سياسة السلطان وأمياله
لم أجد كلامًا يصور مبادئ مولانا السلطان السياسية، ونياته الطاهرة، وآرائه السديدة، وأمياله الحميدة، وحكمه الغوالي، تصويرًا حقيقيًّا ظاهرًا بينًا مثل الحديث الذي ألقاه عظمته على المستر جريفس مندوب جريدة التيمس الذي نشرته جريدة المقطم الغراء، فرأيت أن أنقله برمته لما فيه من العبر العالية والبشائر السارة للأمة والأهالي وها هو بنصه:
قال مندوب التيمس:
حظيت بشرف المثول لدى عظمة السلطان، فتفضل عليّ بالحديث التالي الذي عبر فيه عن آرائه وآماله وأذن لي أن أنشره في جريدة التيمس التي قال إنها أعظم الصحف البريطانية، وهذا ما تكرم عظمته فقاله لي:
خيبت الثورة في تركيا آمالي كما خيبت آمال كثيرين سواي، فإن الجهل والمطامع المقرونة بالطيش زجت البلاد في مأزق حرج، ويشق عليّ أن يتمكن نفر من الأفاقين من جر فلاحي الأناضول البسطاء القلوب السليمي النية إلى حرب لا تريدها البلاد ولا تستحسنها. وقد عجز حكام تركيا عن ضبط أطماعهم، وكبح جماحها. فكانت الحالة الحاضرة في تلك البلاد عاقبة الغرور وقلة التبصر ونتيجة المداهنة والمواربة التي طالما أفسدت السياسة في الشرق.
وهذا القول يؤدي بنا إلى الكلام عن القطر المصري، فإن تصرف الدولة التي كانت صاحبة السيادة عليه اضطر بريطانيا العظمى إلى بسط حمايتها عليه.
وقد دعتني الحكومة البريطانية للجلوس على سرير السلطنة، فقبلت الدعوة شاعرًا بثقل المسئولية التي تلقى عليّ للقيام بالواجب المقدس، ورجائي أن أخدم شعبي. إن بصري لم يطمح قط إلى هذا السرير ولا أنا من عشاق المناصب وطلابها لأني في غنى عن ذلك إذ قد أدركتها منذ ٥٩ سنة، ولكني مؤمن وعقيدتي تعلمني أنني وجدت لأسعى لخير بلادي.
وإني أعتقد أن حكومة بريطانيا العظمى ستشد أزري في إدراك غايتي، وقد أيقنت منذ أخمدت الثورة العرابية أن مصر وسائر الأقطار الشرقية مفتقرة إلى الأوروبيين — ولكن من حيث الكيفية لا الكمية — ليساعدوها على السير في سبل التقدم والارتقاء، ولا نستطيع أن نفي بريطانيا العظمى حقها من الشكر على ما فعلته لمصر.
وإذا كانت مصر لم تتقدم بسرعة أكثر من السرعة التي تقدمت بها، وأريد بالتقدم في هذا المقام التقدم في الشؤون المدنية والأهلية وفي التعليم بالمعنى الحقيقي لا التقدم في مد سكك الحديد وحفر الترع ونحو ذلك — فالذنب ليس ذنب الإنكليز بل إن حالة البلاد الشاذة عن القياس الطبيعي هي السبب في ذلك.
فقد كان للمصريين ثلاثة أبواب مفتوحة أمامهم: باب السراي الخديوية وباب الوكالة البريطانية وباب الحكومة المصرية، فهل تستغرب بعد ذلك أن شعبًا تنقصه الخبرة والسياسة والعلم يضل غالبًا ويسير في طرق مناقضة لمصالحه الحقيقية.
إن اللورد كرومر والمرحوم السر الدون غورست واللورد كتشنر عرفوا ذلك وعلموا بالمساعي التي كنت أبذلها دائمًا لخير مصر، ولما دعيت إلى رئاسة مجلس شورى القوانين قبلتها غير مراع رتبتي ومقامي، وكان قبولي لها على رجاء أن أتمكن من التأثير الحسن في مناقشاته، ولكني استقلت منه لما حالت مساعي عابدين دون قيامي بهذه المهمة، ولا يحسن بي أن أخوض في هذه المداخلة التي كانت تؤخر تقدم البلاد في رأيي.
