الشباب الشعراء
عاشت مصر عصرًا في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن يشبه من بعض الوجوه العصر العربي في أيام العباسيين أو في أوائل هذه الأيام، فمصر في هذه السنين قد رأت نفسها بين قديم لا يلائم حياتها المعاصرة وبين جديد لم تتعمقه ولم تتصل أسبابه بأسبابها كما ينبغي، فهي حائرة مضطربة بين هذين النوعين من أنواع الحياة … وكان أثر هذا في الشعر واضحًا كل الوضوح، فالشعراء طامحون إلى أن يكون شعرهم ملمًّا بالحياة الجديدة التي يحيونها ويحياها الناس من حولهم، ولكنهم في الوقت نفسه مجذوبون إلى الحياة العربية المحافِظة الموروثة التي تدفعهم إليها طبائعهم من جهة، وثقافتهم العربية من جهة أخرى، وقصورهم في تعمق الحياة الحديثة والثقافة الغربية من جهة ثالثة.
وكذلك عاش شعراؤنا في هذا العصر في أواخر القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن عيشة غريبة حاولوا فيها أن يعيدوا سيرتها الأولى كما كانت في أيام العباسيين فأتيح لهم من هذا الشيءُ الكثير، وحاولوا فيه أن يلائموا بين نفوسهم وبين طبائع الحياة التي يضطرب فيها الشعر أو يضطرب فيها الناس من حولهم، فلم يكادوا يوفقون من هذا إلَّا إلى الشيء القليل جدًّا … مع فارق آخر، وهو أننا عندما أحيينا التراث القديم وعندما حاول شعراؤنا أن يعيدوا الشعر العربي سيرتَهُ الأولى لم يكونوا في هذا مجددين وإنما كانوا مقلدين، على حين كان العباسيون في القرن الثاني وفي القرن الثالث للهجرة يعتمدون على ماضٍ مزدهر في الشعر، وكانوا يثورون بهذا الماضي شيئًا ما، ويحاولون أن يبتكروا فنونًا جديدة ومذاهب جديدة في الشعر يباعدون بها بين شعرهم وبين الشعر العربي الجاهلي والإسلامي قليلًا أو كثيرًا، فحتى في تقليدنا لهؤلاء العباسيين لم نكن نعتمد على أنفسنا، ولم نكن نحاول أن ننشئ فنًّا جديدًا، وإنما كنا نحاول أن نحيي فنًّا قديمًا، كنا إذن مقلدين في هذا الشعر ونجحنا نجاحًا حسنًا في هذا التقليد، وحاولنا أن نكون مجددين فكان نجاحنا محدودًا إلى مقدار بعيد جدًّا.
فليس غريبًا إذن أن نرى في أوائل هذا القرن شيئًا من الثورة بهذا الشعر المصري الحديث، شيئًا من الثورة لا يصدر عن هؤلاء الشعراء أنفسهم، ولكنه يصدر عن طائفة أو عن نفر قليل جدًّا من الشباب عرفوا الحياة الحديثة خيرًا مما عرفها الشعراء الشيوخ، وأتقنوا بعض اللغات الأجنبية إتقانًا لا بأس به، وقرءوا أدب هذه اللغات فتأثروا به، وحاولوا أن يجدوا الفن الشعري والفن الأدبي كله في مصر … وهم قد بدءوا حركتهم هذه بطبيعة الحال ناقدين للشعراء المعاصرين، وناقدين متشددين في النقد يدفعهم إلى هذا التشدد إيمانهم بالمذاهب الجديدة التي أخذوها من الغرب، وشبابهم الذي يدفعهم بطبعه إلى العنف وإلى شيء من التحمس.
وكان العقاد والمازني وشكري هم الذين حملوا لواء هذه الثورة على الأدب العربي المعاصر وعلى الشعر منه بنوع خاص في أوائل هذه القرن، وليس من شك في أن الشباب المثقفين في أول هذا القرن كانوا يقرءون شعر شعرائنا معجبين به غالبًا، متحفظين في الإعجاب أحيانًا، إلَّا هؤلاء النفر القليل فإنهم كانوا يتحفظون دائمًا ولا يكادون يُعجبون بشيء، وربما كان للطموح الشخصي شيء من التأثير في هذا أيضًا، فهم لم يلبثوا أن آمنوا بأنهم أقدر على تجديد الشعر من هؤلاء الشعراء الشيوخ.
