كيف يتجدد الشعر العربي
كنت أحدِّثكم عن هذه الأزمة التي تورط فيها الشعر بعد أن توفي الشعراء الذين جددوه وردوا له روعته القديمة، وربما كان حديث هذه الأزمة من الأحاديث التي لا تعجب كثيرًا من الناس، ولكنها حقيقة واقعة ليس فيها شك، والذين يقرءون الشعر العربي الذي يقال منذ توفي أولئك الشعراء، شوقي وحافظ وصبري وخليل مطران ومن إليهم، يلاحظون أنهم إنما يقرءون شعرًا هو امتداد لشعر أولئك الشعراء، يختلف قوة وضعفًا ويختلف جودة ورداءة، ولكنه لا يضيف إلى ما قاله هؤلاء الشعراء شيئًا، وربما حاول أصحابه أن يحدثوا شيئًا جديدًا، ولكنهم يقفون دائمًا قبل أن يبلغوا ما يريدون، وقد حاول بعض الشعراء أن يغيِّروا المذاهب الفنية في الشعر ولكنهم لم يصلوا إلى ما أرادوا؛ إما لأن أذواقهم نفسها لم تتغير كما ينبغي، وإما لأن أذواق الذين يقرءون ويسمعون الشعر نفسه لم تتغير أيضًا، مهما يكن من شيء فإننا نبحث بعد وفاة أولئك الشعراء عما نستطيع أن نقول إنه أضاف شيئًا جديدًا إلى شعرهم فلا نجد.
وليس معنى هذا أننا لا نجد في شعرنا المعاصر شيئًا جيدًا نقرؤه فتطمئن له أذواقنا، وإنما معناه أننا نقرأ هذا الشعر كما كنا نقرأ شعر الذين سبقوا من هؤلاء الشعراء الذين تحدثت عنهم فيما مضى، فلا نحس شيئًا جديدًا، وإن ارتاحت أذواقنا إلى بعضه ارتياحًا ما.
مصدر هذا كله فيما أظن هو أن الشعر ليس كغيره من الفنون والعلوم التي تتأثر بالعقل أكثر مما تتأثر بالذوق والشعور، فنحن قد تقدمنا في العلوم، ما في ذلك شك، ونحن نستطيع أن نقرأ العلوم الحديثة وأن نجيدها وأن يتفوق فيها المتفوقون، ولا يكون بينهم وبين غيرهم من العلماء الأجانب فرق في هذا التفوق، ولكننا عندما نصل إلى الناحية الفنية الخالصة في الشعر يختلف الأمر اختلافًا شديدًا، ذلك أن الشعر يحتاج لأن يكون بينه وبين الذوق صلة أيُّ صلةٍ، وهذه الصلة إذا وُجدت بين الشعر وبين الذوق كان لها الأثر الخطير في جودة الشعر نفسه وفي ارتفاعه أو انحطاطه، وذوقنا في الكثير الأغلب لم يتغير، وإنما ظل متأثرًا بحياتنا القديمة لأن الحضارة الحديثة لم تتأصل في نفسه هو … واستقرت في بلادنا وجعلتنا ننتفع بآثارها المادية انتفاعًا خطيرًا وجعلنا كذلك ننتفع بآثارها في الحياة العقلية الخالصة كما ينتفع بها غيرنا من أصحاب هذه الحضارة، ولكنها لم تصل إلى أعماق نفوسنا، ولم تستقر في ضمائرنا، ومازال شعرنا نابيًا عنها إلى حدٍّ ما، ومازلنا متأثرين بأساليب الحياة العربية القديمة، وبالحياة المصرية التي ألفناها قبل أن تتعمق الحضارة الحديثة، مازال شعرنا، وزنًا، على العهد القديم لم يكد يتغير إلَّا قليلًا؛ إذ لم تتأصل الحضارة في النفوس ولم تصبح جزءًا منها، ولم تستقر في الضمائر فالإنسان قلِق ينظر إلى هذه الحضارة نظر المحتاج إليها، وينبو عن هذه الحضارة نُبُوَّ من لا يراها جزءًا من نفسه ولا متصلة اتصالًا عميقًا بضميره … والشعر يحتاج قبل كل شيء إلى استقرار النفس واطمئنان الضمير، ونفوسنا لم تستقر بعدُ على شيء في هذا الخلاف بين القديم والجديد، وضمائرنا لم تتأصل فيها الحضارة الحديثة كما أنها أخذت تجفو الحضارة القديمة وتنبو عنها.
ومادمنا في هذه الحال من القلق بين الجديد والقديم، ومادامت الحضارة الجديدة التي نعيش فيها لم تتأصل في نفوسنا، فسيظل الشعر مضطربًا لأن الشعور نفسه مضطرب، وسنظل على هذه الحال نجوِّد في الناحية العقلية كأحسن ما يكون التجويد، ونضطرب في الحياة الفنية اضطرابًا شديدًا، والذي ألاحظه هو أن هذا الاضطراب ليس مقصورًا على الشعر وحده، ولكنه يتناول غيره من الفنون التي تحتاج إلى الشعور وتحتاج إلى مشاركة العقل والقلب والضمير … نحن في الفنون الجميلة على اختلافها مازلنا محدثين ومازلنا مقلدين، نضطرب بين تقليد الفن المصري القديم وتقليد الفن الأوروبي الحديث، ولم نستقر بعدُ على فن مصري حديث متصل بنفوسنا وشعورنا وضمائرنا.
