خليل مطران (١)
كان شوقي وحافظ رحمهما الله خاتمة شعرائنا المصريين الذين ردوا إلى الشعر القديم نضرته بعد أن عبثت به القرون، ولكنَّ ثالثًا كان لهما صاحبًا وصديقًا، وعسى أن يكون لهما أستاذًا ورئيسًا في كثير من الأحيان، كما كان البحتري يقول بالقياس إلى أبي تمام، وهذا الشاعر هو خليل مطران.
وخليل مطران يختلف عن صاحبيه، فهو ليس مصري المولد ولا مصري النشأة، ولكنه وُلد ونشأ في لبنان وتأثر بحياته الأولى فيه، ولم يأتِ مصر إلَّا في أوائل شبابه أو بعد أن تقدَّم شبابه قليلًا، ولكنه في الوقت نفسه مصري الإقامة، مصري التفكير، مصري الآثار، في فنه وفي شعره وفي عواطفه.
وهو كأبي تمام كان موضوع النزاع بين مصر وبين لبنان، فكانت مصر والشام تتنازعان أبا تمام لأن أبا تمام وُلد وشب وأقام بمصر، وكذلك كانت مصر ولبنان تتنازعان خليل مطران.
فإذا نظرنا إلى المولد وإلى النشأة الأولى فخليل مطران لبناني، ما في ذلك شك، وإذا نظرنا إلى أنه قد أنفق أكثر حياته في مصر وتأثر بأحداثها وتأثر بالأحداث العربية المختلفة من طريق التأثر المصري العام فمطران مصري.
ومن أجل ذلك كان المعاصرون يُسمون خليل مطران شاعر القُطرين في أول الأمر، كما كانوا يسمون شوقي أمير الشعراء، وكانوا يسمون حافظًا شاعر النيل، فلما توفي صاحباه وعُمِّر بعدهما دهرًا سمَّاه المصريون وغير المصريين شاعر الأقطار العربية، وليس من شك أنه كان شاعرًا مبرزًا من شعراء العرب في العصر الأخير.
وهو — كما قلت — ربما كان مكانه من شوقي ومن حافظ في كثير من الأحيان مكان الأستاذ والرئيس؛ ذلك أنه كان أعمق منهما ثقافة، وأكثر منهما اطِّلاعًا، وأشد منهما مصاحبة للثقافة الأجنبية، وأكثر منهما ممارسة متصلة لهذه الثقافة، وهو لم يكن محدود الأفق ولم يكن مقصورًا على ألوان معينة من الثقافة … كما أنه لم يكن مقصورًا على ألوان معينة من ألوان الحياة، فهو أولًا لم يقف نفسه على الشعر، ولكنه اشترك في النثر أيضًا واشترك في الصحافة كذلك، ثم لم يقف نفسه على الثقافة العربية ولم يتخذها وحدها مصدرًا لحياته الفنية، ولكنه أتقن الفرنسية إتقانًا رائعًا، واتصل بآدابها اتصالًا قويًّا، ثم اتخذها وسيلة إلى الاتصال بالآداب الأجنبية الأخرى … فهو إذن كان عميق الثقافة واسع الأفق بعيد المدى في الاطِّلاع وتعلُّم ممارسة الحياة العملية اليومية التي يحياها الناس في أعمالهم وفي أحوالهم كذلك، وخليل مطران لم يتخذ الشعر صناعة ومهنة، ولم يتخذه على كل حال مكسبًا، وإنما كان الشعر بالقياس إليه فنًّا يهواه وتأْلَفُه نفسه وتطمح إليه طبيعته، وكان في الوقت نفسه يتخذ الحياة العملية بوسائلها المختلفة، فتراه يشتغل في الصحافة مرة، وربما شارك في بعض التجارة، وربما اشتغل في بعض الدواوين أو في بعض الأعمال الحرة.
فالشعر بالقياس إليه ليس هو أساس حياته، ولكنه النافلة التي توشك أن تكون هي الأساس الخاص الذي لا قوام للحياة بدونه، فهو إذن يقول الشعر عن حب وكَلَف به وعن ميل بفطرته إليه.
