عماد الدين
قد علمت من حديث العاضد وأخته أن صلاح الدين بعث يخطب سيدة الملك شفاهًا، وسبب ذلك أن عيسى الهكاري لما خرج من دار العلم سار توًّا إلى صلاح الدين وأسرع في مقابلته على انفراد في خلوة، وتطرق في الحديث إلى خطبة أخت الخليفة وأقنعه بما تقدم من الأدلة السياسية، فاستحسن صلاح الدين رأيه واستمهله ليشاور أباه، فنهاه عن مشورته؛ إذ ربما اقتضى رأيه ملاطفة الخليفة وهم لا يرون ذلك. وذكره الهكاري بسعيه في مصلحته منذ عرفه. فقال صلاح الدين: «إننا قابضون على أَزِمَّة الدولة نفعل بها ما نشاء من عزل وتولية وغير ذلك، فكيف نطمع في الخلافة؟! وهذا لم يُقدِم عليه أحد قبلنا من غير العرب، وأخاف أن نطلب الزيادة فنقع في النقصان.»
فقال: «لا أعهدك ضعيف العزم يا مولاي، إذا كنت لا تعرف أحدًا طلب الخلافة من غير العرب ألا يجوز أن تطلبها أنت أو تمهدها لأولادك بسبب الاقتران بأخت الخليفة؟ زد على ذلك أن سيدة الملك من أجمل النساء خلقة وأحسنهن ذكاء ودهاء. أما الخلافة فإذا طلبتها وأحوجنا النسب القرشي فإنه ميسور؛ لأن كثيرين من الصحابة القرشيين تفرَّقوا بالفتح ونزل بعضهم في بلاد الأكراد، فقد يكون جدك متسلسلًا من أحدهم.» قال ذلك وهو يُظهِر الجِد. وأدرك صلاح الدين أنه يهوِّن عليه ادعاء الخلافة بزواجه بأخت الخليفة، وإذا لزم النسب القرشي انتحل له نسبًا فيهم. ولكنه ما زال يتهيَّب من الإقدام على الخطبة، فلما رأى إلحاح عيسى قال له: «إذا لم يكن بد من العمل برأيك، فاجعل ذلك منك على سبيل الاختبار بلا كتابة مني.»
قال: «إني فاعل ذلك، فأخاطب الخليفة في رغبتك وأرى ما يكون.»
قال: «حسنًا.» وذهب الهكاري في تلك الساعة إلى العاضد وأطلعه على ذلك بأسلوب لطيف فاستمهله في الجواب كما رأيت.
أما صلاح الدين فإنه بعد ذهاب الهكاري من عنده خلا بنفسه وراجع ما دار بينهما، فرأى أنه تسرَّع في الأمر، وكان ينبغي أن يكاشف أباه قبل الإقدام عليه. لكنه أجَّل ذلك حتى يعود الهكاري بالجواب وهو لا يزال في حِل من الأمر. وبعد قليل أتاه غلام يدعوه إلى الطعام مع أبيه في الجانب الآخر من قصر اللؤلؤة فمضى. وفيما هما في الغداء قال نجم الدين يخاطب ابنه صلاح الدين: «يا يوسف لم أرَ عندكم اهتمامًا بميادين السباق. لا ينبغي أن تترك رجالك يرتاحون طويلًا. أنشِئ لهم الميادين للمسابقة على الخيول، فإنهم بذلك تتقوى أبدانهم ويُشغلون عن الدسائس.»
قال: «صدقت يا أبي، ونحن لا يمضي أسبوع لا نُجري فيه سباقًا، فمن فاز بالسبق قدَّمناه وخلعنا عليه. وأحب أن أجرب ذلك بين يديك في هذه الساعة، وسأختار من رجالي أمهرهم في الركوب.» ونادى عماد الدين فأتى مسرعًا وخفة الروح ظاهرة في وجهه والشجاعة تتجلى في عينيه والنشاط ظاهر في انتصاب قامته وامتلاء عضله، فلما وقع نظر نجم الدين عليه استلطفه فأطال النظر فيه وصلاح الدين يأمره أن يستعد للسباق مع آخرين سمَّاهم. فأشار عماد الدين مطيعًا وانصرف، فتحوَّل صلاح الدين إلى أبيه وهو يبتسم ابتسام الإعجاب وقال: «كيف رأيت هذا الشاب يا أبي؟»
قال: «كنت عازمًا على أن أسألك عنه؛ لأنه وقع في نفسي موقعًا جميلًا وأتوسم فيه الشجاعة والبسالة ولا أظنه إلا بالغًا مقامًا رفيعًا بين رجالك.»
قال: «وكيف إذا رأيت مهارته في ركوب الخيل وخبرت أخلاقه الحميدة؟ كفى تفانيه في سبيل خدمتي، إنه يحبني حبًّا مفرطًا فلو قلت له ألقِ نفسك في النار لفعل.»
قال: «احرص عليه وقدِّمه.»
قال: «إني لا أترك فرصة تمر إلا أكرمته، وهو الآن من حرسي ويستحق أن يكون من كبار القواد لكنه ما زال صغير السن وسيكون له شأن، وقد سرني أنك توسمت فيه ما توسمته أنا وتحققته بالاختبار.»
فقال نجم الدين: «هل زوجته؟» فقال: «أردت تزويجه بجارية جميلة فلم أجد فيه ميلًا للزواج.»
فهز نجم الدين رأسه وقال: «تلك هي مناقب أصحاب المطامع طلاب السيادة، ينصرفون بكليتهم إلى تلك المطامع فاحتفظ بالشاب.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا قرع الطبول استعدادًا للسباق، فجلس صلاح الدين مع أبيه على أريكة نصبوها لهما بين يدي القصر تشرف على حلبة السباق وفوقها مظلة من الحرير الملون. وأطلق الفرسان الأعنة، وكان عماد الدين على جواد أزرق يمتاز عن سائر الجياد يعرفه الناظرون عن بعد، ولحظ نجم الدين أنه يفوق سائر الفرسان بالخفة واللباقة. ولعبوا ألعابًا عديدة وتسابقوا وتراموا وكفة عماد الدين راجحة.
قضوا في ذلك بضع ساعات وصلاح الدين جالس مع أبيه تحت تلك المظلة. ثم أخذ الفرسان يتوافدون للمرور أمام المظلة لإلقاء التحية وصلاح الدين يثني على مهارتهم ويكلمهم بما يقتضيه المقام، حتى جاء عماد الدين فأمره صلاح الدين أن يترجَّل ويأتي إلى أبيه، فترجَّل ووقف بين يدي نجم الدين وقوف الاحترام. فقال له: «يا عماد الدين، ستكون رجلًا مقدَّمًا، ويسرني أنك حائز إعجاب سلطانك.»
فأكب عماد الدين على يدي نجم الدين يقبِّلهما وقال: «إني عبد لمولاي السلطان أفديه بروحي. وإذا قُدِّر لي أن أكون شيئًا مذكورًا فيكون ذلك من فضله لا لاستحقاقي.»
فربت كتفه متلطفًا وتناول خنجرًا كان في منطقته ودفعه إليه وقال: «احتفظ بهذا بالخنجر تذكارًا مني.»
فأكبر عماد الدين هذا الإكرام من والد صلاح الدين وهو يعلم أن صلاح الدين نفسه يهابه، فترامى على يديه يقبِّلهما. وكان صلاح الدين يخاطب بعض الفرسان فلما فرغ من خطابه تحول إلى أبيه فوجده يخاطب عماد الدين فانبسطت نفسه لإعجابه بذلك الشاب، وقال: «يسرني أنك راضٍ عنه.»
فقال نجم الدين: «وهو جدير بذلك وأرى أن تقدِّمه وتجعله من خاصتك.»
قال: «هو من حرسي كما قلت لك.»
قال: «أحب أن يلازمك ولا يفارقك ليلًا ولا نهارًا، وأن تكون له دالة الصديق فيدخل عليك بلا إذن.»
فالتفت صلاح الدين إلى عماد الدين وقال له: «أمر والدي بذلك، فأنت من الآن لا تفارقني في حلِّي ولا ترحالي.» ونهض ومشى مع أبيه نحو القصر وعماد الدين يتبعهما. وأمر صلاح الدين قيِّم القصر أن يختص عماد الدين بغرفة قرب غرفته ففعل، وأصبح عماد الدين لفرط امتنانه لا يعرف كلامًا يؤدي به ما في خاطره، ولكنه أضمر أن يتفانى في خدمة مولاه. ويغلب في صادقي المودة والمخلصين في أعمالهم أن يكون لسانهم قصيرًا فيعبِّرون عن شعورهم بالعمل دون الكلام.
ولم يكن لهم في ذلك اليوم شاغل مهم، فبعد العشاء ذهب كلٌّ إلى غرفته وقضى نجم الدين ليلته في غرفة ابنه صلاح الدين يتحادثان في شئون كثيرة ترجع إلى علاقة مصر بنور الدين. ثم انصرف كل منهما إلى فراشه.
