سيدة الملك
ما كاد أبو الحسن يخلو بنفسه حتى رفس الأرض برجله من الغضب، وقد أخذ الحنق منه مأخذًا عظيمًا وتمشَّى في الغرفة. ويداه متعانقتان وراء ظهره وهو يُعمِل فكرته، ويتشاغل حينًا بالنحنحة أو السعال أو بحك ذقنه أو يصلح عمامته. ثم وقف وقال يخاطب نفسه: «رفض العاضد أن أكون ولي العهد بعده. لكنه سيراني خليفة. وأما تلك الملعونة أخته فإنها ما زالت ترفض الزواج بي، وإن رفضها هذا لأشد وطأة على نفسي من رفض الخليفة، لكنها ستندم وتعود صاغرة متى رأت ما يبلغ من كيدي. سوف تأتيني صاغرة باكية. وأظنها تحسبني مغرمًا بها وأني أريد التزوج بها عن شغف بجمالها. لست ممن يتعلقون بهذه الأوهام. ليس في قلبي حب لأحد. لا أحب أحدًا. إن حب النساء من الأوهام الباطلة التي تصرف الرجل عن المطالب العالية. إني أطلب ما يقصر عنه أخوها الخليفة نفسه. سأقتل صلاح الدين ولكن ليس إكرامًا لها ولا لأخيها. سأقتله ليخلو لي الجو. سأقتله وأقتل العاضد وأقتل كل مَن يقف في سبيل وصولي إلى الخلافة. إنها حق لي.» قال ذلك وكاد صوته يرتفع من عظم التأثر فانتبه لنفسه وسكت.
ثم مشى إلى غرفة داخلية أقفل بابها وراءه وقال وهو يشير بيده إشارة التهديد: «أما تلك الخائنة فسأذيقها مر العذاب. سأجعلها تندم ولات ساعة مندم.»
ثم اشتغل بتبديل ثيابه وهو يُعمِل فكرته في تدبير الحيلة لإغاظة سيدة الملك قبل كل شيء. فلما فرغ من اللبس أمر بالبغلة فأتته وركب إلى حيث يقيم صلاح الدين ووالده ورجال حاشيته. وفي جملتهم رجل يُقال له ضياء الدين عيسى الهكاري من الأمراء الصلاحية كبير القدر كان صلاح الدين يعوِّل عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به. فلما توَّجه أسد الدين إلى مصر مع بهاء الدين قراقوش صحبهما عيسى هذا وكان مخلصًا لصلاح الدين. فلما تُوفي أسد الدين اتحد عيسى وقراقوش على تنصيب صلاح الدين موضعه في الوزارة، ودقَّقا الحيلة حتى بلغا المقصود. فلذلك كان لعيسى دالة على صلاح الدين يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره، وكان من الجهة الأخرى علوي النسب فكان له مع أبي الحسن صداقة. وكان عيسى يحاسن أبا الحسن وفي نيته انه سيحتاج إلى استخدامه في مصلحة صلاح الدين، فكان يكرمه ويرحِّب به وصلاح الدين لا يعلم؛ لأن أبا الحسن كان يجتنب الاجتماع بصلاح الدين. وكان عيسى الهكاري في ذلك الحين في منظرة اللؤلؤة يجالس صلاح الدين ويباحثه، ويرشد أباه نجم الدين إلى ما يسهل عليه المهمة التي جاء من أجلها إلى مصر.
ركب أبو الحسن إلى منظرة اللؤلؤة لا يريد دخولها، ولكنه كان يعلم أن ضياء الدين الهكاري يختلف إلى هناك في تلك الأيام، فتوقع أن يراه في الطريق فيُظهِر أنه التقى به مصادفة؛ ليهون جره في الحديث عفوًا إلى الغرض المطلوب. وكان يعلم أيضًا أنه يتردد إلى دار العلم بجوار القصر الصغير. ودار العلم هذه أنشأها الحاكم بأمر الله وجمع فيها الكتب وجعلها مباءة لطلاب العلم للمطالعة أو النسخ. وفيها الأقلام والمحابر. ووقف على ذلك أماكن يُنفق على دار العلم من ريعها. وكان يجتمع فيها العلماء للمناظرة والمجادلة فأصبحت في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش مجتمعًا للمجادلة الدينية الخطرة، فأمر الأفضل بمنع الجمهور من دخولها. لكنها ظلت تحتوي على كثير من كتب الفقه والتاريخ فمن أحب من الخاصة أن يطالع شيئًا منها أذن له، فكان الهكاري من جملة المترددين إلى هناك.
فلما دنا أبو الحسن من منظرة اللؤلؤة سأل بعض الخدم عن الهكاري فقيل له إنه ذهب إلى دار العلم. فحوَّل شكيمة البغلة إلى هناك وأظهر أنه ذاهب لغرض آخر غير ملاقاته. فلما وصل الباب منعه البواب من الدخول لأنه لا يعرفه، فلم يعرفه بنفسه بل قال: «أحب الاطلاع على بعض الكتب وأعود.» فقال: «ذلك لا يجوز يا سيدي.» فقال: «كيف لا يجوز وقد علمت أن رجلًا دخل هذه الدار منذ هنيهة؟» فقال: «هو الفقيه ضياء الدين.» فأظهر أبو الحسن الاستغراب لوقوع هذه المصادفة وقال: «الفقيه ضياء الدين هنا؟ إنه صديقي … استأذنه في الدخول إليه.» قال: «مَن أقول له؟» قال: «قل له أبو الحسن يطلب الدخول.»
فذهب البواب ثم عاد ومعه ضياء الدين. فلما وقع نظره على أبو الحسن أسرع إليه ورحَّب به فتحوَّل أبو الحسن عن البغلة ودخل مع الهكاري وهو يتظاهر أنه فرح بهذه المصادفة. وكان ضياء الدين يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فجمع بين اللباسين، فلما التقيا قال أبو الحسن مداعبًا: «إنك قد جمعت بين زي الجند وزي الفقهاء، فهل أنت فقيه الآن أو جندي؟»
قال: «إني فقيه في بحثي الآن.»
قال: «أما أنا فقد طلقت الفقه، وإنما جئت للمطالعة في بعض الكتب لغرض علمي.» قال ذلك ومشى، فدخل ضياء الدين معه وهو يقول: «تفضل ادخل، لعلك تبحث في مسألة لغوية؟» قال: «كلا، إني لا أرى ذلك نافعًا الآن، ولكنني أطلب مسألة تاريخية، أحب الاطلاع على تاريخ السلاجقة فإن هؤلاء القوم أشداء ولهم تاريخ مجيد.»
فالتفت ضياء الدين إليه وقال: «أظنك تحب البحث عن سبب مقتل نظام الملك. مسكين!» قال: «لا. فإن قاتله من الإسماعيلية أصحاب شيخ الجبل … أليس كذلك؟ ليس لهذا جئت. ولكنني أريد الاطلاع على أصل هذه الدولة.»
قال: «اتبعني إلى خزانة كتب التاريخ.»
•••
مشى أبو الحسن في أثره حتى أدخله غرفة فيها رفوف عديدة رُتبت فيها الكتب حسب منوعات العصور. وساعده ضياء الدين حتى جمع له بضعة كتب تبحث في الدولة السلجوقية ومبدأ أمرها. فتناولها أبو الحسن وأخذ يقلِّب فيها وهو يقول: «فتش معي عن كتاب فيه ترجمة طغرل بك مؤسس هذه الدولة إنه كان رجلًا شديدًا.»
