التجديد في العصر الإسلامي
إذا أردنا أن نتبين تاريخ التجديد في الأدب العربي، وجدنا أن عهد الأدب العربي بالتجديد قديم … فهناك تجديد قد لا نحسن الحديث عنه لأننا لا نعرف أصوله، ولا نكاد نحس شيئًا من تاريخه، وإنما نرى مظاهره تأتي بين حينٍ وحين في الشعر العربي الجاهلي قبل ظهور الإسلام، وهذا التجديد إنما وصل للأدب العربي عندما انتشر العرب في جاهليتهم حول الجزيرة في الشام وفي العراق، واتصلوا بالحضارة اليونانية الرومانية من ناحية والحضارة الفارسية من ناحية أخرى، ولسنا نعرف بالضبط متى كان هذا الاتصال، ولسنا نعرف بالضبط إلى أي حد بلغ تأثير هذا الاتصال في الحياة العربية، ولكننا نعرف شيئًا أيسره انتشار بعض الديانات التي كانت معروفة وشائعة في البلاد الأجنبية؛ كالمسيحية واليهودية … نعرف انتشار هذه الديانات في جزيرة العرب ونعرف كذلك انتقال بعض مظاهر الحضارة الأجنبية الفارسية واليونانية والرومانية إلى الجزيرة العربية في ذلك العصر الجاهلي، فالعرب قد أخذوا عن الفرس كما أخذوا عن الروم أشياء كثيرة في جاهليتهم، وظهر لهذا كله صدًى في الشعر العربي القديم نراه عندما نرى الأعشى يصف الخمر، وعندما نراه ونرى غيره من الشعراء يصفون أدوات الشراب ومجالس الشراب … كل هذه الأشياء إنما انتقلت لهم من هذه البلاد التي اتصلوا بها والتي انتقلت إليهم بعض مظاهرها وبعض مظاهر الحضارة فيها، وانتقلت إليهم انتقالًا غير منظم؛ لظروف الحياة في ذلك الوقت … فهذا التجديد نُحِسه، ولكن لا نستطيع له تأريخًا.
وهناك تجديد آخر ظهر في الشعر العربي بعد أن ظهر الإسلام بقليل، وذلك عندما أخذ شعراء المسلمين وشعراء المشركين من قريش يتهاجَوْن فيما بينهم، بعضهم يدافع عن الإسلام، وبعضهم يخاصم الإسلام ويهاجمه، هذا التجديد ليس عميقًا، ولكنه تجديد على كل حال؛ لأنه يصور لنا شيئًا لم يكن العرب يألفونه من قبل، وهو اختصام شعرائهم، لا في تلك الموضوعات التي كان الشعراء الجاهليون يختصمون فيها من شئون القبائل وما يتصل بها، ومن هذه الحروب التي كانت تثار بين القبائل … وإنما أخذوا يختصمون في شئون جديدة لا عهد لهم بها وهي شئون الدين، فهم يختصمون حول الرأي، وهم يختصمون حول الفكر، وهم يختصمون حول الظُّلمة والنور، وحول الهدى والضلال، وحول الإيمان والكفر، وحول الخروج من الجاهلية إلى حياة جديدة أو البقاء في هذه الجاهلية وحياتها القديمة.
كل هذا يدلنا على أن العرب قد عرفوا شيئًا آخر من التجديد أثناء ظهور الإسلام وحين كان النبي ﷺ ينشر دعوته داخل الجزيرة العربية، ولكن هذا التجديد كان طارئًا ولم يَطُلْ عليه الوقت، فلم يتعمق نفوسَ العرب، ولم يصل إلى ضمائرهم، وإنما تأثرت به طائفة قليلة من هؤلاء الشعراء الذين كان بعضهم يدافع عن الدين الجديد وبعضهم يهاجم هذا الدين الجديد، والمهم أن هذا التجديد يدلنا على أن العرب لأول مرة قد جعلوا يختصمون حول شيء لم يكونوا يعرفونه من قبل، فهم لم يختصموا حول المسيحية ولا حول اليهودية حين أخذت هذه الديانة أو تلك تنتشر في الجزيرة العربية، وإنما اختصموا حول هذا الدين الجديد الذي جاءهم به رجل عربي منهم، فكانت خصومتهم هذه جديدة بأوسع معاني الكلمة وأدقها.
ولكن هذا التجديد لم يكن عميقًا — كما قلت — بعد الفتح الإسلامي إلَّا أنه بعد انتقال العرب أو جماعة ضخمة من العرب لما حول الجزيرة العربية، ووصول جماعة منهم إلى قلب الدولة الفارسية وإلى قلب الدولة البيزنطية، واستقرار هذه الجماعات في البلاد المفتوحة، بدأ التجديد الخطير يظهر في الحياة الأدبية للأمة العربية، وقد احتاج هذا التجديد إلى وقت طويل لتظهر آثاره واضحة في الأدب العربي، وفي الشعر العربي منه خاصة.
