلتُ على رغبة هيلين لاجونيل.

وكهلتُ على الرغبة.

رأيتُها. وكان لها نفس البشرة التي يمتلكها رَجلُ شولن. هناك شيءٌ يشعُّ منه شمسٌ بريئة. تقوم بتفريخ نفسها بشكلٍ مكرَّر، في كلِّ حركة، وفي كلِّ دمعة. لكلٍّ من فشلها، ومن جهالاتها. هيلين لاجونيل، هي المرأة التي صُنعتْ لهذا الرَّجُل لدرجةٍ تكاد أن تُثير في داخلي متعةً مجرَّدة للنهاية، وبالغة الحِدَّة. ومن أجل هذا الرَّجُل الغامض من شولن، من الصين، فإنَّ هيلين لاجونيل تُصبح صينية.

لم أنسَ أبدًا هيلين لاجونيل، ولم أنسَ هذا الرَّجل قُط بعد أن رحلتُ، وبعد أن تركتُه. وهذا الوفاء الغامض كان يرجع إليَّ أنا.

لا زلتُ أيضًا فردًا في هذه الأسرة. وهناك سكنتُ في منفاي أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. وفي جدبه وقسوته الحادة، والإساءة التي أثرت فيَّ بشكل عميق. أكثر عُمقًا من إيماني بنفسي. كنت أعلم أنني سوف أكتُب عن ذلك فيما بعدُ.

سوف يُمسك بي هذا المكان يومًا ما عندما ينصرم الحاضر، وأجِد نفسي في مكانٍ آخر. تبدو لي الساعات التي أقضيها في بيت الشابات بشولن، وفي هذا المكان، أشبه بضوءٍ مُنعشٍ وطازج. رغم أنَّه مكانٌ خانق يعبق بالموت. مكانٌ للعنف والألم، واليأس، والعار. وهو أيضًا مجرَّد مكانٍ مثل غرفة شولن الذي يطلُّ على الجانب الآخر من النهر. دفعني أن أتمنى اجتياز النهر يومًا.

لم أعرف ماذا أصبحتْ عليه هيلين لاجونيل، وإذا كانت قد ماتت. سبقتني في الرحيل من البنسيون قبل سفري إلى فرنسا بوقتٍ قليل. عادت إلى ولات. أذكُر أنَّ ذلك تمَّ بسبب الزواج؛ فقد كان عليها أن تستقبل وافدًا جديدًا من العاصمة. ربما خانتني ذاكرتي، وأنني أخلط الأشياء التي حدثتْ لهيلين لاجونيل فيما يتعلَّق بهذا الرحيل الجبري، الذي دفعتْها أمُّها إليه.

حدثتُكم، أيضًا، عمَّا كان عليه، وكيف كان. كان يسرق من الخَدَم؛ كي يذهب ليدخِّن الحشيش. يسرق من أمِّنا. يفتِّش في الدواليب ويسرق؛ كي يلعب القِمار. اشترى أبي منزلًا في منطقةٍ بين البحرين قبل أن يموت، وهو الشيء الذي كنا نمتلكه. لكنه قامَرَ عليه. وباعتْه أمي؛ كي تسدِّد ديونها، ولم يكُن هذا كافيًا، ولم يكفِ أبدًا. وعندما كان شابًّا، حاوَلَ أنْ يبيعني إلى أحد زبائنه في القبَّة. ومن أجله، أرادت أمي أن تعيش أيضًا من أجل أن يأكل، وأن ينام في الجوِّ الحار، وأن يسمع أيضًا شخصًا يناديه باسمه. والممتلكات التي اشترتْها له قريبًا من منطقة أمبواز. عشر سنوات من التوفير. وذات ليلة، قامت برهن العَقَار، ودفعتْ حصتها. وكلُّ منتجات قِطَع الأخشاب التي حدَّثتُكم عنها. وفي ليلة أخرى، سرق أمي الميِّتة. كان هناك شخصٌ يفتِّش في الدواليب، ويتشمَّمها كالكلاب. كان يعرف كيف يُجيد البحث، ويكتشف جيدًا ثنايات الحشايا وخباياها. فسرق الأساور وما أشبه الكثير من المجوهرات والأطعمة، وسرق من دوو والخدَم، ومن أخي الأصغر. وسرق منِّي الكثير. وباعها جميعها. أمَّا هي، أمَّه، فعقبَ موتها مباشرةً أسرع وأحضر موثِّق العهود، وسط شعور الأسى بالموت. تساءلتُ كيف استقلَّ بشعوره عن الموت؟ قال الموثِّق إنَّ الوصيَّة غيرُ صالحةٍ قانونيًّا، وأنها قد ميَّزت ابنها على كلِّ الممتلكات. كان الاختلافُ كبيرًا، وأثار ضجَّة؛ فعلينا أن نعرف جميعًا السبب الذي جعلني أَقبلُ أو أرفض. قبلتُ الأمر، وقمتُ بالتوقيع وأعلنتُ موافقتي. أمَّا أخي فقد أخفض عينَيه وأطلق شُكره، ثم بكى، ثم تملَّكه الحُزن لوفاةِ أمِّنا، وكأنَّه مخلصٌ لها. وأثناء تحرير باريس، جاء يُتابع أعماله التعاونية في وسط باريس، لكنه لم يكُن يعرف إلى أين يذهب. جاء إليَّ. لم أكُن أعرف شيئًا عنه. هرب من خطر. ربما أسلَمَ نفسه للناس، ولليهود. وكلُّ شيء ممكن؛ فهو إنسانٌ رقيق، مليءٌ بالحساسية دائمًا بعد أن يتمَّ انتهاكه، أو عندما تُطلب منه خدمة. في تلك الآونة، كان زوجي معتقلًا. وكنتُ لطيفةً معه؛ فبقي ثلاثةَ أيام. ونسيتُ كلَّ ما فعَلَه. وعندما خرجتُ، لم أُعلِّق شيئًا؛ فأخذ يفتِّش. كنتُ أحتفظ بالسكر وأرز التموين؛ من أجل عودة زوجي. فتَّش، ونهب. فتش أيضًا في الدولاب الصغير بحجرتي، وعثر على ضالته. فأخذ كافَّة مدخراتنا، خمسة آلاف فرنك. ولم يترك لنا شروري نقيرًا. ترك الشقَّة على مصراعيها. عندما رأيتُه مرَّةً أخرى، لم أكلِّمه عن ذلك؛ فالأمر مجلبةٌ لعارٍ جسيم. ولم أستطع أن أتحمَّل الكثير بعد الوصيَّة المزيَّفة، والقصر المشيَّد على غِرار قصور لويس الرابع عشر، والذي قام ببيعه من أجل كسرةِ خُبز. لقد زُيِّفت عمليةُ البيت مثلما زُيِّفت الوصيَّة.

وأصبح وحيدًا عقب وفاة أمي، بلا أصدقاء. وهو الذي لم يكُن له أصدقاء قَط. كان لديه نساؤه في بعض الأحيان؛ من أجل «العمل» في مونبارناس. وأحيانًا نساءٌ لا يعملنَ. في البداية، كان هناك رجالٌ لا يدفعون. عاش في وحدةٍ شديدة. وبدأ يتقدَّم نحو الشيخوخة. كان متشرِّدًا، وكانت أسبابه هشَّة. واتسع الخوف من حوله، من كافة الأنحاء. أمَّا معنا، فقد أضاع إمبراطوريته الحقيقية. لم يكُن رَجلُ سطو. كان شريد العائلة، يبحث دائمًا داخل الدواليب. قاتلٌ بلا أسلحة، ودون أن يقترف إثمًا كبيرًا؛ فالمتشردون يعيشون ما داموا على قيد الحياة، دون أن يتعاونوا مع أحد، ودون إحساس بالتعاظُم، يعيشون في خوفهم. كان خائفًا. وبعد وفاة أمي، عاش وجودًا غريبًا في دورات. لم يعرف سوى صبيَّة المقهى؛ من أجل ممارسة لعبة «النحل»، والزبائن الذين يأتون من أجل مباريات البوكر في الصالات الخلفيَّة. بدأ يجمعهم، ويشرب كثيرًا، ويضرب بعينَين مختنقتَين. الفمُ جامحٌ، ولم يحصل على شيء سوى نقودٍ سائلة لا أكثر. وأثناءَ عامٍ، أقام في مبنًى صغيرٍ أجَّرتْه أمي. ظلَّ ينام طيلة عامٍ فوق مقعد فوتيه. سمحوا له أن يبقى هناك، وبقي مدةَ عام، ثم طردوه.

وأثناء هذا العام ظلَّ يأمل في معاودة شراء ممتلكاته المرهونة؛ فلعب القمارَ على قِطَع الأثاث، الواحدة تلوَ الأخرى، التي كانت أمي تمتلكها. وأيضًا تماثيل بوذا البرونزية، ثم النحاس والأَسِرَّة، وأخيرًا الدواليب والمفارش. ولم يعُد لديه شيءٌ بعد ذلك. لم يبقَ له سوى سُترةٍ يضَعُها فوق ظَهره، لا ملاءة أو غطاء، وأصبح أكثرَ وحدة. وطوال عامٍ، لم يفتح له أحدٌ بابَ بيته؛ فكتب إلى ابن عمٍّ له في باريس، كان يمتلك غرفةً للخدَم في مالشارب. وبعد خمسين عامًا، حصل على أول وظيفةٍ له. وقبَضَ أولَ راتب في حياته؛ حيث عُيِّن حاجبًا في شركةِ تأمينٍ بحرية. وظلَّ هناك، على ما أعتقد، خمسة عشر عامًا ودخَلَ المستشفى. لم يمُت فيها، بل مات في غرفته.

لم تكُن أمي تتكلَّم أبدًا عن هذا الطفل، ولم تشكُ أبدًا منه، ولم تتحدَّث عن لصِّ الدواليب إلى أحد؛ فقد كانت مُصابةٌ بالأمومة إلى حدِّ الهذيان. وحاولتْ أن تُخْفيها، ولم تحاول كَشْف نقاطِ ضَعفها تجاه ابنها. تعمَّدتْ ألَّا يعرف أحدٌ ابنها، مثلما تعرفه، سوى الله، وهو. تردِّد أنَّ هذه بذاءات صغيرة، وأنها هي دائمًا نفس الأم، وأنه أراد أن يؤكِّد أنه أذكى الأبناء الثلاثة والأكثر «فنًّا» والأكثر نعومةً وأيضًا الأكثر حبًّا لدى أمِّه. وهذه النقطة بالتحديد، لم يفهمْها بشكلٍ أفضل. ردَّدتْ: لا أعرف ماذا ينتظرون من الولد. إنَّهم لا يعرفون نيته؛ فهو يتمتع بحنانٍ بالغِ العمق.