•••
بات صلاح الدين تلك الليلة كعادته وهو يفكر في أمر مصر ومطامعه فيها حتى غلب عليه النعاس فنام، وفد أُطفئت مصابيح القصر واطمأن الحراس إلا عماد الدين فإنه شعر بعد أن اختصه صلاح الدين بقربه أنه يجب أن يكون أكثر يقظة وسهرًا على حياته. فبات وهو يفكر في ذلك فحلم لفرط قلقه أن صلاح الدين يناديه فنهض مذعورًا وأصاخ بسمعه فلم يسمع شيئًا، فحدثته نفسه أن ينهض ويتسمَّع فخاف أن يوقظ مولاه وهو على يقين أنه سمع ذلك في الحلم. فعاد إلى فراشه وقد طار نومه وكثر تقلبه بين اليقظة والمنام. وإذا هو يسمع وقع خطوات، فهبَّ من رقاده وتسمَّع فلم يسمع شيئًا فغلب على خاطره أنه يسمع هاجسًا. ونظر إلى السماء فعلم أن الفجر قريب ورأى أنه لم يعد قادرًا على الرقاد فلبس ثيابه. وحالما لاح الفجر خرج ليطل على غرفة صلاح الدين فرآها مقفلة وكل شيء هادئ والحراس بالباب كالعادة فعاد إلى غرفته.
ولم تمضِ هنيهة حتى سمع صلاح الدين يناديه فلبَّاه ودخل غرفته فرآه جالسًا على سريره بلباس النوم وقد أخذته الدهشة. فأسرع إليه وحيَّاه، فصاح به صلاح الدين: «ما هذا؟» وأشار إلى الوسادة عند رأسه. فتقدم عماد الدين فرأى خنجرًا مسلولًا عليه آثار دم قديم قد أُلقي عند موضع رأس صلاح الدين من الوسادة فأجفل وصاح: «مَن فعل هذا يا سيدي؟» قال: «لا أدري، لكني صحوت في هذه الساعة فرأيت الحال كما تراها.» فأطرق عماد الدين يفكِّر فوقع بصره على شيء عند قدمي السرير فإذا هو غمد ذلك الخنجر، فتناوله وتأمله فلم يذكر أنه يعرف صاحبه. وبينما هو يتفرَّس فيه إذ رأى في جوفه بطاقة استخرجها ودفعها إلى مولاه ففضها وقرأها فبانت البغتة في عينيه، ثم دفعها إلى عماد الدين وصفَّق فدخل عليه أحد الغلمان فأمره أن ينادي الأمير نجم الدين والده حالًا.
أما عماد الدين فإنه قرأ البطاقة وأعاد قراءتها وتناول الخنجر وتأمله وأعاد النظر فيه، فقال صلاح الدين: «كيف يدخل الناس عليَّ وأنا نائم داخل هذا القصر والأبواب موصدة ولا يشعر أحد من الحراس؟»
من أحد مريدي سيد الإسماعيلية إلى يوسف صلاح الدين
اعلم يا يوسف أنك وإن أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس لا تقدر أن تنجو من القصاص. أراك قد بالغت في القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبل زعيم الإسماعيليين. لو أردت قتلك الليلة لما أبقيت عليك، ولكنني عفوت عنك وأنا منذرك أن تصلح من سيرك. ولا تطمع أن تعرف مَن أنا، فإن ذلك بعيد المنال؛ إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطًا في عمامتك أو شعرة في رأسك، وأنت لا تدري! وإنما أطلب منك أن تلزم حدك والسلام.
فاستولى السكوت على الجميع لحظة. ثم أشار نجم الدين إلى عماد الدين أن يقفل الباب وأن يجلسوا في خلوة لا يدخل عليهم أحد، ففعل وقلبه يتقد غيظًا وقد ساءه حدوث هذا الأمر في الليلة الأولى التي تولَّى فيها الحراسة الخاصة، وأصابه الجمود لا يدري ما يقول، وأدرك نجم الدين قلقه فناداه وابتسم له وقال: «لا تضطرب يا بني ولا يداخلك خوف، إنكم لا تعرفون هؤلاء القوم ولا أظن يوسف يعرفهم.»
فقال صلاح الدين: «أذكر أني عرفت عنهم شيئًا. ولكن مَن هم الإسماعيلية هؤلاء؟ وما هذه الجسارة؟ وكيف يستطيعون الدخول عليَّ في غرفة نومي والحرس حولي. صدقوا، لم يكن يمنعهم شيء من قتلي.»
فصاح عماد الدين: «خسئوا! إن ذلك بعيد عنهم. إنهم لا ينالون من مولاي السلطان شعرة قبل أن يُقتل زعيمهم اللعين.»
•••
جلس نجم الدين وأمر عماد الدين أن يجلس وقال: «هل تعرف مَن هو هذا الزعيم؟» قال: «كلا يا سيدي. ومهما يكن من شأنه …»
فقطع نجم الدين كلامه وقال: «تمهل يا شاب واسمع ما سأقصه على يوسف من خبر هذا الطاغية الذي يسمي نفسه رئيس الإسماعيلية الذين هم في الحقيقة طائفة الحشيشية.» ووجَّه خطابه إلى صلاح الدين وقال: «اعلم يا بني أن الإسماعيلية أو الباطنية أو الحشيشية طائفة من الشيعة لها بالدولة العبيدية علاقة قلَّ مَن يعرفها، ولذلك أحببت أن أفصِّلها لك. إن مذهب الإسماعيلية كان مذهب هذه الدولة عند الفتح وقد نصروه ولا سيما الحاكم بأمر الله، فإنه أحياه ونشره بمساعدة رجل فارسي اسمه حمزة الدرزي.»
«وفي أيامه ظهر رجل فارسي اسمه حسن بن الصباح له حديث طويل مع نظام الملك وعمر الخيام لا محل له هنا، فأنشأ حسن هذا جمعية من الفدائيين وأقام في جبل «ألاموت» قرب قزوين منذ أكثر من مائة سنة. وكان يغري رجاله بالفتك بمن شاء من كبار الرجال، ومن جملة الذين قتلوهم نظام الملك وزير السلاجقة وكثيرون من القواد والملوك. كانوا يُقتلون ولا يُعرف قاتلوهم. أو إذا عُرِفوا لا يبالون أن يُقتلوا في سبيل تنفيذ أمر مولاهم!»
وكان صلاح الدين مصغيًا لما يسمعه بكل جوارحه فقال: «كأني سمعت بشيء من هذا القبيل … ولكنني لم أكن أصدقه؛ إذ لا يُعقل أن يعرِّض الرجل نفسه للقتل على هذه الصورة تنفيذًا لأمر مولاه فقط.»
فاعترض عماد الدين وعيناه تتقدان وقد هاجت الحمية في رأسه وقال: «نعم يا سيدي. هذا أمر معقول. إن الرجل ليفدي مولاه بروحه إذا كان يحبه ويحترمه.»
فأدرك نجم الدين غرضه وقال: «بارك الله فيك يا بني، لكن مثلك قليل وأكثر الناس يفعلون ذلك طمعًا في شيء. أما الفدائيون هؤلاء فإنما يفعلون ما يفعلونه طاعة لرئيسهم وكفى. وقد اختلفوا في سبب هذا التفاني، فيقول بعض العارفين إن ابن الصباح كان يستهويهم بالسحر أو يسقيهم الحشيشة التي تأخذ بالعقل. ولذلك عُرفوا بالحشيشية أو الحشاشين، ومهما يكن السبب فإن وجود هذه الطائفة خطر على كبار الرجال.»
«وكان مقرها في زمن «ابن الصباح» في قزوين بعيدًا عن هذه الديار. أما الآن فإن مركزها في جبل السماق من أعمال حلب، ولهم فيه معاقل وحصون ودعاة في الأطراف، ولهذه الطائفة تاريخ طويل قبل انتقالها إلى الشام، خلاصته أن الرياسة انتقلت بعد ابن الصباح إلى غيره وغيره، وكان رابعهم في «ألاموت» منذ نحو خمسين سنة يُسمى حسنًا أيضًا، ويضيفون إلى اسمه قولهم: «على ذكره السلام»، وكانت دعوته قد انتشرت في الشام فلما فتحها الإفرنج قرَّبوا الإسماعيليين واستعانوا بهم على المسلمين في مواقع كثيرة سرًّا وجهرًا. فأذن لهم ملك الإفرنج صاحب حلب أن يقيموا في جبل السماق (جبل النصيرية) ونزلوا «بانياس» وزعيمهم يومئذٍ اسمه بهرام، وفي أيامه تمكنوا من الفتك بطائفة من الملوك والقواد بمصر والشام، منهم الملك الأفضل أمير الجيوش بمصر، ويُقال إنهم فعلوا ذلك به؛ لأنه استبد بالآمر بأحكام الله. وبلغني أن الآمر تغلَّب على بهرام وقتله لسبب لا أعلمه، ولعله ساءه قتل أمير الجيوش وإن كان قتله دفاعًا عنه. وطافوا برأس بهرام في شوارع القاهرة هذه، وقتلوا أيضًا كثيرين من الإفرنج بحجج مختلفة، ومن هؤلاء ريمون صاحب طرابلس. ولهم بجبل السماق عدة قلاع حتى الآن، منها مصياف ومرقب وعليقة والرصافة وغيرها. وهم يعتصمون بها. أما زعيمهم الآن فأظنه أدهى الرؤساء جميعًا، واسمه راشد الدين سنان بن سليمان، وأصله من البصرة. خدم رئيس الإسماعيلية في «ألاموت» وتفقَّه في العلم والفلسفة، ثم انتقل إلى الشام وأقام في حلب، وهو أعرج وقد تظاهر بالتقوى والتدين فاجتذب العامة بذلك. ولا تجد شيئًا يستهوي العامة مثل الدين. وبلغني من بعض رجالنا هناك أن سنانًا هذا كان يجلس للوعظ على صخرة وهو جامد مثلها، فكثر دعاته وكانت دعوته لهم أن يتعاونوا، فتغلَّب على عقولهم بالدهاء أو السحر لا أعلم، حتى جعلوا أموالهم مشتركة بينهم حتى النساء والبنات. ثم منعهم من ذلك.»