وبعد البحث وقف ضياء الدين على كتاب فيه سيرة طغرل بك دفعه إليه فتناوله أبو الحسن وهو يقول: «أظنني شغلتك عما جئت لأجله.»
قال: «كلا، بل أنا في غاية السرور من هذه المصادفة؛ لأني أحب أن أعرف تاريخ هذا الرجل مؤسس هذه الدولة التي ملأت الدنيا فتحًا. تفضل اقعد.» وأشار إلى طراحة على مقعد بالقرب منه. فقعد أبو الحسن وقعد الهكاري بين يديه وأخذ كتابًا آخر دفعه إليه أبو الحسن فجعل يقلِّب أوراقه وعيناه في الكتاب الذي يقرأ أبو الحسن فيه. فرآه وقف عند صفحة وجعل يقرأها ويعيد قراءتها ويهز رأسه إعجابًا أو استغرابًا. ثم قلَّبها وقرأ غيرها حتى فرغ من الكتاب فوضعه بجانبه وتناول غيره. فاشتاق ضياء الدين إلى مطالعة الصفحة التي رأى أبا الحسن يحدِّق فيها. فتناول الكتاب وهو يتوهم أنه فعل ذلك خلسة وأبو الحسن لا يعلم. ففتح تلك الصفحة فإذا هي تبحث في خطبة طغرل بك لابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة ٤٥٤ﻫ. وكيف أن السلطان طغرل بك وهو تركي طلب أن يتزوج بابنة هذا الخليفة مما لم يجسر عليه أحد قبله. وأن بعض القضاة أخبر الخليفة يومئذٍ أن غرض السلطان من هذا الزواج أن يأتيه من بنت الخليفة غلام فيه الدم العباسي. فيولِّيه الخلافة بهذه الحجة وتتوالى الخلافة في أعقابه وتخرج من العباسيين. وأن الخليفة انزعج لهذا الطلب واستعطف السلطان أن يعفيه من الإجابة إلى طلبه. فأبى ألا يُجاب بحيث اضطر الخليفة إلى إجابته وزوَّجه ابنته. لكن طغرل بك مات في تلك السنة ولم يُرزق من امرأته هذه أولادًا.
وكان ضياء الدين يقرأ ذلك وأبو الحسن يُظهِر أنه يقرأ في كتاب آخر وعيناه تختلسان النظر إلى الهكاري. فلما علم أنه فرغ من قراءة ذلك الفصل رفع نظره إليه وقال: «أرأيت شجاعة طغرل بك، وكيف أنه استطاع بحكمته وتعقله تأسيس هذه الدولة التي لولاها لم يكن صاحب الشام ولا صاحب العراق ولا غيرهما.»
قال: «نعم إنه رجل ذو بطش غريب وأنا أستغرب الآن ما قرأته في هذه الصفحة من مطامعه في الخلافة مما لم يطمع فيه أحد سواه من غير القرشيين فيما أظن.»
فتوجه أبو الحسن نحوه باهتمام وقال: «طمع فيها قبله عضد الدولة ابن بويه فأراد أن يزوج الخليفة الطائع لله بابنته لتلد من الخليفة ولدًا فيه من دمه فيجعل الخلافة فيه، فلم يوفَّق إلى ذلك، وأما هذا فإنه خطا خطوة أكبر من تلك. أراد أن يتزوج هو ببنت الخليفة ليكون ابنها فيه دم العباسيين، ولكن هل علمت كيف نجا الخليفة من هذا الخطر فحفظ الخلافة في العباسيين؟»
فقال: «إنه نجا بالمصادفة.»
قال: «أتظن موت طغرل بك كان مصادفة؟ وهل يموت بالمصادفة على أثر ذلك العقد المغتصب؟ لا أشك في أنهم سَقَوه السم. ولو أحسن الأسلوب لاحتاط لنفسه ونجا من ذلك الخطر ولم يذهب سعيه عبثًا.»
فقال: «وكيف يحتاط؟» قال يحتاط بألا يعرض نفسه للقتل بخطبة ابنة الخليفة فيُظهر غرضه. أعني لو طلب أن يتزوج أخت الخليفة أو إحدى بنات أعمامه مثلًا لا أظنهم كانوا ينتبهون لغرضه. فإذا ولدت له ولدًا ذكرًا كان فيه من الدم العباسي ما يكفي لادعاء حق الخلافة، ولكن ذلك التركي كان قصير النظر.»
ونظرًا إلى اهتمام ضياء الدين الهكاري بصلاح الدين وشغفه بتثبيت دولته كان كلما قرأ تاريخًا أو سمع حادثة مهمة طبَّق مغزاها على حال صلاح الدين لعله يستفيد منها ما يؤيد دولته. فلما سمع كلام أبي الحسن انتبه إلى أن صلاح الدين يقدر أن يفعل ذلك بالتزوج من أخت العاضد، وكان يسمع بجمالها وتعلقها، والعاضد أضعف من أن ينكر على صلاح الدين طلبه. وبذلك تصير الدولة إليه حتى نور الدين قد يدخل في سلطانه. فأشرق وجهه لهذه الفكرة. وصمَّم أن يفاتح صلاح الدين بها في ذلك اليوم. ولكنه تظاهر بأنه لم ينتبه لشيء وجعل يتشاغل بقراءة فصول أخرى وأبو الحسن يُظهر من الجهة الأخرى أنه يتكلم بكل سذاجة. ثم غيَّر الحديث فسأل ضياء الدين عن نجم الدين وهل هو مسرور من الإقامة في منظرة اللؤلؤة، فأجابه بما يقتضيه المقام وأصبح ضياء الدين شديد الرغبة في انصراف أبي الحسن ليمضي في مهمته الجديدة.
وبعد قليل استأذن أبو الحسن في الانصراف وودَّع صديقه الهكاري، وعاد على بغلته إلى دار الضيافة وهو يهمهم في أثناء الطريق ويكاد يخاطب البغلة من فرحه بانطلاء حيلته؛ إذ لم يشك أن الهكاري ذاهب حالًا إلى صلاح الدين ليحرضه على خطبة سيدة الملك. وهو يعلم يقينًا أن ذلك سيقع وقوع الصاعقة على رأسها ورأس أخيها، ولا يجدان سبيلًا لرد طلب ذلك الخاطب القاهر إلا إذا ادعيا أن الفتاة مخطوبة لابن عمها أي له (هو) فينال غرضه على أهون سبيل.