وعاودنا اللقاء مرَّةً أخرى. حدَّثني عن أخي الصغير المتوفَّى. وقال: الموت، يا له من أمرٍ مرعِب، شيءٍ غير مُحتمَل! أخونا الصغير، صغيرنا بولو.

واستعَدْنا صورةً في أُسرتنا، صورة تناوُل الطعام في سادك. نأكُل ثلاثتنا على مائدةٍ في قاعة الطعام. كانا في السابعة عشرة والثامنة عشرة. لم تكُن أمُّنا معنا. ينظُر إلينا ونحن نأكل، أخي الصغير وأنا. ثم وضَعَ شوكته ولم يعُد ينظُر سوى إلى أخي الأصغر. نظَرَ إليه وهو يدقِّق فيه طويلًا. ثم قال له فجأةً، وبهدوءٍ شديد، شيئًا ما مرعبًا. كانت الجملة حول الطعام، أخبره أنَّه يجب أن ينتبه، وأنه يجب ألَّا يأكل، بينما لم يردَّ عليه الأخ الأصغر بشيء. فاستكمل كلامه، وذكَّره أنَّ قِطَع اللحم الكبيرة من نصيبه، وأنه يجب ألَّا ينسى هذا. تساءلتُ: ولماذا ليس أنت؟ فأجاب: الأمرُ هكذا. صِحتُ: كم أودُّ أن تموت. لم أستطع استكمال طعامي، ولا أخي الصغير. انتظَرَ أن يجرؤ أخي الأصغر ويتفوَّه بكلمة، كلمةٍ واحدة. فثنى قبضتَيه المتأهِّبتَين فوق المائدة؛ كي يلكمه في وجهه. ولم يقُل الأخ الأصغر شيئًا. كان شاحبًا للغاية، وتكاد أهدابه أن تُبلَّل بالدموع.

مات في يومٍ غائم. أعتقد كان في شهر أبريل … في الربيع، جاءني هاتف. لا جديد؛ لم يقُل شيئًا آخر. عُثر عليه ميتًا، ممدَّدًا فوق الأرض في غرفته. كان الموت في مقدمة نهاية حكايته، من حياته التي مارسها. لقد مات بالنسبة لي قبل ذلك بكثير. حدث ذلك عندما مات أخي الأصغر. رددتُ بكلماتٍ مقهورة: كلُّ شيءٍ هالِك.

طلبتْ أن يتمَّ دفنها معه. لا أعرف ماذا يُقصد، وفي أيِّ مقبرة. عرفتُ أنَّ هناك مقبرةً واحدة في منطقة اللوار، وتمَّ دفْنُ الاثنين في نفس المقبرة، الاثنان فقط وحدهما. وكان الأمر غيرَ محتمَل بالمرَّة.

حلَّ المغرب في نفس الساعة من السنة. كان قصيرًا، وبالغ القُبح. في موسم المطر. وطوال أسابيع لم تنقشع الغيوم. وتلتفُّ السماء في ضبابٍ كثيف لا يمكن لضوء القمر أن يخترقه؛ ففي موسم الجفاف تبدو السماء عاريةً، مكشوفةً بأكملها. وكانت الليالي غير القمرية، تبدو قاتمةً وشديدةَ الغيوم، كأنَّها مرسومةٌ بشكلٍ متوازٍ فوق الأرض، والمياه، والطُّرق، والجُّدران.

أتذكَّر الأيام بصعوبة، ضوء الشمس الكامل المكسوَّ بالألوان. كانت الليالي، على ما أذكُر، زرقاءَ اللون وتبدو السماءُ بعيدةً. وتتلبَّد السُّحب الكثيفة، وكأنها تغطِّي كلَّ أرجاء الكون. أمَّا السماء بالنسبة لي، فقد كانت السُّحب فيها أكثرَ لمعانًا وهي تجتاز حاجزَ اللَّون الأزرق. وتذوب كلُّ الألوان داخلها، مثلما كان يحدُث في فنلونج. عندما كان الحُزن يستبدُّ بأمي، كانت تركب الدرَّاجات الخفيفة. ونذهب إلى الريف؛ لنرى ليل فصل الجفاف. كنتُ أشعُر أنني محظوظةٌ في هذه الليالي؛ لأن لي مثل هذه الأم، حيث ينسال الضوء من السماء في حركةٍ نقيَّةٍ شفَّافة وسط إعصار الصَّمت والسكون. وتبدو السماءُ زرقاء. وأننا سوف نُمسك زرقتها بأيدينا. كانت السماء ترعد باستمرار وسط وميض الضوء، ويُضيء الليلَ كلَّ شيء؛ يُضيء الريفَ بأكمله، بِطُول شطِّ النهر حتى أبعدِ حدود الرؤية. وكان لكلِّ ليلةٍ سِمَتُها الخاصة.

ويمكن لكلِّ إنسان أنْ ينادي زمنَ الأبديَّة. أمَّا صوتُ تلك الليالي؛ فهو كنباحِ كلابِ القرية، تنبح بشكلٍ غامض، وتتردد النباحات من قريةٍ إلى أُخرى، حتى ترتفع إلى أَعنانِ السماء، طيلةَ الليل.

كانت تسقط في ممرَّات الفناء ظلالٌ كثيفة أشبه بلونِ الحِبر الأسوَد. وكانت الحديقة مليئةً بأشجار التِّين التي تبرق كأنَّها المرمر. أمَّا المنزل فكان أثَريًّا، وكأنَّه كالمقابر. ويسير أخي قريبًا منِّي، وهو ينظر بشكلٍ مُلحٍّ نحو الباب المفتوح الذي يؤدِّي إلى الشارع الخاوي.

وذاتَ مرَّة، لم يقف أمام المدرسة. كان السائق وحده في السيارة السوداء. أخبرني أنَّ الأبَ مريضٌ، وأنَّ سيده الصغير قد سافر إلى سادك. أمَّا هو، السائق، فقَدْ صدَرَ إليه الأمر أنْ يبقى في سايجون؛ كي يصحبني إلى المدرسة، وأنْ يذهب إلى البنسيون. وعاد السيد الصغير، ومن جديدٍ جلَسَ في المقعد الخلفي للسيارة السوداء، وهو يدير وجهه إلى الناحية الأخرى؛ حتى لا أرى النظرات الغارقة دومًا في الخوف. تعانقْنا دون أن نتبادل كلمةً واحدة. تبادلنا القُبلات، ونسينا أنفسنا. تعانقنا أمام المدرسة … وفي أثناء القُبلة بَكَى؛ فالأب سوف يعيش. كان أمله الوحيد أن يذهب، طلَبَ منه هذا. توسَّل إليه أن يجعله يحتفظ بي معه، فوق جسده. أخبره، لعلَّه يفهم، أنَّ عليه أن يعيش على الأقلِّ تجربةً واحدة عاطفية، مثل هذه، خلال حياته الطويلة. وأنَّه من المستحيل أن يسمح له بأمرٍ آخر. توسَّل إليه أن يتركه يعيش حياته، مرَّةً واحدة، في تجربةٍ عاطفيَّة كهذه، في هذا الجنون، هذا الحب المجنون الذي يكنه لفتاة بيضاءَ صغيرةٍ. طلَبَ منه أنْ يمنحه الوقت كي يحبُّها أكثر قبل أن يُعيده إلى فرنسا، وأن يتركه على سجيَّته لعامٍ آخر؛ لأنه ليس من السهل عليه أن يترك هذا الحُب، فالحُب جديدٌ للغاية. وهو في قمَّة عُنفوانه، وهو أكثر قوة من أن ينفصل عنه جسديًّا. ومع هذا، فالأبُ يعرف جيدًا أنَّ هذا لن يفيد قَط.

ردَّد أبوه أنه يأمُل لو رآه ميتًا.

وتحمَّمنا معًا بمياه «الجراكن» الطازجة، وتعانقنا، وبكينا لدرجة الموت. ولكنًّ هذه المرَّة بمتعةٍ لا مثيلَ لها. ثم حدَّثتُه، أخبرتُه ألَّا يندم على شيء، وذكَّرته ما يجب عليه أن يقوله؛ فأنا أيضًا لا بد أنًّ أرحل يومًا ما، وأنني لا يُمكن أن أتعلَّق من عنقي. قال إنَّ الأمر سيَّان لديه، وإنَّ كلَّ هذا سوف يمرُّ … وأخبرتُه آنذاك أنَّ لي رأيي الدائم في أبيه، وأنني أرفض أن أبقى معه. ولم أشرح الأسباب.

كان الطريق طويلًا في فنلونج، ينتهي عند نهر الميكونج. يبدو الطريق خاويًا دائمًا في المساء. هذا المساء وفي كل مساء، كانت الكهرباء مقطوعة. كلُّ شيء يبدأ هكذا. وما إن أركب الطريق، وما إن ينغلق الباب الخلفي، وأتابع انقطاع الكهرباء؛ حتى أجري، وأجري وأنا خائفة من الظَّلام. أجري بأكثر وأكثر سرعة. وفجأةً أعتقد أنني أسمع مَن يجري خلفي، وأتأكَّد أنَّه شخصٌ يجري خلفي مُقتفيًا خُطاي. يجري، وأستدير وأراه. إنَّه امرأةٌ عملاقة، بالغة النَّحافة، نحيفةٌ كالموتى. تضحك وهي تجري حافية القدمَين. تجري خلفي؛ كي تلحق بي. إنني أعرفها؛ فهي مجنونةُ مكتب البريد، مجنونة مدينة فنلونج. سمعتُ أنَّها تتكلَّم طيلة الليل، وتنام في النهار. إنَّها دائمًا هناك في هذا الطريق عند الحديقة. تجري وهي تصرُخ بلُغةٍ لا أعرفها. الخوف هو كلُّ ما أستطيعه. لعلَّ الساعةَ هي الثامنة. أسمع ضحكتها المُجلجِلة وصياحات الفرح. بالتأكيد إنها تحبُّ أن تتسلَّى بي. لنقُل إنَّ هذا الخوف يخترق شجاعتي وقوَّتي، وكلَّ ما أردِّده. إنَّه يمثِّل الذكرى لأمرٍ أكيد يكمُن في داخلك تمامًا. وأحسُّ أنَّ المرأة تكاد تلمسني، حتى ولو لمسةً خفيفة في يدي. أمُرُّ، بدوري، بحالةٍ مضاعَفة لحالة الموتى، وحالة من الجنون. وأصِلُ إلى الحديقة القريبة من المنزل، وأصعد درجات السُّلَّم، وأخِرُّ مغشيًّا عليَّ عند المدخل. وطوال عشرة أيام، لا أستطيع أن أحكي لأحدٍ كلَّ ما حدَثَ لي.

