حول التقليد والتجديد
في حياتنا المعاصرة ظاهرة خطيرة تتصل بحياتنا الأدبية، وليس بدٌّ من أن نُعنى بها أشد العناية لأنها توشك أن تكون شرًّا كلها، وليس بدٌّ كذلك من أن نحاول علاجها قبل أن يستفحل شرها وقبل أن يصبح أثرها في الأدب خطيرًا حقًّا، هذه الظاهرة تأتي مما اقتضاه العصر الحديث من هذه السرعة التي تدفع الشباب إلى أشياء كثيرة، منها سرعتهم في القراءة، وسرعتهم في الفهم أو فيما يظنون أنه الفهم، وسرعتهم في الحاجة إلى أن يصلوا في أسرع وقت ممكن إلى المراكز أو المنازل التي لم يكن الناس يصلون إليها فيما مضى إلَّا بعد الجهد المتصل والعناء الشديد، وينشأ عن هذا كله كثير من التبدلات في القيم، وفي القيم الأدبية خاصة.
فأنت عندما تقرأ ما يُنشر في كثير من الصحف وفي كثير من المجلات في هذه الأيام، تلاحظ أن شبابنا حريصون أشد الحرص على أن يبلغوا من بُعد الصيت وارتفاع المنزلة في الأدب قبل أن تؤهلهم جهودهم وقبل أن تمكِّنهم أسنانهم من الوصول إلى هذه المنزلة أو إلى هذا المركز، وهم يتصورون الأدب تصورًا أقلُّ ما يوصف به أنه أبعد الأشياء عنْ الأدب بمعناه الصحيح، فكل كلام يمكن أن يُكتب أو يُنشر يسمَّى عندهم أدبًا؛ وهو عندهم من الأدب الرفيع؛ وكل نقد سواء أكان صادقًا أم غير صادق، دقيقًا أم غير دقيق، يمكن أن يسمَّى عندهم نقدًا، وكل ما يستعصي عليهم فهمه أو يشق عليهم تذوُّقه يعتبر عندهم قديمًا مُبتذَلًا، والأدب القريب الذي يُفهم في غير تكلُّف وفي غير مشقة والذي لا يحتاج قارئه إلَّا أن يمر على حروفه وألفاظه ليفهمها هو عندهم الأدب الذي يلائم الحياة الجديدة، ويلائم العصر الجديد، ويلائم التطور الذي دُفعنا إليه والذي يظهر أننا سنُدفع إلى أكثر منه وأبعد مدى، ومعنى هذا كله أن هؤلاء الشباب يريدون أن يُعطُوا إجازةً — إن صح هذا التعبير — لملَكاتهم التي خُلقت لتفهم وتستأني في الفهم، ولتنتج وتستأني في الإنتاج، ولتصل من الأشياء إلى حقائقها وأعماقها قبل أن تتحدث عنها وقبل أن تحاول نقلها إلى غيرهم من القراء …
كل هذا يأتي من هذه السرعة التي دُفعنا إليها في حياتنا الحديثة، ومن هذه السرعة التي دُفعنا إليها في التعلم والتعليم أيضًا … فليس التعليم الآن غرضًا يُقصد لنفسه وإنما هو وسيلة يُقصد إلى ما يأتي بعده من الوصول إلى هذه المنزلة أو تلك، وإلى هذا المنصب أو ذاك، ومِنْ كَسْبِ القوت في أسرع وقت ممكن وعلى أيسر حال ممكنة … هو — هذا التعليم — يعتمد كذلك على الذاكرة أكثر مما يعتمد على العقل، ويعتمد على الاستقراء أكثر مما يعتمد على الفهم والتثبت وتعمق الأشياء، وليس بدٌّ من أن نقنع الشباب بأن هذه الحياة التي يحيونها والتي يفرضونها على عقولهم وملَكاتهم جديرة ألَّا تنتهي بهم إلى شيء … وإنما هي جديرة أن تنتهي بهم إلى أن يصبحوا أشبه شيء بالببَّغَاء، يحاكون ويقلدون ويظنون أنهم مُجَدِّدون ومبتكرون.
من أجل هذا كله، أريد أن أتحدث في هذه الأحاديث المقبلة عن حقائق التقليد والتجديد في الأدب، عسى أن يلتفت شبابنا إلى هذا النحو من الحياة التي يحيونها، وعسى أن يدركوا هذا الخطأ الذي يتورطون فيه، وهم حين يتورطون فيه لا يجنون على أنفسهم فحسب، وإنما يجنون على أنفسهم وعلى الأجيال الناشئة التي ستقرأ والتي ستتعلم أن تذهب مذاهبهم وتسير سيرتهم في الحياة.
