بر السلطان بوالدته
-
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.١
-
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي َلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.٢
-
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.٣
للملك في نفوس الملوك ما تترفع به وتسمو، حتى لا يكون لما حولها من الوجود إلا ما تشعر بأنه لها. فهم أجل من أن تتنزل عواطفهم إلى ما لا تتصور به العظمة والمهابة، فإن رقت عواطف السلطان رقة تتطلب منه الحنو أو الإشفاق، أو الإعجاب، أو ما فيه تكريم لأحد الرعية؛ اقتضى مكانه من المملكة وهو وليها وربها الآمر الناهي فيها أن يجعل للرقة حدًّا يدوم به شموخ صرح المهابة. بل الملوك يقفون بعواطفهم الكريمة عند حد العزة السلطانية في استدناء الأمراء من أسرهم وكبار رجال الدولة في حكوماتهم، ولم نر في التاريخ أن سلطانًا تجاوز في التلطف حد المالك مع المملوك، والمولى مع الخادم، والأب مع الابن. اللهم إلا إذا شاء الإحسان إلى ضعيف، أو الأخذ بيد عاثر. وقد كان ملوك العرب وأمراؤهم في صدر الإسلام يلاقون المسترفدين والمتظلمين كما يلاقي الند نده. ويحاورونهم في شؤونهم محاورة النظراء، ولا يلاقون العظماء بمثل ذلك بل يلزمونهم ما يليق بمنازلهم من المواقف، فلا يرفعون أقدارهم إلا إلى حيث يسيغون لهم الطمأنينة ويحضر أذهانهم ويطلق ألسنتهم وكل في مكانته، الحاكم حاكم والمحكوم محكوم، وتلك خطة لا بد منها السلاطين إذا أحسنوا إلى الرعية ورغبوا في العدل ورفع شأن البلاد.
أما الوالدان فلهما ما ليس لغيرهما في نفوس الملوك لأن القلوب سواء في إكبار شأن الأبوين، وحقوق الآباء على الأبناء مقدسة في القصور كما هي مقدسة في الأكواخ، وقد أمر الله عباده ببرهما في كتبه المقدسة، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه والمقربين من أوليائه، وفي القرآن الشريف آيات في هذا يتدبرها أولو الأبصار. لم يستثن الله فيها ملكًا ولا سوقة، ولم يختص بها فريقًا دون فريق.
ولقد رأى الملأ من هذه الأمة كيف أعاد مولانا السلطان الكامل عهد الصدر الأول من الإسلام، فوطأ أكنافه لأصاغر الرعية حتى غبطهم أكابرها، فأصبح الوزير الكبير يود لو يكون بعض طلاب العلم في بعض المدارس يبتسم السلطان له ويداعبه ويعرك أذنيه تلطفًا كأنه أبوه، أو أن يصبح كاتبًا أو مربيًا ولو ساعة بلغ فيها من تلطف عظمته أن يعلن إعجابه به ويسأله عما هو خصيص به من شؤونه كأنه من ذويه.
رأى الملأ ممن تقلهم أرض مصر وتظلهم سماؤها هذا، ورأوا بر السلطان بوالدته، وملازمته زيارتها، وتحببه إليها، واستماحته رضاءها ودعاءها؛ وكيف يتحين الأوقات التي يخلو فيها من شواغل السلطنة لرؤيتها ومحادثتها والاستمتاع بشرح صدرها ومؤانستها، ولديها من الأمراء والأميرات والحشم من يقوم عن عظمته بهذا الواجب الديني الإنساني الذي تأبى نفسه الكريمة وضميره الحي وشعوره الرقيق إلا أن يقوم به هو إرضاء لله ولعظمتها ولفؤاده.
تلك هي الخلائق الرضية، وذلك هو السلوك السلطاني الذي كنا نتلو ما ورد فيه من أنباء ولاة الأمر الذين خلفوا الرسول في عصر الراشدين ومن اقتفى أثرهم من الخلفاء والملوك والسلاطين، ثم لم نر له أثرًا أو خبرًا فيمن جاءوا بعدهم إلى أن بزغت هذه الشمس، وسطع هذا النور، وتبوأ مولانا الكامل عرش مصر، يؤدب الأمة بأدبه، ويخلقها بأخلاقه، ويوضح لها مناهج السعادتين؛ سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بما يريها من التقوى والبر والإحسان وتطبيق الأعمال على قواعد الدين الحنيف.
وإن في بر عظمته بوالدته لمعنى لو تفهمته الأمة وجعلت له في نفوسها الأثر الصالح لارتقت إلى أسمى ذرى الكمال والمدنية، فإن في إعظام شأن الأمهات إعظامًا لشأن بنات حواء، ومعرفة لحقوقهن الشرعية، وتنبيهًا إلى وجوب العناية بهن ليكنَّ في مستقبلهن أمهات صالحات فضليات ينجبن النابغين من أولي الأمر والعلماء والعاملين لرفع مقدار الهيئة الاجتماعية. في هذا المعنى الذي نفهمه من بر مولانا بوالدته ما نعرف به حقيقة السيدات من صواحبات العظمة السلطانية إلى بنات الفقراء، ونعرف أن إجلالهن يقتضي تعليمهن؛ ليعود العصر الإسلامي الأول بجلاله وهيبته، فنرى أمثال عائشة أم المؤمنين، ونفيسة العلم والأدب، وأم كلثوم العاطفة على المنكوبين المواسية للمعوزين، وأمثالهن من أمهات المؤمنين. في هذا المعنى درس لو عنى بشرحه العلماء لأفاضوا وأنشأوا الأسفار متونًا وحواشي وتعليقات. فعظمته ببره بوالدته يقتفي أثر الرسل والصحابة والحواريين وينفذ أوامر الله ويدعو إلى تنفيذها، ويعلم شعبه كيف يسلك جادة الصعود إلى المكانة التي يتساوى فيها الشرقي والغربي، ويتأهب لسبقه كما سبقه في القرون الخالية التي يذكرها التاريخ للشرق بما يخلد المجد، ويوطن أسس المفاخر.
يدلنا مولانا السلطان على أن الوالدة الصالحة يجلها الولد الصالح ولو كان سلطانًا تعنو له الجباه، وتطأطأ له الرؤوس، وتميل بين يديه الأعناق وتغض في حضرته الأبصار. يدلنا على أن الأم التقية النقية البارة المحسنة لها المنزلة العليا ولو بلغ ولدها ما لم يبلغ إليه أحد من العلياء، وفي هذا أبلغ التحضيض على تربية البنات ليكن أمهات تقيات نقيات محسنات، يلدن عظماء الرجال ويُقومن المعوج من أخلاق البلاد ويطهرن فطرة الجيل المقبل من أدران مفاسد الأجيال المنصرمة.
فمن من المصريين لا يريد لبلاده الرفعة والمجد؟ من منا لا يتخذ سلطانه قدوة صالحة؟
اللهم أطل بقاء مولانا السلطان، وأثبه على الإحسان وأعزّ به الوطن، إنك قدير على ما تشاء.