•••
لما ذهبت سيدة الملك إلى غرفتها لقيتها هناك حاضنتها وأخذت في مساعدتها على نزع ثيابها استعدادًا للرقاد، ولم تفاتحها بشيء من الحديث الذي جرى لها مع أخيها برغم شدة رغبتها في ذلك — والخدم من أكثر الناس ميلًا إلى استطلاع الأسرار لفراغ رءوسهم من المشاغل المهمة مع اطلاعهم على مخبآت تجري في منازل أسيادهم، ووقوفهم أمامها وقوف المتفرج ينتقدون هذا ويحسنون عمل ذاك على ما توحيه أغراضهم أو مداركهم، فيلذ لهم التحدث فيما بينهم كل واحد عما يعلمه من أحوال مخدومه، ويندر فيهم مَن يحافظ على سر مولاه ويغار على سمعته، ويسعى في درء الشبهات عنه — وكانت حاضنة سيدة الملك من هذا النوع واسمها ياقوتة، وقد رُبيت في دار الخلافة وسيدة الملك طفلة، فكانت لها عناية خاصة بها. فشبت سيدة الملك على الوثوق بها حتى جعلتها مستودع أسرارها فلم يكن يفوتها شيء مما يخالج ضميرها. وذلك طبيعي في مثل حال هذه المرأة من الحجاب في ذلك العصر، فإنها لا تختلط بالناس ولا تجد مَن تحادثه إلا الخدم. وكانت ياقوتة قد علمت منذ جاء الخليفة أنه يشكو انحرافًا وتلصصت من وراء الستر لتتسمع ما يدور من الحديث على عادة أمثالها من حب الاطلاع ورغبة في خدمة سيدتها. ولم تتوقع أن يدور بين الخليفة وأخته ما دار. فلما جاءت سيدة الملك لنزع ثيابها كانت ترجو أن تسمع منها شيئًا جديدًا ولحظت فيها تغيرًا يدل على قلقها واضطرابها.
فلما فرغت سيدة الملك من تبديل الثياب قعدت على سريرها وقد حلت شعرها الذهبي وأرسلته ضفيرة واحدة إلى ظهرها وتنفست الصعداء وأطرقت، ولحظت ياقوتة في عيني سيدتها ما يشبه الدمع فترامت على قدميها وأخذت تقبِّل ركبتيها وتقول: «ما بالك سيدتي، لماذا تبكين؟ وأظهرت أنها لم تكن مطلعة على شيء.
فرفعت سيدة الملك عينيها إليها وبان الدمع فيهما وتنهدت ثانية وقالت: «تسألينني يا ياقوتة عن سبب بكائي، وتستغربين حزني؟ ليس حزني غريبًا، وإنما الغريب ألا أقضي يومي باكية نادبة!» قالت ذلك وغصت بِرِيقها.
فشاركتها ياقوتة البكاء لكنها أظهرت التَّجلُّد وقالت: «ماذا يجري يا سيدتي هل جرى شيء جديد؟
قالت: «ألا يكفي ما جرى مما تعلمينه؟ أنت عاقلة لا يخفى عليك شيء وتعلمين حالنا مع هؤلاء الأكراد واستبدادهم في الدولة. وهذا أخي جاءني اليوم وقد أصابته الحمى من شدة الغيظ لما صارت إليه الخلافة، فكيف لا أبكي؟»
قالت: «لا بأس من البكاء ولكن لا فائدة، وإنما الفائدة بالصبر والحكمة حتى يقضي الله بما يشاء، فلكل أمر نهاية، وإنما …»
فقطعت كلامها قائلة: «لا. لا. ليس لهذه الكارثة نهاية إلا بالموت، مَن ينقذنا من هؤلاء الأكراد وقد وضعوا أيديهم في كل شيء حتى دارنا هذه فإن عليها حارسًا من رجالهم؟» وبلعت ريقها ومسحت دموعها وهي تستعد لاستئناف الحديث ثم قالت: «وهذا كله هين يا ياقوتة، كله هين سهل بالنظر إلى أمر آخر جاءنا به الجليس من عند أبي الحسن في هذا اليوم.»
فتطاولت ياقوتة بعنقها وقالت: «وما هو يا سيدتي؟»
قالت: «جاءنا بمهمة يزعم أنها تنجينا من هذا الضنك. ولكنها إذا صحت أوقعتنا فيما هو أشد وطأة وأصعب مراسًا.»
قالت ياقوتة: «وهل أشد وطأة من هذه الحال يا سيدتي؟»
قالت: «نعم أشد وطأة منها أن يكون ذلك الكهل الوقح وليًّا للعهد بعد أخي — حفظه الله.»
فأظهرت أنها لم تفهم مرادها فاستفهمتها فأوضحت لها شروطه التي تقدم بيانها ثم قالت: «ولنفرض قدرة ذلك الشريف الكاذب على قتل صلاح الدين فإن صيرورة ولاية العهد إليه بدل ابن أخي أصعب عندي من البقاء في حوزة صلاح الدين.»
فقالت ياقوتة وهي تُظهِر الاهتمام: «لا أرى رأيك في ذلك يا سيدتي، بل أَعُد سعي أبي الحسن هذا بابًا للفرج؛ لأنه إذا لم يستطع قتل صلاح الدين لا ينال شيئًا. وإن استطاع فإن ولاية العهد لا تصير إليه؛ لأن مولانا أمير المؤمنين شاب في مقتبل العمر، أطال الله بقاءه. ومَن يعلم المستقبل؟»
فلم تعد سيدة الملك تصبر على سماع هذا العذر، فنهضت فجأة ونهضت معها ياقوتة وهي تنتظر ما تقوله فإذا هي تقول: «ولكنه يشترط أيضًا شرطًا آخر، الموت أهون عليَّ من قبوله.»
وكانت ياقوتة تعلم برغبة أبي الحسن فيها، فأظهرت أنها فهمت مرادها فقالت: «إنك تكرهين هذا الرجل كرهًا شديدًا بلا سبب، اصبري يا سيدتي حتى أتم كلامي. إذا نظرنا في مطالبه وشروطه لا نجد ما يبعث على هذا القلق. إن الرجل من أبناء عمك ويعرض أن يقتل أعدى عدو لنا وينقذ هذه الدولة من الخطر الذي لم يقدر عليه أحد سواه، فإذا فاز صار وليًّا للعهد وتزوج بأخت الخليفة ولا أظنك تستنكفين أن تكوني زوجة رجل أنقذ الدولة، وهو مع ذلك شريف النسب، تبصري فيما أقول.» قالت ذلك وأكبت عليها وجعلت تقبِّلها وتضمها للتخفيف عنها.
فحوَّلت سيدة الملك وجهها عنها نحو ستارة معلقة على الحائط عليها صور عربية وأظهرت أنها تتأملها ولكنها لم تكن ترى شيئًا لفرط اضطرابها وغضبها. وظلت ساكتة فظنتها ياقوتة تستسيغ رأيها فعادت إلى الموضوع وأحاطت عنق سيدتها بذراعها وهي تقول: «لا تتعجلي يا سيدتي برأيك، فكري في الأمر مليًّا، إن عليه يتوقف بقاء هذه الدولة وفضلًا عن ذلك فإنك لا تجدين من أبناء عمك مَن يستطيع هذا العمل، فلا باعث على النفور منه.»
فقطعت سيدة الملك كلامها وتحولت نحوها وقد بان الغضب في عينيها وقالت: «تقولين لا باعث على هذا النفور؟»
قالت: «نعم أقول ذلك؛ لأني لا أرى باعثًا. وإلا قولي ما يبعثك على رفضه؟»
قالت: «يبعثني على ذلك أني لا أطيق أن أرى هذا المنافق. إذا رأيته ارتعدت فرائصي من رؤيته. تبًّا له كأن عينيه من نوافذ جهنم! إذا نظر إليَّ خُيل لي أن الشيطان يطل من حدقتيه ويهم بأن يأخذ بتلابيبي، دعيني لا أقدر أن أتصوره!»
