حفني ناصف
أحدِّثكم اليوم عن شاعر ليس أحسن حظًّا من الشاعر الذي حدثتكم عنه في الأسبوع الماضي وهو إسماعيل صبري، الشاعر الذي أحدِّثكم عنه اليوم قد نَسِيَتْه الأجيال أو كادت تنساه كما نسيت أو كادت تنسى إسماعيل صبري، وهو حفني ناصف … لا يكاد يذكره إلَّا تلاميذه الذين تعلَّموا دروسه واستمعوا إليه في المعاهد العلمية المختلفة التي ألقى فيها هذه الدروس، فأما الأجيال التي قرأت شعره حين كان حيًّا ونعمت به واستمتعت بفكاهته فقد نسيته فيما نسيت وفي مَنْ نسيت.
وحفني ناصف يمتاز من جميع الشعراء الذين تحدثت عنهم والذين نُعنى بهم في دراساتنا الأدبية، شاعرنا الحديث يمتاز عنهم امتيازًا عظيمًا جدًّا، فكل شعرائنا الذين تحدثت عنهم كانوا مثقفين ثقافة تختلف قوة وضعفًا، وتختلف في ألوانها، بعضها شرقي خالص، وبعضها شرقي تشوبه ثقافة غربية ليست عميقة ولا واسعة، أما حفني ناصف فإنه كان قبل كل شيء عالِمًا … عالِمًا بأوسع معاني هذه الكلمة، إذا سيقت على النحو الذي كان الناس يفهمون عليه كلمة العلم في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، فهو لم يكن صاحب طبيعة وكيمياء ولا رياضة ولا شيء من هذه العلوم، وإنما كان صاحب علم باللغة العربية وأصولها، وصاحب علم بشئون الدين على اختلافها، وصاحب علم بالأدب العربي على اختلاف فنونه ومذاهبه، وهو قد نشأ نشأة أزهرية خالصة في أول أمره، وهو معاصر لصبري باشا ولكنه نشأ في الأزهر، وأنفق فيه عشر سنين، وكان من أبرز طلابه وأذكاهم وأبعدهم صوتًا وشهرة أثناء طلبه للعلم فيه، ثم اتصل بدار العلوم وتخرَّج فيها فأصبح مُعلِّمًا ثم تنقَّل في مناصب مختلفة، وانتهى إلى القضاء فأقام فيه عشرين سنة، أو نحو ذلك، ثم عاد إلى التعليم وخَلَفَ «حمزة فتح الله» على رياسة تفتيش اللغة العربية بوزارة المعارف.
وآثاره العلمية ليست أقل خطرًا من آثاره الشعرية، وعسى أن تكون آثاره العلمية أعظم خطرًا وأبعد مدًى من آثاره في الشعر؛ فهو قد خرَّج طائفة من المصريين النابهين الذين تأثرت بهم الحياة المصرية تأثرًا عميقًا جدًّا، ويكفي أن نذكر أنه خرَّج مصطفى كامل، وعبد العزيز فهمي، ولطفي السيد، وغير هؤلاء من أعلام المصريين، فتعلَّموا عليه في مدرسة الحقوق حين كان يعلِّم فيها … فأثره في الحياة المصرية عميق إلى أبعد غاية من العمق؛ لأن هذا الجيل من الأعلام المصريين الذي خرَّجهم إذا امتازوا بشيء فإنهم كانوا يمتازون ومازال بعضهم يمتازون بأنهم جمعوا إلى إتقان الثقافة الأجنبية براعة في اللغة العربية لا نكاد نجد لها نظيرًا في هذه الأجيال.
حفني ناصف إذن بعيد الأثر في أدبنا المعاصر من حيث إنه خرَّج طائفة من الأدباء والكُتاب النابهين الذين غيروا الحياة العقلية في مصر تغييرًا خطيرًا، وهو عندما كان يقول الشعر لم يكن يتخذ الشعر صناعة ومهنة، وإنما كان يتخذ الشعر لونًا من ألوان الترف الفني … لم يكتسب من شعره ولم يقف نفسه على الشعر، وإنما كان يلم بالشعر بين حينٍ وحين، أو كانت الرغبة في قول الشعر — كما يقول — تلمُّ به بين حينٍ وحين، فتطلق الشعر الجيد الرفيع.
والغريب أن هذا الأزهري الدَّرْعَمِيَّ الذي لم يتقن لغة أجنبية ولم يزعم مرة أنه تثقَّف بثقافة أجنبية ما، الغريب أن هذا الشيخ الذي إن غيَّر زيه فإنه لم يُغيِّر عقله الأزهري الدرعمي، الغريب أنه كان من أكثر الناس زيارة لأوروبا، ومن أكثر الناس تأثرًا بهذه الزيارات الأوروبية، يظهر ذلك في شعره واضحًا، فهو لم يُلِمَّ بمدينة من مدن أوروبا إلَّا ظهر شيء يتصل بهذه المدينة في شعره.