ولكن الماضي مضى وانقضى وأملي وطيد الآن أن الجمعية التشريعية التي باتت تحت تأثير مؤثرات أحسن من تلك تقوم في المستقبل بمهام تليق بشأن بلادنا الجميلة.
ولنتكلم الآن عن المستقبل: إني أثق بإنكلترا تمام الثقة وأئتمنها، وأرجو أنها تثق هي بي أيضًا وتأتمني. فقد كنت مستقيمًا في معاملاتي على الدوام وماضي يشهد لي بذلك، وكنت أسعى دائمًا في التوفيق بين مصر وإنجلترا، وكانت علاقاتي مع ملككم العظيم المرحوم الملك إدوارد السابع رحمه الله على غاية الصداقة والوداد منذ أول معرفتي له سنة ١٨٦٨. وإني لأرجو أن تكون العلاقة بيني وبين نجله كتلك وأرجو أيضًا إذا اتفق ثانية أن تتهدد مصر أن يكون شعبي قد بلغ من التقدم الأدبي والمدني شأوًا يحمله على المبادرة إلى الدفاع عن بلاده مع جنود الإمبراطورية جنبًا إلى جنب من تلقاء نفسه وعن طيبة خاطر كما فعل جنودكم المحليون والجنود الاسترالية والجنود النيوزيلندية الباسلة التي أشاهدها يوميًّا في مصر الجديدة وأعجب بها لما أراه منها.
وأقول — والحديث ذو شجون — إنه منذ ابتداء الاحتلال حتى الآن كان سلوك ضباطكم وجنودكم مع أهل البلاد كاملًا لا غبار عليه، فلم يسيروا في الطرق والشوارع مرحًا يقلقون الناس بصليل سيوفهم.
فإذا أتيح لي أن أنهض بالشعب المصري وأبث فيه بعض هذا الروح الأهلي المدني الذي نراه في الأمم الفتية البريطانية المتفرقة في أنحاء الإمبراطورية (أي أمم المستعمرات البريطانية) فقد نلت المرام.
ولبلوغ هذه الغاية نفتقر إلى التعليم، ولست أقصد بالتعليم مجرد درس الكتب واستظهارها بل تهذيب الأخلاق والتربية الأدبية الاجتماعية التي يتلقنها الأبناء من أمهاتهم، فإن بلادنا تفتقر إلى تعليم بناتها أشد افتقار، ومع أني من المحافظين بمعنى أني أطلب حفظ القديم على قدمه في بعض الأمور فإني من حزب الأحرار في هذا الأمر وأقول بوجوب تعليم البنات المصريات.
وإني واثق بأن مستقبل بلادي عظيم، ومتى سكنت الاضطرابات التي أثارتها هذه الحرب فستكون مصر ميدانًا للارتقاء العظيم الأدبي والمادي، فلا يغرب عن بالك أن عندنا ثلاث مزايا عظيمة القيمة: نيل مصر، وشمس مصر، وفلاحي مصر الذين يزرعون تربة مصر الموصوفة بالخصب. وإني أعرف المزارعين المصريين حق المعرفة وأحبهم، ولست تجد قومًا أقرب منهم إلى التقدم أو أكثر منهم دعة ودماثة أخلاق ولين عريكة وأوفر اجتهادًا وهمة ونشاطًا، ولكنهم يحتاجون إلى اليد التي تقودهم في السبيل الذي رسمه مؤسس بيتنا محمد علي الكبير. ومتى تعلم هذا الشعب صار شعبًا عظيمًا. آه يا ليتني كنت أصغر مما أنا سنًّا بعشر سنوات ولكني سأفرغ قصارى جهدي وأبذل كل قوتي لخير مصر وسعادة أهلها في السنوات التي يشاء الله أن أعيشها.
إني وإن افترقت عنكم جسمًا فإن روحي لا تزال معكم، وإني أؤيدكم في كل عمل تعملونه لتخفيف آلام المحتاجين والمساكين، وإن جل ما أصبو إليه أن توفق الجمعية إلى نشر التعليم وتعميمه بين أبناء الفقراء وبناتهم، وإني أتمنى لكم النجاح في خدمتكم الجليلة.