فهزت ياقوتة رأسها هزة الإنكار وقالت: «يا للعجب إنك تكرهين هذا الرجل عفوًا. أظنك تظلمينه. لم أرَ منه ما يبعث على شيء من ذلك!»
قالت: «ألا ترين الشر في سحنته؟ إني أرى ذلك واضحًا يكاد يُلمس باليد. دعيني منه.»
قالت وهي ممسكة يدها تجلسها على السرير: «اقعدي يا سيدتي لأخاطبك كما تخاطب الأم ابنتها وإن كنت لا أستحق هذا الشرف.»
فقعدت وهي تنظر في عيني ياقوتة فقالت ياقوتة: «إنك يا سيدتي شابة في مقتبل العمر وقد منحك الله جمالًا وتعقلًا، ولا بد من أن تتزوجي بمن هو كفؤ لك وأنا لا أرى أكفأ من أبي الحسن فإنه عريق في النسب العلوي الشريف.»
فوثبت سيدة الملك من السرير وقد تغيرت سحنتها وغلب عليها الغضب وقالت: «ليس الزواج ضروريًّا لي. وإذا كان لا بد منه فلا يهمني أن يكون ذلك الزوج من النسب العلوي.» قالت ذلك وتنهدت تنهدًا عميقًا وامتقع لونها ثم احمرت وجنتاها فجأة وبان الحياء في عينيها، فحولت وجهها عن ياقوتة وغطت عينيها بكفيها. فاستغربت ياقوتة حركاتها وأدركت أن ذلك لا يبدو إلا من فتاة عالقة القلب برجل يمنعها الحياء من ذكره، فغيَّرت لهجتها في الحديث وضمتها إلى صدرها وقبَّلتها بين عينيها وقالت: «فهمت الآن شيئًا لم أكن أعرفه من قبل، أنت عالقة القلب برجل آخر.»
فنفرت سيدة الملك من هذا التعبير الصريح وتراجعت وهي ما زالت مطرقة وظلت ساكتة فتبعتها ياقوتة وهي تقول: «لعلي بالغت في التصريح فوقعت عبارتي ثقيلة على سمعك. لكنني أرجو أن تصدقيني الخبر. فأنا معك كل يوم وكل ساعة لا أفارقك ولا يدخل علينا أحد من الرجال غير أخيك وبعض الأطفال من أبنائه وأبناء عمك فيبعد أن تكوني عالقة بأحد، لكني أرى دلائل الحب في عينيك.»
فازداد احمرار وجهها وزاد حياؤها وهمت بالكلام ثم توقفت. فقالت ياقوتة: «قولي. لا تخافي. هل تحبين أحدًا؟» قالت: «دعيني يا خالة. دعيني من هذا البحث الآن. لا فائدة منه غير زيادة الأشجان.» قالت ذلك وأظهرت أنها تميل إلى الرقاد فأعانتها ياقوتة حتى استلقت على السرير ووضعت الغطاء عليها وجعلت تصلح ما يحيط بها من الملاءة والوسادة وهي تراقب ما يبدو منها، فإذا آنست ميلها إلى الحديث استأنفته وإلا تركتها تنام.
أما سيدة الملك فإن الحديث هاج أشجانها ومالت إلى مفاتحة حاضنتها بما يكنه ضميرها، ولكن الحياء كان غالبًا عليها. وكانت تظن الحاضنة تصر من نفسها على استتمام الحديث، فلما رأتها أطاعتها وأعانتها على الرقاد ندمت وأخذت تتذرع إلى استئناف الكلام، فأظهرت ضجرها من الغطاء وتنهدت والتفتت إلى ياقوتة لفتة أثرت في أعماق قلبها فانحنت فوقها وهي جاثية بجانب السرير وقالت: «ما بالك يا سيدتي يا حبيبتي، لماذا تكتمين همك عني؟» فقالت ولسانها يتلعثم: «أخاف أن تضحكي مني أو تهزئي بي.» قالت: «معاذ الله أن أفعل ذلك! وكيف أفعله ولماذا؟» قالت: «لأني أحب رجلًا لا يخطر ببالك أني أحبه، ولو علم أخي به لاستغرب عملي وحسبني مجنونة!» وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها تحت رأسها ورفع الغطاء وإصلاحه.
فوقعت ياقوتة في حيرة ولم تفهم حقيقة مرادها أو لعلها أدركت قصدها وتجاهلت لتسمع زيادة، ثم قالت: «لم أفهم يا سيدتي مرادك. مَن هو الرجل الذي وقع من نفسك هذا الموقع لا بد أن يكون نادرة الزمان.»
قالت: «إنك تعرفينه جيدًا. قد رأيتِه في هذه الدار كما رأيته. وشهدت أنت نفسك أنك لا تعرفين أشرف منه خلقًا ولا أكبر همة ولا أعز نفسًا، رأيته وبيده خصلة الشعر التي كان أخي قد بعث بها إلى صاحب دمشق يستغيث به باسم نساء قصره. إن أخي ارتكب بذلك ذلًّا لم يمحه إلا هذا، فرد عليَّ شعري بعد أن أنقذ حياتي من الموت ونجَّى شرفي من الدنس.»
فصاحت ياقوتة: «أظنك تعرفين الشاب الفردي.»
فابتدرتها بلهفة وقالت: «نعم إياه أعني. أعني ذلك الشهم الباسل!» قالت ذلك وقد عاد إليها نشاطها وتحمست وبان الاهتمام في عينيها.
فتقدمت ياقوتة إليها وهي تبتسم وقد شاركتها ذلك الشعور وقالت: «الآن فهمت المراد. قد عرفت الشاب جيدًا ولا أنسى ذلك اليوم.»
فقالت سيدة الملك: «هل عرفت اسمه؟» فأطرقت الحاضنة وأعملت فكرتها كأنها تراجع ذاكرتها ثم قالت: «نعم علمت اسمه، ولكن هل تعلمين أنت مَن هو وما هي علاقته بصلاح الدين عدونا الألد الذي يشكو أخوك أمير المؤمنين ظلمه؟» قالت: «لا. لا أعلم.» قالت: «إنه من رجال خاصته، لا يخطو خطوة إلا وهو معه!»
قالت وهي تبتسم: «فهو إذن قد نال ثمرة تلك المناقب السامية فتقدم عند مولاه. وما اسمه؟» قالت: «اسمه عماد الدين. وكثيرًا ما رأيته واقفًا بباب قاعة الذهب في انتظار صلاح الدين وهو عند مولانا أمير المؤمنين. ألم تشاهديه من نافذة قصرك؟» قالت: «لم أشاهده هناك، لكنني رأيته غير مرة واقفًا بباب هذا القصر يخاطب الأستاذ بهاء الدين قراقوش وعيناه لا ترتفعان إلى النوافذ، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا كأنه لا يعرف أهل هذا القصر. وكثيرًا ما وددت لو يرفع بصره لعله يلتقي ببصري، وربما أقرأ في عينيه شيئًا يدلني على رأيه فيَّ، فلم يزدني ذلك إلا شغفًا بمناقبه. اعذريني يا خالة. طالما كتمت هذا الحب حياء وخجلًا وكنت أرى في كتمانه لذة. أما الآن فقد بحت به وقُضي الأمر.»
