خصائص التطور في القرنين الأولين
في أقلِّ من أربعين عامًا تغيَّر العالم القديم تغيرًا خطيرًا في حياته السياسية والاجتماعية والأدبية، وذلك بعد ظهور الإسلام، فلم يلبث الإسلام أن خرج من جزيرة العرب، وانتشرت جيوش المسلمين في العالم القديم حتى أُتِيحَ لها من النصر ما يعرفه الناس جميعًا؛ فأخضعت لأول مرة وجَمَعَت تحت راية واحدة لأول مرة عالَمَيْنِ كان بينهما الخلاف المتصل والخصومات العنيفة ولم يُتَح لهما أن يجتمعا من قبل، وهما عالَم الدولة الإيرانية أو الدولة الفارسية القديمة وعالم الدولة الرومانية، اللذان كانا يختصمان أشد الخصومة، وكان لكل منهما حضارته الخاصة.
ففي أقل من أربعين سنة اجتمع هذان العالمان تحت راية واحدة، وهي الراية الإسلامية، وأخذا يتعاونان في إنشاء حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية … وتغيَّر وجه العالم القديم تغيرًا تامًّا في هذا الأمد القصير من الناحية السياسية، فلم تصبح هناك دولة رومانية تسيطر على الشرق كما كانت الحال من قبل، ولا دولة فارسية تسيطر على الشرق المتوسط كما كانت الحال من قبل أيضًا، وإنما هي الدولة الجديدة الإسلامية العربية قد جمعت بين هذين القسمين، الشرق الأدنى والشرق المتوسط، وتغلغلت حتى وصلت إلى أعماق الهند وتغلغلت كذلك من الغرب حتى وصلت إلى أوروبا في إسبانيا، ثم نشأ عن هذا كله تغيُّر الحياة الاجتماعية أيضًا … فعزَّ قوم كانوا من قبل أذلاء، وخضع قوم كانوا من قبل سادة الأرض — خضعوا ولكنهم لم يُذلُّوا — خضعوا لسلطان جديد، ولكن حُفظت لهم حقوقهم الاجتماعية، وحُفظ لهم في أول الأمر كثير من حقوقهم السياسية ثم انتهى الأمر بهم إلى أن ظفروا بحقوقهم السياسية والاجتماعية كلها، ثم لم يقف التغيير عند هذا الحد، وإنما امتزجت هذه الأمم بعضها ببعض، وتبادلت ما كان عندها من العلم ومن التراث الثقافي ومن الفن أيضًا، ونشأ عن هذا كله أن توحدت الحضارة بعد أن كانت منقسمة مختلفة، وأن أصبحت حضارة جديدة لها طابع جديد هو هذا الطابع الإسلامي العربي، وتغيرت لغة هذه الحضارة، فبعد أن كانت يونانية في الشرق الأدنى وفارسية في الشرق المتوسط، أصبحت هي اللغة الوحيدة — اللغة العربية — لغة هذه الحضارة.
ثم لم يقف التغيير عند هذا الحد، وإنما تغيَّر العالم القديم تغيرًا ماديًّا أيضًا … فالحجاز — مثلًا — وقد كان في أيام ظهور الإسلام أدنى إلى الصحراء منه إلى أيِّ شيءٍ آخر لا يجد الناس حياتهم فيه متى جاوزوا مكة والمدينة والطائف إلا بالمشقة الشاقة والعناء الشديد، هذا الحجاز أصبح حينما انتصف القرن الأول للهجرة، أصبح جنة الأرض في ذلك الوقت وأصبح كله ضِياعًا تثمر الزرع الكثير وتغل على أهلها المال الكثير، وتحول أهل الحجاز من فقر مُدْقِع إلى غنًى مسرف في الثراء.
ونشأ عن كل هذا تغيير الحياة العقلية … فالشعر الجاهلي القديم قد تغيَّر تغيرًا تامًّا وأصبح غزَلًا رقيقًا رائعًا في الحجاز وفي البلاد العربية، وأصبح في العراق شعر سياسة وخصومات حزبية ومجادلات في شئون الملك والسلطان وتدبير أمور الدولة … ثم نشأت فنون جديدة لم يكن العرب يعرفونها من قبل، وهي هذه الفنون التي تتصل بما تنتجه العقول حين ترقى ويتم لها النضج، فنشأ النثر الفني من جهة ودُوِّنَت العلوم واستُنبِطَت علوم حديثة من جهة أخرى.
وأُضيف إلى هذا كله بعد خمسين عامًا نقْل الحضارات القديمة والثقافات القديمة إلى اللغة العربية، فكانت الترجمة التي لم تقف عند حدٍّ بعينه وإنما نقلت آثار اليونان كما نقلت آثار الفُرس والهند، وكما حاولت في المغرب أن تنقل آثار اليونان من اللاتينية إلى العربية.