في فترةٍ مبكِّرة من حياتي، كنتُ أخاف من رؤية الأشياء تتعاظَم فيما يتعلَّق بأمي، لم أسمُ هذه الحالة قَط، والذي أوصلها إلى هذا الحال هو أنَّها انفصلت عن أبنائها. أعتقد أنَّ هذا دفعني أنْ أعرف ما يمكن أنْ يحدُث لي في اليوم التالي، ليس لأخويَّ. ولكن لأنَّ أخويَّ لن يعرفا كيف يحكُمان على هذه الحالة.

حدَثَ ذلك بعد عدَّة أشهُر من انفصالي عنهم. حدَثَ في سايجون. في وقتٍ مبكِّر من المساء. كنَّا نجلس في الشُّرفة الكبيرة في المنزل الذي يطلُّ على شارع تسار. كانت دوو موجودةً. نظرتُ إلى أمي. لم أعرفْها بسهولة. بدتْ كأنَّها تائهةٌ، وقد سقطت سقطةً بالغةَ القسوة. لم أعرفها بالمرَّة. ظهرتْ هناك فجأةً، قريبةً منِّي. هناك شخصٌ آخرُ يجلس مكان أمي. لم تكن أمي، ولكنَّها امرأةٌ لها نفس مظهرها. لم تكُن أمي أبدًا، كان يبدو عليها جنونٌ خفيف. تنظُر ناحيةَ الحديقة، إلى بُقعةٍ ما في الحديقة. تبدو وكأنَّها ملفوفةٌ تقريبًا بحدث لم ألحظه أبدًا. لا يزال يرتسم عليها بعضُ ملامح الشباب، والنظرات السعيدة. ربما بسبب تمسُّكها بالعفَّة التي اعتادتْ أن تُحافظ عليها، كانت جميلة. تجلس دوو على مقربةٍ منها دومًا. بدت دوو وكأنَّها لم تلحظ شيئًا. لم تحسَّ بالرعب أبدًا لما ردَّدته عليها، وعن ملامحها، وما يبدو عليها من ملامح السعادة، وعن جمالها. جاءت من حيث تجلس نفسها على مقربةٍ من أمي. أعرف أنَّ شخصًا آخرَ ليس في نفس مكانها، ولكنْ بالضبط هذا الكائن البشري الذي لم تحلَّ محلَّه. لقد اختفت هُويةٌ أخرى، وكنتُ لا أملك الوسيلة لأنْ أجعلها تعود، وأن تبدأ في العودة إلى وعيها. لم يحدُث تغييرٌ وسطَ الصورة. لقد أصبحتْ نصفَ مجنونة؛ ففي وقت الصُّراخ تصرُخ بصوتٍ ضعيف، ثم تُحطِّم الزجاج ويعلو الصُّراخ بشكلٍ مُميت فوق الأشياء، ثم تستعيد أمي رُشدها.

عرفتُ كلَّ أُناس المدينة، خاصةً شحَّاذي الطُّرق، كلَّ شحَّاذي المدينة وحقول الأرز التي كانت تُحيط سيام، وساحل ميكونج … عندما خالفتُهم أحسَستُ بالخوف الذي استبدَّ بي من جهاتٍ عديدة. تُسافر أمي دائمًا إلى كلكتا، المدينة التي جاءت منها. كانت تنام دائمًا في ظِل أشجار التفاح الطويلة. في أثناء الفسحة، أجلس دائمًا قريبةً من أمي. تعتني بقَدمَيها اللتين قرصهما الدُّود، ويعاف عليها الذُّباب.

تجلس على مقربة منها فتاةُ التاريخ الصغيرة. حملتْها مسافةَ ألفَي كيلومتر. لا تأخذ منها شيئًا؛ بل تُعطيها. تردِّد: اذهبي، تعالي. كان لديها الكثيرُ من الأطفال. أمَّا الآن فلَمْ يعُد منهم أحد؛ ماتوا جميعًا أو تمَّ التخلُّص منهم. والسبب الزُّكام الذي يجيء في نهاية العمر. لم تمُت هذه المرأة التي تنام تحت أشجار التُّفاح الطويلة، سوف تعيش أبد الدهر. ستموت في منزلها وهي ترتدي ثوبًا من الدانتيل وتبكي.

تجلس عند مُنحدَر حقول الأرز التي تملأ الشُّقق. تصرُخ وتضحك ملءَ شدقَيها. لها ضحكةٌ رنَّانة، ضحكةٌ توقظ الموتى، وتوقظني أيضًا، أشبه بضحكات الأطفال. ظلَّت في حقول البنغل أيامًا وأيام. هناك أشخاصٌ بِيض في حقول البنغل، تتذكَّر أنَّ البنغل يُقدَّم كطعامٍ للشحَّاذين. استيقظت ذات يومٍ قصيرِ النهار، وأخذتْ تمشي. ثم رحلت، ذهبت كي تعرف السبب. اتَّجهت ناحية الجبل، واجتازت الغابة. سارت في الممرَّات التي تمتدُّ على طول قمَّة سلسلة جبال سيام. حاولتْ أن ترى، لعلَّها تُشاهد الشمس الصفراء، التي تصبح خضراء على الجانب الآخر من الجبل. وسارتْ ثم بدأتْ في النزول ناحيةَ البحر، نحو الأفق. وأوسعتْ من خُطاها المتعجِّلة، التي تترك فوق أرض الغابة أثرًا خفيفًا. ظلَّتْ تمشي وتمشي، رغم أنَّ الغابات موبوءة بالطاعون وشديدة الحرارة. لا أثر هناك للرياح، والبحر ملوَّث، وهناك زوابع محمَّلة بالناموس، والأطفال الميتين، والمطر المتساقط يوميًّا. ثم هذه الدلتا، إنها أكبر دلتا على سطح الأرض. ذات أرض سوداء. اتجهتْ ناحيةَ شيتاجون، وتركت الأرض المُعبَّدة والغابات، ودُروب الشاي، والشمس الحمراء. وجرَتْ في خطٍّ مستقيم نحو مُلتقَى الدلتا. ووصلتْ إلى ضاحيةٍ مليئة بالحشرات الصغيرة. وجدت نفسها أمام البحر؛ فصرختْ. ثم ضحكتْ من نقيق الضفادع. وبدافع السُّخرية، شاهدتْ في شيتاجون سفينةً ركبتْها؛ لتعبُر البحر. ودَّ الصيادون صُحبتها؛ فعبرتْ معهم الخليج البنغالي.

هكذا بدأتْ، ثم عاودتْ من جديد، حدَثَ كلُّ هذا في جنوب كلكتا.

فقدناها، ثم وجَدنَاها مرَّةً أخرى. عثرنا عليها نائمةً خلْفَ سفارة فرنسا في هذه المدينة. تمددتْ في حديقة، واحتفظتْ معها بمئُونةٍ ضخمة من الأطعمة.

ظلَّتْ هناك طيلةَ الليل، ثم ذهبتْ إلى منطقة جانج عندما أشرقَت الشمس. ظلَّتْ محتفظةً برُوح السُّخرية والتهكُّم دومًا. لم تغادر المكان. فهنا تأكل وتنام، والليل هادئ؛ لذا ظلَّت قابعةً في حديقة الورود.

جئتُ يومًا إليها، كنتُ في السابعة عشرة. يسمُّونه الحيَّ البريطاني، وهذه هي حديقة السفارات. مليئةٌ بالجناين والصُّخور الكرويَّة. ظلَّتْ تضحك، مثلما يفعل المُصابون بمرض الجُذام، ونحن نمشي معًا على حافة نهر الجانج.

كنَّا في ميناء كلكتا، وعندما أصاب العَبَّارة عطبٌ؛ قُمنا بزيارة المدينة من أجل قضاءِ بعض الوقت، ثم عاوَدنَا الرَّحيل في مساءِ اليوم التالي.

عمري خمسة عشر عامًا ونصف. انتشر الخبر بسرعةٍ في مكتب سادك. لم ينقُصنا سوى هذه الفضيحة؛ ردَّدوا: «يا للعار!» فالأمُّ قد فقدَت الإحساس. وهذه ليست طريقةٌ لتربية بنتٍ صغيرة. يا للطفلة المسكينة! نحن لا نصدِّق، هذه القبَّعة لم تعُد بريئةً، ولا أحمر الشفاه. كلُّ هذا لا يعني سوى شيءٍ واحد؛ هو محاولة جذْبِ الأنظار، وجلب المال لشقيقَيها المتشرِّدَين. يُقال إنَّه صيني، ابن ملياردير، يسكن في فِيلَّا تطلُّ على الميكونج، مبنيَّة من السيراميك الأزرق. حتى أبوه، فبدلًا من أن يَنسب لابنه الشَّرف، إلا أنَّه لا يريد هذه الفتاة لابنه؛ فهي ليست سوى ابنةٍ لأُسرة من المتشرِّدين البِيض.

ينادُونها بالسيدة. جاءت من سفانخت. عليها أن تلحق بزوجها في فنلون، الذي كان يعمل مساعدًا للمدير في سفانخت. لم يكن محبوبًا بالمرَّة. قتلتْه طلقةُ رصاص، وانتشرَت الحكاية حتى وصلتْ إلى مكتب بريد فنلون. كان ذلك يومَ رحيله من سفانخت إلى فنلون. أصابتْه الرصاصة في القلب. في أكبرِ مكانٍ بالمكتب، ووسط النَّهار. كان قد عُيِّن في فنلون بسبب علاقته بالبنات الصغيرات. وأخبر زوجته أنَّه قد آنَ الأوان لكلِّ هذا أن يتوقَّف.

حدَثَ كلُّ هذا في حيٍّ سيِّئ السمعة بشولن؛ ففي كلِّ مساء، تذهب هذه الداعرة الصغيرة إلى مليونير صيني قذِر؛ كي يداعب جسدها. إنَّها لا تزال تلميذةً في المدرسة، حيث توجد أيضًا بناتٌ صغيرات من البِيض، بناتٌ صغيرات رياضيات يتعلَّمنَ العَوم في حمَّام السِّباحة بالنادي الرياضي. وذات يومٍ، صدَرَ إليهنَّ أمرٌ ألَّا تتحدَّث أيٌّ منهنَّ مع ابنةِ ناظرةِ مدرسة سادك.