فقالت: «أنت يا سيدتي تحبين عماد الدين، خادم صلاح الدين! بالله ما هذا؟ كيف علقت به من النظر إليه مرة واحدة. هذا أمر عجيب، إن بين أعمامك وفي قصور أخيك عشرات من الشبان أجمل منه، ويقع نظرك عليهم منذ أعوام، وكلهم يتمنون نظرة منك ولكنك لم تكترثي لأحد منهم!»
فقالت سيدة الملك: «صدقت يا خالة إني أكثر منك استغرابًا لما أصابني من تلك النظرة! ولكنها في الحقيقة ليست نظرة. إنها ساعة أطول من العمر كله. كنت فيها بين الحياة والموت فنظرت ذلك الشاب وأنا أكاد ألقى وجه ربي أو أتلطخ بالعار. فمد يده وأنقذني. فخُيل لي أنه ملاك هبط عليَّ من السماء!»
قالت ذلك وعادت إلى الإطراق وقد توردت وجنتاها.
فقالت ياقوتة: «إذن أنت تحبين عماد الدين؟»
فأبرقت عيناها رغم ذبولهما من البكاء والانكسار وابتسمت ابتسامة لطفت ما تكاثف في وجهها من الحزن، وأومأت برأسها أن «نعم»، وأسرعت إلى الغطاء فرفعته إلى رأسها استحياء.
وقع قولها عند ياقوتة موقع الاستغراب وقالت وهي تزيح الغطاء عن وجهها بلطف: «نعم يا سيدتي إن عماد الدين شهم نادر المثال، ولكنه لا يليق بسيدة سليلة المعز لدين الله.»
فنهضت وقعدت وقد انحل شعرها حتى غطى كتفيها وخديها ونظرت إلى ياقوتة نظر العتاب وقالت: «إن المعز — رحمه الله — لم يبلغ إلى هذا السؤدد ولا توارث أبناؤه هذا الملك الواسع إلا بمناقبه وعلو همته وكرم أخلاقه. ومناقب عماد الدين لا تقل عنها شيئًا. إنك تعلمين ما أتاه هذا الشاب من المروءة يوم واقعة العبيد، وكيف تفانى في سبيل نجاتي وحمل إليَّ خصلة الشعر ولا يعرفني. إن كنت فد نسيت ذلك فإني لا أنساه. لا أنسى يوم أتاني ذانك الشقيان وأرادا حملي من الدار فأنقذني هذا الغريب منهما بغير ثواب يرجوه ولا عقاب يخافه، وإنما فعل ذلك مندفعًا بأخلاقه السامية! فأنا من أجل هذه الأخلاق أحببته ولم أنظر إلى أصله وفصله.» وتوقفت لحظة وهي ترفع شعرها عن عينيها ثم قالت: «أتذكرين ذينك الرجلين اللذين همَّا بي في ذلك اليوم؟ إذا علمت الآن أنهما من أبناء الملوك أو الخلفاء وطلبني أحدهما هل ترضين أن أكون زوجة له؟»
قالت: «معاذ الله! إنهما ساقطا الهمة.» قالت: «اعلمي أن أحدهما يغلب على ظني أنه أبو الحسن الشريف الذي تُرغِّبونني فيه، والآخر خادم له استعان به لاختطافي في وسط الغوغاء بعد أن علم أني لا أريده.» قالت ذلك وكأنها ندمت على ما فرط منها فسكتت وأطرقت.
فقالت ياقوتة وقد تولتها الدهشة: «هل أنت على يقين مما تقولين يا سيدتي؟»
قالت: «لا أقول إني على يقين، ولكنني أرجح هذا الظن كثيرًا. ومع ذلك فأنا لا أقول هذا ولا ذاك، وإنما أقول إني منذ رأيت عماد الدين وما أتاه من المروءة شعرت بشيء اجتذب قلبي نحوه، وكنت أتوقع أن أراه مرة أخرى يأتي فيها إلى أخي يطلب مكافأة على صنيعه. فلما لم يأتِ ازددت إعجابًا به وارتفعت منزلته في قلبي وتحوَّل الإعجاب إلى حب شديد.» ثم تنهدت وقالت: «ويلاه! هل هو يشعر مثل شعوري؟» قالت ذلك وخنقتها العَبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء، والحاضنة تستغرب هذا التعلق بنظرة واحدة فأخذت تخفف عنها وتقبِّلها وتقول لها «خففي عنك يا سيدتي … ارجعي إلى رشدك، إن مثلك لا يسترسل في عواطفه إلى هذا الحد مع شخص لم يره إلا بضع مرات ولا يعرف شعوره من جهته، تجلدي وفكري في الأمر. لو فرضنا أنك وأنت في هذا الهيام علمت أن عماد الدين يحب سواك كيف تكون حالك؟ تبصري قليلًا.»
فاستجمعت سيدة الملك قواها واسترجعت رشدها وأطرقت وهي تتأمل في عبارة حاضنتها فرأت الحق معها. ولكن الحب سلطان مستبد لا يذعن للحق ولا يعرف الصواب. وإنما يلذ له الاستبداد بلا سبب والفتك بلا حساب. ولا يحلو الحب إلا أن يكون مستبدًّا؛ لأنه ومتى أذعن للأحكام العقلية والأقيسة المنطقية أو الاعتبارات الاقتصادية صار معلمًا أو تاجرًا أو فقيهًا. وإنما هو سلطان مطلق لا يقيده دستور ولا يردعه خوف من عقاب. فهو لا يُسأل عما يفعل ورعيته راضية باستبداده تعد ظلمه عدلًا وتحسب عسفه رفقًا.
ذلك كان شعور سيدة الملك في تلك اللحظة كان عقلها يدلها على مكان الخطأ وهي لا تريد أن تراه. فاسترسلت في عواطفها ونظرت إلى ياقوتة والاعتراف على شفتيها والإنكار في عينيها وقالت: «صدقت يا خالة. ولكني لا أظنه يفعل ذلك … لا. لا. ولن مهما يكن فإني لا أرى سبيلًا إلى غير ما ذكرت فدبريني برأيك.»
فتحيرت ياقوتة في الجواب ورأت الحديث قد طال وتوالت الغرائب التي كُشفت لها في تلك الليلة، فعزمت على استخدام الوقت للتفكير على انفراد لعلها تهتدي إلى حل يرضي سيدتها ويوافق ضميرها. فترامت على يدي سيدتها تقبِّلهما وهي تقول: «خففي عنك يا مولاتي. إني أَمَتُك أفديك بروحي. كوني مطمئنة وقد تعبت اليوم من هذا الحديث، وآن الرقاد فتوسدي فراشك. وأمهليني لأنظر في الأمر ولا بأس عليك في كل حال. فإن أخاك — حفظه الله — لا يجبرك على من لا تحبينه. وأنا أعلم منزلتك عنده لكن لا بد من تدبير طريقة لمشاهدة عماد الدين. توسَّدي فراشك وها إني ذاهبة. وسأفكر فيك كثيرًا الليلة وأما أنت فلا أظنك تفكرين فيَّ.» وضحكت مداعِبة ثم قالت: «فكري فيمن تحبين.» فاستلطفت سيدة الملك تعبيرها؛ لأنه كان من أقصى أمانيها أن توافقها ياقوتة على اعتقادها وتشعر معها بما في قلبها فيهون عليها كل شيء. فسُري عنها وأطاعت حاضنتها فرقدت وذهبت ياقوتة أيضًا إلى فراشها.
