إسماعيل صبري
أما اليوم فأريد أن أحدِّثكم عن شاعر كثر الحديث عنه أثناء حياته ثم نسيته الأجيال بعد وفاته مع أنه لم يُتَوَفَّ منذ زمن بعيد، وما أظن أن أحدًا يذكر الآن أثر إسماعيل صبري إلَّا أن يكون أحد المتخصصين في الشعر والأدب، أما هذه الأجيال والكثرة من الشباب ومن الأهالي فقد نسيت إسماعيل صبري، وهي لا تكاد تذكر من شعرائنا المتأخرين أو المعاصرين إلَّا شوقي وحافظًا والبارودي ومطران، وإن كانوا لا يذكرون مطران في هذه الأيام إلَّا قليلًا.
ويظهر أن المدة التي يُقضى فيها على كبار الشعراء وكبار الكُتاب بالاستخفاء وقتًا ما بعد وفاتهم قد طالت بالقياس إلى صبري، فهو قد توفي سنة ١٩٢٣ ونحن الآن في سنة ١٩٥٥؛ أي: منذ أكثر من ربع قرن، ولم يَعُد اسمه إلى الظهور ولم يَعُد شعره إلى الظهور الذي كان يُنتظر له بعد وفاته.
ولم يكن إسماعيل صبري — رحمه الله — من فحول الشعراء بالمعنى الذي نفهمه من هذا اللفظ … كان مجودًا لشعره متفوقًا فيه، ولكنه كان مقلًّا شديد الإقلال، وهو من شعراء القرن الماضي الذين أدركوا من هذا القرن وقتًا ما، فهو قد وُلد حين جاوز القرن الماضي نصفه قليلًا، وتوفي حين بلغ هذا القرن أو حين كاد يبلغ هذا القرن ربعه، فهو إذن قد نشأ نشأة قديمة إن صحَّ اللفظ بالقياس إلى القرن الماضي؛ لأنه تعلَّم وتخرَّج في أيام إسماعيل، وهو قد سافر إلى فرنسا ولكنه لم يُطِلْ فيها الإقامة، وما أرى أنه قد تأثر بها قليلًا أو كثيرًا، وهو — كما كان في أول أمره — شاعرًا مقلدًا إلى أبعد غايات التقليد، وكان يقلد الشعر المتأخر الذي كان يتقيد بالبديع وبكل هذه التكلفات التي عرفها الشعراء المتأخرون في النثر وفي الشعر، فكان شعره تقليدًا متأخرًا … فلما تقدمت به السن وعرف الشعراء القدماء لم يجدد كثيرًا وإنما صرف تقليده عن الشعراء المتأخرين إلى الشعراء المتقدمين.
وكان مفتونًا — فيما يظهر — بالبحتري، وكان يرى أن شعر البحتري هو أروع ما في الشعر العربي، وكان يتخذ البحتري نموذجًا له ومثلًا، فكان يحاول أن يكون شعره مثل شعر البحتري في فنه وفي تجويده وفي العناية بديباجته وألفاظه ومعانيه أيضًا.
ولقد استنفد صبري أكثر شعره الذي حُفظ لنا في الديوان فيما كان الشعراء يستنفدون فيه شعرهم من المدح والثناء في المناسبات على اختلافها.
ولكنه امتاز بين الشعراء المعاصرين وبين هؤلاء الشعراء الذين عاشوا في أواخر القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، امتاز منهم بشيء خاص لا نكاد نجده عند أحد الذين عاصروه، وهو أنه صاحب عاطفة صادقة مؤثرة لا يكاد يعرب عن ذات نفسه حتى يتصل بذات نفس القارئ أو السامع، وقد كان ترجمانًا صادقًا للعواطف الإنسانية الغنائية التي يجدها الشبان والتي يجدها الشيوخ في كثير من الظروف التي تحيط بهم في الحياة، وهو من أجل هذا كان أقرب الشعراء إلى الغناء ومن أشدهم اتصالًا بالمغنِّين، ومازال في شعره شيء كثير يصلح للغناء الآن، وعسى أن يكون خيرًا من الصخب الكثير الذي نسمعه فيما يذاع من الغناء، وفيما يتغنى به الناس في مجالسهم وفي بيئاتهم المختلفة.
وكان صبري رحمه الله على هذا كله مصريًّا عريقًا في المصرية حينما نتحدث عن عاطفته وعن شعره وعن طريقته في التعبير، فهو كان يصور المصري القاهري العريق في مصريته وفي قاهريته، وهو على نصاعة ألفاظه ورصانته وصفائه مصريٌّ حتى في الألفاظ، نحو قوله:
وفي البيت الأول، نفس هذا اللفظ: «فما الذكرى بنافعةٍ ولا بشافعةٍ.» هذا اللفظ كأنه أُخذ من الشارع، كأنه أُخذ من حديث الناس حينما يتحدث بعضهم إلى بعض، وهو في الوقت نفسه عربي فصيح رصين لا غبار عليه، «واخفق وحدك الآنا.» في البيت الثاني أيضًا، هذا المعنى من المعاني المصرية الشعبية التي تصور ما يكون عند المصري إذا أحس أنه أصبح وحيدًا لا يشاركه في حبه أو في ألمه أو في أمله أحد غيره.
