هناء الحبيبين
وسار الركب وبغلة سيدة الملك بجانب فرس عماد الدين وهما يقصان ما جرى لهما في تلك المدة الطويلة، والمحب إذا غاب عن حبيبه ساعة عاد ومعه عدة حكايات يرويها. وهو يرى في ذلك لذة خاصة لا يشعر بها غير المحبين. والغريب أن المحب لا يصبر على كتمان شيء عن حبيبه كأنه يرى في كتمانه خيانة، أو كأن قلبيهما يطلبان المكاشفة في كل شيء. فكما يتشاكيان ويتعاتبان. فهما أيضًا يلذ لهما نقل ما في قلب الواحد إلى قلب الآخر من حب أو فكر أو حكاية أو حديث.
وفيما هم في ذلك وقد بعدوا عن جبل السماق سمعوا وقع حوافر جواد وراءهم وكان عماد الدين لا يفتر يترقب سماع ذلك التماسًا لمجيء صديقه عبد الرحيم، وقد أصبح في شوق لرؤيته ليستطلع منه ما لمَّح إليه به وهما في الحصن.
فلما سمع وقع حوافر الفرس تباطأ في المسير ووقفت معه سيدة الملك. فأشار إليها أن تبقى سائرة والخادمان يتبعانها فمشت وتأخَّر هو لحظة فوجد صديقه عبد الرحيم يسوق فرسه كأن وراءه أناسًا يطاردونه فناداه: «عبد الرحيم.» فأجابه: «عماد الدين؟» قال: «ما وراءك؟ أراك مسرعًا هل عليك بأس؟»
قال: «كلا. لكنني خفت عليكم.»
قال: «وما الذي أخافك علينا؟ إننا في أمان.»
قال: «كنت في أثرك ساعة طعنت ذلك اللعين الطعنة القاضية، وتربصت بعد ذلك وأنا أراقب حركاتك حتى علمت أنك دخلت منزله ثم طال انتظاري ولم أشاهد مشعالك، فخفت أن تكون قد أُصبت بسوء، فركبت نحو المنزل من طريق آخر فلم أجد هناك أحدًا ثم رأيت المشعال فهرعت إليك هل عليكم بأس؟»
قال: «لا بأس علينا والحمد لله، بل نحن في خير وبركة.»
قال: «هلا علمت مَن هو الشيخ سليمان الذي قتلته؟»
قال: «نعم علمتُ، إنه أبو الحسن صاحب ثورة القاهرة التي ذهبتَ بسببها إلى مصر بتلك الرسالة المباركة وجئتني بذلك الجواب الثمين، وقد ظهر لي من إلحاحك عليَّ في قتله أن في الأمر سرًّا، وقد ظهر الآن أنك أعنتني على التخلص من هذا الشرير، وهذه بشرى سنزفها إلى مولاي صلاح الدين ولك الفضل فيها.»
قال: «وسنزف إليه بشرى أخرى بأن حياته في مأمن من غائلة الإسماعيليين.» قال: «طبعًا. وسأزف إليه وإليك بشرى هي في نظري أهم مما تقدم.» فقال: «وما هي؟»
قال: «لم تسألني عن هؤلاء الرفاق مَن هم؟»
قال: «كنت عازمًا على سؤالك، لكنني تنبأت بأنهم زوجة ذلك الشرير وخادماها وهي الآن زوجتك طبعًا.»
قال: «لا. لا. لم تكن له زوجة قط.» قال: «مَن هي إذن؟»
قال: «أتذكر الرسالة التي جئتني بها من القاهرة والسيدة التي خاطبتك وذكرتَ لي إعجابك بلطفها وكمالها؟»
قال بدهشة: «سيدة الملك، أخت الخليفة؟»
قال: «نعم، سيدة الملك. اختطفها هذا الخائن على يد بعض الفدائيين أصحابنا، وجاء بها إلى هنا تحت العذاب الشديد، وقُدِّر لي أن أنقذها.» فقال: «هذه الراكبة على البغلة سيدة الملك؟»
قال: «نعم، هل تريد أن تراها؟»
قال: «كيف لا … ولكن تمهل قليلًا ريثما نصل إلى مكان ننزل فيه عند الفجر. إذ لا بد من الراحة.»
قال: «هل أنت ذاهب معنا إلى مصر؟»
قال: «إذا كنتم تقبلونني.»
فأسرع في الجواب بلهفة قائلًا: «إن ذلك يكون من حسن طالعي. كم أحب أن تكون معي فنعيش معًا لعلي أقدر على مكافأتك، وسأخبر السلطان صلاح الدين بما كان من فضلك في إتمام هذه المهمة، وهي بشرى رابعة أزفها إليه. ولكن كيف تركت طائفة الإسماعيلية بعد أن صرت من كبار رجالها وصارت لك هذه الدالة على رئيسها العجيب الغريب. إني لا أنسى ما شاهدته من المدهشات في هذين اليومين.» فتنهد وقال: «لو لم أرتقِ إلى درجة المستنيرين لم يخطر ببالي أن أعتزل هذه الطائفة. ألم تنتبه إلى تغيري بعد هذا الارتقاء، لو بقيت فدائيًّا لظللت مشتاقًا إلى الارتقاء والاطلاع على الأسرار. فلما اطلعت عليها رأيتني كنت مغشوشًا وندمت على دخولي.»