•••
قضت سيدة الملك بقية الليل بين اليقظة والمنام لفرط قلقها وأفاقت في الصباح التالي على صوت المؤذن لصلاة الصبح، ولم يكن يُطلب منها القيام حينذاك لكنها لم تعد تستطيع رقادًا. فجعلت تتقلب على الفراش وأفكارها تائهة. وتذكَّرت أخاها وأحبت أن تعلم حاله بعد ذهابه من عندها هل شُفي مما كان فيه. فنهضت من الفراش والتفَّت بمطرف من الخز التماسًا للدفء وخرجت من غرفتها إلى ممر يؤدي إلى شرفة تطل على مصلى الخليفة، فرأت أخاها قد خرج للصلاة فاطمأن بالها عليه. ولما عادت إلى فراشها استقبلتها الحاضنة وسألتها عن حالها وأخذت تحادثها وتؤانسها ومشت معها إلى غرفتها وأعانتها في لبس ثيابها وأمرت بإعداد المائدة وجلست إليها وهي تقول: «أطمئنك عن صحة سيدي أمير المؤمنين فإنه في خير.»
قالت: «عرفت ذلك من خروجه للصلاة، وأحمد الله على ذلك. ولكني أحب أن أراه.»
قالت: «سترينه الليلة بعد رجوعه من قصر الذهب والفراغ من مهام الدولة. هيا بنا إلى الطعام الآن.»
فمشت إلى غرفة المائدة فتناولت الطعام وهي تتوقع أن تفاتحها ياقوتة بالحديث عن عماد الدين فلم تفعل، فاستحيت هي أن تذكره. قضت نصف ذلك النهار وهي تتشاغل بشئون مختلفة. وأحست بعد الغداء بميل إلى الرقاد من فرط تعب أمس فتوسدت فراشها فنامت ملء جفونها. وأفاقت وقد هدأت أعصابها وهان عليها ما هي فيه بالنسبة إلى ما كانت عليه من التعب؛ لأن تعب الأعصاب يزيد صاحبه قلقًا ولا يريه الأمور إلا من وجهها الأسود.
فنهضت من الفراش وقد أشرق وجهها وعاد إليه ابتسامه وصفَّقت تطلب الحاضنة فأبطأت عليها. ثم جاءتها وفي وجهها خبر فخفق قلب سيدة الملك عند رؤيتها ولم تصبر عن الاستفهام عما وراءها، فقالت ياقوتة: «ما ورائي إلا الخير يا سيدتي هلم بنا.» فأجفلت وقالت: «إلى أين؟ قالت: «إلى خزانة الجوهر.»
فأعرضت عنها إعراض المنكر لما يسمعه وقالت: «أين الجوهر إنهم لم يتركوا فيها شيئًا.» قالت: «إنهم أخذوا كثيرًا وتركوا كثيرًا. لكنني لا أدعوك للجوهر يا سيدتي وإنما أريد ذهابك إلى تلك الخزانة لملاقاة سيدي أمير المؤمنين، فإنه أنفذ في طلبك إليه على أن توافيه إلى تلك الخزانة لسبب لا أعلمه.» قالت بلهفة: «أخي يطلب ذهابي لملاقاته هناك؟»
قالت: «نعم يا سيدتي. ولا حاجة إلى تبديل ثيابك؛ لأنك تذهبين إلى ذلك المكان في ممر يؤدي إليه لا تجدين فيه أحدًا. هلم بنا.»
قالت ذلك وأشارت إليها أن تمشي فلفَّت رأسها بملاءة لازوردية اللون ومشت وهي تفكر فيما عساه أن يكون الغرض من هذه الدعوة في ذلك النهار.
خرجا من قصر النساء إلى ممر أخلاه الخدم والجواري. فمرت سيدة الملك ولم تجد أحدًا في طريقها حتى أتت خزانة الجوهر. وهي غرف عديدة نُصبت فيها الخزائن والرفوف وأُقيمت فيها الأرائك فوق الطنافس، ولم تكن دخلت تلك الدار من عهد طويل. ولكنها كانت تسمع بما تحوي من الذخائر النفيسة والجواهر الثمينة وتعلم أنها أُخذت في أيام المستنصر بالله أبي تميم لما غلب على أمره منذ نحو مائة عام. ولم تكن تتوقع أن تجد فيها شيئًا من الجوهر يستحق الذكر.
وصلت إلى الباب فاستبقها الحاجب وأدخلها وأشار إلى ياقوتة بالانصراف فانصرفت. أما سيدة الملك فدخلت وعيناها شائعتان تبحثان عن أخيها. فرأته جالسًا في صدر القاعة الوسطى وحده على مقعد، وقد تخفف بعمامة صغيرة وبيده سبحة يَعُد حباتها وهو مطرق يفكر. فلما أنبأه الحاجب بمجيء أخته رفع بصره إليها وهش لها وأخذ يرحب بها فترامت عليه وسألته عن صحته فقال: «إني والحمد لله في خير وعافية، وكيف أنت؟»
قالت: «طالما كان أمير المؤمنين سالمًا فأنا سالمة، أبقاه الله لنا ركنًا وسندًا.» قالت ذلك وهي تقرأ في وجهه خبرًا جديدًا. ولكنها تجاهلت وخاطبته وهي تقعد على وسادة بالقرب منه قائلة: «إني لم أدخل هذه الدار منذ سنين عديدة، وآخر مرة دخلتها كنت طفلة ولا أذكر أني علمت ما فيها و…»
فقطع كلامها قائلًا: «وماذا عساك أن تعلمي؟» كفى أن تسمعي بما كان فيها قبل عهد جدنا الإمام المستنصر، رحمه الله. انظري إلى هذا الصندوق.»
فنظرت إليه وهو متقن الصنعة وعليه نقوش فظنته يلفت نظرها إلى نقشه فقالت: «إنه جميل.» قال: «لا أعني جمال ظاهره، ولكنني أعني ما كان فيه من الحجارة الكريمة، أخبرني والدي — رحمه الله — أنهم أخرجوا منه في زمن المستنصر سبعة أمداد زمرد قيمتها ٣٠٠٠٠٠ دينار، تخاطفها الناس.»
فدهشت من ذلك وقالت: «إن ذلك غريب نادر.» قال: «ولو أسرد ما كان من التحف في هذه الدار لاستغرق سردها فقط عدة ساعات، وإنما أذكر عقدًا من الجواهر قيمته ثمانون ألف دينار بيع يومئذٍ بألفي دينار. وأخذوا من خواتم الذهب والفضة فقط نحو ١٢٠٠ خاتم فصوصها من الجواهر المختلفة، فيها ثلاثة خواتم ذهب مربعة، على كل منها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت سماقي ورماني، بيعت باثني عشر ألف دينار. غير ما أخرجوه من الجواهر ونحوها، فإنها كانت تُحصى بالويبة وتُكال بالكيل. منها ويبة جواهر مشتراة في الأصل بسبعمائة ألف دينار باعوها بعشرين ألف دينار. وطاووس ذهب مرصع بالجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من زجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس. غير التحف المتوارثة عن الخلفاء أو المنقولة إلينا من العباسيين وغيرهم، ورقع للشطرنج أحجارها من الجواهر والذهب والفضة والعاج. كل هذه ومئات مثلها أُخذت في نكبة المستنصر ولا فائدة من الكلام الآن.»