وفي الفُسحة، تنظُر ناحيةَ الشارع، وتتَّكئ وحدها على ركيزةِ البَهْو، لا تقول شيئًا عن هذا لأمِّها. وتستمرُّ السيارة الليموزين السوداء، التي يملكها ذلك الصيني القادم من شولن، في الحضور إلى المدرسة. ينظرون إليها وهي تذهب، دون أن يُبدينَ أيَّ اعتراضٍ أو مقاومة؛ فلا توجِّه أيُّ واحدةٍ منهنَّ كلمةً واحدة إليها. بدتْ هذه العُزلة بشكلٍ واضح في ذاكرة سيدة فنلون. جاءت، هناك وهي في الثامنة والثلاثين. آخر مرَّةٍ رأتْ فيها الطفلة، حين كانت في العاشرة. أمَّا الآن فهي في السادسة عشرة على ما تذكُر.

تجلس المرأة في شُرفة غرفتها، تتطلَّع إلى الدُّروب الطويلة لنهر الميكونج. أراها عقبَ عودتي من سماع موعظةٍ دينية، معي أخي الصغير. توجد الغرفة وسطَ قصرٍ كبير ذي شُرفات مغطَّاة، ويقع القصر وسطَ حديقةٍ تكسوها أزهارُ الورد والنخيل. نفس الاختلاف، يفصل بين المرأة والشابَّة، ذاتِ القبَّعة المسطَّحة، عن موظَّفي مكتب البريد. حتى عندما يتطلَّع الاثنان ناحيةَ فرعَي النهر الطويلَين؛ فيشعُران بنفس العُزلة. تشعر كلٌّ منهما أنَّها معزولةٌ تمامًا، وأنَّها ملكة، وأنَّ معاناتها تجِيء من داخلها. كلتاهما تحسُّ بذلك، الأمور المُباحة من واقعِ طبيعةِ هذا الجسم الذي داعبه العشَّاق، وقتلتْه الأفواه؛ فيشعر بالجُوع للمتعة لدرجةِ الموت. يقُلنَ إنَّ المرء يموت موتًا غامضًا، عندما يفتقد العشَّاق إلى الحُب. هذه هي حالة الرغبة حتى الموت. إنَّه يهرب منهما، من حُجرتهما. هذا الموت البالغ القوة الذي يعرفان فيه واقعَ المدينة الحقيقي، ومكاتب البورصة، والأماكن الرئيسية، وحفلات الاستقبال، وحفلات الرقص التي تنظِّمها الجهات الرسمية.

جاءت هذه المرأة من أجل استعادة أجواء الحفلات الرسمية. اعتقدتْ أنَّها فعلت ذلك، وأنَّ زوجها شابَّ سفانخت قد دخَلَ دائرة النسيان. واستعادَت المرأةُ أمسياتها التي تمسَّكتْ بها؛ لترى نفسها قادرةً وجذَّابةً لكلِّ الناس. ومن وقتٍ لآخر، ومن حينٍ وحينٍ تخرُج من وحدتها الرهيبة؛ لتذهب إلى مكاتب الأدغال الضائعة، سهول حقول الأرز؛ حيث الخوف، والجنون، والحمى والنسيان.

تخرُج في المساء من المدرسة. تركب نفس السيارة الليموزين السوداء. ترتدي نفس القبَّعة البَالية الطفولية، ونفس الحِذاء المدبَّب الحافة. تذهب مع الملياردير الصيني. يضع أمامها مروحة، وبعد أن تعود إلى البنسيون، لا يعاقبها أحدٌ أو يضربها، أو يفسد قبَّعتها أو يُهينها.

في آخر الليل الذي قُتل فيه، في فناء المكتب الكبير حيث انطفأت الأنوار، وقفتْ ترقص. ثم حلَّ النهار، ثم مرَّ النهار، وكشفَت الشمسُ كلَّ شيء. ولم يجرُؤ أحدٌ أن يقترب من الجثَّة. الشُّرطة هي التي فعلتْ ذلك وسط النهار. بعد وصول قارب الإنقاذ من السَّفر، لم يعُد هناك أحدٌ، وخلا المكان تمامًا.

قالت أمي لمديرة البنسيون: هذا لا يعني شيئًا. كلُّ هذا لا أهمية له. هل رأيتِ هذه الأثواب الضيِّقة المستعمَلة، وهذه القبَّعة الوردية، والحِذاء الذَّهبي؟ هل كلُّ هذا على ما يُرام؟ كانت الأم تُصاب بنشوةٍ من الفرحة حين تتكلَّم عن أبنائها، وعن جاذبيتهم الشديدة. بينما وقفتْ ملاحظاتُ البنسيون؛ الشابَّات يستمعنَ إلى الأم بشَغَف. وتكلَّمَت الأم، وأحاطها كلُّ رجال المكتب، المتزوجون وغير المتزوجين يلتفُّون حولها؛ يريدون هذه الصغيرة، هذا الشيء الصغير، الذي لم تتشكَّل هُويته بعدُ. انظُروا؛ فهي لا تزال طفلة. كيف يقول الناس أنَّها تجلب العار؟ أمَّا أنا فماذا أقول: فكيف لهذه البراءة أن تجلب أيَّ عار؟

وتتكلَّم الأم عن الفساد المكشوف وتضحك، ثم عن الفضيحة، وعن هذا التهريج، وهذه القبَّعة المنزوعة الأطراف، وهذه الأناقة الشديدة لطفلةٍ تعبُر النهر. وتضحك من هذا الشيء الذي لا يُقاوم إغراؤه، هنا في المستعمرات الفرنسية. تتكلَّم وتتحدَّث عن هذه البشرة البيضاء، وعن هذه الطفلة الصغيرة التي لا تزال حتى الآن، تختفي وسط الأدغال. وتصِلُ فجأةً، ذات يومٍ مهيب، وترتكب أمرًا مشينًا في المدينة، تحت سمع وبصر الجميع، مع ابن الأوباش من الصينيين الأثرياء. وترى الخاتم الماسي في إصبعي مثلما تفعل الفتاة التي تعمل في البنك؛ فتبكي.

عندما رأت الخاتم الماسي، قالت بصوتٍ خفيض: إنَّه يذكِّرني بخاتم سوليتير صغير جاءني يومَ خطبتي من زوجي الأول. قُلت: اسمه «السيد ظَلام»؛ ضحكنا. هذا هو اسمه، كما قالت لي. وهو أمرٌ حقيقيٌّ خالٍ من الهذر.

تبادلنا النظراتِ فترةً طويلة، ثم ارتسمتْ عليها ابتسامةٌ بالغةُ الرِّقة، ممزوجةٌ بسخريةٍ، ومطبوعةٌ بعرفانِ جَميلٍ عميق، تجاهَ أبنائها ولكلِّ ما تنتظره منهم. أمَّا أنا فقَدْ كان يجب عليَّ أنْ أُخبرها عن شولن فيما بعد.

ولم أفعل، ولم أخبرها بذلك أبدًا.

وانتظرتْ طويلًا قبل أن تكلِّمني، ثم فعلتْ ذلك بكثيرٍ من المودَّة: أتعرفين أنَّ كلَّ شيءٍ قد انتهى، وأنَّكِ لا يمكن، أبدًا، أن تتزوجي هنا في المستعمَرة؟ هززتُ كتفي وضحكتُ، وقُلت: يمكن أن أتزوج في أيِّ مكان عندما أريد. وأشارت بيدها رافضةً، وقالت: لا، هنا، كلُّ الناس يعرفون. هنا لا يمكنكِ. نظرتْ نحوي، وقالت كلماتٍ لا تُنسى: هل كنتِ تحبِّينه؟ أجبتُ: أجل؛ كنتُ أُثير إعجابه أنا أيضًا. وهنا قالت: لقد أثرتِ إعجابه؛ لأنكِ تستحقِّين ذلك.

ثم سألتْني: هل كنتِ تقابلينه من أجل النقود؟ تردَّدتُ، ثم قُلت إنَّ هذا كان من أجل المال. نظرتْ إليَّ مليًّا، ولم تصدِّقني، وقالت: أنتِ تختلفين كثيرًا عني؛ فقَدْ كنتُ أكثرَ منكِ ذكاءً خاصةً بالنسبة للدراسة، كنتُ حادَّة للغاية. وقد ظللتُ أمارسها مدَّةً طويلة، وفيما بعدُ فقدتُ مذاقَ المتعة.

حدَثَ ذلك في أحد أيام الإجازات بسادك. كانت تستند فوق مقعدٍ طويل، من أجل الاسترخاء، ومدَّدتْ قدمَيها فوق مقعد. كانت قد تركَت البابَ مفتوحًا حتى يهبَّ النَّسيم من الصالة، صالة الطعام. كانت في أقصى حالات الاسترخاء وصفاء الذِّهن. فجأةً لاحظت ابنتها الصغيرة؛ فانتابتْها الرغبة في الحديث معها.

لم تكُن بعيدةً عن النهاية؛ فعمَّا قريبٍ عليها أن تغادر أراضي السُّدود والرحيل إلى فرنسا. نظرتُ إليها وهي تغفو.

ومن وقتٍ لآخر، كانت أمي تُتمتِم: سنذهب غدًا إلى المُصوِّر. تشكو من أسعار المصوِّر ومع هذا تذهب. إنَّه يرفع دائمًا أسعار صور العائلات. كانت تتطلَّع إلى الصُّور، ولا نتبادل النَّظر. فقط ننظُر إلى الصورتَين، كلٌّ منَّا منفصِلًا، ودون أيِّ تعليق. كنَّا ننظُر إليهما، ونرى بعضنا، ونرى بقيَّة أعضاء الأُسرة الواحدة مجتمِعين، ونعاود الرؤية عندما كنَّا صِغارًا جدًّا في الصُّور القديمة، ونتطلَّع إلى الصُّور الحديثة. لقد اتَّسعَت الهُوة فيما بيننا. وفي مرَّة من المرات، كانت الصُّور مرتَّبةً بعناية في الدولاب. لقد الْتقطت أمي الصُّور؛ كي يمكننا أن نرى بعضنا، ولنلاحظ إذا كان الكبَر قد نال منَّا. تنظُر إلينا مليًّا، مثلما تفعل أمهاتٌ أخريات لأطفال آخَرين، ونُقارن الصُّور ببعضها، وتتكلَّم عن كلِّ واحدةٍ منها، ولا يردُّ عليها أحد.