وهو غير متكلف ولا متصنع ولا مدَّعٍ لما ليس فيه، فهو لم يزعم قط أنه مجدد في الشعر، ولم يحاول التجديد، ولم يحاول إلَّا أن يكون شاعرًا عربيًّا على النحو الذي عرفه العرب في أيامهم الأدبية المزهرة، فهو كان شاعرًا على النحو العباسي القديم … ولكنه على ذلك ألمَّ بأشياء من الحياة الغربية إلمامًا خاطفًا سريعًا، فكان في هذا الإلمام مجددًا كل الجِدَّة، ومحسِّنًا كل التحسين، وكأنه قد أتيح له ما لم يُتَح للذين عاشوا في أوروبا وأطالوا الحياة فيها، فذكر من مظاهر الحضارة أشياء لم يكن غيره من الشعراء الذين عاشروا أوروبا دهرًا يذكرونها.
وكان حفني ناصف قبل كل شيء خفيف الروح، حلو الحديث، عذب المجلس، وكان يسارع حبه إلى الذين يجلسون إليه والذين يستمعون إليه، وكانت فكاهته رشيقة خفيفة لا تؤذي أحدًا، ولكنها على ذلك قادرة على أن تَسحر العقول، وقادرة على أن تنتقل للأجيال لولا أن الحياة التي نحياها في هذه الأيام قادرة على أن تنسينا أشياء، وإن كان من طبعها ألَّا تُنسى.
كان حفني ناصف إذن مؤثرًا في حياتنا الأدبية من ناحيتين مختلفتين: من ناحية العلم الذي خرَّجَ به طائفةً من كُتَّابنا النابهين، ومن ناحية الإنشاء الأدبي الذي أتاح له أن ينشئ لونًا من الشعر … ولم يكن حفني فحلًا في الشعر كما كان شوقي وكما كان حافظ؛ لأن حفني لم يقف حياته على الشعر، فهو كان قاضيًا وفي الوقت نفسه كان مُعلِّمًا، وهو كان يحال على المعاش ويُضطر إلى الراحة، ولكن في الوقت نفسه كان يعمل في رسم المصحف وإعداده بطبعة رسمية صحيحة لا عوج فيها ولا الْتواء، وهو كان يعمل مع رجال العلم في وزارة المعارف لتيسير النحو وتقريبه من العقول المعاصرة، فهو كان كثير النشاط المختلف، وكان إلمامه بالشعر — كما قلت — قليلًا، فلسنا نَعُدُّهُ من الفحول، ولسنا نَعُدُّهُ من الشعراء الذين تخصصوا في الشعر ووقفوا حياتهم عليه.
ولكنه على ذلك — على أنه لم يتخصص في الشعر ولم يقف نفسه عليه — قد أُتيح له الجيد في كثير من الفنون الشعرية، فهو غزِل، وهو مادح، وهو شاعر في الشئون الاجتماعية المختلفة، وهو راثٍ متقن لرثاء الذين كانوا يسبقونه للحياة الأخيرة من أصدقائه وذوي معارفه، وهو على هذا كله محافظ أشد المحافظة على التقاليد المصرية العربية القديمة، مجدد إلى أبعد غايات التجديد في تيسير العلوم الغربية وفي تيسير اللغة العربية وعلومها للذين كانوا يدرسون عليه في مدرسة الحقوق، أو في الجامعة المصرية القديمة، فهو من هذه الناحية شخصية نادرة بين العلماء والشعراء والأدباء الذين أدركوا هذا الجيل وعاصروه واستطاعوا أن يُغيِّروا من حياته كثيرًا.
وهو، على كل هذه المزايا، كان شديد التواضع إلى أبعد حد ممكن من التواضع، لا يترفع ولا يتحرج من أن يسعى إلى تلاميذه ولا يتحرج من أن يجالس أواسط الناس في ندواته الخاصة، ولا يتحرج من أن يسعى إلى بعض الأدباء الذين كانوا ينأون من مجالس الأغنياء والأعيان، وإنما يجلسون في هذه القهوة أو تلك من قهوات باب الخلق … كان يسعى إلى هؤلاء لا لأنه كان يتكلف التواضع، بل لأن حبه للأدب وحرصه على أن يجالس الأدباء من حيث هم أدباء، مهما تختلف طبقاتهم ومهما تختلف مظاهرهم، هو الذي كان يحمله على ألَّا يؤْثِر على مجالسة الأدباء والظرفاء شيئًا.
وفضل آخر لحفني ناصف ليس بالقليل، وهو أنه يعتبر أستاذًا لشوقي وحافظ في أساليب الشعر وديباجته وصناعته العربية الخالصة … وكثيرًا ما كان هذان الشاعران يعرضان عليه شعرهما قبل أن يُنشر ليقضي فيه برأيه من الناحية الفنية ومن ناحية الأسلوب ومن الناحية الأدبية كذلك، وما أجدر حفني أن يذكره هؤلاء الذين يُعْنون الآن بالشعر أو يعنون بالأدب ولكنهم لا يعرفون كيف يُعْنَون بهذا الشاعر أو بذاك.