«وبلغ خبره إلى رئيس الإسماعيلية يومئذٍ في جبل السماق واسمه أبو محمد فاستقدمه إليه. وبعد قليل خلفه وتسلَّم زعامة هذه الطائفة منذ بضع سنوات فقط. وقد سمعت خبره قبل سفري بقليل، وهو الآن صاحب السطوة والكلمة النافذة، وقد التفَّ حوله ألوف من الدعاة الفدائيين الذين يفدونه بأرواحهم. إذا أمر أحدهم بقتل أمير أو ملك، فإنه سرعان ما يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الأمير أو الملك بصفة سائس أو خادم أو حارس. ولا يزال يترقَّب الفرص حتى تسنح له ويغمد خنجره في صدره. فالحمد لله أنهم لم يفعلوا ذلك هذه المرة، ولكن تهديدهم هذا أثقل وقعًا من القتل!»
•••
كان صلاح الدين في أثناء سماع الحديث مطرقًا يفكر، وعماد الدين يراعي حركات نجم الدين بعينيه ويتلقف ألفاظه بأذنيه وقد هاجت أريحيته وجاشت الحماسة في صدره. فلما فرغ نجم الدين من الكلام نظر إلى عماد الدين فرأى عينيه يكاد الشرر يتطاير منهما فتجاهل.
أما صلاح الدين فقال: «لا بد من وسيلة نتخذها لنتجنب شر هذه الطائفة. إننا غير متفرغين لمراقبتها.»
فتصدى عماد الدين قائلًا: «إن مراقبتها لا تفيد شيئًا، ولا بد من قطع دابرها.» قال ذلك وعيناه تدلان على ما يعنيه من العزم الأكيد.
فأجابه نجم الدين: «ماذا تعني؟» قال: «إذا أذن لي في إبداء الرأي فعندي أن أحسن دواء لهذا الداء أن يُقتل رئيس هذه العصابة فتتفرق عصابته.» فقال نجم الدين: «هذا أمر شاق لا سبيل إليه؛ لأن القوم معتصمون في الجبال الوعرة وعيونهم مبثوثة في كل مكان. وقد علمنا الآن أن منهم أناسًا في هذا القصر فكيف يتأتَّى الوصول إلى رئيسهم وقتله؟»
قال عماد الدين: «إن مَن يحب مولاه يتفانى في خدمته كما قلت يا سيدي. فكما يستطيع الإسماعيلي الملعون أن يدخل غرفة السلطان صلاح الدين ويعمل ما عمله، فيمكن لسواه أن يدخل على زعيم الإسماعيلية ويغرس هذا الخنجر في صدره. وإذا قُتل بعد ذلك فقد أدَّى واجبًا لينقذ أنفسًا شريفة من الفتك؛ لأن هذا اللعين لا يتعمد إلا قتل العظماء. فالموت في سبيل قتله فخر يتطلبه كل أبي النفس.»
فأحس نجم الدين أن الشاب يعني أن يذهب هو نفسه في هذه المهمة، فأراد أن يثني عزمه حرصًا على حياته لاعتقاده بالخطر الذي يهدده فقال: «إن هذا الأمر لا يُقدِم عليه إلا المجنون، ولكنا لا نعدم وسيلة أخرى لاسترضائهم بالمال، فإنهم كثيرًا ما يرتكبون القتل طمعًا فيه؛ إذ يغريهم بعض رجال السلطة بقتل أعدائهم.»
فقال عماد الدين: «صدقت يا سيدي قد يسترضون بالمال، ولكن هذا لا نهاية له. وأما إذا قُتل زعيمهم فإن دابرهم ينقطع.»
فقال: «ليس هذا بالرأي الصواب لأنه صعب، ولا تجد مَن يُقدِم عليه إذا عرف خطره.»
فقال عماد الدين وهو يشير بيده إلى صدره وعيناه تلمعان حماسة: «هذا عبدك عماد الدين يقدِّم نفسه للقيام بهذه المهمة من هذه الساعة، وأرجو ألا ترد طلبي.»
فقال نجم الدين: «بارك الله فيك، إنها حمية يندر مثالها. ولكننا في حاجة إليك هنا.»
فقال: «وما الفائدة من وجودي هنا وهذه أول ليلة من حراستي أوشك مولاي السلطان أن يُقتل فيها. أما ذهابي فأرجو أن يكون قاطعًا فاصلًا، أستحلفك برأس مولانا السلطان صلاح الدين أن تأذن في قيامي بهذه المهمة وهذا شرف كبير لي.»
وكان صلاح الدين في أثناء هذا الجدال غارقًا في التفكير في سبب وقوع هذا الأمر في هذه الليلة، فلما سمع اسمه انتبه لما يقوله عماد الدين فأجابه قائلًا: «إن هذه المهمة خطرة جدًّا ونحن في حاجة إليك هنا.» قال: «أقسمت برأسك أن أذهب فأذن لي.» فالتفت صلاح الدين إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال نجم الدين: «أطعني ودعْ عنك هذا الخطر.» قال: «إني عبد مطيع ولكني أقسمت برأس مولاي أني ذاهب في صباح الغد، وأحب أن يكون ذهابي سرًّا عن كل إنسان لا يعلم به سواكما؛ لأننا أصبحنا لا نعرف صديقنا من عدونا، فلا ينبغي أن يعلم أحد بسبب ذهابي.»
فقال صلاح الدين: «إذا لم يكن بدٌّ من ذلك فامضِ، وفقك الله لما تريده، ولكنني كنت وأنتما تتباحثان أفكر في السبب الذي أوجب وقوع هذا الأمر الليلة فلم أهتدِ. ولكنني …» وتذكر خطبة سيدة الملك على يد الهكاري فترجح له أن هذا الأمر هو الذي بعث على تحمس أحد الإسماعيلية المستترين. ولكنه لم يجد هذا التعليل معقولًا فسكت.
فلحظ أبوه تردده فقال له: «ما بالك يا يوسف؟ قل ما يخطر لك لعلك تتقي التصريح أمام عماد الدين الذي يفديك بروحه.» فقال: «كلا يا أبتِ، ولكنني فكرت في سبب ما حصل الليلة فلم يستقم حكمي ففضلت السكوت.» قال: «قل ما خطر لك.» قال: «أعترف لك يا أبي بأني ارتكبت خطأ في صباح أمس ساقني إليه تسرعي بإغراء صديق لي حميم. وذلك أني أمضيت أمرًا كان ينبغي قبل إمضائه أن أستشيرك فيه، وها إني الآن ألاقي عاقبة تسرعي.»
قال: «ما ذلك؟» قال: «أتاني صديقنا عيسى الهكاري — وأنت تعلم صدق مودته لي ونصحه إياي — فاقترح عليَّ اقتراحًا يرى فيه خيرًا كبيرًا لي فأطعته، ولكنني لم أكتب فيه كتابة، بل تركت الأمر مبهمًا ريثما أستشيرك.»
فلم يعد نجم الدين يستطيع صبرًا على فهم مراده فقال: «وما هو هذا الاقتراح؟» قال: «عرض عليَّ أن يخاطب الخليفة العاضد في أمر أخته سيدة الملك أن تكون زوجة لي.» فبانت البغتة في وجه نجم الدين وصاح فيه: «وهل وافقته على ذلك؟» قال: «ترددت كثيرًا، وأخيرًا رضيت أن يكتفي بالسؤال من عند نفسه.» قال: «ما زلت تُقدِم على أمور لا تليق بالسلاطين! ما لنا ولهذا الرجل ولأهل بيته؟ لماذا نعرض نفسنا للفشل؟ هل تعرف الفتاة؟»
قال: «قيل لي إنها بارعة في الجمال جدًّا.»