لم تُصوِّر أمي أحدًا سوى أبنائها. لا أحدَ قَط غيرهم؛ فليست لنا صُور في فنلون، ولا في الحديقة أو النهر، أو الطُّرق المستقيمة المحفوفة بأشجار التَّمر الهندي على الساحل الفرنسي، ولا أيِّ منزلٍ، وحتى حُجراتنا في المنزل الأبيض ذي الأَسِرة البيضاء ذوات الأعمدة الذهبية اللامعة. كذلك فصول المدرسة التي بها بالونات حمراء اللون، أو الأباجورات الكتانية الخضراء. لا توجد أيُّ صورةٍ في هذه الأماكن التي لا تصلُح للتصوير؛ فهي في رأيها أماكن تعكس القُبح، وتهرب منها. لقد عسكرتْ أمي وانتظرتْ، كما قُلت، وأقامتْ فيها. وخاصةً في فرنسا في المناطق التي ظلَّت تتكلَّم عنها طيلةَ حياتها، وتحتلُّ مكانةً هامَّة في نفسيتها وعمرها وحزنها، بين منطقتَي «كاليه» و«بين البحرين». وعندما تتوقَّف تُعلن أنَّها سوف تستقرُّ في منطقة اللوار، وأنَّ غرفتها هناك ستكون نسخةً مكرَّرة من غرفتها بسادك، تلك الغرفة المرعبة التي عليها أن تنساها.

لم تُصوِّر الأماكن قَط، ولا الخلفيات، لا شيءَ سوانا، أولادها. وفي أغلب الأحيان، كانت تقوم ﺑ «لمِّنا» كي تلتقط صورة؛ فالصورة الجماعية أقلُّ تكلفةً. فضلًا عن بعض صُور الهُواة التي تُلتقَط لنا من طرَف أصدقاء أمي، أو الزُّملاء الجُدد الوافدين إلى المستعمرة من أجل الْتقاط المناظر الطبيعية بالمنطقة الاستوائية، حيث أشجار جوز الهند والحمَّالون وهم يُرسلونها عادةً إلى أُسرهم.

كانت أمي تنظُر بوَلَهٍ إلى صُور أبنائها المُلتقَطة أثناء الإجازات. لم تكُن تريد أن نذهب إلى المدرسة؛ فلم يعرِّفها أخواي أبدًا. أمَّا أنا، الصُّغرى، فقد جرَّاني إليها، ثم فيما بعدُ ذهبتُ إليها؛ لأن خالاتي، بسبب سلوكي المُشين، لم يُردنَ أن يَدفعنَ بناتهنَّ لرؤيتي. ولم يعد أمام أمي سوى الصُّور التي تفرَّجنا عليها، تتطلَّع إليها أمُّنا بشكلٍ عقلاني ومُقنِع ومنطقي. وتُفرِّج، لبنات عُمومتها من الأوربيات، صُورَ أبنائها. كان عليها أن تفعل ذلك، فتفعل؛ فبنات عمومتها هنَّ الباقيات من أهلها. تفرِّجهن على صُور أعضاء أُسرتها. ترى هل لاحظنَ شيئًا في هذه المرَّة، غير هذه الطريقة في التواجُد؟ عبَرَ هذا الموقف الذي نسلُكه حتى النهاية، دون أن تتخلَّى أبدًا عنه، وأن تتركه. فبناتُ العُمومة يمكن أن يُنفقنَ، حسب اعتقادي. ووسطَ هذه الشجاعة، والعبث، أجد نفسي في قلق عميق.

وعندما أصابتْها الشيخوخة وأصبح شَعرها أبيضَ، كانت لا تزال تذهب إلى المصوِّر. تذهب بمفردها، تلتقط لها الصُّور وهي ترتدي ثوبها الأحمر الداكن الجميل، وقطعتين من الحُلي؛ بسلسلة البروش الذهبية، واليشم. قطعة من اليشم المُرصَّع بالذهب. وتبدو في الصُّور وقد مشطتْ شَعرها جيدًا، وخلا وجهُها من التجاعيد. وذهَبَ الأهالي القادرون أيضًا إلى المصوِّر بدافعِ إثبات الوجود، عندما أدركوا أنَّ الموت يقترب. كانت الصورة كبيرة، وكانت الخلفية مليئة بالمناظر؛ وجدوا أنفُسهم محاطِين بإطاراتٍ مذهَّبة وتحدُّهم ديكوراتٍ تعودُ لزمن الأجداد … والْتُقطت صُورٌ للجميع. رأيت الكثير من هذه الصُّور. يبدون جميعًا وكأنهم نفس الشخص في الصُّورة الواحدة. كان التَّشابُه حالةً هيسترية، ليسوا متشابهين فقط في الشيخوخة، بل في وجوههم التي أُجريتْ لها عملية رتوش. وبشكلٍ خاصٍّ في الوجه. أمَّا الرتوش التي لم تزُل؛ فقد تحلَّلتْ بفعل الزمن. كانت الوجوه تتحرَّك دائمًا بنفس الطريقة؛ كي تواجه الخلود. لقد حُجبتْ تمامًا، وعلاها الاصفرار. هذا ما كان يريده الناس؛ فبسبب هذا التشابه ترتدُّ الذكرى عبْرَ أعضاء الأُسرة. هي أشبه بشاهدٍ على تفرُّد الزمن ومدى أثره. إنها متشابهة ومتقاربة لدى جميع أفراد الأسرة الذين يجب أن تكون لهم بصمة. فضلًا عن ذلك، فإنَّ كلَّ الرجال يرتدون نفس الأشرطة. أمَّا النساء فيرتدينَ نفس الكُعوب وقد مشطنَ شُعورهنَّ بنفس التسريحة المسحوبة. يرتدي الرجال والنساء دائمًا نفس الأثواب ذات الياقة الجافة. ويبدو عليهم دائمًا نفس المظهر الذي تعرَّفتُ عليه أيضًا من بين كافَّة الظواهر، وهكذا كانت تظهر أمي في الصور مرتديةً ثوبها الأحمر مثلهم بشكلٍ ينمُّ عن النُّبل. وعن أشياء أخرى مُحيتْ مع الزمن.

لم يتكلَّم أبدًا عنها؛ إنَّه شيء تمَّ الاتفاق عليه. ولم يحاول مطلقًا أنْ يواجه أباه كي يزوجه. لم يفعل هذا إزاءَ أيِّ شخص، حتى بالنسبة للمهاجرين الصينيين الذين يُشرفون على إدارة تجارة الكتب. وهذه الشرفات الزرقاء المرعِبة الأكثر ثراءً، تطلُّ على أرضِ الخيرات الممتدَّة فيما بين سادك وشولن. في العاصمة الصينية، عاصمة الهند الصينية الفرنسية، كان رجُل شولن يعرف أنَّ القرار هو قرارُ أبيه، وأنَّ الأطفال سيظلُّون صِغارًا، وأنَّهم بلا تجربة. وعند أول مُنعطَف، سوف يسمع أنَّ الرحيل الذي سيفصلهما هو فرصةٌ ذهبية من أجل حكايتهما. وأنَّ هذه ليست من الطِّراز الذي عليه أن يتزوَّجه، ويجب عليه أن يهجرها وينساها، وأن يُعيدها لعشيرتها من البِيض، لإخوتها.

ومنذ أن أصابه الهَوس بجسدها، لم تُعانِ الصغيرة في امتلاكه، وامتلاك بشرته الرقيقة. ولم تُعانِ من أمِّها التي تقلق كثيرًا مثلما كانت تفعل فيما قبل، وكأنَّها اكتشفت أنَّ هذا الجسد جذَّاب بشكلٍ معقول، وربما أكثر من أيِّ جسدٍ آخر. خاصةً بالنسبة لعاشقِ شولن. وردَّد أنَّ المُناخ في السنوات الماضية لم يكُن محتمَلًا. لقد صنعتْ منها أمُّها فتاةً صغيرة، في هذا البلد بالهند الصينية. إنَّه ناعم القبضة، وكثيف الشَّعر لدرجةِ أنَّه يستمدُّ قوَّته من شَعره الطويل كشَعرها. أمَّا هذه البشرة الملساء في كافَّة جسده؛ فقد وُلدتْ من مياه المطر، واحتفَظَ بها من أجلِ هموم النساء، والأطفال. قال إنَّ نساء فرنسا لديهن بشرةُ جِلدٍ أقلَّ نعومة، بل إنها أكثر خشونة. قال أيضًا إنَّ سبب هذا هو الْتهام الغذاء الفقير في المنطقة الاستوائية، غذاءٌ مصنوعٌ من السَّمك والفاكهة، كما أنَّ الملابس القطيفة والحريرية التي يرتَدِينَها لها تأثيرٌ؛ فهي ملابسُ مُرفَّلة تترك الجسدَ بعيدًا عنها … حرًّا وعاريًا.

الْتفَّ عاشقُ شولن حول المراهِقة الصغيرة. دفعتْها المتعة إلى الارتباط بزمنه وحياته. لم يكُن يحدِّثها كثيرًا؛ اعتقد أنَّها لا تفهم كثيرًا ما يقوله لها، وعن هذا الحب الذي لم تكن تعرفه جيدًا. لم يَجِد الحديث عنه؛ اكتشف أنَّهما لم يتكلَّما أبدًا. أجل؛ اعتقد أنَّه لم يعرف، واكتشف أنَّه لا يعرف.

نظَرَ إليها. عيناها منغلقتان. نظر إليها من جديد. تنسَّم وجهها، وتنسَّم الطِّفلة، وعينَيها المنغلِقتَين. تنسَّم أنفاسها، هذا الهواء الساخن الذي يخرج منها. استطاع أن يميِّز بشكلٍ قاتل كلَّ حدودِ هذا الجسد. إنَّه ليس مثل بقيَّة الأجساد. لم ينتهِ بعدُ؛ فلا تزال الحُجرة باقية. ليست هناك أشكالٌ ثابتة؛ عليه أن يفعل في كلِّ لحظة. لم يكُن موجودًا فقط حيث يراها؛ كان أيضًا في كلِّ مكان، يتمدَّد تحت سمعها وبصرها، يمارس اللُّعبة، لعبة الموت، الموت المرن. يرحل في كلِّ مكان بإحساس المتعة. لا يملك أيَّ سوء للنية. وصاحبُ ذكاءٍ خارق.