مهما يكن من شيء فقد ظهرت ثورة أدبية في أوائل هذا القرن تنبئ بأن حياتنا الفنية في الشعر، وفي الشعر خاصة، تريد أن تتغير، وتريد أن تتغير تغيرًا عميقًا بعيد المدى، وكان الشعراء الشيوخ يضيقون بهذا أشد الضيق ويشفقون من هذا النقد المتصل أعظم الإشفاق، ولكنهم على ذلك لم يتأثروا ولم ينتفعوا بما كان يُقدَّم لهم من نماذج، أو مما كان يُعرض عليهم من مذاهب جديدة في الفن، وإنما ظلوا على طريقتهم القديمة ماضين في شعرهم هذا المضطرب بين تقليد شديد وتجديد ضعيف؛ بل تجديد يوشك ألَّا يكون شيئًا، ومع ذلك فإن هذه الثورة التي ظهرت في أوائل هذا القرن لم تبلغ غايتها، لم تبلغ غايتها لأنها فيما يظهر جاءت قبل إبَّانِها، فالثقافة الأجنبية لم تكن قد انتشرت كما كان ينبغي أن تنتشر، وشبابنا أو كثرة شبابنا لم يكونوا قد أخذوا من هذه الثقافة الأجنبية بنصيب موفور، وإنما كانوا يعرفون منها شيئًا ظاهرًا، فأما حقائقها فلم يكن يعرفها حق المعرفة إلَّا أفراد قليلون جدًّا.
أكثر من هذا أن هؤلاء الثائرين — العقاد والمازني وشكري — قد نظموا شعرًا على مذاهبهم الجديدة، وكان هذا الشعر من غير شك حدثًا في حياتنا الأدبية، ولكنه لم يبلغ نفوس الشباب ولم يبلغ قلوبهم ولم يؤثر فيهم كما كان يؤثر فيهم الشعر العربي الذي كان يقوله الشيوخ، ولم يظفر من إعجاب الشباب ولا من إعجاب الكثرة من الناس بمثل ما كان يظفر به هذا الشعر المضطرب بين التقليد والتجديد … لنفس الأسباب، وهي أن الجمهور أو الكثرة لم تكن قد بلغت من النضج ولا من العلم بالثقافة الأجنبية ما كان يمكِّنها من أن تتذوق هذا الفن الجديد أو تطمئن له.
وكذلك استطاع العقاد — مثلًا — أن يجدد في أشياء كثيرة في تصويره للفن، وفي بعض الموضوعات التي يقال فيها الشعر، وفي محاكاة بعض الشعراء النابهين من الأوروبيين، ولكن هذا الشعر ظل محدود التأثير لا يكاد يتذوقه ولا يكاد يتأثر به إلَّا عدد قليل جدًّا من الذين كانوا يألفون العقاد ومن الذين لم يكونوا يعرفونه، ولكنهم كانوا يرضون عن مذهبه هذا في الشعر.
وانتهى الأمر بأن مضى الشعراء في شعرهم على النحو التقليدي القديم، ومضى الشباب على الرضا عن هذا التقليد، ومضى الجمهور على الرضا عن هذا الشعر، وظل شعر العقاد وشعر المازني ومحاولة هؤلاء الشباب المجددين، ظل هذا كله بمحاولاته الكثيرة، أقول، كالغريب … إنما السنون قد مضت يتبع بعضها بعضًا، وانتشرت الثقافة الأجنبية انتشارًا ليس به بأس، وكثر إلى حدٍّ ما عدد الشباب الذين تثقفوا فأحسنوا التثقف بالآداب الأجنبية وتعمقوا بها، ومع ذلك ظل الشعر كما هو لم يتقدم ولم يحدث فيه التجديد الخطير.
وظل شعر العقاد وشعر صاحبيه المازني وشكري ظاهرة من هذه الظواهر التي تمرُّ ثم لا يكون لها أثر قريب، كل هذا يأتي من أننا لم تتأصل الحضارة الحديثة بعدُ في حياتنا ولم ننظر لها على أنها حضارتنا، ولم نتثقف كما ينبغي أن نتثقف بالآداب الأجنبية والثقافات الأجنبية … وإنما ظللنا ننظر لهذا كله على أنه أشياء تأتينا من الغرب، نأخذ منها ما يلائمنا ونرفض منها ما لا يلائمنا، ونرى أن الذي يلائمنا منه قليل.
وإذا صحَّ فهمي لهذه الحياة التي أخذنا ننحوها منذ أوائل هذا القرن إلى الآن، فإني مطمئن إلى أن شعرنا العربي قد دُفع إلى أزمة عنيفة، دفعه إليها بعضُ نقاد ذلك العهد الذي عاش فيه أولئك الشعراء الذين حدثتكم عنهم، وفي أثناء هذا العهد الذي نحن فيه والذي لا يستطيع الشعر الجديد أن يسيطر فيه على العقول والقلوب … عشنا عيشة متأثرة بهذه الأزمة التي نستطيع أن نقول إن الشعر قد أفلس فيها إلى حد بعيد جدًّا على حين تقدَّم النثر تقدمًا خطيرًا.
وليس بدٌّ من أن نقف عند هذه الأزمة ومن أن نُفصِّل بعض أسبابها عسى أن نجد منها مخرجًا إن شاء الله.