وكان عماد الدين يسمع الحديث ساكتًا، فعلم أنهم يتكلمان عن سيدة الملك وكان قد رآها يوم واقعة العبيد وأرجع إليها خصلة الشعر كما تقدَّم، وقد استلطفها لكنه لم يحلم بالحصول عليها؛ ولذلك شعر من طلب مولاه لها بلذة ممزوجة بالغيرة لذَّ له أن تكون تلك الفتاة الجميلة لسيده أفضل من أن تكون لسواه، لكنه لما تصور ذلك أحس بالغيرة منه. ولحظ نجم الدين في وجهه فكرًا في الموضوع فقال له: «هل تعرف الفتاة يا عماد الدين؟»
قال: «أُتيحت لي فرصة رأيتها وهي في أشد الاضطراب، أعني يوم واقعة العبيد، حين أمر مولاي النَّفَّاطين برمي النفط على القصر، ثم أمرهم أن يكفوا عن رميه، وكنت في جملة مَن دخل القصر فرأيت الفتاة في ضيق أنقذتها منه وما زلت أذكر وجهها الجميل وشعرها الذهبي. إنها تليق بسيدي صلاح الدين. وهل هي تتوقع مَن هو خير منه؟»
فقال نجم الدين وهو يُظهِر أنه واثق مما يقول: «ما لنا ولها؟ أشك في أن يوسف لم يطع الهكاري إلا حياء.» ووجَّه كلامه إلى صلاح الدين قائلًا: «هل أتاك الهكاري بجواب من الخليفة؟»
قال: «ذكر أنه خاطب الخليفة فاستمهله في الجواب ولا ندري ما يكون.»
فهز نجم الدين رأسه هز الإنكار وقال: «لا يسهل عليه الإيجاب في هذا الأمر؛ لأن هؤلاء المساكين شديدو التمسك بهذه البقية الباقية من سيادتهم. أعني تمسكهم بمجد الأسلاف وأنهم من سلالة بيت الرسول، وأننا لسنا أكفاء لبناتهم لأننا من الأعاجم.» قال ذلك وضحك ملء فيه والتفت إلى صلاح الدين فرآه مطرِقًا يفكِّر، وكان قد تذكَّر قول الهكاري أنه إذا احتيج إلى نسب عربي وضعه له، كما تذكر ما توقعه من صيرورة الخلافة إليه أو إلى أولاده بسبب ذلك الزواج، فلما التفت أبوه إليه تنبه قائلًا: «ألا يحق لهم الافتخار بذلك النسب الشريف؟»
قال: «كيف لا! ولذلك قلت إنهم ضنينون به لا يفرِّطون فيه، فكيف ترجو قبول طلبك وأنت كردي؟» وضحك، فرأى صلاح الدين أن يقطع الحديث ليرى ما يأتي به الغد، فقال وهو يتحفز للنهوض من الفراش: «متى أتانا جواب الخليفة ننظر فيه.» ولما نهض كان الخنجر ما زال ملقى على الفراش فأسرع عماد الدين إليه وتناوله وهو يقول: «هل يأذن لي مولاي في أخذ هذا الخنجر؟»
فقال: «أليس عندك خنجر؟» قال: «عندي لكنني أود أن أغمده في صدر ذلك الطاغية الذي هددنا به.» قال صلاح الدين وهو يلبس ثيابه: «أما زلت مصممًا على قتله؟» قال: «أقسمت برأس مولاي أن أقتله؛ إذ لا سبيل إلى الراحة منه إلا بذلك. فأرجو ألا تراجعني. وألتمس من مولاي الأمير نجم الدين أن يزودني برضاه ودعائه وقد أقسمت ألا تطلع شمس الغد إلا وأنا خارج القاهرة.»
فابتسم نجم الدين وهو ينظر إلى عماد الدين نظر العطف والإعجاب وقال: «يسرني ما أراه فيك من الحمية والغيرة على يوسف، بل هي غيرة على المسلمين كافة؛ لأن هذا الإسماعيلي الشيطان قد أقلق العالم بدسائسه وفتكه فإذا تمكنت من قتله فأنت أمير كبير وقائد عظيم لا يتقدمك أحد من رجال هذه الدولة غير ابني يوسف هذا.»
فأكبر عماد الدين هذا الوعد الصريح بالمكافأة الكبرى، فازداد تمكنًا من عزمه ولكنه أطرق خجلًا. فعاد نجم الدين إلى إتمام حديثه فقال: «ولكن هل تعرف الطرق وما يعترض عملك هذا من المخاطر؟»
قال: «هبْ أني لا أعرف شيئًا الآن فلا يعجزني علمه.» قال: «فتبقى هنا بضعة أيام لأجل الاستعداد.» قال: «قد أقسمت على الخروج الليلة من هذا البلد. وإنما ألتمس ألا يعلم أحد بجهة مسيري ولا الغرض منه.»
وكان صلاح الدين قد أتم لبس ثيابه فقال: «بورك فيك.» ونظر إلى أبيه فرآه ينظر إلى عماد الدين وهو يقول له: «وفقك الله في أمرك، كن شجاعًا واثقًا بنفسك، واعلم أنك إذا وفِّقت إلى ما تريد أتيت عملًا لم يستطعه سواك، فتنال ما لم ينله أحد.»
فهمَّ عماد الدين بتقبيل يد نجم الدين ثم يد صلاح الدين وقال: «أستأذنكما في تدبير شئوني اليوم، وربما لا تريانني بعد الآن؛ لأني أحب أن أخرج من هذا البلد خلسة.»
قال نجم الدين: «افعل ما بدا لك.»
•••
خرج عماد الدين لتدبير سفره وإعداد ما يلزمه، وقد أخذت مهمته تتجلى له بما يحدق بها من الخطر العظيم، ولكنه صمَّم عليها ولا سيما بعد ما سمعه من الوعد بالمكافأة.
قضى معظم النهار في منظرة اللؤلؤة وهو يتهيأ للسفر حتى أعد كل ما يحتاج إليه، وقد مالت الشمس إلى الأصيل. فانفرد في غرفته يفكِّر في مهمته وإذا بطارق بابه، فأجفل لأنه لا يطرق بابه أحد لا سيما وهو على أهبة السفر. فنهض وفتح الباب فرأى غلامًا صقلبيًّا يظهر من ثوبه وشكله أنه من غلمان قصر الخليفة. فاستغرب ذلك فدخل الغلام وقال: «لعلي في حضرة الفارس عماد الدين؟»
إلى البطل الباسل عماد الدين. اعلم يا سيدي أنك نجَّيت نفسًا شريفة من القتل والعار. وهذه النفس تحتاج إلى رؤيتك لتكافئك على صنيعك. وقد كلفتني أن أرسل إليك العلامة التي ينطوي عليها هذا الكتاب لتتأكد صدق قولي. فأسرعْ إلينا على عَجَل فإننا نستصرخك، وقد لبيتنا من قبلُ بلا استصراخ. وحامل هذا الكتاب يرشدك إلى الطريق.
فرغ من تلاوة الكتاب وهو يحسب نفسه في حُلم فظل هنيهة كالغائب يفكِّر فيما يعمله، أيجيب دعوة الداعي وهو على أهبة السفر؟ أم يعتذر وهي تستصرخه. وأحسَّ عند رؤية الشَّعر بجاذب يدعوه إلى الإجابة. وتذكَّر ما بعثه على حمل تلك الخصلة من دمشق إلى القاهرة حتى دفعها إلى صاحبتها حرصًا على كرامتها بدون أن يعرفها، فكيف تدعوه بلفظ الاستصراخ ولا يذهب إليها؟
وكان الغلام في أثناء ذلك واقفًا ينتظر الجواب، فلما استبطأه خطا خطوة نحو عماد الدين فانتبه هذا لنفسه فالتفت إلى الغلام وقال: «ما وراءك غير هذا الكتاب؟»
قال: «هذا كل ما لدي، ولكنني أُمرت إذا استفهمتني عن الطريق أن أرشدك إليه.»
قال: «وكيف ذلك؟ هل يجهل أحد الطريق إلى قصر الخليفة؟!»
فابتسم الغلام وخفض صوته وقال: «ليس القصر مجهولًا، ولكن صاحب هذه الرسالة في قصر النساء، ولا سبيل لرجل إلى هناك ولا سيما بعد أن جعلتم الأستاذ بهاء الدين قراقوش قيمًا عليه فأصبح أمنع من عُقَاب الجو.»
قال: «إذن كيف الوصول إلى المكان المقصود؟»
قال: «إذا كنت قد صممت على الذهاب فإني أدلك على طريق توصلك إلى داخل قصر النساء ولا يشعر بك أحد.»
فاستغرب قوله وقال: «أظنك تعني أن أتنكر بثوب جارية.» قال: «كلا. فإن هذا لا يغني شيئًا؛ إذ لا يستطيع أحد المرور من الباب إن لم يعرفه الحاجب باسمه ولقبه.»