فقال: «يا للعجب! لماذا لم يفعل ذلك الذين ترقَّوا إلى مثل هذه الدرجة قبلك؟»
قال: «لأنهم يرون في بقائهم ما يسد مطامعهم من الملذات وأسباب السعادة البدنية. لا يهمهم أن يتم لهم ذلك بتضحية الشبان الشجعان والفدائيين أمثالك. أما أنا فلا أحب هذه العيشة بما فيها من الغدر.»
فأطرق عماد الدين وتشاغل بتمشيط عُرف فرسِه بأنامله. ثم قال: «ألا تزال تعتقد كرامة الشيخ راشد الدين ومعجزاته؟»
قال: «كنت أعتقدها حتى ارتقيت وعرفت سرَّها فأنكرتها، وفي الدنيا كثير من الظواهر المدهشة إذا عرفت سرَّها احتقرتها.»
قال: «إني شديد الرغبة في معرفة سر ما شاهدت من معجزات الرجل.»
قال: «إني أعذرك، وقد كنت أود أن أكاشفك بسرها لولا أني أقسمت الأيمان المغلظة على الاحتفاظ بها، وأنت لا ترضى لي الحنث باليمين؛ لأني وإن تركت الجمعية وتخليت عنها فلم أتخلَّ عن شرفي وضميري. لكن هذه المعجزات ليس فيها شيء من الخوارق التي لا يقدر عليها الناس، وليست من قبيل الوحي الإلهي أو المقدرة الخاصة كما كنا نظن. والآن قد دنونا من محطة فيها ماء وخان أعرف صاحبه، فأرى أن ننزل هنا ريثما نستريح ثم نستأنف المسير.»
فأسرع عماد الدين إلى سيدة الملك وأخبرها برأي رفيقه عبد الرحيم فوافقت عليه، وكان الفجر قد لاح فنزلوا. وتقدم عماد الدين ومعه عبد الرحيم إلى سيدة الملك فقدَّمه لها وأخبرها عن فضله في نجاح مهمته فأثنت عليه كثيرًا.
فلنتركهم جميعًا يستريحون ولنعد إلى القاهرة، فقد طال سكوتنا عن أهلها. تركناهم بعد صَلْب عمارة وأصحابه المتآمرين وخروج رسول عماد الدين (عبد الرحيم) بالكتاب والجواهر إلى بيت المقدس. وقد اطمأن بال سيدة الملك وسَرَّها أنها خطرت ببال حبيبها. وقد ذكرنا ما كان من نقمة أبي الحسن بعد فشله في دمشق. وأنه أصبح همه الانتقام من سيدة الملك بأي وجه كان فأغرى بعض الأشقياء من الفدائيين على الاحتيال لاختطافها وذهب هو إلى مصر. فاغتنموا خروجها مع حاضنتها إلى البساتين على مقربة من قصر صلاح الدين واختطفوها كما تقدم، وسقطت ياقوتة وقد أُغمي عليها ولم تفُق إلا بعد ساعات. وكان اللصوص قد نجوا بغنيمتهم، فأخبرتْ قراقوش بذلك فأطلع صلاح الدين عليه فغضب وأمر بالتفتيش عن سيدة الملك وبث الجواسيس في الأطراف فلم يقفوا لها على خبر. فشق ذلك عليه كثيرًا، وزاد غضبه لانقطاع أخبار عماد الدين وندم على الإذن له في الذهاب؛ لأنه أحس بحقيقة منزلته بعد ما رآه من ثبات عزمه على خدمته. وكان يود ليزوجه بسيدة الملك ويفرح به فكان غيابهما سببًا لتنغيص عيشه، وكان يشغل خاطره عن حروبه مع الصليبيين وهي على أشدها في ذلك العهد، وقد أخذ يتهيأ لفتح بيت المقدس. وفيما هو في ذلك جاءه قراقوش يقول: «إن رسول عماد الدين الذي جاءنا في المرة الماضية أتى ومعه بشرى مهمة.» فأمر بإدخاله ورحَّب به فوقف متأدبًا فقال له: «ما وراءك، إنك لا تأتينا إلا بالبشائر الحسنة.»
قال: «إن ذلك بتوفيق الله وبركة مولانا السلطان. أُخبر مولاي أن عبده عماد الدين عاد من مهمته سالمًا ظافرًا، وكان يود أن يحمل هذه البشرى بنفسه لكنه شُغل بسيدة الملك فاستأذنته أن أحمل هذه البشرى إليكم قبل وصوله.»
