خليل مطران (٢)
قلت في الحديث الماضي إن شاعر الأقطار العربية خليل مطران كان واسع الثقافة عميقَها، وكان كذلك واسع الشعر لم يقصر شعره على ما أَلِفَ شعراؤنا أن يقصروا عليه شعرهم، ولكنه تجاوز هذه الأحداث وهذه الموضوعات العربية الخاصة؛ بل هذه الموضوعات الإسلامية، تجاوز هذا كله إلى موضوعات عالمية تتصل بحياة الإنسان من حيث هو إنسان لا يكاد يحفل بزمان أو بمكان، فنراه مرة يَنظِم قصيدته البديعة التي هي من مطولات الشعر الحديثة عن نيرون قيصر الرومان المعروف، ونراه يمس بشعره أحداثًا حدثت في العالم الأوروبي في عصور بعيدة عن عصرنا، فهو يتحدث أحيانًا عن انتصارات نابليون وعن هزائمه وعما أصاب الألمانَ على يديه وعما أصاب الفرنسيين حين عاد الألمان بعد هزيمة نابليون فاحتلوا وطنهم ودخلوا باريس.
ثم هو لا يقف عند هذا الحد ولكنه يتجاوز الشعر المعروف الموزون المقفَّى إلى نوع من النثر هو في حقيقة الأمر أقرب منه إلى أن يكون شعرًا، وهو لا يستقل بهذا الفن ولكنه يشارك فيه غيره من الشعراء الأوروبيين، فهو مثلًا يحاول أن ينقل الآثار الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية ويحرص على أن تكون الآثار التي ينقلها آثارًا شعرية … فهو يُتَرْجِم «راسين» ويترجم «كورني» ويحاول أن يترجم بعض روايات شكسبير، وهو إذا حاول هذه الترجمة لم يكن عبدًا للشعر الإنجليزي أو الفرنسي، ولم يكن عبدًا لما تقتضيه الترجمة من هذه الدقة الدقيقة التي تفرض على المترجم أن يتحرج ويتجنب التزيُّد في الألفاظ أو الانحراف عما أراد الشاعر الأصلي.
ولكن مطران يشارك هؤلاء الشعراء الذين يترجم عنهم، فهو يحتفظ بآرائهم ومعانيهم ولكنه يضيف لها أحيانًا أشياء من ذات نفسه، يضيفها لهذه اللغة الخاصة التي تصور شعوره هو، وتصور عواطفه هو، وتصور إتقانه للُّغة العربية الفصحى، وتصور قدرته على التصرف في هذه اللغة وعلى إخضاعها لما يريد دون أن يخضع هو لما تريد اللغة، فإذا نحن شاهدنا مسرحية من مسرحيات شكسبير التي ترجمها مطران، فلا ينبغي أن نظن أننا نشاهد مسرحية لشكسبير وحده، ولكننا نشاهد مسرحية شكسبير ونرى فيها شيئًا من مشاركة — تكثر أو تقل — من مطران نفسه، وكذلك هو عندما يترجم «كورني» وعندما يترجم «راسين».
والغريب أنه لم يترجم شكسبير عن لغته الأولى، ولكنه قرأ شكسبير مترجَمًا إلى الفرنسية، ولم يمنعه ذلك من أن ينقل شكسبير من هذه الترجمة الفرنسية إلى اللغة العربية، وهو مهما يكن في هذا متجاوزًا ما أَلِفْنا من التراجم الصحيحة، فهو على كل حال قد أهدى إلى اللغة العربية فضلًا ليس بالقليل؛ لأنه أتاح للأجيال من المصريين ومن العرب — في سوريا ولبنان — أن يسمعوا أطرافًا من هذا الشعر العظيم في لغتهم العربية، ومن أن يروا آثاره تُعرض عليهم في ملاعب التمثيل، وهو كذلك قد أهدى إلى الأمة العربية فضلًا عظيمًا عندما ترجم بعض آثار «راسين» وبعض آثار «كورني» بأنه عرض عليهم تمثيليات هذين الشاعرين الفرنسيين العظيمين في لغتهم العربية، وإن كان قد عرض عليهم كل هذه التراجم على أنها تراجم قيمة من ناحية وعلى أن فيها شيئًا كثيرًا أو قليلًا من ذات نفسه، ومن ناحية أخرى ترجمها مزاجًا من الشعر الأصلي ومن الشعر المترجَم أيضًا، وخليل مطران كان أقدر الناس إذا ترجم عن الشعراء أن يجد اللغة التي تلائم روعة شعرهم وجماله وارتفاعه وسُموَّه، فكان دائمًا لا ينحط بلغته، وكان دائمًا يكره أن تُخضعه دقة الترجمة إلى هذا التكلف العنيف الذي يتكلفه كثير من المترجمين …
كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مشاركة مطران في الأدب لم تكن كمشاركة الشعراء الذين عاصروه، لم تكن كمشاركة هؤلاء الذين قصروا أنفسهم على فن الشعر وحده، ثم قصروا أنفسهم من فن الشعر على الموضوعات التقليدية المحدودة ولم يضيفوا إليها إلَّا هذا الفن السياسي الذي اقتضته الأحداث والظروف.
