شوقي بين القيد والحرية
كان الثلث الأخير من القرن الماضي أول النهضة العقلية والأدبية الظاهرة ظهورًا قويًّا في مصر، وقد تحدثت إليكم حديثًا موجزًا عن البارودي يوم الجمعة الماضية، وأريد الآن أن أحدِّثكم عن شوقي، ولكن الحديث عن شوقي يطول ويحتاج إلى شيء من التفصيل، فلشوقي منزلته الرفيعة في الأدب المصري الحديث؛ بل في الأدب العربي الحديث كله، ويكفي أن نلاحظ أن شوقي هو أول من حاول التجديد بمعناه الدقيق في الأدب العربي؛ بل في الشعر العربي … وهو قد حاول هذا التجديد متحفظًا أول الأمر فوُفِّق فيه توفيقًا ما، ولكنه عندما أُتيح له شيء من حرية في الشطر الأخير من حياته أتيح له أن يبلغ من التجديد ما كان يريد.
وأول ما نلاحظه من أمر شوقي أنه قَبْلَ كل شيء كان أشبه الناس بشعراء العرب في العصر الأول، وأريدُ بالعصر الأول العصرَ العباسي الأول، فهو لم يكن عربيًّا خالصًا، وإنما كان يرجع إلى أجناس مختلفة التقت فيه، وأتيح له أن يأخذ منها خير ما فيها، وهو في ذلك يشبه الشعراء النابهين في العصر العباسي الأول … يشبه بشارًا ويشبه أبا نُوَاس، ويشبه مسلم بن الوليد وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين لم يكونوا عربًا ولكنهم أتقنوا العربية حتى تفوقوا فيها على العرب أنفسهم، وأتقنوا الشعر العربي حتى تفوقوا فيه على الشعراء العرب الفحول.
ونلاحظ بعد ذلك أن حياة شوقي في الطور الأول منها قد كانت متناقضة تناقضًا ظاهرًا … فهو لم ينشأ في بيئة فقيرة من هذه البيئات الشعبية التي تعيش عيشة متواضعة، يشتد فيها البؤس ويعظم فيها الشقاء، ولكنه عاش في بيئة قد تيسَّر لها حظ غير قليل من ثراء، وكانت أسرته متصلة بالقصر في ذلك الوقت حتى استطاع شوقي فيما استأنف من حياته أن يقول إنه وُلد بباب إسماعيل.
كان إذن يعيش في هذه الأسرة الموفورة الميسورة، وكان يختلف إلى المكتب ويختلف إلى المدرسة، والفرق بين البيئتين، بيئة الكُتَّاب وبيئة المدرسة من جهة وبيئة الأسرة التي كان يعيش فيها، واضحٌ فيما أظن كل الوضوح … هو في الكُتَّاب والمدرسة في بيئة توشك أن تكون شعبية خالصة، فإذا عاد إلى أسرته ضرب بينه وبين الحياة الشعبية الخالصة حجابًا، وهو كذلك قد نشأ هذه النشأة المتناقضة ينفق شطرًا من يومه في هذه البيئة الشعبية، وينفق سائر يومه في أسرته الأرستقراطية المترفة، ثم أتيح له بعد ذلك ما لم يُتَح لكثيرٍ غيره من المعاصرين، فأرسله القصر إلى أوروبا ليُتم دراسته هناك، وهو قد عاش في أوروبا سنين وظهر شعره وظهر تفوقه في الشعر حين كان في أوروبا، فأرسل من فرنسا بعض شعره إلى مصر يمدح فيه الخديوي، وكان مدحه أقل خطرًا من غزَله في قصيدته المشهورة:
وظهر الجزء الأول من ديوان شوقي حين كنا في أول الشباب، وكنا نقرأ هذا الشعر قراءة المشغوفين به الذين يملك عليهم الإعجاب به أمرَهم كله؛ لأنه شيء لم نتعوده، ولم نجد مثله فيما كان يتاح لنا أن نقرأه عند بعض الشعراء المعاصرين.
وظهر في أوائل هذا القرن ظهورًا بينًا جدًّا أن هناك فرقًا ظاهرًا بين البارودي وبين هذا الشاعر الجديد … فقد كان البارودي مُجيدًا لألفاظ الشعر وأساليبه، محييًا للشعر العربي القديم كأحسن ما يكون الإحياء … كنا نقرؤه فنحس أننا نقرأ شعرًا من شعر العباسيين القدماء، ولكِنَّا لم نكن نشعر به أنه ينقلنا من عالمنا العربي إلى عالم آخر جديد لا عهد لنا به، وإنما كنا نشعر بأننا نعود من هذا العالم العربي الذي نعيش فيه إلى ذلك العالم القديم مع شيء من المحافظة على ألوان الحياة العصرية التي كنا نحياها … أما شوقي فإنه قد نقلنا من هذا العالم الذي كنا نعيش فيه ولم يردَّنا إلى عهد القدماء، وإنما نقلنا إلى عالم جديد كانت الكثرة منا تجهله كل الجهل، وكنا نُقبل عليه في كثيرٍ من الشوق وفي كثير من اللهفة حتى كان شوقي في أمره يملك أمرنا بل يستأثر بإعجابنا كله … غير أن هذا التجديد الذي حاوله شوقي في أول الأمر لم يُتَح له أن يتمَّ ولا أن يبلغ من النضج ما كان يريد له الشاعر نفسه، فهو — كما قلت — قد وُلد بباب إسماعيل وأرسله توفيق إلى أوروبا وعاد من فرنسا ليعمل في قصر عباس، هو إذن متأثر بحياة القصر تأثرًا شديدًا قويًّا، ما في ذلك شك.