وهو إذا كان مشاركًا لصاحبيه في أنه قد أعاد للشعر القديم نضرته، فهو يخالفهما خلافًا شديدًا جدًّا في أنه لم يتقيد كما تقيدوا وكما تقيد البارودي من قبلهما، وكما تقيد غيرهم من الشعراء المصريين والعراقيين أيضًا … لم يتقيد بالتقاليد العربية القديمة، وإنما تأثر بالسنن التي عرفها عند الشعراء والأدباء الأجانب من الأوروبيين على اختلاف طبقاتهم وعلى اختلاف أجيالهم أيضًا … ثم هو يخالف هؤلاء الشعراء الذين عاصروه من ناحية أخرى، وهي أنه لم يكن عبدًا لشعره، وإنما كان يرغب أن يكون الشعر مطيعًا له يستجيب له إذا دعاه، ولا يخضع هو لتقاليد الشعر كما يدرسها الشعراء، وهو من أجل ذلك يعنف بفنه أحيانًا ويكلِّف ألفاظه غير ما تعودت الألفاظ أن تطيق من الشعراء، وهو من هذه الجهة يخالف الذين عاصروه من المقلدين.
وربما شابه في هذه الناحية شاعر العرب العظيم أبا تمام، ونحن نعرف أن أبا تمام كان يرى نفسه مسيطرًا على الفن ويتخذ اللغة خادمًا له ويأبى أن يكون خادمًا للغة، ويعمل بعقله وطبعه وذوقه في إنشاء ما كان ينشئ من الشعر، وكان في الوقت نفسه يكلِّف سامعه أو قارئه أن يعمل كذلك بعقله وقلبه وذوقه ليفهم عنه وليتذوق شعره، ومن هذه الناحية كان أبو تمام من أشبه الشعراء القدماء بالشعراء الأوروبيين المعاصرين، فشعره ليس نتيجة للطبع الخالص، ولكنه نتيجة للطبع والعقل والإرادة جميعًا.
وكان خليل مطران يذهب بفنه هذا المذهب فيُخضِع فنه لإرادته في كثير من الأحيان … يحاول أن يُعمل عقله في كثير من المعاني التي يضعها في شعره، وهو لا يعنيه أن يستجيب اللفظ في يُسر لهذه المعاني، وإذا استعصى عليه اللفظ أكرهه وكلَّفه ما لا يطيق، ومن هنا كانت ديباجة خليل مطران، وكانت ألفاظه وأسلوبه في كثير من شعره ربما بَعُدت عن التقاليد العربية الموروثة، وربما احتاجت إلى شيء من الصفاء الرائق الخلاب الذي نجده عند شوقي ونجده عند حافظ، ولكننا لا نستطيع أن نقرأ لمطران شعرًا دون أن نجد وراءه شيئًا يستحق أن نقف عنده وأن نفكر فيه، على حين أننا نجد عند الشعراء المصريين الذين عاصروه كثيرًا من الشعر تبهرنا ألفاظه فإذا بحثنا عما وراء هذه الألفاظ لم نجد أو لم نكد نجد شيئًا.
وخليل مطران قد عُمِّر أكثر من صاحبيه، وعسى أن يكون قد نشأ قبلهما، فهو إذن من شعرائنا المعمَّرين، وهو لم يُعرِض عن الشعر قط، ولكنه لم يخضع للشعر قط، كانت حياته المادية تشغله، وكانت أعماله وأعمال غيره المختلفة تشغله أحيانًا عن الشعر وقتًا يقصر أو يطول، ولكنه كان يعود إلى الشعر حين يدعوه الشعر أحيانًا، وحين يدعو هو الشعر، فيعود الشعر إليه كذلك.
كان خليل مطران مخالفًا لصاحبيه من ناحية أخرى، وهو أنه لم يُقصِر شعره على الموضوعات التي تعوَّد الشعراء أن يُقصِروا شعرهم عليها، فهو لم يؤْثر شعره بالمديح والهجاء والرثاء وحدها، وهو لم يُقصِر شعره على الأحداث السياسية التي كانت تحدث في مصر أو في الشرق وحدها؛ ولكنه تجاوز العالَم العربي إلى العالم الغربي، وتناول الكثير من موضوعاته المختلفة قديمها وحديثها، فهو لم يكن إذن واسع الثقافة بعيد الأفق فيما علم من العلم والأدب فحسب، ولكنه كذلك كان بعيد الأفق في الموضوعات التي طرقها من فنون الشعر، وهو من هذه الناحية لا نكاد نجد له مُناظرًا في شعراء العرب المعاصرين.