وكذلك أكثر الشعر الذي تقرؤه لصبري، والذي هو إلى الغناء أقرب منه إلى أي شيء آخر، وهو مشتق من الحياة المصرية البسيطة التي لا تكلُّفَ فيها، وهو أيضًا في لفظ عربي رشيق رصين في الجزالة والدقة، ولكنه في الوقت نفسه لا يبعد عن المصرية، وعن المصرية الخالصة، وهو من أجل هذا كان من أقرب شعرائنا إلى الشعب، وكان من أقرب شعرائنا إلى الغناء، وإلى الغناء الشعبي الذي تحبه كثرة المصريين مع ارتفاعٍ ونأْيٍ عن الابتذال.
وكان صبري شديد الاتصال بالحياة … كان قبل كل شيء موظفًا، فهو قد تقلَّب من مناصب الحكومة في المناصب القضائية، وانتهى إلى وكالة وزارة العدل، فهو قد كان موظفًا مؤدبًا بمعنى هذه الكلمة، وعاش عيشة الموظفين في شعره أيضًا، فهو معنيٌّ بتنقل الموظفين من منصب إلى منصب، وهو معنيٌّ بالوزارة حين تؤلف وحين تقال، وهو في الوقت نفسه ساخط على تأليف الوزارة وإقالتها، وهو طَموح ولكنه كريم، وطَموح إلى أن يكون من أكبر المصريين وأرفعهم منزلة، ولكنه يأبى الدنيَّة ولا يسمح لنفسه أن تتبذل أو أن يَرِد ما يَرِده الطامحون في مثل الوقت الذي عاش فيه، وهو يقتنع بما يُقسم له عن كره وعن إباء وترفُّع، وهو من أجل ذلك يسخر من الوزراء المُقَالِينَ من الوزارة والمُدْبِرِينَ عنها، وهو يجلس عندما تقال أو تستقيل — ما أدري — وزارة مصطفى فهمي رحمه الله، يجلس إلى نفسه، يخلو إلى نفسه، ويستعرض هؤلاء الوزراء مُوَدعين بوزارتهم أو مودَّعين من وزارتهم، ثم يستقبل الوزراء الجدد وهم مقبلون على وزارتهم، كيف تتلقاهم هذه الوزارات وكيف يتلقون هم هذه الوزارات …؟ وهو في كل هذا ساخط على أولئك وهؤلاء، متشائم بعد هذا، وهو لا ينتظر منهم خيرًا كثيرًا؛ لأنهم لا يملكون من أمره ولا من أمر وزاراتهم شيئًا.
وربما كان من أروع شعره هذه النقط اليسيرة التي تجدونها في الديوان عندما يريد أن يذكر وزارة الحربية، فلا يدري كيف يقول لأن وزارة الحربية لم يكن لها من الأمر شيء، فهو يضع نقطًا تدل بأحسن وأقوى وأبرز مما للفظ مهما تكن قيمة هذا اللفظ … يضع هذه النقط كأنه يريد أن يقول: أما وزارة الحربية فقل في أمرها ما شئت وما تستطيع أن تقول، فصاحبها أو وزيرها هو الإنجليزي المسيطر عليها، وليس للباشا الذي يتولى المنصب أمر قليل أو كثير.
وهو على هذا كله مصري عميق الشعور بطموح وطنه إلى الحرية والاستقلال، وهو متصل بمصطفى كامل أشد الاتصال، وربما كان غير حافل كثيرًا بسعد عندما تولى سعد وزارة المعارف … هو إلى مصطفى كامل أقرب منه إلى أي سياسي آخر.
وفكاهته هي نفس الفكاهة المصرية وتستطيعون أن تقرءوا شعره عن المويلحي عندنا لطمه لاطم في بعض الأماكن العامة حتى سُمِّيَ العامُ الذي وقعت فيه هذه اللطمة لكثرة ما قيل فيه من الشعر عام الكف … كل هذا يصور شعرًا مصريًّا صميمًا عميق المصرية، قوي الشعور بها، صادق اللهجة، ولكنه — كما قلت — مقلٌّ خليق أن يبقى من شعره شيء للغناء وشيء للتاريخ، وأن يذهب أكثر شعره كما يذهب الشعر الذي يقال في المدح والرثاء والمناسبات وما إليها.