نظرتُ إلى كلِّ ما يفعله بي. لم أفكِّر قَط فيما يمكن أن يفعله بهذه الصُّورة. اقتفى أثَر أملي ورغبتي؛ وهكذا أصبحتُ طفلته، وأصبح شيئًا آخرَ بالنسبة لي. بدأتُ في معرفة المتعة التي يصعب التعبير عنها. أمَّا وراء هذا، فهناك رجلٌ آخر عليه أن يمرَّ بجوار الغرفة. شابٌّ قاتل. لم أعرفه بعد. لا يبدو منه شيءٌ أمام عيني. لعلَّه صبيٌّ أو شابٌّ يحبُّ أن يمرَّ بجوار الغرفة. أحسُّ أحيانًا أنني أعرفه. قد يكون موجودًا، وأُخبر عاشقَ شولن بذلك. أُحدِّثه عن رِقَّته المتناهية، وعن شجاعته في الغابة، وأثناء النهار، الغابة المليئة بالفهود السوداء. أصبحتُ طفلته، وبهذه الطفلة، أحسُّ بالخوف. وفجأةً، أحسَّ بالقلق على صحَّته، وكأنَّه اكتشف أنَّه مخلوقٌ ميِّت، وأنَّها يجب أن تكون ضامرة. وفجأةً، أحسَّ بالخوف بشكلٍ بشِع. ومن جرَّاء هذا الألم الذي أصاب رأسها، أحسَّتْ أنها ستموت كأبيه، وأنها غير قادرة على الحركات؛ فوضعتْ عُصبةً مبللة فوق عينيها. وأحسَّت باشمئزازٍ ينتابها أحيانًا. تفكِّر في أمِّها وأنَّها سوف تصرُخ وتبكي من جرَّاء فكرة أنَّها لا تستطيع أن تغيِّر من القدَر، وأنَّ عليها أن تجعل أمَّها سعيدة قبل أن تموت. فهي مقتولةٌ من كلِّ هؤلاء الذين يريدون بها شرًّا. وضَعَ وجهها فوق وجهه وهي تنخرط في دموعها. أصابها جنونٌ من الرغبة في أن تبكي من الغضب.

ضمَّها إليه كمَن يضمُّ طفلته، وكأنه يضمُّ ابنته، وكأنَّه يداعب جسدًا صغيرًا. أدارها نحوه. غطَّى وجهها وفمها وعينَيها. ومرةً واحدةً توسَّلتْ إليه. ولم تقُل أبدًا لماذا تتوسَّل. صرَخَ فيها أن تسكُت، ثم تعانقا من جديد. وها هو العناق ينفكُّ، ويُخضعان في حالةٍ من الدموع واليأس والسعادة.

الْتزما الصمت طيلةَ المساء، في السيارة السوداء التي أقلَّتْها إلى البنسيون. وضعتْ رأسها فوق كتفه، فأزاحها. حدَّثها أنَّه من الأفضل أنْ تصِلَ السفينة الفرنسية في أقرب وقتٍ وأنْ تأخُذها، ويفترقان. الْتزما الصمت فترة من الوقت. ثم سأل السائق أن يمشي بطُول النهر، وأن يقوم بدَوره. نامتْ مُنهَكةً إلى جواره، فأيقظها بقُبلاته.

في البدء كان الضَّوء أزرق، وانبعثتْ رائحة البخور الذي يشتعل دائمًا عند الغروب. كانت الريح ساكنة؛ ففتحت كافة النوافذ باتِّساعها. لم تكُن هناك نسمةُ هواء. خلعتُ حذائي؛ حتى لا أُحدث ضجَّة. أعرف أنَّ المراقبة لم تُرفع عنِّي بعد، وأنه من المقبول الآن أن أعود في الساعة التي أحدِّدها ليلًا. سأذهب توًّا لأرى ﻫ. ل. (هيلين لاجونيل) وأنا أشعُر بقليلٍ من القلق، وأرى الخوف الذي استبدَّ بها في البنسيون أثناء النهار. إنَّها هناك تنام ملءَ جفونها. ﻫ. ل. تنام عادةً نومًا عنيدًا وعدوانًا مليئًا بالرفض، فتُحيط رأسها بذراعَيها العاريتَين، وتترك نفسها على سجيَّتها؛ فينام جسدها، مثلما تفعل كلُّ البنات، وقد ثَنتْ قدَمَيها. لا يمكنك أن ترى من وجهها سوى أُذنَيها المتدليتَين. خمَّنتُ أنَّها تسمعني ثم تصنَّعَت النوم، وأنَّها مصابةٌ بحالةٍ من العصبية والغضب. كان عليها، أيضًا، أن تبكي، ثم تسقط في الهاوية. أردتُ أن أوقظها، وأن نتكلَّم معًا بصوتٍ خفيض؛ فأنا لم أتكلَّم مع رجُل شولن، ولم يتكلَّم معي. أنا في حاجةٍ لأنْ أسمع أسئلةَ ﻫ. ل.؛ فلديها قدرةٌ لا تُقارن على الانتباه أكثر من أُناسٍ لا يسمعون ما يقولونه. لكنْ ليس من السهل إيقاظها. لقد سبَقَ أنْ أيقظتُها، وسط الليل، مرَّةً. ولم تستطع ﻫ. ل أن تنام بعد ذلك؛ قامت، وأحسَّت بالرغبة في الخروج. وجعلتُها تفعل. نزلَت السُّلم، واتَّجهتْ نحو الدِّهليز والفناء الواسع الخالي، ثم جرتْ ونادتْني. أحسَّت بسعادةٍ غامرة. لا يمكن للمرء أن يفعل شيئًا إزاء هذا. وعندما اقترحتُ عليها النُّزهة، عرفتُ أنَّ هذا هو ما تنشده. ترددتُ. لا، لن أُوقظها. وتحت الناموسية، كانت الحرارة خانقة للغاية. وعندما أغلقتُها، بدتْ غيرَ محتمَلة بشكلٍ حادٍّ. أعرف أنَّ سببَ هذا هو أنَّني قادمةٌ لتوِّي من الخارج، من عند شاطئ النهر. كان الجوُّ منعِشًا طيلةَ المساء. اعتدتُ على ذلك، لم أتحرَّك، وأردِّد على مسامعي الأشياء وهي تتحرَّك وتتحرك. لم أنَم لتوِّي رغم كلِّ المتاعب الجديدة التي حلَّت بحياتي. فكَّرتُ في رجُل شولن؛ لعلَّه الآن في إحدى عُلَب الليل في ناحيةٍ عند مصبِّ النهر، مع سائقه. لعلَّهما يشربان معًا، في صمتٍ، شرابًا مصنوعًا من كحول الأرز، عندما يجلسان معًا. أو لعلَّه عاد إلى بيته، نام في حُجرته المضيئة دون أن يتكلَّم كالعادة، مع أحد. لم أحتمل التفكير، في هذا المساء، في رجُل شولن. ولم أحتمل هذا أيضًا من ﻫ. ل.؛ يبدو أنَّ لديهم أوقاتهم التي يشغلونها. لقد جاءهم هذا من خارج أنفُسهم. يبدو أنني لا أمتلك سوى هذا. قالت الأمُّ: لن تكوني أبدًا سعيدةً في شيء. وأعتقد أنَّ حياتي بدأتْ في الصعود بداخلي. إنني مخلوقٌ وحيد، وعليَّ أن أُرتِّب نفسي، وإنني لم أعُد وحيدةً منذ أن اجتزتُ الطفولة. سأذهب لأكتُب كتبًا. تراءى لي كلُّ هذا في لحظة، في الصحراء الشاسعة، التي بدأتُ في إطار ملامحها أُفسح حياتي.

لم أعرف كثيرًا ماذا جاء من كلماتٍ في برقية سايجون. وإذا كانت قد ذَكَرتْ أنَّ أخي الصغير قد مات، أو إذا كانت قد قالت: «اذكروا الله.» أذكُر، كما يبدو لي، أنَّها «اذكروا الله.» لقد تجاوزني الحدَث، ليس من المعقول أنْ ترسل لي برقيةً تُخبرني فيها أنَّ أخي الأصغر مات. أولًا لأنَّ هذا شيءٌ لا يمكن أن يحدُث. ثم فجأةً، ومن أعماق كلِّ مكانٍ بالكون، حلَّ الألم، وغطَّاني تمامًا، وركبَ فوق ظَهري. ولم أدرِ بشيءٍ حولي، ولم يعُد هناك سوى الألم الذي لم أعرف مداه. فالأمُّ التي تفقد طفلًا قبل أن تلده ببضعة أشهر؛ تحسُّ بالألم. الآن أعتقد أنَّ هذا ألمٌ جديد؛ لقد مات طفلي عند ولادته، ولم أعرفْه قَط. لم أشَأ أبدًا أن أقتُل نفسي هناك، مثلما أردتُ أن أفعل عندما سمعتُ بنبأ وفاةِ أخي.

خدَعَنا هذا الخطأ لبضع لحظات؛ فغزا كلَّ العالم. وحلَّت الكارثة من أعتاب السماء؛ فقد مات أخي الصغير، ولن نراه بعد ذلك. انساب الخلود في جسد هذا الأخ الأصغر أثناء حياته، ولم نرَه إلا في هذا الجسد الذي يسكُنه الموت. مات جسد أخي، ومات الخلود معه، وراح ناحيةَ عالمٍ آخرَ، مخصَّصٍ لهذا الجسد الذي زاره. هذه الزيارة التي خدعتْنا بشكلٍ جذري، وغزا الخطأ كافَّة أرجاء الكون، وسرَت الكارثة.

مات أخي الأصغر، بالضبط، في اللحظة التي مات فيها؛ فالموت أشبه بسلسلةٍ بدأتْ حلقاتها منذ أن كان طفلًا.

لم تحسَّ بجسد الطِّفل الميِّت في أيٍّ من هذه الحوادث، التي كانت سببًا في هذا الخلود الذي بلغه، طوال سبعةٍ وعشرين عامًا من حياته؛ لم يعرف فيها اسمه.

لم يرَه أحدٌ عن قُرب مثلما رأيتُه. وفي اللحظة التي عرفت بذلك، وبكلِّ بساطة، عرفتُ أنَّ جسد أخي الصغير، هو أيضًا جسدي. كان يجب أن أموت، بل لقد متُّ فعلًا؛ فأخي الصغير يشبهني، وقد جرَّني معه، فمتُّ مثله.

يجب أن نُحدِّث الناس حول هذه الأشياء، وأن نعلِّمهم أنَّ الخُلود شيءٌ مميتٌ، وأنَّه يمكن أن يموت، وأن هذا يحدُث، بل إنه يحدُث. وشيءٌ لا مثيلَ له أبدًا. لا مثيلَ له أبدًا؛ لا يوجد سوى بعض التفاصيل حول الأساسيات. وأن أشخاصًا ما يمكنهم أن يتمهَّلوا الحاضر لدى هؤلاء الناس، وفي نفس الظروف. إنهم يجهلون القوة الذاتية للخلود. ماذا يمكنهم بينما يعيش الخلود نفسه؛ فالحياة أبدية. بينما هو على قيد الحياة؛ فالخلود ليس سوى مسألة زيادةٍ في العمر أو نقصانه. أوَليس هذا من أمر الخلود؟ بل هذه مسألة أخرى تظلُّ مجهولة؛ يجب أن نقول إنَّها بلا بداية أو نهاية. فقط عليها أن تبدأ، كالرُّوح التي تدفعها الريح. انظر إلى الرمال الميِّتة في الصحراء، وأجساد الأطفال الميتين، ولا يمرُّ الخلود أبدًا من هناك؛ بل يتوقَّف، ويرجع القهقرى.