والغريب أنه لم يظهر في حياة العرب الذين انتقلوا من الجزيرة واستقروا في البلاد المفتوحة، وإنما ظهر في حياة العرب الذين أقاموا في الحجاز أو أقاموا داخل الجزيرة العربية في نجْد وفي موانئ الحجاز، ظهر في هذه البلاد التي لم ينتقل أهلها ولم يستقروا في البلاد المغلوبة؛ وذلك لأن الحضارة الأجنبية اليونانية الرومانية من جهة والفارسية من جهة أخرى قد سعت إليهم واستقرت بينهم، حُمِلت لهم من هذه الأماكن البعيدة واستقرت في بلادهم استقرارًا كان له التأثير الخطير في حياة هؤلاء الناس؛ ذلك لكثرة من نُقلوا إلى الحياة العربية من الأسارى الذين أُخذوا أثناء الحرب من الرومان والخاضعين للرومان ومن الفُرس والخاضعين للفُرس، هؤلاء الأسارى نُقلوا للبلاد العربية واستقروا فيها وفي الحجاز بنوع خاص، فنَقلوا معهم أشياء كثيرة من هذه الحضارات القديمة التي كان العرب يجهلونها جهلًا يوشك أن يكون تامًّا، وأخذوا يعلِّمون هذه الأشياء التي نُقلت، لسادتهم من العرب المستقرين في بلادهم.
ونشأ من شيء آخر أيضًا هو كثرة المال الذي حُمل إلى هذه البلاد العربية بحكم الفتح والانتصار، فهذه الغنائم الكثيرة التي ظفر بها العرب، وهذه الأموال الكثيرة التي حُملت إلى الدولة ووزِّع كثير منها على المقيمين في مكة والمدينة، وهذه الجوائز الكثيرة التي كان خلفاء بني أُمية يرسلونها إلى أبناء المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة أيضًا، كل هذه الأموال إلى جانب هذه الجماعات الضخمة من الأسرى الذين استقروا في البلاد العربية أتاحت للعرب أن يحيوا حياة جديدة كل الجِدَّة لم يحيوها من قبل، ولم تكن تخطر لهم ببال.
وكان هؤلاء العرب بطبيعة الحال ينقسمون إلى قسمين: قسم الفقراء الذين يَرَوْنَ ولكنهم لا يستمتعون بشيء مما يرونه، وقسم الأغنياء الذين تسقط لهم الثروة ويتاح لهم الغنى ويخضع لهم كثير جدًّا من الرقيق.
ومن أجل هذا نشأ في الشعر العربي الذي كان يقال في تلك البلاد نوعان مختلفان من التجديد، نستطيع أن نسمِّي أحدهما تجديد الشعراء الأغنياء والمترفين، وأن نسمِّي الآخر تجديد الشعراء الفقراء والبائسين.
فأما الأغنياء والمترفون فكان تجديدهم لهوًا وعبثًا ومُجُونًا، وكانوا يؤدون هذه المعاني الكثيرة التي كان التجديد، تجديد الحياة، يثيرها في نفوسهم، كانوا يؤدون هذه المعاني في شعر الغزَل الذي نجده عند عمر بن أبي ربيعة وعند الأحوص وعند العرجي وعند غير هؤلاء من الشعراء العرب في مكة المكرمة وفي المدينة، وهذه المعاني كانت تصور حياة فارغة لا جِدَّ فيها ولكنها في الوقت نفسه حياة قد عكف أصحابها على اللهو والعبث والمجون في شيء من التحفظ والاحتياط رعايةً لحقوق الدين، ولأن العرب في ذلك الوقت لم يكن قد بَعُد عهدهم بالمحافظة العربية والوقار العربي القديم، هذا النوع من التجديد هو الذي أسمِّيه تجديد المترفين.
نوع آخر من التجديد هو الذي أسمِّيه تجديد الفقراء والبائسين، وهو هذا الشعر الذي شاع في البلاد العربية في الحجاز وفي نجْد، والذي إن صوَّر شيئًا فإنما يصور الطموح إلى ما ليس له سبيل، والنزوع إلى ما لا أمل في الوصول إليه، وهو ما تعودنا أن نسمِّيه الغزَل العذري، «فجميل» عندما كان يتغزل بصَاحبته «بثينة» لم يكن يفكر في بثينة بقدر ما كان يفكر في هذا الترف الكثير الذي كان يراه من حوله والذي لم يكن له فيه حظْ أو نصيب، ومثل ذلك يقال في هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين جعلوا يتغزلون بالمرأة، ويُظهرون هذا الحب ويصورون العشق اليائس الذي لا أمل فيه، وهؤلاء الشعراء هم الذين صُورت حياتهم وصُوِّر حبهم في هذه القصص الكثيرة التي نقرؤها في كُتب الأدب، ولم تكن هذه القصص قد وقعت بالفعل ولكنها كانت تصور شيئًا واحدًا كان مشتركًا بينهم وهو هذا الحب اليائس، حب يعيش له صاحبه ويعيش به صاحبه، ويتألم به حين يدنو الليل، كما يتألم له حين يُسْفِر النهار، ولكنه لا يصل به إلى شيء، كل هذا لا يصور حبًّا يائسًا بالفعل وإنما يصور اليأس العام، اليأس من الوصول إلى ما كان الأغنياء والمترفون يصلون إليه مُصْبِحِين ومُمْسِين، وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار.
فهذا النوع من التجديد، تجديد المترفين من ناحية وتجديد الفقراء والبائسين من ناحية أخرى في الشعر، هو أول نوع من التجديد عرفه المسلمون ونستطيع نحن الآن أن ندرسه ونتحقق منه ونصل إلى أعماقه … وهناك تجديد آخر سأحدثكم عنه في الحديث المقبل إن شاء الله.