نحن في هذه الأمور كلها، الفنون الجميلة والشعر والموسيقى، وفي كل ما يتعلق بالشعور والعواطف ونزعات القلوب والنفوس مازلنا مضطربين لم نستقر بعد على شيء … وإلى أن يتاح لنا هذا الاستقرار، إلى أن نكوِّن لنفوسنا مزاجًا طبيعيًّا مستقلًّا من الحضارة، فيه القديم الذي يلائم طباعنا وفيه الجديد الذي يلائم هذه الطباع ويتصل بها ويتأصل فيها، نحن إلى أن نصل إلى هذه الحال سيظل شعرنا مذبذبًا بين القديم وبين الجديد … نحاول أن نقلد القدماء فنحسن التقليد، ونحاول أن نقلد المحدثين من الأوروبيين فلا نكاد نبلغ من هذا التقليد شيئًا، وفي بلادنا الآن شعراء يقولون شعرًا فيه رصانة الفن وفيه رشاقة الأسلوب وصفاؤه، ولكننا إذا تعمقنا هذا الشعر لم نجد وراءه شيئًا، إنما هو شعر يقال كالشعر الذي كان يقال من قبل، وربما تعلق بعض شعرائنا بوصف الطبيعة كما يحاول ذلك الشعراء المحدثون في أوروبا، ولكننا نحس دائمًا عندما نقرأ وصفهم للطبيعة أنهم يصفون شيئًا لم يصل بعدُ إلى أعماق نفوسهم … وهم لا يصفونه لأنهم تأثروا به حقًّا، وإنما يصفونه لأنه ينبغي أن يوصف، وينبغي أن يوجد الشعر مادام قد وُصِف ووُجِد في الشعر الجديد الأوروبي وينبغي أن يكون لنا في الشعر القديم شيء يشبه من بعيد ذلك الشعر الأوروبي.
نحن إذن في حاجة إلى أن تستقر الحضارة في نفوسنا، ونحن إذن في حاجة إلى أن تصبح الحضارة جزءًا منا، ولكي يتمَّ ذلك لنا لا بدَّ لنا أولًا من أن نحس أن هذه الحضارة ليست شيئًا غريبًا يُجلب لنا من الخارج، وإنما هي شيء مستقر عندنا نصدر فيه عن طبائعنا وعن نفوسنا وأمزجتنا وأذواقنا ليتيح لنا أن يكون لنا الشعر الجديد بأدق معاني هذه الكلمة وأعمقها وأوسعها، لست أدري متى يتاح لنا بلوغ هذه المنزلة؟ ومتى نصل إلى هذه الدرجة من تَأَصُّلِ الحضارة بحيث يستطيع الشعر الجديد أن يعبِّر عن نفوس جديدة؟
مهما يكن من شيء فليس من سبيل إلى أن يتجدد شعرنا بالمعنى الصحيح إلَّا إذا تجددت نفوسنا، وإلَّا إذا تجددت قلوبنا وضمائرنا ووُجدت لنا هذه الشخصية الجديدة التي نحاول أن نوجدها والتي لم نصل بعدُ إلى تحقيقها … وإلى أن يتاح لنا هذا كله سنظل مضطربين وسنقرأ شعرًا ظاهره الجِدَّة ومن وراء هذا الظاهر قِدم وعِتق وتقليد، وسيظل شعرنا كما هو الآن لا هو بالقديم الصريح ولا هو بالجديد الصريح، وأنا أعلم أن هذا الكلام ربما آذى بعض شعرائنا المعاصرين، ولكن لو أراد هؤلاء الشعراء أن يجنبوا أنفسهم مثل هذا النقد لأخذوا في أسباب التجديد كما ينبغي أن يؤخذ فيه.
وأقل ما يمكن أن نلاحظه على شعرائنا عامةً في هذه الأيام هو أنهم لا يحسنون القراءة ولا يحسنون تعمق ما يقرءون ولا يتصلون بالآداب الأجنبية — شرقية كانت أو غربية — اتصال المتقن لها المتعمق لأسرارها وأذواقها … وهم من أجل ذلك يحاولون شيئًا قلَّما يحسنونه، يحاولون أن يجددوا وهم لا يحسنون التجديد؛ لأنهم لم يأخذوا بأسبابه … هم أكثرهم لا يقرأ، والذين يقرءون منهم يقرءون قراءة سريعة خاطفة ولا ينظمون قراءتهم … وما أظن أننا نستطيع أن نجد بين شعرائنا المعاصرين مَن تعمَّق قراءة الشعراء الأوروبيين والأمريكيين على اختلافهم، أو تَعَمَّقَ قراءة فريق منهم قراءة متقنة بحيث يستطيع أن يؤدي لنا عن هذا الشاعر الصور التي جاءت في شعره.
كل هذه الأشياء لا سبيل إلى أن نجدها عند شعرائنا المعاصرين، وهم من أجل هذا لا يزالون — كما كان الشعراء الذين سبقوهم — يتعلقون بالجديد دون أن يتعمقوه، ويتعلقون بالقديم فيحسنون التعلق به؛ لأنه يلائم الأذواق والنفوس والطبائع … وهم كذلك لا هم شرقيون بالمعنى الدقيق، ولا هم غربيون، وإنما هم شيء بين ذلك … هم إلى الشرقية أقرب منهم — كل القرب — إلى الغربية، وهم من أجل هذا مازالوا في أول الطريق.
ومع ذلك فما ينبغي أن نستيئس ولا ينبغي أن نقصِّر في التفكير في الغد، وسبيلنا إنما هو ما ذكرته من الأخذ بأسباب هذا الجديد والإقبال على القراءة والدرس وتعمق ما نقرأ وما ندرس، عسى أن يجدد ذلك نفوس شعرائنا فيجددوا شعرهم ويصبح للأدب العربي لون جديد حقًّا، ونخلص من مثل هذا العنوان الذي اتخذته لهذه الأحاديث «تقليد وتجديد» ونتخذ عنوانًا هو التجديد، وليس شيئًا آخر سوى التجديد.