وكذلك تغيرت الحياة العالمية في ذلك الوقت هذا التغير الخطير البعيد المدى في أقل من قرن واحد، ولم يَكَدِ القرنُ الثاني للهجرة يتوسط أو يبلغ ثلثه فضلًا عن أن يبلغ نصفه؛ حتى كان الفرق بين هذا العالم القديم قبل الإسلام وبعده فرقًا عظيمًا كأعظم ما تكون الفروق بين طَوْرَيْنِ من أطوار الحياة الاجتماعية والإنسانية، ومن أطوار الحياة السياسية والعقلية والأدبية أيضًا.
كل هذا تم في هذا الوقت السريع على ما نعرفه من أن القدماء لم يُتَح لهم ما يتاح لنا الآن من هذه الوسائل التي تُيسر الحياة وتُيسر التطور وتدفع إليه دفعًا … فهم لم يملكوا المطبعة، وهم لم يملكوا وسائل المواصلات الكثيرة التي نملكها نحن، وهم لم يُتَحْ لهم الانتقال إلَّا في المشقة والجهد، وعلى رغم هذا كله تم هذا التطور السريع الخطير في أقصر وقت ممكن بل في أقصر وقت عرفه التاريخ القديم.
وقد استطاع الأدب العربي أن يجاري في سرعة نفس هذا التطور دون أن يجد في هذا عُسرًا أو مشقة، ودون أن يتعثر الشعراء والكُتَّاب أو يضطربوا فيما أتيح لهم أو فُرض عليهم من التطور.
ففي غاية اليسر أصبح شعراء الحجاز بعد أن كانوا يقرضون شعرهم على النحو الجاهلي، أصبحوا شعراء مترفين لا يعنون إلَّا بشئون الفراغ وما يكون مع الفراغ من أنواع اللهو والدعابة والترف، وفي هذه المدة أصبح شعراء العراق أصحاب جد وافتنان في ألوان القول المختلفة التي تمس السياسة وتمس الحرب وتمس نقد الملوك والخلفاء … إلى آخر الموضوعات التي يقول الناس فيها حين يحيون حياة حرة في بلد ناضج متحضر.
ثم لم يكد القرن الثاني يتوسط حتى أصبح الشعر وأصبح النثر وأصبح العلم، وقد بلغت كلها من القوة ما لم يعرفه الناس من قبل في أي عصرٍ من العصور، فقد عرف اليونان حضارة راقية ممتازة ولكنها كانت مقصورة عليهم، وعرف الرومان حضارة راقية ممتازة أيضًا ولكنها كانت مقصورة عليهم لا تكاد تتجاوزهم إلى غيرهم من الخاضعين لهم، ولكن العرب عرفوا هذه الحضارة ولم يستأثروا بها دون الأمم المغلوبة بل لعلهم تركوا أكثرها للأمم المغلوبة واستأثروا ببعض فنون الحكم وتدبير المُلك.
والشيء الذي لا شك فيه هو أنه لأول مرة في الحضارات الإنسانية استطاعت الشعوب أن تتعاون تعاونًا صادقًا قويًّا منتجًا، فالفرس في الشرق، والسوريون والمصريون في الغرب، وسائر البلاد التي خضعت للدولة الإسلامية كانت كلها مشتركة في حضارة واحدة، لغتها واحدة، تُنتج في فنون العلم والحكمة والفلسفة كما تنتج في الفن وكما تنتج في الأدب، كل هذا في هذا الوقت السريع وفي غير مشقة ولا جهد ولا عناء.
والأدب بنوع خاص قد تبع هذا التطور — كما قلت — في غير جهد ولا مشقة، فنشأت فيه كل هذه الفنون … وافتنَّ الشعراء بنوع خاص؛ حتى يمكن أن يقال إن الشرق الأدنى والمتوسط لم يعرف قط في تاريخه الأول عصرًا ازدهر فيه الشعر، وتناول جميع ألوان الحياة وجميع فروعها كما عُرف ذلك في هذا العصر الإسلامي العربي أثناء القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة.
وإذا كان هذا كله صحيحًا — وليس من شك في أنه صحيح كله — فقد ينبغي لنا أن نوازن بين الحياة الحديثة التي نحياها نحن وبين الحياة القديمة التي عاشها القدماء من المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وقد ينبغي لنا أن نحاول بهذه الموازنة أن نعرف إلى أي حد سرنا على النحو الذي ساروا عليه في تطورهم؟ وإلى أي حد قصَّرنا عنهم؟ وإلى أي حد شاركناهم في هذه النهضة؟ بل إلى أي حدٍّ سبقناهم أيضًا في أشياء فرضها العصر الحديث وفرضتها ظروف الحياة الحديثة ولم تُتَح لهم في أيامهم تلك ولا في ظروفهم التي أحاطت بهم وسيطرت على حياتهم؟
ومنذ الحديث المقبل إن شاء الله أريد أن أتناول تطورنا منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى الآن من الناحية العقلية والأدبية والفنية، وما أشك في أننا سنجد أشياء تستحق أن نفكر فيها وأن نعتبر بها … سنرى أننا سبقنا في بعض الأمر، وقصَّرنا في بعضه الآخر … وعسى أن يكون لهذا الحديث وما بعده ما يدعو إلى أن نفكر ونتدبر ونستأنف أمورنا على خير مما مضينا عليه إلى الآن.