إن أمر التجارة يهمني كثيرًا، وقد وطنت نفسي على تأييدها وتنشيط القائمين بها. وأرجو أن يمن الله علينا بعود السكون وهدوء البال قريبًا فنسعى في إنشاء الغرف والنقابات التجارية وعمل سائر ما يعزز الثقة التجارية لأنها من أركان تقدم الثروة والرفاهة في بلادنا. وأذكر بمزيد الأسف اشتداد الأزمة المالية في هذه الأيام، ولكننا إذا قسنا حالتنا بحالة غيرنا هانت علينا مصيبتنا. فمهما كانت الأزمة المالية شديدة عندنا فهي أخف وطأة هنا مما هي عند سوانا، ومتى منّ الله بالفرج فأملي عظيم أن تجارة بلادنا تعود إلى الرواج والنمو بسرعة عظيمة.
آمل منكم أن تكونوا لي خير معين على ترقية الأمة والسير بالبلاد في مراقي النجاح والفلاح وكرر لهم النصح باتباع خطة التأني والصبر والاعتدال.
إني مسرور جدًّا بمقابلة أعضاء مجلس إدارة جمعيتكم، وأشكركم على ما تقومون به من الأعمال الخيرية لمساعدة الفقراء، فإن عمل الخير فرض واجب على كل إنسان كبيرًا كان أو صغيرًا، فالعظمة والبقاء لله وحده وكلنا متساوون عند حلول الأجل، وقد تمر على الإنسان أيام بؤس وشقاء وأيام عز وهناء فلا يسوغ لنا أن نيأس من رحمة الله كما، قال تعالى في قرآنه العزيز: لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ سأتم بعد أيام قلائل الحلقة السادسة من عمري، وقد مرت بي أيام كنت فيها سيد هذه البلاد وبلاد أخرى تصل إلى مصوع وزيلع وباب المندب، ثم انقضت تلك الأيام وابتعدت عن الحكم وخالطت أهل هذا القطر وذقت من أحوال الدنيا حلوها ومرها، وقد اختارني الله سبحانه وتعالى الآن لأكون سلطانًا على مصر.
وإذا مد الله عمري فإني أخصص وقتي وجوارحي لسعادة شعبي سكان هذه البلاد بقطع النظر عن عقائدهم لا فرق عندي بين السوري والتركي والمسلم والقبطي، واعلموا أن هذا الكلام ليس من قبيل المجاملة بل هو اعتقادي القلبي وصادر من صميم فؤادي.
وقد قابلت منذ ساعة بطريرككم فآنست فيه من الحصافة والوقار وسائر الكمالات الجليلة ما مكن كرامته في صدري وأيد حبه في قلبي.
فأيقنوا أنكم مع سائر سكان هذه البلاد أبناء وطن واحد لا تمييز بينكم، وثقوا أني ساع لراحة الجميع فإن سعادة الحاكم تقوم بسعادة شعبه، واذكروا أنكم شرقيون مثلي فأحثكم على الثبات في جميع أعمالكم، سيروا على خطة قويمة، واتكلوا على الله في جميع مقاصدكم وأموركم؛ فإنه قادر أن يكلل أعمالكم بالنجاح. إني أضع دائمًا نصب عيني خطة جدي ساكن الجنان محمد علي في ما يؤول إلى راحة جميع العناصر القاطنة بهذه البلاد، وعسى الأزمة المالية التي حلت بهذا القطر بسبب نشوب الحرب الحالية أن تزول بإذن الله عن قريب.
وأنا أدعو لسورية بزوال المحن والمصائب النازلة بها الآن بزوال هذه الحرب المشومة.
أيها الأستاذ الفاضل!
بأمر الله تعالى قد انتخبنا فضيلتكم بالاشتراك مع حكومتنا لوظيفة الإفتاء الجليلة فعهدنا بها إليكم، ونطلب منكم أن تعملوا في هذا المنصب الجليل بما فيه مصلحة المسلمين الدينية، محافظين على الدوام في فتاواكم على الأحكام الشرعية لا تبتغون منها إلا وجه الله سبحانه وتعالى وإيقاف الناس على أحكام دينهم، واعلموا أنكم إنما تخاطبون بفتاواكم عامة الناس فالتزموا فيها الصراحة حتى لا تكون محتملة للتأويل.