وليس كل محافظة على القديم تقليدًا، ولا كل إضافة إلى القديم تجديدًا … وإنما للتقليد وللتجديد، في الحياة الأدبية بنوع خاص، أصول وشروط لا تتحقق المحافظة إلا بها، كما لا يتحقق التجديد إلَّا بها، وليس شيء أيسر من التقليد ولا أيسر من التجديد في حياة الناس المادية؛ لأن حياتهم المادية محدودة بما يتاح لهم وما لا يتاح، وما ييسَّر لهم من أمور الحياة وما لا ييسَّر لهم، فهم مجددون حين تطرأ على حياتهم هذه المخترعات الكثيرة، وحين يصطنعون هذه الأشياء الجديدة التي تُجلب إليهم من الخارج، وإن كانوا في الوقت نفسه لم يبتكروا هذه الأشياء ولم يخترعوها من عند أنفسهم، وإنما هم يستعملونها مقلدين للذين اخترعوها وابتكروها.
مهما يكن من شيء، فالتجديد في الحياة المادية أيسر وأقرب وأدنى منالًا من التجديد في الحياة العقلية، ومن أجل هذا نلاحظ أن التجديد في الحياة المادية لا يحتاج إلى أن يكون الإنسان واسع العلم عميق الفهم قوي الإدراك محيطًا بحقائق الحياة، وإنما يحتاج إلى أن تُقَرَّب إليه الأدوات المادية التي تُيسر له الحياة وتجعله أدنى إلى الترف، وأن يصطنع هذه الحياة ليكون مجددًا في حياته المادية، ومن أجل هذا جدد العرب البادون عندما اتصلوا بالأقاليم المتحضرة التي سبقتهم إلى الحضارة، وأخذوا يعيشون على نحو ما كانت تلك الأمم تعيش ويستمتعون بملذات الحياة على نحو ما كانت تلك الأمم تستمتع بها، فعلوا ذلك في أول الأمر دون أن يفهموا حقائق هذه الحياة الجديدة التي أتيحت لهم؛ لأن هذا النحو من الانتفاع بالحياة المادية لا يحتاج إلا إلى الحركة إرادة الانتفاع، وليس في حاجة إلى تعمُّق ولا إلى تثقُّف ولا إلى فهم.
تجديد الحياة المادية إذن يسير إذا يُسِّرَتْ أسبابه، ولكن تجديد الحياة العقلية ليس من اليسر والسهولة بهذه المنزلة، وإنما هو في حاجة إلى تطور شديد عميق بعيد المدى، إلى تطور يمس النفس ويمس العقل والقلب والضمير ويمس المجالات الإنسانية كلها … وهذا التطور بطبعه بطيء، وإذا قلتُ إنه بطيء فإني أريد هذا البطء الإنساني الذي يختلف باختلاف العصور التي يعيش فيها الناس؛ فهو في العصور القديمة كان شديد البطء، وهو في العصر الحديث بطيء ولكنْ بطؤُه أقل مما كان في العصور الأولى.
ومهما يكن من شيء فليس من اليسير أن يصبح الإنسان وقد أَلِفَ الحياة القديمة ونشأ فيها وعاش عليها دهرًا من حياته، ثم يتصل بحياة أخرى أجنبية طارئة فيتحول فجأة من مقلد إلى مجدد، بل لا بد من أن يطول اتصاله بهذه الحياة الطارئة، وربما عبر هذه الحياة الطارئة عبورًا دون أن يتأثر بها تأثرًا ذا بال، وربما احتاج التجديد في هذه الحياة العقلية إلى أن يطول الاتصال ويطول، وتتوارثه أجيال كثيرة قبل أن يستظهر أثره وقبل أن تصبح هذه الأجيال متأصلة فيه قادرة على أن تجدد كما جدد أصحاب تلك الحياة الطارئة من قبل، فالذين يحاولون الآن عندنا أن يكونوا مجددين في الأدب يجب أن يفهموا معنى هذا التجديد قبل كل شيء، ويجب أن يفهموا أن التجديد لا يتأتى إلَّا بعد الفهم والتعمق والدرس الطويل والتمرين على هذا كله والممارسة لهذا كله وقتًا يطول كثيرًا وربما تجاوز حياة الفرد إلى حياة جيل بأسره.
معنى هذا كله أن الذين يتحدثون عن القديم والجديد في هذه الأيام، والذين يذكرون المقلدين والمجددين، والذين ينكرون أدب القدماء وينكرون أدب الأجيال القديمة التي سبقتهم إنما يطلقون ألسنتهم بأشياء كان محصلًا لها إذا دُرست وفُحصت، وإذا أردنا أن نعرف ما يرون، وإذا أردنا — بنوع خاص — أن نعرف ما يمكن أن ننتهي إليه، فليس إذن بدٌّ من أن يقف الشباب عند هذا كله، وليس لهم بدٌّ من أن يفقهوا حقائق التقليد والتجديد … وأنا من أجل هذا حريص على أن أعرض عليهم وعلى غيرهم من المستمعين ألوانًا من التقليد والتجديد في أدبنا العربي وفي ألوان مختلفة من الآداب الأخرى، عسى أن يكون لهم في هذا ما يدعوهم إلى التعمق والتزود من الفقه والفهم والأناة في الحكم أيضًا.