فانقبضت نفس سيدة الملك مما سمعته وقالت: «إن مصيبتنا قديمة يا أخي. ولا فائدة من التذكار الآن.» قالت ذلك وهي تتعجل ما في خاطر أخيها عن سبب استقدامها إليه. فقال: «صدقت ولكنني أطمئنك أن أولئك اللصوص لم يأخذوا كل ما كان لنا، فإن بعض خواصنا وأهل بطانتنا المخلصين يومئذٍ احتفظوا لنا ببعض ما كان من الذخائر ولا يزال مخبأ إلى الآن.» قال ذلك ونهض إلى خزانة داخلة في الحائط لا تلفت الناظر إليها ففتحها بمفتاح استخرجه من جيبه، ومد يده فأخرج منها علبة بها عقد من الجوهر يبهر النظر دفعه إليها فتناولته وجعلت تقلبه فقال لها: «خذيه جربيه على عنقك.» فتراجعت وأعادته إلى العلبة. فمد يده وأخرجه وألبسها إياه في عنقها وقال: «هذا لك.»
فأرادت أن ترجعه فمنعها وقال: «خذيه إنه لا يليق بأحد سواك.» واستخرج من علبة أخرى خاتمًا حجارته من الزمرد والياقوت نحو الذي ذكره وألبسه إياها في إصبعها فلم يعجبها منه هذا الكرم ولحظ استغرابها فقال: «لا تستغربي، ما ترينه فإن في هذه الخزائن تحفًا أخرى لا يعلم بها سواي، وسأدفعها كلها إليك لئلا تذهب كما ذهبت تلك.»
فتوسمت من كلامه شيئًا يعنيه لسبب طرأ عليه، فقالت: «ماذا تعني يا أخي، معاذ الله أن يكون ما تشير إليه. لا يتمتع بهذه الذخائر سواك وسوى أولادك.» قالت ذلك واختنق صوتها رغم إرادتها، لكنها تجلدت وهمَّت أن تتم كلامها فلحظت في عيني أخيها شيئًا كالدمع وهو ينظر إليها نظر المستعطف. ثم قال: «أنت لا تريدين أن تبقي هذه التحف!»
أدركت ما يشير إليه من تمنعها عن قبول أبي الحسن زوجًا لها بعد أن تكفَّل بقتل صلاح الدين. فأحست بوخز الضمير وأثَّر فيها الأسلوب الذي اختاره أخوها لمعاتبتها. لكنها لا تستطيع أن توافقه، ولا تعتقد أن أبا الحسن يستطيع القيام بوعده ولم تجد الوقت مناسبًا للدفاع في تلك الساعة فقالت: «أنت تعنفني يا أخي على أمر ليس في طاقتي، فأنا قد عاهدت نفسي ألا أتزوج وإذا كان ذلك الرجل يقدر على شيء فليفعله ثم نرى ما يكون.»
فرأى في جوابها شبه الرضا فقال: «إنما المطلوب قبل كل شيء أن تظهري الرضا به ليقدم على هذا العمل، أليس كذلك؟» قال ذلك وهو يبتسم ويهش ليسترضيها، فكادت تُغلب على أمرها وأوشك أن يحملها حبها لأخيها على أن توافقه، لكنها ما لبثت أن تصورت أبا الحسن فنفرت منه وتذكرت عماد الدين فاختلج قلبها في صدرها وتوردت وجنتاها.
فظنها أخوها تريد إجابته لكنها تستحي فقال: «ما الذي يضرك أن تجيبي طلبي وهذا الرجل أكفأ إنسان لك، فضلًا عما وعدنا به من الخير؟ قولي إنك ترضينه خطيبًا لك، وإذا كنت تحسبين قبولك له مصيبة … فإنها مصيبة صغرى.» وأبرقت عيناه كأنهما تنطقان بسر يكتمه. وتشاغل بعد حبات سبحته.
فأطرقت سيدة الملك وأعملت فكرتها في كلام أخيها فخافت أن يصح ظنها فقالت: «ماذا تعني يا أخي بالمصيبة الصغرى؟ وهل هناك مصيبة أكبر منها؟»
– «يا أختي أن يطلبك رجل أعجمي من غير أهلك لا قِبَل لنا برد طلبه، فهمتِ؟»
قال: «يتجاسر عليه الذي تجاسر على سلب حقوقنا من أيدينا واستبد بالأمر دوننا ونحن أحياء. الرجل الذي نخاف سطوته ونحسب لحركاته ألف حساب. ألا يستطيع هذا الرجل أن يطلب الزواج منك؟»
فبُغتت واستبعدت ما يُفهم من كلام أخيها فقالت: «صرِّح يا أخي بما تقول. هل تعني صلاح الدين؟» قال: «نعم، إياه أعني، فما قولك؟» فتراجعت وقد اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها ولم تتمالك فجلست على المقعد وقد امتقع لونها وأوشك الدم أن يجمد في عروقها وسكتت. فقعد أخوها بجانبها وأحاط كتفيها بذراعه ليلطف من بغتتها وقال: «إني أزعجتك بهذا الخبر ولكنك أحرجتني. ولا تظني الأمر قد نفذ. إنه لم يطلبك صريحًا بعد. لكن رجلًا من خاصته جاءني في هذا الصباح وفاجأني بهذه المصيبة بعد أن مهَّد للكلام بمقدمات طويلة عريضة إلى أن قال: «إن السلطان صلاح الدين يريد أن يتشرف بهذا القِران، فأحب أن يسألك عن طريقي قبل الإقدام على الطلب لعل هناك مانعًا».»
فقالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «هممت أن أجيبه بأنك مخطوبة إلى أبي الحسن لعلمي أن هذه الحجة تكفي للنجاة من هذه الورطة، لكني استمهلته في الجواب إلى الغد لأسألك، وقد اخترت هذا المكان للمقابلة حتى لا يكون معنا ثالث. ها إني قد أطلعتك على جلية الأمر فما رأيك؟ ألا ترين أن قبول ابن عمنا أولى؟»
ولم يكن العاضد ينتظر منها غير القبول فلما أبطأت في الجواب وهي مُطرِقة كرَّر السؤال، أما هي فكانت تفكر في طريقة للنجاة من هذه الورطة؛ لأنها كانت لا تريد صلاح الدين ولا أبا الحسن. لكنها تفضل عماد الدين على كليهما. وحدَّثتها نفسها أن تصرِّح له بما يكنه ضميرها فخافت العاقبة. فلما كرر أخوها السؤال قالت: «صدقت، إن الاحتجاج بكوني مخطوبة قد يُرجِع صلاح الدين عن عزمه. قل له إني مخطوبة إذا شئت ولا تذكر لمن.»
قال: «لكنه لا يصدِّق إلا إذا ذكرنا الخطيب لئلا يحسبنا نكذب لنتخلص منه. سأقول له إنك مخطوبة لأبي الحسن.»
فابتدرته قائلة: «كلا. لا تقل هذا؛ لأن ذلك لا يكون أبدًا.» ولم تتمالك عن هذا التصريح وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها.
