التطور الأدبي بين العراق والحجاز
لم يُتَح للقدماء ما أتيح لنا الآن من تنظيم المواصلات وسرعتها الخاطفة، ولذلك كان انتقال الظواهر الأدبية والفنية من إقليم إلى إقليم شيئًا ليس باليسير في تلكَ الحقبة.
ونوشك أن نلاحظ في حياة العرب الأدبية في القرن الأول وفي القرن الثاني للهجرة، ظاهرة أقلُّ ما توصف به أنها كانت غريبة تلائم الحياة التي كان هؤلاء الناس يحيونها؛ فقد كان التطور يمضي إلى ناحية في بعض الأقاليم ويمضي إلى ناحية أخرى في باقي الأقاليم، وقلَّما كان لون من ألوان التطور الأدبية ينشأ في إقليم ثم ينتقل منه إلى إقليم آخر في سرعة أو في وقت متقارب.
ولذلك نلاحظ أن الحجاز في القرن الأول للهجرة ذهب مذهبه في تجديد الشعر فأنتج الشعر الغزلي على اختلاف ألوانه، على حين ذهب العراق مذهبًا آخر في التجديد، ليس بينه وبين التجديد الذي ظهر في الحجاز أي صلة؛ بل بينهما اختلاف عظيم جدًّا … كان الحجاز يحيا حياة لهو وترف، فكان طبيعيًّا أن يفرغ لحياة اللهو والترف، وأن ينشئ من الأدب ما يلائم هذه الحياة، وكان العراق يحيا حياة جدٍّ، هو جدٌّ فيه النزاع السياسي وفيه اختلاف الأحزاب والخصومات التي كانت تثار بينها باللسان مرة وبالسيف مرة أخرى، وفيه إنكار ما كان يأتيه الخلفاء في دمشق، وفيه إنكار ما كان فيه أهل الحجاز من هذه الحياة الفارغة المتبطلة، فذهب التطور العراقي مذهبًا مناقضًا أشد المناقضة لهذا التطور الحجازي الذي حدثتكم عنه فيما مضى، وبينما كان الحجاز يُنتج غزَله وفنونه المختلفة ويُمعِن في هذه الحياة اللاهية، كان العراق في خصومته المتصلة يكتب أدبًا يلائم هذه الخصومات.
وكانت الخصومات في العراق مختلفة في نوعها اختلافًا شديدًا أيضًا … كانت هناك الخصومات السياسية بين الأحزاب، وكانت هناك اختلافات سياسية أخرى بين القبائل وبين حكام الأقاليم، ثم كانت هناك الخصومات العصبية بين هذه القبائل التي لم تنسَ جاهليتها الأولى، ولم تنسَ ما كان بينها من الخصومات قبل الإسلام؛ ولذلك ابتكر العراق فنونًا جديدة من فنون الشعر والنثر السياسي يشبه عندنا الأدب الذي تثيره الخصومات السياسية التي نراها في الصحف عندما تختلف الأحزاب ويكون لكل حزب صحيفة أو صحف تعبِّر عن رأيها، وعندما تثار الخصومات بين هذه الصحف وينشأ بينها من الجدل والحوار ما عرفناه في العهود القريبة الماضية … كذلك كان الأمر في العراق؛ كان لكل حزب من الأحزاب السياسية شاعره أو شعراؤه، وكان هؤلاء الشعراء يدافعون عن أحزابهم ويهاجمون الأحزاب الأخرى، وكان الخصام يثار عنيفًا بين هذه الأحزاب، وكان الشعر هو الذي يؤدي هذه الخصومة كما كانت الصحف تفعل عندنا وكما لا تزال الصحف تفعل في بلاد كثيرة في هذا العصر الحديث.
وبالطبع كانت الخصومات السياسية غير مقصورة على الشعر … ولكن الناس كانوا يختصمون شعرًا وكانوا يختصمون نثرًا، وكانوا إذا اختصموا شعرًا نُقلت خصوماتهم على ألسنة الرواة، وكانت أكثر شيوعًا وأكثر تنقلًا من مكان إلى مكان … أما إذا اختصموا نثرًا فكان نقل النثر شيئًا عسيرًا، وكانت الخصومات تظل محصورة بين أصحابها الذين يعنون فيها.
إلى جانب هذا الشعر السياسي الذي هو فن إسلامي خالص لم يعرفه الجاهليون؛ لأن الجاهليين لم تكن لهم سياسة، ولم تكن لهم بالطبع خصومات سياسية، إلى جانب هذا الشعر نشأ شعر آخر إسلامي جاهلي، له في الجاهلية أصل قديم، وهو الذي كان يقال بين الأفراد وبين القبائل عندما يختصم الناس، ويهجو بعضهم بعضًا لمناسبة ضئيلة أو خطيرة، ولكنه في الإسلام نما نموًّا لم يعهده العرب من قبل، وعَظُمَ حتى أصبح من أظهر فنون الشعر في ذلك الوقت — وشبَّت الخصومة بين طائفة معينة من الشعراء، في مدينة البصرة خاصة، فكان هؤلاء الشعراء يتخاصمون ويتناولون في خصوماتهم ألوانًا غريبة من التنابذ ومن التشاتم — وظل هذا الشعر منتشرًا قويًّا يَشغل الأُمة العربية في العراق، ويتجاوز العراق إلى غيرها من الأقاليم أثناء العصر الأُموي كله تقريبًا.