قال: «كيف إذن؟»
قال: «أعرف طريقًا سريًّا في سراديب تحت الأرض بين هذه المنظرة وقصر الخليفة لا يعرفها إلا القليلون.» قال: «سراديب تحت الأرض؟» قال: «نعم يا مولاي. لما بنى الخلفاء الفاطميون قصورهم أرادوا أن يكون لنسائهم طريق يخرجن منه إلى الحدائق والبساتين أو إلى المناظر القائمة على ضفاف هذا الخليج. فاصطنعوا لهن سراديب تحت الأرض ينزلن إليها من وسط القصر ويمشين فيها بلا حجاب حتى يخرجن إلى البساتين. وفي جملتها السراديب المؤدية إلى هذه المنظرة فإنها كانت مطروقة أكثر من سواها لكثرة تردد الخلفاء وإقامتهم هنا. حتى إن ثلاثة منهم ماتوا في هذه المنظرة وحُملوا في هذه السراديب إلى القصر، وهم الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز. ثم أُهمل أمرها بعد نزول غير الخلفاء المنظرة. وتُنوسيت منذ عدة سنوات ولكنني أعرفها فإذا أحببت أن أسير في خدمتك فعلت.»
•••
تحيَّر عماد الدين في أمره واستغرب وجود هذه السراديب وفكَّر هل يُجيب الدعوة أم يعتذر لأنه على وشك السفر. والتفت إلى نافذة الغرفة فرأى الشمس دنت من المغيب وهو لا بد له من مغادرة القاهرة في تلك الليلة كما أقسم ووعد، فنادى الغلامَ إليه وقال: «كم يقتضي لنا من الوقت لنصل إلى القصر؟»
قال: «لا يستغرق سيرنا إلا دقائق معدودة.» فقال في نفسه: «أجيب الدعوة وأعود سريعًا فأسافر.» والتفت إلى الغلام وقال: «هلم بنا.» قال: «تمهَّل ريثما تغيب الشمس فنذهب في الظلام لئلا يشعر بنا أحد من أهل هذا القصر.» فتصوَّر عماد الدين الخطر المحدق به في هذه المهمة، لكنه أكبر أن يتخوف أو يحسب للمخاطر حسابًا وهو الذاهب لقتل زعيم الإسماعيليين. فقال: «انتظرني إذن خارج هذه المنظرة فألاقيك هناك بعد الغروب.» قال: «حسنًا، سأمكث في انتظارك تحت هذه الجميزة بجانب الخليج، فإذا رأيتك قادمًا تقدمت نحوك ومعي الرداء الذي ينبغي أن تلتف به في أثناء الطريق، وعند الوصول إلى القصر، لئلا ينكرك أحد من أهله.» قال ذلك وخرج وخلف عماد الدين على مثل الجمر من القلق. فلما خلا بنفسه استأنف النظر إلى ذلك الكتاب وأعاد قراءته، وتذكر المرة الأولى التي شاهد فيها صاحبة ذلك الشعر وما سمعه عنها أمس من أمر صلاح الدين، فرأى أنه قد يستطيع خدمة مولاه بإجابة سؤالها فيحرِّضها على قبوله. ولما تصور ذلك هبت الغيرة في قلبه. ولكنه تعمَّد الإغضاء عن هذا الشعور حبًّا في مصلحة مولاه.
ولما أسدل الليل نقابه خرج بأخف ملابسه وسلاحه حتى دنا من الجميزة، فرأى شبحًا كأنه امرأة قادمًا نحوه فتقدَّم إليه وتفرَّس فيه فإذا هو الغلام قد التف بملاءة كالإزار أو المطرف ودفع إليه ملاءة ليلتف بها أيضًا، ثم مشى الغلام بين يديه في البستان وهما لا يريان شيئًا غير أشباح الأشجار تتراءى بينهما وبين الأفق. مشيا مدة لا يتكلمان، ثم التف الغلام إلى عماد الدين وأمسك بيده كأنه يقوده فهبط معه إلى حفرة. ومد الغلام يده إلى أعشاب يابسة أزاحها فوصل إلى باب من حديد فيه حلقة قبض عليها وأعانه عماد الدين ففتحا الباب فشعر عماد الدين بريح فيها رطوبة وعفونة، فعلم أنها أتت من ذلك السرداب. فقال له الغلام: «اتبعني يا سيدي. اقتص خطواتي.»
فشعر وشعر بأنه يمشي على أرض مرصفة بالحجارة. ولكن الظلام كان شديدًا جدًّا وأخذت، رائحة العفونة تشتد كلما أمعنا في السرداب. فخاف عماد الدين أن يكون قد ورَّط نفسه فقال: «هل أنت على ثقة من أمر هذا الطريق؟» قال: «نعم وقد جئت فيه إليك اليوم.» فاطمأن خاطره وسكت وهو يخطو ويتلمس الجدران. ثم سمع وقع أقدام فوق السرداب فقال له الغلام: «نحن الآن تحت القصر الصغير، وبعد قليل نمر تحت الميدان وليس بعده إلا قصر الخليفة فقصر النساء.»
ولما أحس الغلام أنهما تحت قصر النساء أشار إلى عماد الدين أن يقف فوقف. فتقدم هو الهوينى حتى رفع باب السرداب، فبصر عماد الدين بالنور وبعد قليل أتاه الغلام وأمسك بيده وأشار إليه أن يخرج. فصعد بضع درجات فإذا هو في غرفة فيها مصباح فنظر إلى نفسه وإلى رفيقه على النور بعد هذه السفرة في الظلام فرأى عليهما التراب ونسيج العناكب، فنفض الرداء ونظر إلى الغلام وأشار بيده يستفهم عما يعمله، فأومأ إليه أن ينزع الملاءة ففعل ودخلا حجرة مفروشة بأحسن الرياش فتحقق أنه في قصر النساء. ثم أشار إليه الغلام أن يقعد وينتظر وخرج هو، فقعد وقلبه يخفق تطلعًا لما سيراه في تلك الليلة، وتذكر مجيئه إلى هذا القصر من عهد غير بعيد، وكيف رأى سيدة الملك. وطال انتظاره حتى تولاه القلق. وإذا بالغلام قد عاد ومعه ياقوتة الحاضنة فحالما وقع نظره عليها تذكَّر أنه رآها قبل ذلك الوقت.
أما هي فأسرعت إليه وحيَّته وأشارت إلى الغلام أن ينصرف فانصرف، وظلت ياقوتة وحدها مع عماد الدين فقالت: «لقد أتعبناك يا سيدي وأتينا بك في هذا الليل.» فقال: «لا بأس يا سيدتي وإنما أرجو ألا يكون لاستقدامي سبب يوجب القلق.» فتنحنحت وقالت: «لا والحمد لله. ألا تذكر أنك رأيتني يا عماد الدين؟» قال: «بلى أذكر ذلك جيدًا.» قالت: «أما أنا فلا أنسى قدومك في ذلك اليوم العصيب، وما أتيته من الأريحية والنخوة في إنقاذ مولاتي سيدة الملك من خطر الموت. إنها لا تنفك تذكر ذلك الفضل لك. وكثيرًا ما تمنت أن تراك لتكافئك على صنيعك ولكنك لم تعد.» فقال مسرعًا: «لأني لم أفعل ما فعلت لأجل المكافأة، وأنا غني عن ذلك بفضل مولاي صلاح الدين.» قالت: «طبعًا، ولكن المكافأة لا تُعطى دائمًا للحاجة إليها، بل هي تدل على امتنان المعطي للمعطَى له. وعلى كل حال فليس ذلك من شأني بل هو يرجع إليك وإليها فإذا التقيتما صرت أنا غريبة. أليس كذلك؟» قالت ذلك وضحكت وفي عينيها وغنَّة صوتها معنى لا يُعبَّر عنه بالكلام، فتوسَّم عماد الدين في كلامها معنًى اختلج له قلبه. ولم يصدِّق نفسه لما يعلمه من البون البعيد بينه وبين سيدة الملك، وهي أخت الخليفة أعظم نساء المسلمين بمصر. فقال وهو يتجاهل مرادها: «كيف مولاتنا سيدة الملك؟ أرجو أن تكون في خير وعافية.»
قالت: «ألم تصل إليك رسالتها؟» قال: «كيف لا؟ ما الذي أتى بي في هذا الوقت؟» قالت: «وخصلة الشعر؟» فمد يده واستخرجها من جيبه وقال: «هذه هي.»
قالت: «ألا تريد أن تردها إليها كما رددتها في المرة الماضية؟»
قال: «بلى. وأنا جئت إجابة لدعوتك؛ لأنك قلت إن سيدة الملك تستصرخني، فهل هناك باعث مهم؟»
قالت: «إنما بعثها على ذلك رغبتها في مكافأتك. وقد كلفتني أن أدفع إليك هذا العقد.» واستخرجت عقدًا من اللؤلؤ لم يقع بصر عماد الدين عليه حتى دُهش. وقدمت العقد إليه فتناوله ولم ينظر إليه بل أعاده إليها وهو يقول: «شكرًا لمولاتي. إنني في غنى عن تحميلها هذه الثقلة لأني لم أفعل ما فعلته طمعًا في المكافأة.»
فاستعظمت هذه الأنفة منه وقالت: «إني مأمورة بإيصال هذه الهدية إليك، فإذا كنت لم تقبلها فإني أدعو صاحبتها لتقدمها بنفسها، ولكن احذر أن تكون قاسيًا يا عماد الدين.»