ولتكن لكم أسوة حسنة في المرحوم الشيخ المهدي الذي لبث يخدم دينه أربعين عامًا مكث فيها يفتي الناس في أمور دينهم، وقد ترك أثرًا صالحًا ومثالًا جليلًا من الفتاوى لا يزال رجال الدين إلى اليوم يرجعون إليه في الوقوف على المعضلات الشرعية. والله سبحانه وتعالى يوفقكم في عملكم ويرشدكم إلى الخير والصواب.
وقال عظمته لما دعى أصحاب السعادة والعزة أعضاء لجنة الإدارة للجمعية الزراعية السلطانية للتشرف بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية حيث كان أيضًا دولة البرنس كمال الدين باشا نجل عظمته ورئيس أكبر قسم في تلك الجمعية، تقدم حضرة صاحب السعادة بوغوص نوبار باشا وكيل الجمعية وأعرب عن تهاني الأعضاء لعظمته وشكرهم للحضرة السلطانية لتفضلهم بدعوتهم، وطلب من عظمته أن يديم شمول الجمعية برعايته السلطانية.
يا حضرات الأعضاء:
إني مسرور جدًّا من وجودي بينكم، وإني لا أنسى جهادكم تلك المدة التي قضيناها معًا في الجمعية الزراعية منقبين عما يعود على الزراعة والمزارعين بالخير والبركات، وإني وإن كنت الآن بعيدًا عنكم ولكني معكم بالروح والوجدان وسأوجه عنايتي دائمًا إلى هذه الجمعية ومساعدتها في تحقيق الأماني الكثيرة التي أنشئت لأجلها من نحو ستة عشر عامًا. ومنذ ابتدأنا بها في حديقة الأزبكية ببضعة زهورات حتى وصلت إلى ما هي عليه من الارتقاء والنفع الجليل.
إن بلدنا زراعية وأساس ثروتنا هي الزراعة، فوجب علينا ترقيتها بكل الوسائل.
يوجد لدينا في القطر المصري وزارة الزراعة ولها أعمال كثيرة جليلة الفائدة، ولكني أود جدًّا أن يكون بجانبها أيضًا جمعيتكم هذه تبحث وتنقب وتهدي الفلاح إلى ما فيه فلاح أرضه وزرعه، وليس ذلك بغريب لأن البلاد الأوروبية يوجد بها وزارات الزراعة وبجانبها كثير من الجمعيات الزراعية.
وإني سررت غاية السرور عندما بلغني أنكم قررتم بالإجماع بجلستكم أول البارحة رغبتكم الأكيدة في أعمالكم النافعة بهذا القطر، فأهنئكم من صميم قلبي على هذه العزيمة، وأتمنى لجمعيتكم نجاحًا مستمرًّا إن شاء الله.
ولما تشرف حضرات رئيس الجمعية الخيرية القبطية وأعضائها بمقابلة عظمته حادثهم طويلًا وحثهم على الاستمرار في الأعمال الخيرية، والعمل على تخفيف ويلات الفقر عن بني الإنسان، وتثقيف عقول بناتهم وأبنائهم وتطبيب مرضاهم.
•••
ولما تشرف حضرات رئيس جمعية التوفيق القبطية وأعضائها بالمثول بين يدي عظمته تعطف، فسألهم عن حالة الجمعية وأعمالها ثم زودهم بنصائحه الرشيدة وحثهم على المثابرة على أعمال الإصلاح المفيدة، وأظهر مزيد عنايته بكل ما يتعلق بتقدم رعاياه.
•••
وأجمع بينهما ثانية وأبلغهما بأن إرادتي تقضي بأن يكون هذا الصلح صلحًا دائمًا وطيدًا؛ إذ جل نيتي أن يكون رعاياي جميعًا كعائلة واحدة على تمام الوفاق والوئام.
إني عازم إن شاء الله أن أزور الأزهر الشريف وأقف بنفسي على أساليب التعليم فيه، ولو اقتضت هذه الزيارة ساعة أو ساعتين، ثم أنظر مع المتولين شؤونه في الأساليب التي ترقي العلوم العصرية فيه حتى تضارع ما فيه من العلوم اللغوية والشرعية، فيحافظ هذا المعهد العلمي العظيم على العلوم الإسلامية كلها ويضيف إليها ما ثبتت أصوله وتحقق نفعه من العلوم الرياضية كالجبر والهندسة والفلك.
