حافظ إبراهيم بين التجديد والمحافظة
كنت أحدِّثكم في الأسبوع الماضي عن شعر حافظ، وقد كنت أقول إن حافظًا يُعتبر من المدرسة التي أحيت المذاهب القديمة في الشعر، وهو من النابهين بين الذين تفوقوا في هذه المدرسة، ولكنَّ حافظًا على ذلك قد ذهب مذهبًا رأيناه في أيامها تجديدًا خطيرًا — وإذا فكرنا فيه الآن رأينا أنَّه تجديد، ولكنه لم يخرج عما يصفونه بأنه إحياء للمذاهب القديمة — فكان حافظ رحمه الله من الشعراء الذين برعوا في تصوير حياة الشعب وفي تصوير الأحداث التي تعرَّض لها، في التحدث في صدق وجلاء وإخلاص عن كل ما يضطرب في نفوس الشعب من هذه الأصداء التي تتركها الأحداث الكبرى عندما تحدث فتترك في نفوس الشعب آثارها العميقة الباقية … كان حافظ من هذه الناحية يُعتبر مجددًا لأنه أنزل الشعر إلى حيث استطاع أن يصور قلوب الشعب وأذواقه وعقوله، ولكنه في حقيقة الأمر لم يبتكر شيئًا جديدًا، وإنما مضى في مذهبه ذلك ومذهب زملائه من أعضاء تلك المدرسة، وهي مدرسة إحياء المذاهب القديمة في الشعر … ذهبوا في هذا إلى أبعد مدى، وكلنا يذكر أن الشعراء القدماء — ولا سيما في العصر الإسلامي الأول — قد اتخذوا من الشعر وسيلة إلى الإعراب عن ذات نفس الشعب، فكانوا يتخذون الشعر لسانًا للسياسة ولسانًا للمشكلات الاجتماعية ولسانًا يؤدون به عن الشعب ما يعجز عن أدائه من تصوير آلامه وآماله.
كان الشعراء القدماء يذهبون هذا المذهب ثم حال التطور، وتطور نظام الحكم بنوع خاص، بين الشعر وبين أداء هذه المهمة التي تحتاج إلى شيء من الحرية — لا يمكن أن تؤدى على أحسن وجه وأكمله — عندما حِيلَ بين المسلمين أيام العباسيين وبين الحرية التي كانوا يستمتعون بها في القرن الأول — أيام بني أُمية — كان الشعراء ينصرفون عن الشعر السياسي وعن وصف آلامه، وفرغوا للملوك والأمراء والوزراء، وفرغوا للترف ولهذه الفنون الشعرية التي لا تُعرِّضهم للخطر ولا تُعرِّضهم لسخط الحاكمين، ومضت السنون على ذلك دهرًا.
فلما كان هذا العصر الحديث، وجَعَلَ الشعراء المصريون الذين عادوا بالشعر إلى مذاهبه الأولى يردون الشعر إلى أصوله القديمة، ذهبوا أولًا إلى إحياء الأسلوب وجزالة اللفظ وارتفعوا به وبالمعاني إلى حيث كان الشعراء القدماء يرتفعون به، ثم أحسوا شيئًا من حرية لم يكن غيرهم من الشعراء يحس بها في البلاد العربية الأخرى، أحسوا هذه الحرية فانطلقت ألسنتهم بما لم يُتَح لألسنة الشعراء في البلاد العربية الأخرى أن تنطلق به، وأدَّوْا عن الشعب ما كان يريد أن يؤديه من الإعراب عن ذات نفسه وعن ضيقه بالاحتلال وضيقه بالظلم وطموحه إلى حياة كريمة حرة.
كان حافظ إذن في هذه الناحية من تجديده مجددًا محافظًا في وقتٍ واحد؛ يجدد بالقياس إلى ما أَلِفَتْه مصر وألفته البلاد العربية أثناء القرون الطوال من هذا الخمول ومن هذا الخوف الذي كان يمنعه من الإعراب عن ذات نفسه، فكان تحدُّثه في السياسة وتحدُّث غيره من الذين عاصروه، كان كل هذا جديدًا بالقياس لهذه القرون الطوال … ولكن في الوقت نفسه لم يكن جديدًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كان رجوعًا إلى المذاهب القديمة، ومع ذلك فقد امتاز حافظ بأنه عرف كيف يلائم بين رصانة الشعر العربي وما ينبغي له من الجزالة وما ينبغي لألفاظه من التخير ولمعانيه من الارتفاع، كيف يلائم بين هذا كله وبين هذه الآمال وهذه الآلام التي كانت تضطرب في نفوس الناس …؟ وكان الناس يؤدونها إذا لقي بعضهم بعضًا في لغتهم الشعبية السهلة، فكان حافظ يحسن الملاءمة بين هذه الروح الشعبية المصرية الخاصة وبين هذا الفن الرصين الجزل الذي ورثناه عن العرب القدماء.
ومن هذا يمكن أن نعتبر حافظًا فاتح هذا الطريق أمام الشعراء المعاصرين، فهو كان في هذا أصدق لهجة من شوقي، ولا سيما في المراحل الأولى لحياة شوقي.