فزاده هذا التعبير بيانًا لما توسمه في عبارتها الأولى، فسكت وقد ارتبك في أمره.
•••
أما هي فنهضت وخرجت وتركت العقد في مكانها على البساط، وظل عماد الدين وحده وهو مرتبك لا يدري ما يقول أو يعمل. ثم عادت ياقوتة وسيدة الملك وراءها وقد التفت بالنقاب حتى لا يظهر إلا عيناها وبعض جبينها فلاحظ في عينيها ذبولًا وقد تغيرت عن ذي قبل. فلما رآها دخلت وقف لها وتأدب وأطرق فتقدمت إليه وهي تتماسك وقالت: «اجلس يا عماد الدين. إنك ذو فضل على حياتي وشرفي ولا حاجة إلى الوقوف لي. اجلس. قد أتعبناك بهذه الدعوة الليلة وأزعجناك فضاعفت فضلك علينا.» قالت ذلك وهي تقعد وتشير إليه أن يقعد فقعد، وظلت ياقوتة واقفة وهي تتناول العقد عن البساط ثم دفعته إلى سيدة الملك وقالت: «هذا العقد دفعته إليه حسب أمرك فلم يقبله.» فتناولته واتجهت نحو عماد الدين وقالت: «أترفض هدية صغيرة قدمتها إليك وأنت قد أهديتني حياتي؟» ومدت يدها نحوه والعقد في كفها وهي تتوقع أن يمد يده فيتناوله منها. فلما أبطأ تصدرت ياقوتة للكلام قائلة: «بماذا أوصيتك يا عماد الدين؟ ألم أقل لك لا تكن قاسيًا؟»
فخجل ومد يده وتناول العقد وهو يقول: «إني أقبله هدية لا مكافأة.» ولما مد يده ليتناوله لمست أنامله كفها فأحس ببردها وارتعاشها، وأحست هي برعشة كهربائية سرت في عروقها. وبان البِشر في محياها فقعدت ياقوتة وهي تضحك وتقول: «ها إنه قَبِلَه منها ولم يقبله مني.»
فقطع كلامها قائلًا: «لأنك أردت أن آخذه مكافأة على خدمة فلم أقبله طبعًا؛ لأني إن كنت قد فعلت خيرًا فلم أفعله طمعًا في المال … و…»
فقطعت ياقوتة كلامه قائلة: «طمعًا في أي شيء إذن؟ يظهر أنكما تعارفتما قبل ذلك اليوم … و…» وضحكت فاستغرب تعريض هذه الحاضنة بحب متبادل بينهما وهو لا يعلم بشيء من ذلك، وإنما يعلم أنه استلطفها ومال إليها ولم يحلُم أنها استلطفته أو مالت إليه. ولذلك لم يفكِّر فيها لاعتقاده استحالة حصوله عليها. فلما سمع ذلك التعريض تحرَّك قلبه وأوشك أن يشعر بالأمل فاعترض أفكاره صلاح الدين وما سمعه في ذلك اليوم من خطبته إياها، فأنكر على نفسه أن يتصدى لأمر يخص مولاه وهو يفديه بروحه. وأصبح يعد حديثه معها خيانة، لكنه لم يجسر على التصريح بذلك فتجاهل وقال: «إنما فعلت ما فعلته يومئذٍ مدفوعًا بما تفرضه عليَّ المروءة، مَن يستطيع أن يرى سيدة الملك بين يدي الأشرار يريدون أن يلحقوا بها الأذى ولا يفديها بروحه؟»
فالتفتت سيدة الملك نحوه وقد ضايقها النقاب وخافت أن يمنعها عن الكلام فأزاحته عن فيها وقالت: «لا بأس عليك من كشف هذا الوجه بين يديك، فإنك صاحب الفضل في بقائه، إنك تستغرب وجود رجل يستطيع أن يراني في ذلك الخطر ولا يفديني بروحه. لا تستغرب ذلك يا عماد الدين فقد كان في قصري عشرات من أهلي وعشيرتي لم يُقدِم أحد منهم على ما أقدمت عليه. وكأنك كنت على موعد من تلك الساعة. فدفعت إليَّ بخصلة الشعر صيانة لها ولي. فهل ألام إذا نظرت إليك نظري إلى ملاك هبط من السماء لإنقاذي؟ ولكني لا أعلم كيف كان شعورك في تلك الساعة.»
فرأى في إطرائها إشارة إلى حبها، لكنه كذَّب نفسه وعاد إلى الإنكار فقال: «أما شعوري فهو أني وأنا في خدمة مولاي السلطان صلاح الدين، وقد أمرنا أن نكف عن رمي النفط، وقع بصري على زجاجة نفط سقطت في هذه الدار وأنا على يقين أنها ليست من عندنا فاستغربت وقوعها. ثم رأيت نذلًا ملثمًا اغتنم اشتغال أهل القصر بأنفسهم ودخل كالذئب الكاسر ومعه أناس أرادوا القبض عليك، فلم أتمالك عن الوثوب عليهم، ولم أكن أعلم أنهم يريدونك ولا أنك سيدة الملك أخت الخليفة. فلما اتجه نظري إليك ورأيت هذا الشعر الذهبي علمت أنك هي. وكانت تلك الخصلة في جيبي فدفعتها إليك.»
فلما سمعت اسم صلاح الدين أجفلت، لكنها مالت إلى معرفة قصة خصلة الشعر فقالت: «من أين وصلت هذه الخصلة إليك؟»
فتوقف عن الجواب حتى خاف أن ترتاب فيه ثم قال: «أتيت بها من دار السلطان نور الدين صاحب دمشق. ما لنا ولهذا؟ وقد سألتني عن شعوري في تلك الساعة فهو أني شعرت بحمية لم أستطع دفعها ووثبت لمقاومة أولئك الأشرار وأنا لا أعرفهم ولا أعرف على مَن هم واثبون. فلا فضل لي على سيدة الملك؛ لأني لم أكن أعرف أنها هي المقصودة بالأذى وإنما فعلت ما فعلته مدفوعًا بالمروءة.»
وكان يتكلم وهي تنظر إليه وتكاد تتلقفه بعينيها، فلما وصل إلى ذكر المروءة صاحت فيه: «من أجل هذه المروءة شعرت بهذا الشعور ورغبت في استقدامك لأعترف بجميلك.»
فخجل من هذا الإطراء وقال: «العفو يا سيدتي، إن مثلي لا يستحق هذا الإطراء من أخت أمير المؤمنين؛ لأننا عبيد ويجب علينا التفاني في الدفاع عن صاحب هذا المقام السامي.»
قالت: «اسمع يا عماد الدين، لست عبدًا، ولو أنك اندفعت إلى هذه المنقبة لأجل أخت الخليفة لقلنا إنك فعلت ذلك تقربًا من أمير المؤمنين. ولكنك إنما دفعك إليها نفْسٌ أبية وهِمة عالية وأريحية ومروءة لا نعهد مثلها فيمن نعرفهم بين أظهرنا من الأمراء وأبناء الخلفاء. فهذه الخصال رفعت قدرك وجعلتك في مصاف الملوك … لا تقل إنك عبد، معاذ الله! بل أنت أمير من أعظم الأمراء، وستكون كذلك قريبًا إذا شئت.» وظهر في عينيها معنى لم يترك لعماد الدين سبيلًا للتجاهل، وأعجبه قولها إنه سيكون أميرًا وهو في ذلك اليوم أوشك أن يصير من الأمراء بما آنسه من إعجاب نجم الدين وتقديمه. وتذكَّر المهمة التي هو ذاهب فيها وما وعده به نجم الدين إذا فاز بها. فتفاءل من مطابقة قولها قول نجم الدين إنه أمير وسيصير أميرًا عن قريب. ثم انتبه فجأة إلى أنه قد مضى هزيع من الليل فخاف أن يطول الكلام في تلك الجلسة، ولم تعجبه مقدمات الحديث؛ لعلمه بما طلبه صلاح الدين من أخيها. وخُيل له أنها استقدمته لأمر يتعلق بذلك الطلب؛ إذ لا يزال يستبعد أن يكون هو المقصود به، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «إذا صرت شيئًا مذكورًا فإنما يكون الفضل فيه لمولاتي سيدة الملك؛ لأنها أحسنت الظن بعبدها فقدَّمه مولاه السلطان صلاح الدين في مساء أمس حتى جعله أقرب أعوانه إليه.»
فلما سمعت ذكر صلاح الدين للمرة الثانية أجفلت وانقبضت نفسها وتذكرت ما جرى لها بسببه ولم يعجبها اقتران اسمها باسمه في هذا الموضوع، لكنها سُرت لقوله إن صلاح الدين قدَّمه فقالت: «لا غرابة في تقديمك، فأنت أهل لأكثر من ذلك. إنك أمير وسيد وستنال مقامًا لم ينله صلاح الدين ولن يناله هو ولا غيره من السلاطين أو الأمراء. هذا إذا شئت.» وتلعثم لسانها وغُلبت على أمرها وأبرقت عيناها وبان الحياء في محياها، فأطرقت وكأنها ندمت على ما فرط منها، فجعلت تتشاغل بتثنية طرف جديلتها المرسلة على صدرها من تحت النقاب.