قال صاحب الحديث: فقلت لعظمته إن هذه العلوم كانت تعلم في الأزهر وقد لقيت منذ نحو ثلاثين سنة بعض الذين درسوا مبادئها من شيوخه، ولما ذاكرتهم فيها بمصطلحاتها القديمة كالأس والمال والسمت والنظير أبرقت أسرتهم وقالوا هذه علومنا وهذه مصطلحاتنا العلمية، ولا ندري لماذا عدل المؤلفون عنها في هذا العصر.
وسيكون لهذه العلوم وأمثالها شأن كبير في الأزهر لأنه أعظم مدرسة إسلامية في المسكونة، ويجب أن يبقى كعبة الطلاب من الهند والصين وبخارى وسمرقند وسائر الأقطار كما كان في سالف العهد حتى لا تفوقه مدرسة من المدارس الجامعة.
فقلت: ولكن البلوغ إلى ذلك يا مولاي يقتضي نفقات طائلة لا أظن أن المال المقطوع للأزهر يفي بها.
أصبت، ولكن عندنا الأوقاف الإسلامية وهي كبيرة جدًّا وأنا مهتم بإصلاح شؤونها وإنماء دخلها وإنفاق ما يمكن إنفاقه منه على التعليم، وبإنفاقنا منه على الأزهر ننفع هذا القطر وكل الأقطار الإسلامية لأن العلماء الذين يتخرجون فيه يفيدون بلدانهم المختلفة فوائد لا تقدر. وسأزور أيضًا مدرسة القضاء الشرعي وأقف على سير التعليم فيها وأهتم بشؤونها لأنني أحسب أن للمتخرجين فيها شأنًا كبيرًا في ترقية أخلاق الأمة بنوع عام، فإذا تملكتهم ملكات الخير استطاعوا أن يقضوا بحق الله ويرشدوا كل الذين لهم اتصال بهم إلى خير العمل. ثم أزور مدارس المعلمين والمعلمات حيث يتعلم مربو الأمة ولا سيما مدارس المعلمات لأن تعليم البنات صار من أوجب الأمور. ولا يكفي أن تتعلم البنت التكلم بالإنكليزية أو الفرنسوية بل لا بد من أن تتعلم قبل ذلك تدبير المنزل وتربية الأولاد. أي يجب أن تتعلم البنات ليكن ربات بيوت الأمة ومربيات الجيل المقبل فينظمن بيوتهن ويجعلنها مقر الأنس والراحة ويلتزمن الاقتصاد في النفقات حتى لا تزيد على ما يلزم لمن كان في منزلتهن ويربين أولادهن التربية الصحية والعقلية والأدبية حتى يشبوا أقوياء الأبدان أصحاء العقول مهذبي الأخلاق. ويسوءني جدًّا أن بعض بناتنا اقتصرن من التعليم على المنافسة في اتباع الأزياء والإسراف والتبذير.
سأزور سائر المعاهد العلمية وكل ما له شأن في رقي الأمة وإذا فسح الله في أجلي عشر سنوات فسترى أمتي بعون الله من سعى في إصلاح شؤونها وترقية مرافقها ما تتمناه ويتمناه لها كل محب لخيرها.
يجب إزالة الفاصل الذي بين الطوائف حتى تتكون منها أمة واحدة مصرية تسعى إلى المصلحة العامة دون سواها، وتنبذ كل ما من شأنه التفريق، وإذا تم ذلك يبطل سعي الطوائف لمصالحها الخصوصية وتتوجه أفكارها إلى ما فيه المصلحة العمومية. وإن مبادئه أن لا يفرق بين الكاثوليكي والأرثوذكسي أو الإنجليكاني فجميعهم أبناء رعيته.