كان صادق اللهجة؛ لأنه كان يلقى الناس، يتحدث إليهم ويجالسهم ويرى نفسه واحدًا منهم بل يرى نفسه واحدًا من أوسطهم، وربما رأى نفسه واحدًا من طبقاتهم الدنيا؛ ذلك لأنه عاش البؤس وعاشره فأطال عشرته، وخالط فقراء الناس سواء من كان منهم أديبًا كإمام العبد وأمثاله ومن لم يكن، من هؤلاء الناس الذين كان يجلس إليهم يحدثهم في ندواتهم وقهواتهم وفي الطرقات وفي الشارع … وكان حافظ سخي النفس بأوسع معاني هذه الكلمة، فكان يجود بمودته وبعطفه كما كان يجود بما يمكن أن يتاح له من المال على كل من يلتمس عنده معونة أو مودة أو عطفًا أو إحسانًا، وقد حدثني من رأى حافظًا ذات يوم وهو يسعى في بعض طرقات القاهرة فأدركه فقير يلتمس الصدقة ودفع حافظ له شيئًا من نقود ومضى، وإذا الفقير يَجِدُّ في إثره ويستوقفه ويرد له ما دفع لأنه ألقى في يده قطعة من ذهب، فأبى حافظ أن يسترد منه هذه القطعة ومضى، وقال للذين كانوا يرافقونه لقد سقط إليَّ هذا الذهب من قوم هم أغنى مني فلا أقل من أن أجود ببعض ما جاد به عليَّ الأغنياء، هذا يصور لكم نفسية حافظ، ويصور لكم أنه لم يَرَ نفسه قط فوق الشعب وإنما رأى نفسه واحدًا من هؤلاء الناس، فكان من هذه الناحية أصدق شعرائنا المعاصرين لهجة إذا تحدَّث عن آلام الشعب وآماله وأمانيه.
وهو من هذه الناحية مجدِّد بالمعنى الدقيق؛ لأن الصدق عند الشعراء من الأشياء التي لا تكاد تُدرك عندما يحاول الشعراء أن يعبِّروا عن نفوس غيرهم … والشاعر يصدق كثيرًا عندما يصف آلامه هو، وعندما يصف أمانيه، وعندما يعرب عن ذات نفسه هو … وليس من شك في أن حافظًا عندما كان يصور آلام الشعب ويصور هذه الأحداث التي كانت تؤذيه إنما كان يصورها لا لأنها كانت آلامه … وكانت لا تؤذيه هو وإنما تؤذي غيره من أواسط الناس ومن أقلهم شأنًا وأهونهم خطرًا، ومع ذلك وبرغم هذا كله لم يكن حافظ يخرج عن هذه الطريقة القديمة المألوفة، وكان حافظ يسحر الناس بشعره، ولكنه كان يسحرهم أيضًا بمودته وقربه منهم وتَلَفُّتِهِ لهم، ثم كان يسحرهم بصوته وإلقاء شعره، وهذه مزية لم تُتَح لزميله وخصمه، وهو شوقي، فقد قلت إن شوقي لم يكن يُنشد شعره، وما سمعته قط يُنشد بيتًا من أبيات الشعر فكأن صوته لم يكن يساعده، وحين يريد شيئًا من ذلك كان يستعين بمنشدين لشعره إذا أُلقي في المجتمعات، على حين كان حافظ يُنشد شعره وربما فُتن الناس بإنشاده أكثر مما كان يفتنهم شعره نفسه، فقد كان يسمع شعره من الناس من يتذوقه ومن لا تؤهله مكانته لتذوُّقه وفهمه، وكانوا جميعًا يُسحرون وكانوا جميعًا يُفتنون.
فإذا أريد أن نكوِّن لأنفسنا صورة صادقة من حياة الشعر المصري في هذا الطور من أطوار أدبنا الحديث؛ أي في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي الثلث الأول من هذا القرن، فقد نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إن هؤلاء الشعراء المصريين قد ردوا إلى الشعر العربي في مصر قوته ورصانته القديمتين، وأُتيح لمصر أن يكون لها حظ ضخم من الشعر وأن تتفوق على البلاد العربية الأخرى من هذه الناحية.
وليس قليلًا هذا؛ فمصر في جميع عصورها الإسلامية لم تتفوق قط في الشعر كل هذا التفوق الذي نتحدث عنه، كان التفوق في الشعر للبلاد العربية قبل الإسلام، وللعراق في العصر الإسلامي وفي العصر العباسي، وللشام في أواسط العصر العباسي، وللفُرس في وقت طويل من عصور المسلمين … ولكن الشعر في مصر كان دائمًا ضعيفًا فاترًا لا تعرفه مصر إلَّا إذا وفد عليها من خارج، أما في هذا العصر فقد استطاعت مصر أن تتفوق في هذه الناحية من الأدب، وليس هذا بالشيء القليل، وليس هذا بالشيء الذي يدفعنا إلى الغضِّ من قدْر هؤلاء الشعراء؛ لأنهم لم يصبحوا كالأوروبيين، وحسبُهم أن يكونوا أتاحوا لمصر تفوقًا في الأدب أو في ناحية من الأدب لأول مرة في تاريخ الأدب.