حافظ إبراهيم
كان حافظ رحمه الله شاعر الشعب بأوضح وأوسع ما يمكن أن يكون لهذه الكلمة من معنى، وإذا حاولنا شيئًا من الموازنة بين حافظ وشوقي فليس من شك في أن شوقي قد كان أعمق ثقافة من حافظ، وليس من شك في أن شوقي كان أخصب ذهنًا وأذكى قلبًا وأنفذ إلى معاني الشعر وإلى دقائقه من حافظ، وليس في ذلك شيء من الإرادة، فقد أتيح لشوقي من وسائل النمو الذهني ورقي الذهن ودقة الحس ما لم يُتَح لحافظ …
تربية الرجلين مختلفة، وبيئتهما مختلفة، والظروف التي أحاطت بهما مختلفة أشد الاختلاف … فحافظ رجل نشأ نشأة شعبية خالصة هي إلى الفقر أقرب منها إلى الغنى، وهي إلى سذاجة الحياة المصرية الصرفة أقرب منها إلى التعقيد الذي ينشأ في مصر، وكان ينشأ بنوع خاص في القرن الماضي من الْتقاء الأجناس المختلفة، ولعلكم لم تنسوا أن شوقي قد الْتقت به عناصر مختلفة، فهو — كما يقول — الْتقت فيه العرب والتُّرك واليونان على حين لم يكن حافظ إلَّا فتًى مصريًّا خالصًا لا أكثر ولا أقل، ونشأته في صباه وفي شبابه كانت مصرية خالصة أيضًا، كان يذهب إلى مدرسته ويعود إلى بيته فلا تختلف البيئتان ولا يظهر أن هناك فرقًا بين حياته وجه النهار وحياته آخر النهار وأثناء الليل … والقدْر الذي تعلَّمه في المدرسة لم يكن ذا حظ، فهو قد وصل إلى أن يكون ضابطًا، ولكن التعليم الذي يبلغ بالناس هذه المنزلة في تلك الأوقات لم يكن خطرًا، ولم يكن له حظٌّ من عمق، وهو قد انتفع بالتجارب التي أحاطت به في مصر وفي التجارب التي لقيها في السودان حين ذهب إلى السودان، وانتفع بنوع خاص بهذه التجارب التي تصيب البؤساء والفقراء والمُعْدِمين … انتفع بهذا كله وتأثر في عقله وقلبه وشعوره جميعًا؛ فهو إذن قد شارك الشعب في حياته التي كان يحياها منذ أن نشأ إلى أن مات … لم يخرج عن هذه الطبقة المتوسطة التي ليست ذات ثراء والتي يصيبها أحيانًا من البؤس أن تلتمس القوت فلا تجده … كذلك كان حافظ في أكثر أيام حياته إلى أن أُتيح له عمل في دار الكُتب يدرُّ عليه مرتبًا آخر الشهر؛ فأراحه من البؤس المادي ولكنه لم يُرِحه من بؤس النفس بحال من الأحوال.
كان حافظ إذن شاعر البؤس، ولأمرٍ ما عندما حاول أن يترجم شيئًا ذا بال لم يفكر إلَّا في أن يترجم كتاب البؤساء لفيكتور هيجو، وليس من شك في أنه لم يحسن هذه التجربة، ولكن تفكيره في كتاب البؤساء إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أنه كان يشعر ببؤسه ويرى البؤس قد أزمع أن يكون له حلٌّ.
ثم هو بعد ذلك قد صاحب البؤساء وألحَّ في مصاحبتهم، وكان يجد في مصاحبتهم شيئًا كثيرًا من لذة النفس وراحة القلب … وقد أتى عليه وقت من الأوقات منذ أوائل القرن اتصل فيه بالأغنياء وأصبح له مكانة، ولكنه لم ينقطع لها بحال من الأحوال … كان يلقى أصدقاءه البؤساء وجه النهار وآخره، إذا أقبل الليل زار هذا الصديق أو ذاك، وأقام معه ومدحه بشيء من شعره، وأخذ من ماله، ثم عاد فأفاض من هذا الذي يأخذه على أصدقائه البؤساء الذين كانوا ينتظرونه في هذه القهوة أو تلك.