فصاح صلاح الدين قائلًا: «وسيدة الملك معه؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فالتفت إلى بهاء الدين يلتمس مشاركته في الاستغراب، فقال بهاء الدين: «إن ذلك غريب! إنه في هذه المرة أيضًا أنقذها من الخطر. أليس ذلك دليلًا على أنهما خُلقا ليقترنا؟»
قال: «لا شك في ذلك، وهذا غاية ما أتمناه فابعث مَن يستقبلهما في موكب يليق بمقامهما.»
فأعد قراقوش موكبًا حافلًا استقبل القادمين في الخانقاه بجوار القاهرة ومعه هودج لسيدة الملك. ولما دنا الموكب من قصر صلاح الدين حوَّلوا الهودج إلى قصر سيدة الملك، وكانت ياقوتة قد علمت بقدومها فاستقبلتها وترامت على يديها تقبِّلهما، وشكرت الله على هذه النعمة. ورأت الضعف ما زال ظاهرًا في وجهها، فأخذت تداعبها بذكر عماد الدين وأنه لا يلبث أن يصير زوجها فقالت لها: «هل رأيت يا ياقوتة أن هذا الشاب يستحق قلبي؟ إنه أنقذني من الموت والعار مرة أخرى.» وقصَّت عليها خبرها باختصار.
أما عماد الدين فترجَّل قبل الوصول إلى قصر السلطان ومشى حتى دخل عليه وأكب على ركبته يقبِّلها ويقول: «أشكر الله؛ لأنه أراني وجه مولاي السلطان في خير.» وتقدَّم إليه الوزراء والقواد وسلَّموا عليه وهم لا يعرفون الغرض من مهمته ولكنهم جاروا السلطان بإكرامه.
ثم خلا صلاح الدين بعماد الدين، وبهاء الدين، وسأل الأول عن نتيجة مهمته فقصَّ عليه ما جرى من أوله إلى آخره، فأُعجب بهمته وما أظهره من الصبر وما لاقاه من المصاعب والمشاكل وتغلبه عليها جميعًا. وكان أغرب ما سمعه قتله أبا الحسن وإنقاذه سيدة الملك. فلما وصل إلى هنا ابتسم السلطان وقال: «بارك الله فيك. هذه همة عالية. رحم الله والدي، إنه كان صادق النظر في الرجال، توسَّم فيك مناقب كبار القواد، وقد صدق توسمه لأنك أتيت ما لم يستطعه سواك من رجالنا. فأنت الآن من كبار قوادنا ورجال خاصتنا.»
والتفت إلى بهاء الدين وقال: «يا بهاء الدين، هذا هو الشاب الذي فرَّ من بين يديك من قصر النساء. ألا تراه يستحق أن يكون زوجًا لسيدة الملك وقد أنقذها من أبي الحسن؟» قال: «إنه أهل لكل التفات، ويكفي أن يكون مولانا نجم الدين قد توسَّم فيه ذلك.»
قال: «قد آن له الآن أن يستريح من وعثاء السفر، وأحب أن تحتفلوا بزواجه احتفالًا يليق بالملوك وكبار القواد.»
فأكبَّ عماد الدين على يدي صلاح الدين يقبِّلهما فقبَّل صلاح الدين رأسه ثم قال عماد الدين: «أستأذن مولاي في كلمة عن صديقي عبد الرحيم، فقد سمعت بلاءه في خدمتنا وسيكون عونًا لنا في حروب الإفرنج؛ لأنه يعرف بيت المقدس بيتًا بيتًا و…»
فلم يصبر صلاح الدين حتى يتم حديثه فقال: «إنه أهل ليكون من خاصتنا، وهذا بهاء الدين يعرف له قدره وينزله منزلته. وأحب الآن أن أرى سيدة الملك وأهنئها بالسلامة.»
فهرع بهاء الدين إلى قصر النساء يبشر سيدة الملك بزيارة السلطان، فاستعدت لاستقباله، فلما أقبل عليها حيَّاها وقال: «قد أصبتِ لأنك فضلت عماد الدين عليَّ فإنه أنقذك من الموت مرتين وخلصنا من شر الأعداء. فهو جدير بك ونعقد له عليك بما يقتضيه مقامك.»
فخجلت سيدة الملك خجلًا يمازجه الفرح والإعجاب وأطرقت حياءً، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لم أفضِّل عماد الدين إلا لمناقب تعجب السلطان صلاح الدين وقد رفعه بسببها من عامة الناس إلى خاصتهم وجعله جليسه. على أني إذا فضلته من بعض الوجوه فإنني أنا وهو لا نفضِّل أحدًا على صلاح الدين، ونحن في رعايته وتحت ظله.»
فأعجبه جوابها فقال لها: «لست في رعايتي، ولكنك الآن في رعاية البطل عماد الدين، ويحق لك أن تفخري به كما يحق له الافتخار بك فاهنآ.» قال ذلك وخرج وغادر سيدة الملك وقلبها يرقص فرحًا وقد نسيتْ كل مصائبها الماضية.
واحتفلت مصر بزفافها إلى عماد الدين احتفالها بزواج الملوك.