فبان الغضب في وجهه وقال: «كنت أجاملك وألاطفك قبل هذا المشكل. أما الآن فلا أرى لرفضك معنى بعد أن بينت لك السبب. ليست هذه شعائر الأخت المحبة لأخيها. وأنت تعلمين ما وعدنا أبو الحسن به. ولا شك أنه بعد أن يعلم أن صلاح الدين مناظره فيك سيزداد اهتمامًا في تنفيذ غرضه. قولي إنك قبلته وإلا ضعف اعتقادي في تعقلك وصدق محبتك. واعلمي مع ذلك أن أمير المؤمنين يخاطبك ويطلب ذلك منك وهو ولي أمرك.» قال ذلك بشيء من السلطة.
فعظم ذلك التهديد عليها وهبت الحمية في صدرها ورجعت إليها عزة نفسها، فنظرت إلى أخيها نظر العاتب وقالت: «تهددني بما لك من السلطة علي، وبأنك ولي أمري؟ إن هذا لا يغير شيئًا من عزمي. وإذا شئت أن تنفذ هذه السلطة من نفسك فافعل. وأما أنا فيستحيل عليَّ قبول ذلك المنافق المرائي، وربما فضلت صلاح الدين عليه عند الضرورة. ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك.»
فدهش العاضد لهذا التصريح وقال: «هل إلى هذا الحد تبلغ جسارتك وتخاطبينني بهذه القحة؟ أظنني أخطأت لأني شاورتك في الأمر. وكان لي ألا أستشيرك لأني ولي أمرك من جملة وجوه. وأنا فاعل ما أراه خيرًا لك. إذ يظهر لي أنك مستمسكة بالخطأ لغير سبب أعلمه. لم يبقَ إلا أن تخرجي للسوق وتختاري لك زوجًا من المارة وأبناء السبيل! ليس ذلك من شأن بنات الخلفاء. إن العناية جعلتك من طبقة الملوك وميَّزتك بالنسب الشريف فلا يجوز لك الاقتران بغير الأكفاء. وهذا أبو الحسن ابن عمنا وهو أكفأ إنسان لك.» قال ذلك وتحفَّز للمسير كأنه قال ما لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا.
أما هي فظلت واقفة وأوشكت أن تسقط على الأرض من التأثر؛ لأنها لا تقدر أن تبوح بما في خاطرها بعد أن رأت أخاها يُكبِر تفضيلها صلاح الدين، فكيف لو علم أنها تحب خادمه. فرأت السكوت في تلك الحال أولى وصممت أن تفعل ما يحلو لها ولو خالفت الشرع والعرف. فلما رأته يتحرك للمسير مشت بهدوء وسكينة ولم تَفُه بكلمة فظنها شعرت بسلطته عليها فقبلت. فكتم فرحه وظل على إظهار الغضب والعتب.
وحالما خرجت من الباب رأت حاضنتها تنتظرها في الممر فرافقتها إلى غرفتها وقد لحظت الحاضنة تغيرًا بينًا في وجهها فأصبح همها استطلاع الخبر.
أما سيدة الملك فإنها صممت على عمل لا يخطر لحاضنتها ولا غيرها، وفضلت البقاء على كتمانه لئلا تحول ياقوتة دون إنفاذه. خطر لها أن تستقدم عماد الدين وتفر معه من قصر أخيها وتنجو من ذلك الأسر. ولكنها لا تستغني عن ياقوتة في البحث عنه واستقدامه فعزمت على كتمان ذلك عنها.
أما ياقوتة فإنها تهيبت من غضب سيدتها. ورغم ما لها من الدالة عليها لم تجسر على مخاطبتها. فأخذت تتذرع إلى استطلاع حالها بالتجاهل، فحالما دخلت الغرفة قالت لها: «ما لي أرى سيدتي غاضبة؟ إني أرى في جيدك عقدًا من الجوهر وفي إصبعك خاتمًا من الزمرد والياقوت لو كانا لي لزالت عني هموم الدنيا.»
فانتبهت سيدة الملك إلى العقد والخاتم وكانت قد نسيتهما لفرط قلقها فنزعت العقد من عنقها والخاتم من إصبعها ورمت بهما إلى الأرض، وجلست على السرير وهي تتنهد.
فالتقطت ياقوتة العقد والخاتم وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي، ما الذي أغضبك؟ إذا كان هذا العقد قد غيَّرك أعطيني إياه.»
قالت: «خذيه، بل هاتيه.» واسترجعته من يدها ووضعته في جيبها مع الخاتم.
فابتسمت ياقوتة على سبيل المداعبة وقالت: «إذا كنت قد غضبت من أمير المؤمنين فما هو ذنبي يا سيدتي وأنا أتفانى في خدمتك؟»
فأظهرت الارتياح إلى قولها وكظمت غيظها وقالت: «بارك الله فيك دعيني الآن.» قالت: «لا. لا أتركك حتى تقولي ماذا جرى بينك وبين مولانا أمير المؤمنين.» قالت: «إنه مولاك وليس مولاي!» قالت: «إنه مولانا بحكم الله، أطال الله لنا بقاءه.» قالت: «أطال الله بقاءه لكنه …» وسكتت وقد شرقت بدموعها.
فقالت ياقوتة: «ما بالك قد غيرتِ عادتك معي، لماذا لا تشكين إليَّ همك لعلي أستطيع خدمتك بشيء. ألم نكن على موعد للنظر في أمر عماد الدين؟» فلما سمعت اسم عماد الدين سُري عنها وهان عليها الصبر والتفتت إلى ياقوتة وابتسمت وعيناها تلمعان من الدمع. فأثَّر منظرها في ياقوتة وأكبت على يديها تقبلهما وتقول: «بالله لا تغضبي يا سيدتي، ولا تعامليني بالجفاء. أفصحي لي عما يكنه ضميرك وأنا أمتك أفديك بروحي. قولي لا تخافي.»
فتنهدت وهي تتجلَّد وقالت: «نعم كنا على موعد من أمر عماد الدين ماذا رأيت وماذا دبرت؟»
قالت: «لم أرَ شيئًا، إن الأمر لك وأنا طوع إرادتك، ماذا تريدين أن أفعل.» فنظرت إليها نظرة اخترقت أحشاءها وقالت: «أريد أن يأتي عماد الدين إلى هنا في هذه الليلة!» قالت: «في هذه الليلة؟ ولماذا؟» قالت: «لا تسأليني عن السبب. أنت تقولين إنك طوع إرادتي وهذه هي إرادتي. أريد أن أرى عماد الدين هذه الليلة.»
قالت: «لك عليَّ ذلك. خففي عنك الآن وارجعي إلى رشدك واحكي لي عما جرى لك اليوم مع سيدي أمير المؤمنين.»
فلما اطمأن بالها من جهة استقدام عماد الدين خفَّ قلقها فجلست وأمرت حاضنتها أن تجلس وقصت عليها ما دار بينها وبين أخيها من أوله إلى آخره، فأثَّر ذلك في رأيها ورأت سيدتها أخطأت بمقاومة الخليفة، ولكنها لم تجسر على تخطئتها فأظهرت أنها ترى رأيها على نية أن تعود إلى البحث معها في الأمر بعد قليل، فطمأنتها أنها تفعل ما تريده وغيَّرت الحديث وشغلتها بمهام أخرى.