كان أخي الأصغر مبتهجًا دومًا، يعيش خلودًا بلا خطايا وبلا أساطير وبلا أحداث، نقيًّا ليس له سوى منفذٍ واحد. لم يكُن لدى أخي الأصغر شيء يصرخ به في الصحراء، لم يكُن لديه ما يقوله هنا أو هناك. لا شيء. لم يتلقَّ أيَّ قسطٍ من التعليم، ولم يستطع أن يتلقَّى سوى أساسيات التعليم. لم يكن يُجيد سوى الكلام، بعض من القراءة والكتابة. كان يؤمن، أحيانًا، أنَّه لم يجرِّب المعاناة، وأنه شخصٌ لا يفهم، ومصابٌ بالخوف.

هذا الحُب الأحمق الذي أكِنُّه له، ظلَّ بالنسبة لي متعذَّرًا وغامضًا. لم أكُن أعرف أبدًا لماذا أحببتُه إلى هذا الحدِّ، أردتُ أن أقتُل موته. انفصلتُ عنه قبل سبعة عشر عامًا. لم أكن أفكِّر فيه إلا لمامًا. أحببتُه بدَوري بشكلٍ دائم؛ فلم يعُد هناك شيءٌ آخر يمكنه أن يطال هذا الحُب … ونسيتُ الموت.

قليلًا ما نتكلَّم معًا، وقليلًا ما نتكلَّم عن الأخ الأكبر. عن تعاستنا، ومأساة أمي وشرودها. نتكلَّم عن الصيد، وعن البنادق، والميكانيكا، والسيارات. ويغضب عندما تتحطَّم السيارة. ويحكي لي. وحدَّثني عن السيارات الرديئة التي امتلكها فيما بعد. عرفتُ كلَّ ماركات بنادق الصيد، والسيارات القديمة. تكلَّمنا أيضًا، وبكلِّ تأكيد عن صيد النمور، التي تقع في الكمين المنصوب لها دومًا؛ إذ لم تستمرَّ في السباحة مع التيار. أمَّا أخي الأكبر فكان يكبُرني بعامَين.

توقفَت الرِّياح، وتحت الأشجار كانت الأضواء السُّفلى تنبثق مع المطر، وتصدح العصافير في أعماقها وهي تنقر الهواء البارد بمناقيرها، وتجعله يدقُّ في كلِّ اتجاه، تصدح بطريقة مليئة بالإصرار.

انزلقَت العَبَّارة فوق نهر سايجون، وتوقفَت المحركات، وجرُّوها بجرَّارات حتى مراسي الميناء الموجودة في جداول نهر الميكونج، التي في أطراف سايجون. يسمَّى هذا الجدول، وهذا الفرع من الميكونج بالنهر. رسَت العَبَّارة طوال ثمانية أيام، في نفس المكان الذي ترسو فيه السُّفن. حطَّت السفينة «فرنسا» هناك. يمكنك أن تقابل النساء في السفينة «فرنسا»، وأن ترقص معهنَّ. فالسفينة غالية بالنسبة لأمي؛ فهي لا تستطيع على مصروفاتها. ولكنْ معه، عاشق شولن، كان يمكننا أن نذهب إلى هناك. لم يكُن يُخيَّل إليَّ ذلك؛ لأنه يخاف أن يراه أحدٌ مع الفتاة البيضاء صغيرة السِّن. لم يقُل هذا، لكنها كانت تعرف. في هذه الآونة، لم يكُن هذا أمرًا بعيد المنال. فقبل خمسين عامًا، لم تكُن السفن تُبحر إلى كلِّ مكان في العالم. كانت هناك رحلاتٌ كثيرة تقوم بين القارات عبر الطُّرق البحرية؛ لم تكن هناك سكك حديدية، فوق مئات وآلاف الكيلومترات من الأمتار السريعة. لم يكُن يوجد سوى الطُّرق البدائية، والعَبَّارات التي تنقل البعثات البحرية، والفرسان مثل: بورنوس ودارتنيان وأراميس، الذين يربطون الهند الصينية بفرنسا.

استغرقت هذه الرحلة أربعةً وعشرين يومًا، وكانت العَبَّارة تسير في مُدنٍ بها شوارع وأحياء ومقاهٍ ومكتبات وقاعات، وملتقيات، وعشَّاق، وسرابات، وأموات ومجتمعات تتشكَّل بالمصادفة والجبر. كنا نعرف ذلك، ولا ننساه أبدًا. علينا أن نفعل ما يجعل الحياة قابلةً لأنْ نعيشها، ولا ننساها. هناك رحلات مخصَّصة للنساء؛ حيث توجد الكثيرات منهنَّ بصفةٍ خاصة. ولكنْ بالنسبة لبعض الرجال أحيانًا، كان السَّفر بدافعٍ يجعل الذهاب للمستعمرة مغامرةً حقيقية. أمَّا بالنسبة لأمي، فقَدْ كان السفر دائمًا أثناء طفولتنا المبكِّرة «أجملَ أشياءِ الحياة».

الرحيل، هو دائمًا الرحيل. كانت أول رحلة لها فوق البحار، تبتعد فيها عن الأرض. الرحيل بسبب الألم دائمًا، وأيضًا اليأس. لكنْ هذا لم يمنع الرجال من الرحيل، وكذلك اليهود، ورجال الفكر، والمسافرون لرحلةٍ واحدة فوق البحر. لم يمنع هذا الكثير من النساء أن يقمن برحلة، هؤلاء اللاتي لم يرحلنَ أبدًا، طلبنَ البقاء في الوطن الأم؛ حيث الأهل والخيرات، والأسباب الدافعة للعودة. وطوال قرونٍ، والمراكب تقوم بالرحلاتِ ببطء شديد، أكثر مَأسَاويَّة ممَّا هي عليه في أيامنا؛ فقد كان وقت الرحيل يستغرق مسافاتٍ طويلةً بطريقةٍ طبيعيةٍ. اعتَدنَا على هذا الإيقاع الآدميِّ البطيء على الأرض وفوق البحر. وقد سبَّب هذا الإيقاع أنْ يقوم الإنسان بانتظار الرِّيح، والبرق، والرعد، والشمس، والموت. والعَبَّارة التي عرفت الفتاة البيضاء الصغيرة، كانت هناك في آخر دورات العالم. حدث هذا أثناء شبابها، وفيما بعد دشَّنت أول خطوط الطيران، وأصبحت، بالتتابع، مخصصةً للبشر بالسفر عبْرَ البِحار.

كنَّا نذهب يوميًّا إلى شقته في شولن، ويفعل كالعادة. يتصرَّف كعادته طيلة أوقاتنا، ثم يقوم بغسلي بمياه الجركن، ويحملني فوق السرير، ويأتي على مقربةٍ منِّي، ويتمدَّد. لكنَّه بلا حولٍ أو قوة؛ لقد تمَّ تحديد موعد الرحيل الذي كان بالنسبة لي، فيما قبلُ، بعيدًا. لم يكُن يستطيع أن يفعل شيئًا بجسدي. حدث هذا بشكلٍ بشِع، تحت بصره وسمعه. لم يكُن يرغب بجسده، لم يُرِدني أن أرحل. خانه التوفيق؛ قال: لا أستطيع أن أضحك. أعتقد أنني أستطيع أن أفعل، قد لا أتمكن الآن. أخبرَنِي أنَّه مات، وارتسمتْ على شفتَيه ابتسامةُ اعتذارٍ بالغة الرِّقة. قال إن هذا ربما لا يتكرَّر أبدًا. سألتُه إن كان يريد هذا؛ فضحك وقال: لا أعرف. لعلَّه تمتَمَ «نعم» ظلَّتْ رِقته باقيةً تتمثَّل في أعماق الألم. لم يتكلَّم عن هذا الألم؛ لم ينطق بكلمة. يرتعد وجهه. أغلَقَ عينَيه، واصطكت أسنانه. ظلَّ ساكنًا خلْفَ الخيالات التي يراها بعينَيها المغلقتَين. قال إنَّه يحبُّ هذا الألم، يحبُّه مثلما يحبُّني، بقوةٍ شديدة، ربما حتى الموت. بل إنَّه يفضِّله عنِّي. قال، في هذه المرَّة، إنه يريد أن يداعبني؛ لأنه يعرف أنَّ لديَّ رغبةً في ذلك، وأنه يريد أن ينظُر إليَّ عندما تتولَّد الرغبة، وفعل ذلك. نظَرَ إليَّ، في تلك اللحظة، وناداني كأنني طفلتُه، ثم قرَّر ألَّا نلتقي ثانيةً. لم يكُن هذا ممكنًا، بل مستحيلًا؛ فنحن نلتقي كلَّ مساءٍ أمام المدرسة في سيارته السوداء، رأيت رأسه خجِلًا.

عندما حانت ساعة الرحيل، أطلقَت السفينة ثلاث صفَّارات من نفيرها، صفارات طويلةً ومرعِبة. انتشرت في كافة أنحاء المدينة. انطلقت ناحية باب السماء التي غشاها السَّواد. اقترب عمَّال السَّحب من السفينة، وجرُّوها ناحيةَ الطريق الرئيسي للنهر، ثم قام العامل بإطلاق العِنان للأحبال. لم يكُن هناك شخصٌ يفكِّر فيها. تحرَّكَت السفينة ببطءٍ شديد، واندفعتْ في طريقها بتأثيرِ قوَّتها الذاتية في النهر. ورأينا هيكلها يتقدَّم ناحيةَ البحر، وتباطأَت الصفَّارات شيئًا فشيئًا، وأخفضَت النساء المناديل، والإيشاربات. وأخيرًا بدَت الأرض من فوق السفينة، كأنَّها في منفاها. وفي وسط النهار، رأيناها وهي تختفي ببطء.