وهذا التأثر بحياة القصر يفرض عليه ألوانًا من القيود لم تكن تتفق مع ما كان يحاول من التجديد، ونستطيع أن نقول إن شوقي قد بدأ حياته الفنية في كثير جدًّا من الضيق … كان فيما بينه وبين نفسه يشعر بحاجة إلى الحرية، وإلى الحرية الواسعة البعيدة المدى، وإلى هذه الحرية في الفن بنوع خالص … ولكنه حين يتصل بأسرته وحين يتصل بالقصر، وحين يتصل بأصحاب القصر كان يضطر إلى أن يصانع ويجاري ويداري ويخضع لهذه القيود التي تفرضها عليه الحياة الرسمية، فهو إذن كان في حرب داخلية قوية بين فنه وبين الحياة الرسمية التي فُرِضت عليه والتي لم يكن يكرهها، وعسى أن يكون أحبها أشد الحب ورغب فيها أشد الرغبة … ولم يمضِ عليه وقت طويل حتى أصبح شاعر الأمير، وأصبح موظفًا في القصر يخضع لصلته بالأمير، ويخضع لأحكام هذا المنصب الذي وُكِل إليه، وهو قد اطمأن لهذه الحياة؛ بل قد أُعجب بهذه الحياة، ورأى أنها حياة هينة لينة تتيح له ما يحب من هذا الامتياز وهذا الظهور، ومن هذه العيشة التي تفصل بينه وبين الدَّهْماء وترفعه فوق رقاب الناس كما كان بعض الأفراد يرتفعون فوق رقاب الناس في تلك الأيام … وهو من أجل هذا لا يتحرج من أن يفخر بصلته بالأمير فيقول في بيته المشهور:
هو إذن كان راضيًا عن حياته تلك، قد أخضع لها فنه ونشأ أسير هذا الخضوع، وظهر أثر هذا الخضوع في كثير من الشعر الذي كان يقوله في الحوادث التي كانت تحدث حين كان متصلًا بعباس وحين كان متصلًا به اتصالًا قويًّا متينًا.
وهنا كانت المناسبة التي ردت إعجابنا بشوقي إلى شيء من التردد ومن الشك فيه، وإلى شيء يوشك أن يكون خيبة للأمل … فقد توفي بعض أعلام المصريين الذين كان المثقفون يَشغفون بهم ويُعجبون بهم أشد الإعجاب، توفي محمد عبده، وتوفي قاسم أمين، وتوفي مصطفى كامل، وكلُّ هؤلاء الأشخاص كانت لهم مكانتهم الشعبية أو مكانتهم في الطبقة المثقفة الممتازة بالقياس إلى محمد عبده وإلى قاسم أمين، وكانت لمصطفى كامل مكانته في هذه الطبقة ومكانته الشعبية التي لم يظفر بها أحد في القرن الماضي … فلما حاول شوقي أن يرثيهم كما رثاهم غيره من الشعراء لم يبلغ من رثائهم شيئًا لسبب بسيط هو أن ظروف السياسة، وظروف سياسة القصر بنوع خاص، كانت تفرض عليه شيئًا من التحفظ وكثيرًا من الاحتياط، فلم يستطع أن يرسل نفسه على سجيتها، ولم يستطع أن يعطي فنه ما ينبغي له من الحرية الحرة، وإنما أخضع الفن لهذه الظروف، فقال ما سمحت الظروف أن يقول، ولم يَقُل ما كان لفنه أن يقول وما كانت نفسه تريد أن تقول.
وكذلك قضى شوقي هذا الشطر من حياته مضطربًا أشد الاضطراب: طبيعته تدعوه إلى التجديد وتدعوه إلى الحرية الفنية وتفتح له آفاقًا لم تُفتح لغيره من الشعراء، ولكن حياته وظروفها وصِلته بالأمير وموقفه من تدبير بعض شئون الأمير، كل هذا كان يضطره إلى أن يقيد فنه ويرغم نفسه على غير ما كانت تحب، فكانت حياته الفنية مضطربة جدًّا … وكان كأبي الطيب المتنبي عندما يحاول الغزَل أو يحاول أن يتحدث عن ذات نفسه يحسن ويجيد، فإذا خرج عن ذلك وأراد أن يتحدث عن الأمير أو يتحدث عن الشئون العامة ضاقت به سجيته وقصُرت به عما كان يجب.