أما هو فلم يبقَ عنده شك فيما تعنيه، واستعظمه منها وهاجت عواطفه وأحس بانعطاف جديد نحوها بعد أن سمع تصريحها أنها تحبه وأنها تفضله على صلاح الدين. لكنه تذكَّر أن مولاه صلاح الدين يريدها مع أنه لا يرجو أن ترضى به فاستنكف أن يقوم مقامه أو يقف في سبيله أو يعتدي عليه وهو صنيعته وقد صمَّم أن يفتديه بروحه. فلم يتمالك عن النهوض وقال: «إن سيدتي بالغت في إطراء عبدها كثيرًا، فأنا صنيعة مولاي السلطان، ولا أخفي أني ذاهب الليلة في مهمة تخصه وأخاف أن أتأخر عنها إذا أطلت المقام هنا.»
فأمسكت بيده وأقعدته وقد بانت أنفة الملوك في وجهها وقالت بصيغة الأمر: «لا. لست عبدًا لأحد ولا صنيعة أحد، وقد قلت لك إنك أمير وسيد. لا، لا ينبغي أن تذهب في خدمة أحد إني في حاجة إليك وقد استصرختك. أين حميتك ومروءتك؟»
فلما قبضت على يده سَرت الرعشة في أعضائه وقعد بالرغم منه. لكنه لما سمع كلامها خاف أن يُغلب على أمره فقال وهو يتحفز للنهوض: «إن هذه المروءة نفسها تحملني على الذهاب الآن؛ لأني تعهدت بأمر لا بد من الذهاب فيه وهو يخص مولاي صلاح الدين. وإذا كانت مولاتي ترى فيَّ هذه المناقب وأنا صنيعة صلاح الدين وخادمه، فكيف لو عرفته هو؟»
فنفرت من هذا الجواب، وكانت لا تزال قابضة على يده فتركتها وأعرضت بوجهها وهي تظهر الغضب، فتصدت الحاضنة ياقوتة وقالت: «ما هذا يا عماد الدين؟ تخاطبك مولاتي من الشرق فتجيبها من الغرب؟ ألم تفهم مرادها؟»
قال: «نعم فهمت، ويسرني رضاها عني وقد غمرتني بفضلها وإنعامها. ولكنني صنيعة السلطان صلاح الدين وأنا ذاهب في خدمته.» وتحوَّل نحو سيدة الملك وقال: «لماذا غضبت مني يا سيدتي؟ إنما ألتمس رضاك؟»
فسرَّها عتابه، فالتفتت نحوه وعيناها تعاتبه وقالت: «لأني أخاطبك وأطلب الجواب عن نفسك فتجيبني عن صلاح الدين. ما لنا وله؟ دعه في سلطانه إنه لا دخل له في هذا الحديث. ألم تفهم؟»
فتحيَّر عماد الدين في أمره وارتج عليه وعلم أنها لا تريد صلاح الدين، وأوشك أن يُغلب على عقله. ومَن الذي يقف هذا الموقف ولا يغلبه الهيام ويتسلط على قلبه؟ لكن عماد الدين كان قوي الإرادة شديد الاحترام لصلاح الدين، وكان تلك الليلة في شاغل عن كل شيء بأمر زعيم الإسماعيلية وسفره فتجلَّد ونهض بلطف وهو يقول: «قد فهمت يا سيدتي على قدر إمكاني، وإذا لم أفهم فلأني أرى نفسي لا أستحق هذه النعمة. وما زلت أرى مولاي صلاح الدين أحق بها. ولا تغضبي يا سيدتي، إن صلاح الدين لم تعرفيه، ولو عرفته لضربت بعماد الدين عرض الحائط. ومع ذلك فإني طوع أمرك ولكن …»
فقطعت كلامه وتوجهت نحوه وهي تبتسم والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «لا تقل ولكن. بل قل إنك تطيعني فيما أطلبه.»
قال: «أطيعك في كل شيء، ولكن بعد رجوعي من هذا السفر. إن سفري لا بد منه وقد أقسمت أن أكون في صباح الغد خارج هذا البلد. ومضى بعض الليل وأنا لم أتحرك من مكاني. فبالله اسمحي لي بالانصراف الآن.»
فقالت والدهشة ظاهرة في وجهها: «تنصرف الآن، إلى أين؟»
قال: «إلى منظرة اللؤلؤة، ومن هناك أركب حالًا وأسافر.»
قالت: «تسافر؟ ويلاه إلى أين؟»
قال: «في غرض يختص بمولاي السلطان.»
فأطرقت وهي لا تدري ما تقول، فخاف أن يجر الحديث إلى ما لا يقوى على دفعه، وقد أحس أن الحب كاد يستولي على إرادته وهو حريص على القيام بوعده ولا سيما بعد أن أقسم وصمَّم فقال: «اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف. واعلمي أني رهين أمرك، ولولا ما سبق من تعهدي بأمر السفر لما خالفتك في شيء. ولكنني سأعود سالمًا إن شاء الله، وعند ذلك لا ترين مني إلا ما يرضيك. أستودعك الله الآن.»
•••
قال ذلك ومدَّ يده لمصافحتها فلم تمدَّ له يدها رغبة في استبقائه لتتم حديثها أو لعلها تثنيه عن السفر. وإذا هي تسمع وقع أقدام مسرعة خارج باب الغرفة فنظرت إلى ياقوتة فرأتها قد امتقع لونها وتحفزت للنهوض. ولم تكد تقف حتى رأت غلامها الذي جاء بعماد الدين داخلًا والبغتة على وجهه من الخوف فصاحت فيه: «ما وراءك؟» فقال وصوته يرتجف: «إن الأستاذ بهاء الدين قراقوش يطلب أن يراك.» فأجفلت عند ذكر اسمه وقالت: «ولماذا؟ ما له ولنا؟»
قال: «كنت ساهرًا لمراقبة كل حركة كما أمرتني الخالة أطل على القصر من شرفة الإيوان فرأيت شبحًا قادمًا من الخارج نحو باب هذا القصر لم أعرفه؛ لأنه ملتف بعباءة كبيرة كأنه جاء متنكرًا، فجعلت أراقبه حتى وصل إلى باب القصر وطلب مقابلة الأستاذ بهاء الدين. فجاء لمقابلته ودار بينهما حديث لم أفهمه، ولكنني لحظت أن القادم ألحَّ عليه أن يفتش داخل القصر وتأكد لي ذلك لما رأيت الأستاذ بهاء الدين دخل القصر بسرعة ورجع ذلك الرجل كما جاء. وسمعت بهاء الدين يأمر أحد الخصيان بالذهاب إلى سيدتي فأسرعت لأخبرك بذلك.»
فاستولت الدهشة على الجميع وظلوا سكوتًا إلا سيدة الملك فقالت: «تبًّا لذلك الخائن. لا أعلم كيف اطلع على مجيء عماد الدين إلى هنا حتى وشى بنا إلى الأستاذ.»
فقالت ياقوتة: «أتظنين مجيء بهاء الدين يتعلق بعماد الدين؟»
قالت: «لا بد من ذلك، ولكنه سيعود خائبًا.»
فقال عماد الدين: «لا تخافي يا سيدتي إن روحي فداك ماذا جرى؟»
قالت: «لم يجرِ شيء، ولكنني سآذن في ذهابك برغم إرادتي. وهذا يسرك ولكنه يسوءني.» والتفتت إلى الغلام وقالت: «يا غلام، عُدْ بعماد الدين من هذا السرداب كما جئت به منه.» والتفتت إلى عماد الدين وقالت: «أرجو أن تبقى على وعدك وأن تذكرني في أثناء سفرك. واعلم أن صاحبكم بهاء الدين هذا قد قطع كلامي وحال دون إتمامه وأنا ما زلت في أوله، لكنني أترك فَهْم الباقي إلى فطنتك وما يدلك عليه قلبك. وأحسبني عبَّرت عن مرادي بملامحي أكثر من نطقي! كنت قبل استقدامك في يأس شديد، وكنت أرجو أن يزول كل يأس بحضورك. فإذا أنت على سفر، ثم جاء هذا الأستاذ فلم أتمكن من إتمام شكواي، فأقول لك بالاختصار إني أفكر فيك دائمًا وأنا سجينة في هذا القصر. ويا حبذا لو أني أخرج منه معك الساعة.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فكان لذلك وقع شديد على قلب عماد الدين وهو شاب في مقتبل العمر وبين يديه أشرف نساء مصر وأجملهن تشكو له حبها وتدعوه إلى قربها، فهاجت عواطفه وكاد يُغلب على أمره وينسى مهمته، وإنما عصمه أدب نفسه وعلو همته واحترامه لمولاه فتجلد وسكت، لكنه أشار برأسه وعينيه أنه رهين أمرها بعد عودته، وأرادت أن تستزيده إيضاحًا فتصدت الحاضنة بلهفة قائلة: «يكفي يا سيدتي. يكفي. إن بهاء الدين يطلب مقابلتك بإلحاح ولا أستطيع استمهاله.» وتقدَّمت إلى عماد الدين فأمسكت بيده وجرته حتى خرج من تلك الغرفة إلى باب السرداب. وكان الغلام في انتظاره هناك وقد فُتح الباب، فالتف كل منهما بردائه وذهبا، وأُغلق الباب وعاد كل شيء إلى أصله. وتمشت سيدة الملك إلى غرفة الاستقبال فرأت قراقوش في انتظارها هناك. فأظهرت الاستغراب من طلبه مقابلتها في تلك الساعة.