مطران لم يكن كهؤلاء، ولكنه كان — كما رأيتم — بعيد المدى واسع الشِّعْر واسع الأفق يقول في الموضوعات التقليدية ويقول في المناسبات كما كان غيره يقول، ثم يقول في شيء لم يألف الشعراء العرب أن يقولوا فيه، ثم يعمد إلى غير الشعر الذي يقول، يعمد إلى شعر غيره من الشعراء الذين تجهلهم اللغة العربية فيقدمهم إلى العرب في لغته هو الرائعة الناصعة الجميلة.
وكما قلت في الحديث إن مكان مطران من حافظ وشوقي ربما كان — في كثير من الأحيان — مكان الأستاذ والرئيس؛ إذ إن خليل مطران كان أكثر من صاحبيه عناية بفن الشِّعْر، وأكثر من صاحبيه تتبعًا لتطور الشعر في البلاد الأجنبية وفي اللغات الأجنبية … وكان كثيرًا ما يتحدث إلى صاحبيه في هذه الأشياء، وكثيرًا ما يحاول أن يخرجهما عن التقليد الصِّرف ويدفعهما إلى شيء من محاولة التجديد، وأكاد أعتقد أن شيئًا من الفضل في إقبال شوقي على إنشاء التمثيل الشعري في اللغة العربية، أكاد أعتقد أن شيئًا من الفضل في هذا يرجع إلى مطران، فهو كثيرًا ما كان يَحُضُّ شعراءنا وشبابنا وشيوخنا أيضًا على أن يتسعوا بفنونهم الشعرية حتى لا يضيقوا عن هذه الفنون التي عرفها الأوروبيون في شعرهم، فالأوروبيون قد عرفوا الشعر القصصي فجاء مطران ينشئ شعرًا قصصيًّا؛ منه هذه القصيدة التي ذكرتها في الحديث الماضي، وهي قصيدته عن «فيرون» وهو قد حاول أن ينشئ الشعر التمثيلي، ولكنه اختصر الطريق وترجم لنا شيئًا من شعر شكسبير، ومن شعر «كورني» و«راسين» وترجمه نثرًا حتى لا يُفسد الشعر بهذه الترجمة؛ وحتى لا يُفسد ترجمته بالشعر أيضًا … فمن أصعب الأشياء، وعسى أن يكون من أشدها عسرًا، أن يترجم الشاعر من لغة إلى لغة وأن يترجم شعرًا.
كذلك أتاح مطران آفاقًا جديدة للشعر وآفاقًا جديدة للشعراء الذين عاصروه، ولكن قلَّما انتفع بهذه التجارب التي بذلها مطران واحتمل أثقالها، قلَّما انتفع بها الذين قرءوا شعر مطران، وأكاد أقول أيضًا إن شعر مطران إذا كان قد ظفر بكثير من الإعجاب والرضا، فقد كان الإعجاب به والرضا عنه محدودين تقريبًا بالطائفة المثقَّفة ثقافة ممتازة، وقلَّما كان أواسط المثقفين يتمكنون من أن يخلبهم شعره ويأخذ عليهم الألباب … على حين ظفر حافظ وشوقي برضا أصحاب الثقافة الممتازة وبرضا أصحاب الثقافة المتوسطة وربما ظفَرَا أحيانًا برضا العامة، وشأن مطران في هذا كشأن أبي تمام الذي قرنته به في الحديث الماضي، فأبو تمام لم يكن شعره يعجب إلَّا طائفة معينة من الناس هم أصحاب الثقافة، والثقافة الممتازة المتنوعة.
كذلك إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن شعر مطران ربما كان له حظ من البقاء بعده، وحظ من عناية الأجيال المقبلة أكثر من حظ كثير من الشعراء الذين عاصروه في هذه الأيام.