وكذلك كان التطور الذي أنشأه الإسلام في الشعر مختلفًا — كما ترون — أشد الاختلاف؛ شعر لاهٍ عابث تطمئن النفوس إليه ويصور حياة الفراغ في الحجاز، وشعر جادٌّ عنيف يثير النفوس ويدفع إلى الخصومات العنيفة المتصلة في السياسة مرة وفي الهجاء مرة أخرى.
وفي أثناء ذلك كان التطور في العراق يذهب مذاهب مختلفة أخرى لا تتصل بالشعر، وإنما تتصل بالفن الآخر من فنون الأدب وهو النثر … فكان أهل العراق يتحدثون بالأحداث القديمة التي وقعت في العصور الجاهلية، وكانوا كذلك يقصون الأحداث التي وقعت في الإسلام، يقصون الغزوات ويَقُصُّون الفتوح التي أحدثها الإسلام بعد وفاة النبيِّ، ثم يقصون مما كان من الفتن والخصومات بين الأحزاب، وكانوا بالطبع يتحدثون بهذا كله حديثًا منثورًا لا حديثًا منظومًا، وكان الناس يُقَيِّدون ما يسمعون … فنشأ عن هذا فن جديد في الأدب لم يكن العرب يعرفونه من قبل، وهو فن النثر المكتوب الذي يكتبه صاحبه لا لتقرأه الجماعات مجتمعةً وإنما ليقرأه الأفراد حينما يخلو كل واحد منهم إلى نفسه، وكان هذا النثر يأتي إلى جانب هذه الأقاصيص أو هذه الأحاديث التي كانت تُقص في مساجد البصرة والكوفة، وكان يأتي مع ذلك من مناظرات في المسائل السياسية ومناظرات فيما نشأ عن المسائل السياسية من مذاهب في الكلام أو في علوم الدين النظرية، فكانوا يختصمون في هذا كله، ويحاول كل خصم أن يُظهر بلاغته وبراعته وتوفيقه، وكانوا يأتون من أجل هذه الخصومات بآيات من النثر، كان المستمعون أو بعض المستمعين يسجلونها ويتناقلها بعضهم عن بعض.
وكذلك نشأ في العراق هذا النوع من التطور، تطور هو أوسع وأشمل وأخصب من التطور الذي أنشأه الفراغ في الحجاز، فبينما لم ينشِئِ الفراغُ في الحجاز إلَّا شعر اللهو والغزَل والمجون، كان الجِدُّ في العراق يُنْشِئُ شعر السياسية وينشئ شعر الهجاء، ينشئ نثرًا منه القصص والتاريخ، ومنه المناظرات الكلامية التي أنشأت نوعًا من الجدل كان له أبعد الآثار في حياة المسلمين العقلية بعد انقضاء العصر الأول ومجيء الدولة العباسية في القرن الثاني للهجرة.
وكذلك تلاحظون أن ما أحدثه الإسلام من تجديد الحياة العربية ومن تجديدها من جميع نواحيها، قد غيَّر كل شيء في طبيعة العقل العربي فبعد أن كان عقلًا بدويًّا مكتفيًا بحياته تلك الساذجة البسيطة، ومكتفيًا من الناحية الأدبية بذلك الشعر الجاهلي الذي كان يؤدي أغراض الجاهليين في حياتهم تلك الساذجة، أصبحت الحياة العربية العقلية معقدة تعقيدًا شديدًا بعد الإسلام، ففرغ جماعة إلى لهوهم ومجونهم من ناحية، وأنشئوا أدبًا يلائم هذا الفراغ … وجدَّ جماعة في خصوماتهم السياسية وخصوماتهم العصبية وأنشئوا أدبًا أو شعرًا يلائم هذه الجدَّة وهذه الخصومات … وتفرَّغ جماعة آخرون للمناظرات السياسية والدينية فأنشئوا النثر، وتفرَّغ آخرون لتسجيل الأحداث والخطوب التي عرضت للعرب قبل الإسلام وبعده فأنشئوا النثر القصصي … وكذلك ابتُكر الأدب تقريبًا في الإسلام ابتكارًا لم يكن للعرب عهد بأكثره من قبل.
- إحداهما: ما أحدثه الإسلام من تغيير العقول وتجديد الحياة سواء أكانت حياة القلب أم حياة العقل أم الحياة العملية المادية التي كان الناس يحيونها، وما يتبع ذلك من تغيير النظام السياسي.
- والعلة الثانية: هي هذا الاتصال الذي كان بين العرب وبين غيرهم من الأمم التي خضعت للإسلام بعد الفتوح، وكل اتصال يتحقق بين الشعوب في مثل هذه الظروف ليس بدٌّ من أن يُنتج نتائجه الطبيعية فيؤثر في الأمم التي تلقت العرب ويؤثر في العرب أنفسهم.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الأدب العربي ليس مقصورًا على الأُمة العربية وحدها، وإنما أصبح أدبًا جديدًا إسلاميًّا يشارك فيه العرب وغيرهم من الأمم التي ظهر عليها المسلمون وأخضعوها لسلطانهم، وهي الأُمة الفارسية من ناحية وأمم سامية ويونانية ورومية من ناحية أخرى، كل هذه العناصر اشتركت في تكوين الأدب الجديد الذي أرجو أن أحدِّثكم عنه في الحديث المقبل إن شاء الله.