فقال: «بلغني أن رجلًا غريبًا دخل هذا القصر الليلة أين هو؟»
فقالت: «تسألني سؤالًا أنت أولى بالجواب عليه؛ لأن مفاتيح القصر بيدك وقد سددت علينا الطرق والنوافذ، فإذا دخل غريب علينا فأنت المسئول.» قال: «لم يدخل أحد من باب القصر.» قالت: «هل هبط من السماء؟» قالت ذلك بغضب. فقال: «لا تغضبي يا سيدتي، إنما أتصدى للسؤال حرصًا على كرامة سيدة الملك وعملًا بأمر أمير المؤمنين.» فضحكت ضحكة استهزاء وغضب وقالت: «ما أحرصكم على أوامر أمير المؤمنين وكرامة أخته! مَن أنبأك بدخول الرجال إلينا خلسة؟» فخجل بهاء الدين من هذا التوبيخ وندم على تسرعه وقال: «لم أقل شيئًا من ذلك يا سيدتي، ولكنني أقول ما بلغني ولم أسمع من رجل حقير أو جاهل.»
فقطعت كلامه وقالت: «مهما يكن من أمر الذي بلغك فإنه نذل كاذب، هذا هو قصري ابحث فيه عمن شئت.» قالت ذلك وتحوَّلت من القاعة نحو غرفتها والحاضنة تهرع في أثرها وقلبها يرقص فرحًا للنجاة من تلك التهمة الشنيعة.
•••
فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك في غرفتها أكبت عليها وجعلت تقبِّلها وتداعبها وهي ساكتة وقد عادت إليها هواجسها ثم نهضت وقالت: «دعيني يا ياقوتة، دعيني وشأني، إني تعيسة شقية، ويلاه ما هذا البلاء! لم أكد أتوسم بابًا للفرج حتى أُقفلت عليَّ الأبواب وسُدت دوني السُّبل.» وأخذت في البكاء.
فعملت ياقوتة على التخفيف عنها وقالت: «لا تنكري نعمة الله، ألم تطمئني إلى أنه يحبك؟ وهذا ما كنت تطلبين معرفته و…»
فقطعت كلامها بغضب وقالت: «يحبني؟ هل فهمت من قوله أنه يحبني. ألم تريه كيف كان مرتبكًا في أمره وكلما ذكرت له ما في نفسي حوَّل الموضوع إلى مولاه صلاح الدين. إنه يحب مولاه فقط.» قالت ذلك ومسحت عينيها بمنديلها وهمت أن تعود إلى الكلام.
فسبقتها ياقوتة قائلة: «ولكن حبه هذا مبني على همة عالية وأريحية و…»
قالت: «وما يفيدني إذا كانت هذه المناقب فيه ولا يحبني. ثم هو مسافر في مهمة لخدمة مولاه، ولم يشأ أن يتأخر ساعة لأجلي، وأنا تركت حسبي ونسبي وعرضت نفسي لغضب أخي وسائر أهلي من أجله، فهل يدل هذا على حبه؟»
قالت: «لا شك في أنه يحبك، وقد توسمت ذلك في عينيه، لكنه شهم إذا وعد وفى. وقد أقسم أن يسافر الليلة فلا يريد أن يحنث في يمينه. وأؤكد لك أنه لو طال جلوسنا برهة لرأيت منه كل ما يسرك؛ لأنه لم يكن في أول الحديث يصدق أنك تحبينه ولم يكن يحلم بهذه النعمة. فلما دنا من الموضوع جاء الطواشي وكدَّر علينا أمرنا. ولكن كوني مطمئنة أنه سيعود إليك.»
فغلب عليها الأمل — والمحب كثير الريب لكنه سريع التصديق قريب الأمل — فلما سمعت قولها إنه يحبها وإنه سيعود إليها أشرق وجهها وبان الابتسام حول شفتيها، وأقبلت بوجهها نحوها وقالت: «صحيح؟ هل أنت على ثقة مما تقولين؟ هل هو يحبني؟» ثم أطرقت كأنها ثابت إلى رشدها وضمت خديها بين كفيها وقالت: «ويلاه! ماذا جرى لي؟ مَن أنا؟ ألست سيدة الملك العاقلة الحازمة ابنة أمير المؤمنين وأخت أمير المؤمنين من سلالة فاطمة الزهراء بنت الرسول؟ ما الذي أصابني حتى صرت كالمجنونة وأصبح قلبي أسيرًا بين يدي شاب غريب لا حسب له ولا نسب، أتسقَّط ما يجود به عليَّ من كلمة عطف أو تودد؟ وهؤلاء أبناء عمي الشرفاء يتمنون رضاي! لله ما أشد وطأة الحب وما أقوى سلطانه!»
فلما سمعتها ياقوتة تقول ذلك توسمت منها الرجوع إلى الصواب لعلها تنجو من لواعج الحب فبادرتها قائلة: «ألم أقل لك يا سيدتي؟ قد كنت في نعيم وراحة قبل أن …»
فأسرعت سيدة الملك فوضعت كفَّها على فم ياقوتة تعجيلًا في إسكاتها وقالت: «ومع ذلك فإن الحب يعزيني عن كل شيء. يكفي ما رأيته من اقتناعي بكلمة من عماد الدين لو قالها لنسيت كل شيء. ومع ذلك فإن أملي بأن أسمعها منه أنساني القصور والخلافة والنسب الشريف. أنساني كل شيء. ذلك هو الحب يا ياقوتة. ليس في الدنيا ألذ منه إذا كان متبادلًا.»
فعادت ياقوتة إلى مسايرتها وقالت: «هذا ما قلته لك يا سيدتي، فاتكلي على الله واصبري فإن الفرج قريب.»
فأحبت سيدة الملك أن تختم الحديث بهذا الوعد، فهمَّت بالذهاب إلى الفراش وياقوتة تساعدها.
أما عماد الدين فإنه دخل السرداب مرغمًا ولم يكن يريد الرجوع هاربًا من وجه قراقوش أو غيره. ولكنه فعل ذلك صيانة لكرامة سيدة الملك وفرارًا من التأخير عن المهمة التي هو سائر فيها. مرَّ في السرداب متحمسًا والغلام يسير بين يديه حتى وصل إلى الطرف الآخر عند منظرة اللؤلؤة. فخرج وعاد الغلام إلى القصر. مشى عماد الدين بين الأشجار يطلب غرفته وإذا هو يسمع المؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر فأجفل. ولم يكن يظن نفسه تأخَّر بهذا المقدار فأسرع إلى غرفته وأمر بإعداد جواده واستعد للسفر وهمَّ بالخروج قبل طلوع النهار حسب وعده. وإذا بصلاح الدين يناديه من غرفته فأسرع ملبيًا فرآه قاعدًا في فراشه فأكب على يده يقبِّلها فقال له: «أنت مسافر يا عماد الدين؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد أبطأت قليلًا ولكن لا تطلع عليَّ الشمس إلا خارج القاهرة كما قلت.» قال: «كنت أحب أن أراك قبل الآن وقد سألت عنك مرارًا فلم يجدوك في حجرتك. أحببت أن أراك لعلي أثنيك عن عزمك وأنت سائر في مهمة يمكن الاستغناء عنها، وربما كنت أحوج إليك هنا مما في الخارج.»
قال: «إني طوع أمر مولاي، لكنني قد تأهبت للذهاب، فادعُ لي بالنجاح وإذا فزت فببركة سلطاني ومولاي. وإذا متُّ فإن روحي فداه.» قال ذلك ووقف ينتظر الأمر، فأجابه صلاح الدين: «سِر يحرسك المولى، ولا أوصيك بالشجاعة فإنك شجاع، ولكنني لا أحب أن تلقي بنفسك إلى التهلكة فإنك عزيز علينا.»
فعاد وقبَّل يد صلاح الدين، وخرج فركب جواده وسار، ولم تمضِ دقائق حتى صار خارج القاهرة وهو عليم بالطرق ومسالكها. وحالما خلا بنفسه عادت إليه هواجسه بما لاقاه من الغرائب المدهشة في الليل الماضي. ولما أشرقت الشمس توهَّم أن ما مر به من ذلك حلم رآه في منامه؛ إذ استبعد وقوع ما لقيه من الحفاوة والتقرب من سيدة نساء مصر. لكنه ما لبث أن حبس جيبه فوجد العقد فيه، فتحقق أن ذلك حدث في اليقظة.