حضرة صاحب السعادة وكيل الجمعية الخيرية الإسلامية:
تعلمون وفقكم الله جميعًا مبلغ اهتمامي بشأن الجمعية الخيرية الإسلامية وإعظامي لمبادئها الشريفة وتمنياتي نحو استمرار رقيها ونياتي في سبيل إعلاء شأنها، وإني ما تخليت عن رئاستها إلا ونفسي متعلقة بها وبكل ما يعود عليها بالخير والسعادة. فكان انعقاد جمعيتكم العمومية في هذا اليوم من أحسن الفرص عندي لإهدائكم وحضرات أعضاء الجمعية تحياتي القلبية مع تقدير مساعداتكم الحسية والمعنوية لها حق قدرها، فأنا أحييكم شاكرًا لا مودعًا لأني معكم بالقلب والجنان. وإن ارتقائي عرش مصر لا يحجب الجمعية ولا يحجبكم عن نظري طرفة عين، فأرجو أن تعتبروني معكم في كل جلسة وفي كل اجتماع، وإني مشارك لكم في كل رأي تنتفع به الجمعية وينتفع به أبناؤنا طلاب خيرها؛ ذلك لأن الغرض السامي الذي تنشده الجمعية من إحياء النهضة العلمية وتحسين حال البائس والفقير في البلاد يتفق تمام الاتفاق مع رغباتي الصميمية. هذا وقد اقتضت إرادتي أن يكون لقسم الإعانة بالجمعية نصيب من مساعدة خزينتي الخاصة بفضل الله، كما أنها ستتكفل سنويًّا بالنفقات التي يحتاجها أنبغ طالب من طلبة مدارس الجمعية لإتمام دروسه في أوروبا، وأن تخصص ثلاث جوائز للثاني والثالث والرابع من التلامذة مكافأة لهم وتشجيعًا لإخوانهم على الجد والعمل ومن جد وجد. والله المسؤول أن يوفقني وإياكم لخير البلاد.
أيها المولى المفدى!
إن نعم مولانا الجليل أيده الله بروح من عنده على هذه الجمعية تعددت وتواردت الواحدة بعد الأخرى، فكانت مصدر حياة طيبة لها وتابعًا لتقرير أعمالها عن سنتها الثالثة والعشرين.
وقد كان أول عمل بوركت فيه أعمال جلسة جمعيتها العمومية في يوم ١٣ ربيع أول سنة ١٣٣٣ / ٢٩ يناير سنة ١٩١٥ تلاوة ذلك الكتاب الكريم الذي تفضلت عظمتكم بتوجيهه تحية وتشجيعًا لأعضائها، مضافًا إلى ذلك إعلانها بما اقتضته الإرادة السنية من خير جزيل وبر عاجل، فكانت هذه التحية وتلك المنح والالتفات السامي براهين جديدة ودلائل سنية تبشرنا بأن هذه الجمعية التي تدرجت في السنوات التسع التي تشرفت برئاستكم من أدوار الطفولة الأولى إلى درجة الشبيبة والرشد بفضل جميل عنايتكم لها وعظيم رعايتكم إياها، ستنال إن شاء الله في المستقبل تحت ظل رايتكم من هذه الفيوضات السلطانية عضدًا قويًّا ومشجعًا دائمًا على مضاعفة أعمالها لتحقيق رغباتكم السامية من إحياء النهضة العلمية وتحسين حال البائس والفقير من رعاياكم المخلصين. وإن أقدس الأعمال وأشرفها لدينا أن تكون متفقة مع تلك الرغبات السامية.
قابلت الجمعية هذا المرسوم السامي بالإجلال والإعظام وقررت بالإجماع تكليف مجلس إدارتها بأن ينوب عنها في أن يعرض على عظمتكم ما يخالج نفوس الأعضاء كلهم من السرور والشكر على هذه الانعطافات والمنح السلطانية الصادرة من نفس خالصة وشفقة أبوية صحيحة، ويرى مجلس الإدارة أشرف ما يفتخر به أن يرفع إلى عظمتكم بلسان الجمعية وأعضائها وطلاب مدارسها الذين سجل لهم التاريخ بأمركم الكريم شرف بنوتهم لذاتكم العلية رأفة من عندها أجمل عبارات الحمد والثناء وأبين آيات الولاء والإخلاص، راجيًا من الحق جل وعلا أن يديم عظمتكم عضدًا ونصيرًا لرقي هذه الجمعية ومعاهدها والقائمين بخدمتها.