عاش إذن محالفًا للبؤس، مصادقًا للبؤساء؛ حتى حين انجلى عنه البؤس المادي أصبح لا يتحرج أن يأخذ مالًا من هذا أو ذاك، كان يحس البؤس في نفسه، وكان يعطف دائمًا على البؤساء … وهذا كله يظهر في شعره، ويظهر في شعره لا من حيث إنه كان يُكثر الشكوى أو يُكثر التبرم بهذا البؤس؛ بل من حيث إنه أحس نفس الأشياء التي كان الشعب يحسها … يشارك الشعب لا في حياته المادية وحدها بل في حياته المعنوية أيضًا … فاستطاع أن يلبس لباس الشعب حتى حين كان غنيًّا عن طلب المعونة، وحتى حين كانت حياته راضية إلى حدٍّ ما.
وما أعرف شاعرًا مصريًّا في هذا العصر اتصلت نفسه بالشعب كما اتصلت نفس حافظ، ولا أعرف شاعرًا مصريًّا في العصر الحديث كان شعره مرآة لحياة الشعب إلى الثلث الأول من هذا القرن كما كان حافظ، كل هذا يأتي من أنه كان فتًى شعبيًّا ورجلًا شعبيًّا وشيخًا شعبيًّا إلى أن مات، لم يرتفع قط عن الشعب، ولم يخطر له قط أن يرى نفسه بعيدًا عن الشعب.
وكلكم يعلم أن البارودي رحمه الله قال شعره حين كان الشعب لا يكاد يلتفت إلى الأدب، وحين كان انتشار التعليم ضيقًا أشد الضيق، والبارودي قد توفي في الأعوام الأولى لهذا القرن، وشوقي قال الشعر وتقدمت به السن حتى أدرك انتشار التعليم إلى حدٍّ ما؛ وحتى أدرك الحياة الشعبية العنيفة التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى … ولكن شوقي في الشطر الأول من حياته كان منفصلًا عن الشعب انفصالًا يوشك أن يكون كاملًا، كان يحيا حياة القصر، فإذا ترك القصر وعاد إلى حياته الخاصة عاش عيشة أرستقراطية يصاحب الأغنياء، ولم يتصل بالشعب إلا كما يتصل السيد بالمَسُود … على حين كان حافظ يعيش مع الشعب في جميع لحظاته وفي جميع أوقاته، ولذلك لم أعرف شاعرًا مصريًّا معاصرًا أحبه الشعب كما أحب حافظًا، ولم أعرف شاعرًا مصريًّا معاصرًا استطاع أن يكون في الشعراء ترجمانًا ناطقًا عن الشعب كما كان حافظ، فهو في المناسبات وفي الأحداث الكبرى كان ينشئ القصيدة ثم يُنشدها أمام الجمهور الضخم من الناس، فإذا هو يستأثر بأسماع الناس وقلوبهم وعقولهم، وإذا هو كأنه واحد منهم لا فرق بينه وبينهم إلَّا أنه ينطق وهم ساكتون، وإلا أنه يحس ويحسن الإعراب عما يحس، وإذا هو يحس ما يحس الناس جميعًا ويعرب بما لا يستطيعون الإعراب عنه وإن كانوا يجدونه كما وجده.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن «حافظ» كان قديمًا كل القِدم في مذاهبه وشعره وفي أسلوبه وفي لفظه … وإذا هو شارك البارودي وشارك شوقي في ردِّ الشعر العربي المعاصر إلى فطرته القديمة وأجرَوْا فيه تلك الروح العربية الخالصة، ولكنه في الوقت نفسه أتيح له شيء من التجديد ليس هو التجديد الذي يبعث في الشعب الحياة والقوة … وهذا التجديد يأتيه من مشاركته هذه للشعب في حياته، وإحساسه بما كان الشعب يحسه، وتأثره بالأحداث التي كان الشعب يتأثر بها، فهو عندما تحدث حادثة دنشواي يعبِّر عن آلام الشعب كأحسن ما يمكن أن يعبِّر إنسان عن آلام الشعب … كان، وهو يصور هذا تصويرًا لا يرتفع عن أوساط الناس ولا ينزل عن أثريائهم والممتازين منهم، فهو من هذه الناحية قد جدد نوعًا من التجديد الشعبي، ولكن حديث هذا أطول من أن ألم به الآن فَلْأُؤَجِّلْهُ إلى الأسبوع المقبل إن شاء الله.