حدَثَ هذا عندما أطلقَت السفينة وداعها الأول، بعد أن تمَّ رفْعُ الهِلب، وبدأ عمَّال السَّحب في إطلاق سراحها وإبعادها عن الأرض؛ فبكتْ. فعلتْ ذلك دون أن تكشف عن دموعها؛ لأنَّه كان صينيًّا، ويجب ألَّا تبكي هذا النوع من العشَّاق، دون أن تكشف لأمِّها ولأخيها الصغير أنَّها تكاد أن تفعل ذلك، ودون أن تكشف ما بخباياها، وكأنَّ هذه هي العادة فيما بينهما. وقفَت السيارة السوداء الطويلة هناك، وفي المقدمة يجلس السائق بملابسه البيضاء. كانت السيارة على وشك أن تبتعد عن المدينة، وعن سيارات البعثات البحرية المعزولة. عرفَتْه بهذه العلامات، يجلس في الخلف — هذا الأمر يصعُب نسيانه — لا يتحرك وهو يجلس في مقصورته. استندت على سُور السفينة، مثلما فعلتْ في المرَّة الأُولى فوق العَبَّارة، تعرف أنه يتطلَّع إليها، نظرت إليه عن بُعد. لم ترَه ثانيةً، لكنَّها ظلَّت تنظُر ناحيةَ هيكل السيارة السوداء … ثم لم تستطع رؤيته. لم تعُد تراه، واختفى الميناء، ثم الأرض.

عبَرتْ بحر الصين، ثم البحر الأحمر، والمحيط الهندي، وقناة السويس. تستيقظ في الصباح، وترتجف من الهجران. تتقدَّم السفينةُ في طريقها، في هذا المحيط الكبير البالغ الاتساع، الذي يصل إلى القطب الجنوبي. المسافة طويلةٌ بين الموانئ، بين سيلان والصومال. كان المحيط أحيانًا أكثر هدوءًا، وأحيانًا أكثر نقاءً، وأحيانًا أشدَّ رِقَّة؛ كنَّا نحسُّ أحيانًا أننا في رحلة عبْرَ البحر. وتتفتَّح كلُّ السُّفن والصالونات، وممرات السُّفن، والنوافذ، ويهرب العابرون من حرارةِ الجوِّ في مقصوراتهم، وينامون فوق سطح المركب.

وخلال رحلة السفر، وأثناء عبور المحيط، وفي وقتٍ متأخِّر من الليل يموت شخصٌ ما، لم نكُن نعرف الخبر إلا فيما بعدُ. سواءٌ أثناء هذا السَّفر أو في سفرٍ آخر. هناك ناس يلعبون الكوتشينة في بار الطلائع، ومن بين هؤلاء اللاعبين يوجد شابٌّ. وفي لحظة من اللحظات، ودون أن يتكلَّم، يخسر الشاب كلَّ أوراقه؛ فيخرج من البار، ويعبُر سطح السفينة جاريًا، ثم يرمي بنفسه في المحيط، ولا تتوقَّف السفينة التي تسير بأقصى سرعتها، ويضيع جسد الشاب. لم نكُن نعرفه لعلَّه من السفينة، أو من مكانٍ آخر. سمعتُ الحكاية تتردَّد. قيل إنَّه من سادك، ابن محافظِ سادك — لقد عرفتُه؛ كان أيضًا في مدرسة سايجون. تذكَّرتُه جيدًا، وجهه الأسمر البالغ الرِّقة، وعُيَينتَيه الصغيرتَين — لا شيء آخر؛ لم يُعثر على أيِّ رسالة في مقصورته، وظلَّ الأمر ماثلًا في الذاكرة: نفس السنِّ، سبعة عشر عامًا. عاودت السفينة الرحيل في الفجر. يا له من فجر مرعب! وحين أشرقَت الشمس، بدا البحر خاويًا.

وفي مرَّة أخرى — وخلال نفس الرحلة، وأثناء عبور نفس المحيط، وفي بداية الليل، وفوق سطح السفينة — عزف فالس شوبان، الذي لا تحفظه جيدًا. حاولتْ أن تتعلَّمه طوال أشهر. لم تتمكن أبدًا من عزفه بشكلٍ مباشر. فعلتْ أمُّها ذلك، عندما أجبرتْها على ترك البيانو. في هذه الليلة التي ضاعت بين الليالي، كان هناك شيءٌ أكيد؛ فقد وقفت الفتاة فوق سطح السفينة، ثم بدأ عزف موسيقى شوبان تحت سماء تومض بالبريق. لم تهبَّ نسمةُ ريح واحدة. انتشرت الموسيقى في كلِّ مكانٍ من العَبَّارة السوداء، كأنَّها أصداءُ السماء التي لا نعرف كيف تتعامل معها كأنها ثروتها. تجهل فحواها. تتحرك الفتاة الصغيرة كأنها تنوي أن تقتل نفسها، وأن تُلقي بنفسها فوق البحر، ثم تبكي؛ لأنَّها فكرت في رجُلِ شولن. لم تكُن واثقةً أنَّها ستحبُّه كلَّ هذا الحُب. حبٌّ لم تعرفْه؛ لأنَّها ضاعت في خبايا التاريخ، مثل المياه في الرمل. لقد استعادتْه الآن، عندما انبعثَت الموسيقى التي انزاحت ناحية البحر.

وبعد قليلٍ من الزمن، عبْرَ أخوها الخلود من درب الموت.

ينام الناس من حولها على أنغام الموسيقى، لكنَّهم لا يستيقظون عليها، هادئين. فكَّرت الفتاة أنَّها جاءت هنا كي ترى الليل، أكثر هدوءًا. إنَّه قادمٌ دومًا من المحيط الهندي. تخيَّلتْ أنَّها في أثناء هذه الليلة، رأتْ أخاها الأصغر فوق سطح السفينة مع امرأة. استندتْ إلى سُور السفينة، ودقَّقَت النَّظر. كانا يتبادلان القُبلات. انحنَت الفتاة؛ كي ترى بشكلٍ أفضل. عرفَت المرأة التي كانت مع أخيها الأصغر — لا يزالان متعانقَين — إنَّها امرأةٌ متزوجة، وقد سبَقَ لها أن ترمَّلتْ مرَّتَين. تظاهر الزَّوج أنَّه لا يعرف شيئًا، وفي أثناء الأيام الأخيرة من رحلة الأخ الأصغر، ظلَّت هذه المرأة طيلةَ النهار في مقصورته، لم يخرجا إلا في المساء. وطوال تلك الأيام، ظلَّ الأخ الأصغر ينظُر إلى أمه وأخته دون أن يُعرِّفهما بما يحدُث. أصبحت الأم نافرةً … صامتةً، وغيورة. أمَّا الصغيرة فكانت تبكي؛ لعلها كانت سعيدة. في هذه الآونة، كانت خائفةً ممَّا سيحدُث فيما بعدُ لأخيها الأصغر. اعتقدَت أنَّه سيتركهما، وأنه سيرحل مع هذه المرأة. ولكن أبدًا؛ فقَدْ لحق بهما عقبَ وصوله إلى فرنسا.

لم تعرف الفتاة الصغيرة، كم مرَّ من الوقت بعد هذا الرحيل، وكيف تمَّ تنفيذ أمر الأب، فاستطاع أن ينفِّذ الزواج، الذي أمر به، الذي عقده مع الفتاة التي اختارتْها العائلة منذ عشر سنوات. فتاةٌ مليئةٌ بالذَّهب، الذَّهب والزبرجد، صينيَّةٌ قادمةٌ من الشمال، من مدينة فوشون. جاءت في صُحبة أُسرتها.

مرَّ وقتٌ طويل، لم تستطع أن تفعل له شيئًا. لم تتمكَّن أن تلِدَ له مَن يرثُ ثروته. ظلَّت ذكرياتُ الفتاة البيضاء هناك، راقدةً بجسدها، فوق السرير. كان يجب أن تظلَّ هناك مدَّةً طويلة. كانت الرغبة هي السبب لتدفُّق كلِّ هذه المشاعر، ولرقَّتها المتناهية، والشهوانية المرعِبة مُعتمة الأغوار. ثم جاء اليوم الذي أصبح فيه كلُّ شيء ممكنًا، حسب رغبة الفتاة البيضاء الصغيرة، وأن تكون هكذا. أصابه التردُّد لدرجةٍ يمكنه بها أن يتخيَّل صورةَ حبيبته كاملةً حين تنتابه الرغبة بقوة، وهي صورة الطفلة البيضاء تخترق المرأة الأخرى حتى تكتمل الرغبة التي يُبديها نحوها. كان عليه أن يستعيد صورة الطفلة البيضاء بأكذوبةٍ من داخل هذه المرأة؛ فبالكذب يفعل ما تراه العائلات، والسماء، حلالًا. حيث ينتظر منه أصهاره في الشمال أن يعرف حقَّ الميراث، وأن يُخلِّد اسمهم.

لعلَّها عرفتْ حكاية الفتاة البيضاء الصغيرة؛ فلديها خادماتٌ من سادك يعرفنَ الحكاية، وعليهنَّ أن يتكلَّمنَ. ولا يجب أن تُتجاهل معاناتها. كانت كلتاهما في نفس السنِّ، ستة عشر عامًا. تُرى هل رأتْ زوجها يبكي في ليلة عُرسهما؟ وهل كان ذلك سببًا للتسرية عنه؟ فتاةٌ صغيرةٌ في السادسة عشرة وخطيبها الصيني في الثلاثين. أليس من اللياقة والأدب أنْ تُواسيه في هذه المعاناة الناضجة التي يعيشها؟ مَن يعرف؟! ربما أنَّها مخدوعةٌ. لعلَّها تبكي معه، لعلَّها تتكلَّم طيلةَ الليل، ثم جاء الحُب بعد ذلك، بعد البكاء.

لم تعرف الفتاة البيضاء الصغيرة تفاصيلَ أيٍّ من هذه الأحداث.

وبعد سنواتٍ من الحرب، ومن الزِّيجات، والأطفال، والطَّلاق، والكتب؛ جاء إلى باريس مع زوجته. وخابَرَها بالهاتف: ها أنا ذا. عرفتْه من صوته. قال: أريد فقط أن أسمع صوتكِ. قالت: إنَّه أنا، صباح الخير. بدا جريئًا، ولكنَّه لا يزال خائفًا كسابق عهده. ارتعد صوتُه فجأةً، ووسط هذه الارتجافات، سمعتْ نبرته الصينية. يعرف أنَّها بدأتْ في تأليف الكُتب، عرَفَ ذلك من أمِّها التي قابَلَها في سايجون، وأيضًا من أخيها الصغير، الذي كان حزينًا من أجلها. لم يعرف ماذا يقول، لكنَّه تمتَمَ قائلًا مثلَ سابق عهدهما أنَّه لا يزال يحبُّها، وأنَّه لا يمكنه أن يكفَّ عن حبِّها، وسوف يحبُّها حتى آخِر حياته.

مارجريت دوراس
نوبل لوشاتو، باريس
فبراير–مايو ١٩٨٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