•••
الدين لله وإنما يمتاز الإنسان في هذه الحياة الدنيا بالكفاءة والأخلاق وإنه يقدر الناس على قدر عقولهم وأعمالهم الطيبة مهما كان دينهم، وإن التربية الصالحة من أهم الأمور، فالعلم وحده لا يغني عنها ولهذا قال وما زال يقول على الدوام: (علموا البنات علموا البنات)، حتى تتوفر في الأمة الأمهات الصالحات اللواتي يربين أولادهن على الصدق والاستقامة وخوف الله. فالتربية هي أساس التقدم والعمران، والعمل النافع إنما يكون بالتعاضد والتعاون. إن الله جعل الناس طبقات بعضها فوق بعض حتى يساعد القوي الضعيف والغني الفقير ويتضافرون جميعًا على العمل الصالح، فالعظيم إنما هو العظيم بعمله ومجهوداته ومبراته، وإلا فأي فضل للغني على الفقير وأية ميزة للملوك والسلاطين على سواهم، أليس مصيرنا جميعًا إلى القبر حيث يتساوى الكبير والصغير؟ أوليست شرائعنا جميعًا على اختلاف دياناتنا وكتبنا تعلمنا أن الناس متساوون أمام الله يوم الحساب؟
إن مصر كلها يجب أن تكون حزبًا واحدًا في طلب الخير والسعادة لهذا القطر لا للمتاجرة بالمصالح الذاتية والمطامع الشخصية. إن الذين يتجرون بالوطنية لقضاء أغراضهم ومصالحهم كثيرًا ما يكونون غرباء عن هذه البلاد، فلا يبالون بما تنتجه أعمالهم من النتائج السيئة، فإذا طرأ طارئ حملوا حقائبهم على ظهورهم وعادوا إلى بلادهم آمنين وتركوا الدار تنعي من بناها. أما أنا فورائي ١٢ مليونًا من رعاياي تضطرني واجباتي أن أشاطرهم العيش في السراء والضراء وأن أبقى معهم وأنهض بهم وأسير في مقدمتهم إلى أن أبلغ بهم البر الأمين.
يسرني أن أرى اهتمامكم برفع شأن الآداب والعلوم في البلاد ولا سيما تهذيب الأخلاق فإنه يفضل كل شيء، ويهمني جدًّا انتشار روح الألفة والاتحاد بين جميع العناصر المصرية فإنها الطريقة المثلى إلى الارتقاء.
إن النساء خلقن ليسعدننا لا ليخدمننا، وخير سبيل إلى نيل السعادة أن نجتهد في إيجاد سيدات نافعات للبلاد كما نجتهد في إيجاد رجال نافعين لها. وختم حديثه السلطاني بما يفكر فيه من المقاصد الحسنة لتقدم البلاد اقتصاديًّا وأدبيًّا.
فرد أحد أعضاء الوفد على عظمته وقال: «من أعظم أسباب الشرف لهذا الوفد نيله رضى عظمتكم وشرف المثول بين يديكم لتقديم فروض الولاء والإخلاص، وأعظم ما يسره أن يرى عظمتكم على سرير سلطنة مصر سائلًا الله أن يمنح عظمتكم العمر الطويل والملك السعيد لإتمام جميع رغائبكم الصالحة لخير البلاد.»
وقد خرج الوفد من لدن الحضرة السلطانية وهو يجهر بالدعاء لعظمة مولانا السلطان لما لقيه من رعايته السنية.
•••
لما بلغ مسامع صاحب العظمة مولانا السلطان أن المرحوم أحمد حلمي أفندي الضابط الباسل في المدفعية المصرية الذي بذل حياته في أداء واجباته على ضفاف قنال السويس قد استشهد في خدمة سلطانه وبلاده من غير أن يخلف وراءه شيئًا يذكر، وأنه ترك والدة ثكلى وشقيقة حزينة مفطورة الكبد لا يستحق لهما من معاش فقيدهما سوى جنيه واحد في الشهر، تحركت عوامل الرأفة في صدر عظمته وأشفق عليهما من أن يعضهما الدهر بنابه القاسية، ولا سيما في الأحوال الحاضرة، فأصدر حفظه الله أمره الكريم إلى صاحب السعادة ناظر الخاصة السلطانية بأن يربط لهما خمسة جنيهات مخصصًا شهريًّا للاستعانة به مع ما يستحق لهما من معاش فقيدهما على المعيشة.
أدام الله عظمته ذخرًا لرعيته وغياثًا للملهوفين منها ومد في أيام عظمته وأيد سرير سلطنته.