بدايات النهضة في مصر
كانت الأطوار التي اختلفت على أدبنا العربي بعد تلك العصور المزدهرة الأولى التي تحدثت عنها فيما مضى قاسيةً أشد القسوة دُفع فيها الأدب العربي إلى منزلة من الضعف لم يُعرف لها مثيل من قبل؛ وذلك عندما سيطرت أمم أجنبية على الحياة الإسلامية، أمم أجنبية لا عهد لها بالحضارة ولا عهد لها بهذه الحياة الأدبية الممتازة التي عرفتها الأمم القديمة التي أخذنا عنها حضارتها عندما اتصل المسلمون بالبلاد المفتوحة، وتمثلت هذه السيطرة في هجمات المغول والتتار والصليبيين، ثم في سلطان العثمانيين، وكل هذه الغارات التي توالت على البلاد الإسلامية أثَّرت في الحياة العامة تأثيرًا عميقًا أدَّى إلى تأثير خطير مماثل في الحياة الأدبية العربية أوشك أن يكون ركودًا، والناس عادةً يبالغون في تصوير هذا الركود، ولكن الحياة الأدبية على كل حال لم تكن من النشاط والقوة بحيث نستطيع أن نوازن بينها وبين الحياة الأدبية التي عرفناها في القرون الثلاثة أو في القرون الأربعة الأولى؛ فقد تطورت آدابنا أثناء تلك القرون الثلاثة أو الأربعة تطورًا قويًّا نشيطًا خصبًا وكثر فيها التجديد بين وقتٍ ووقت، بحيث نستطيع أن نقول إنه لم يكن يمضي نصف قرن حتى يحدث تغيير قوي أو ضعيف في لون من ألوان الأدب أو نوع من أنواع الثقافة سواء كان ذلك في العلوم الإسلامية الشرقية أو في العلوم الإسلامية العربية.
ومهما يكن من شيء فقد انقطعت الصلة ذات يوم بين العالم العربي وبين العالم الأجنبي الخارجي، وانقطعت في وقت كانت أشد ما تكون حاجة إلى أن تتصل؛ وذلك عندما تسلَّط التُّرك العثمانيون على العالم العربي وعندما فتحوا بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية واستقروا في هذه البلاد. لقد كان لهم تأثير ما أعرف أن الأمم الإسلامية شهدت مثله؛ فهم قد أضعفوا السلطان السياسي أو مَحَوه مَحْوًا، وهم قد ضربوا بين العالم العربي وبين العالم الأوروبي حجابًا صفيقًا كثيفًا فلم يكن هناك تواصل بين العالم العربي وبين أوروبا لا في قليل ولا في كثير، ولا سيما هذا التواصل الذي يؤثر في الحياة العقلية من قريب أو من بعيد؛ فاضطر الأدب العربي إلى أن يكون راكدًا ركودًا خطيرًا يشبه ركود النار التي يتراكم عليها الرماد، فلا تستطيع أن تقهره ولا تستطيع أن تبعث لهبها من أثنائه.
وظلت الحال كذلك إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي عندما عادت الصلة بين مصر وبين العالم الإسلامي الآخر من جهة، وبين البلاد الأوروبية من جهة أخرى، بحكم نشاط العالم الأوروبي وطموحه إلى الاستعمار.
ورُبَّ ضارةٍ نافعة كما يقال … فالتنافس الذي كان بين فرنسا وبريطانيا العظمى في آخر القرن الثامن عشر، هذا التنافس الذي حمل نابليون بونابرت على أن يغزو مصر ليقطع على الإنجليز طريقهم إلى الشرق وإلى الهند خاصة، هذا التنافس كان في نفسه شرًّا؛ لأن أوروبا أغارت من جانبها على بلاد لم تكن تريد إلا أن تحيا حياة وادعة، وأتاحت هذه الغارات أن يتغلب العالم الأوروبي على العالم الإسلامي العربي الذي لم يخضع قبل ذلك للسلطان الأوروبي والذي استطاع في القرون الوسطى أن يقاوم الغارات الصليبية مقاومة رائعة.
كان هذا شرًّا من هذه الناحية؛ ولكن من ناحية أخرى كان مصدر خير كثير لأنه نبَّه العالم الشرقي إلى أن الحياة التي يحياها ليست هي الحياة التي تليق بالإنسان الكريم، وإلى أن الدنيا قد تطورت وتقدمت وارتقت على حين كان هو غافلًا قد اشتمل عليه نوم عميق فلم يشارك فيما كان من تقدُّم الحضارة ورقيها.
- فأما أولهما: فهو فكرة الثورة التي كان الفرنسيون يحملونها معهم إلى كل مكان منذ شبت ثورتهم في آخر القرن الثامن عشر، وليس من شك في أن الفرنسيين عندما أقبلوا إلى مصر لم يكونوا يفكرون مطلقًا في أنهم يُشْعِرون المصريين بحقهم في الحياة الحرة الكريمة … ولكن المذاهب السياسية ليست في حاجة إلى أن يتعمد الناس نقلها وإذاعتها، وإنما تنتقل وحدها وتطير كأنَّ لها جناحين يتيحان لها أن تنتشر في الأرض في أسرع وقت ممكن … فقد انتقلت إذن فكرة الثورة مع الفرنسيين عندما نزلوا هذه الأرض، وانتقلت معهم هذه الخواطر والآراء التي اتصلت بفكرة الثورة الفرنسية: حقوق الإنسان وكرامة الإنسان والمساواة بين الناس، كل هذه الأشياء جاءت مع الفرنسيين وأحسها المصريون إحساسًا غير واضح ولا جلي، ولكنهم أحسوها شيئًا ما على كل حال.
- والشيء الثاني: الذي جاء مع الفرنسيين هو هذه المطبعة التي كان قد مضى عليها عهد بعيد في أوروبا، وكانت قد أحدثت آثارها الخطيرة في الحياة العقلية الأوروبية، ولكن الشرق العربي لم يكن يعرفها، ولم يكن يسمع عنها شيئًا، وجاءت هذه المطبعة مع الفرنسيين فعرفها المصريون ولم ينسوها بعد أن جلا الفرنسيون عن مصر.
وكذلك كان هذان الشيئان اللذان انتقلا مع الفرنسيين لهذه البلاد مصدر نشاط جديد خصب في الناحية السياسية والأدبية جميعًا؛ فأما من الناحية السياسية — وأجد أني لست في حاجة إلى أن أقف طويلًا عندها الآن — فكلكم يعلم أن المصريين منذ ذلك الوقت حاولوا أن يخلصوا من هذا السلطان العثماني الذي فُرض عليهم قرونًا … وحاولوا بنوع خاص أن يتصلوا بالعلوم الغربية وأن يجددوا نشاطهم الإنساني العلمي وأن يجددوا هذه الصلات القديمة التي كانت تصل بينهم وبين هذا العالم الأوروبي خاصةً في أشد عصور المماليك قسوة وظلمًا، وكلكم يعلم ما نتج عن هذه المحاولة، محاولة التحرر من سلطان العثمانيين، مما أوصل مصر إلى ما وصلت إليه الآن على كثرة ما مرَّ بها أثناء ذلك من الخطوب القاسية ومن الظروف العنيفة.
ولكن المهم في الناحية الأدبية — وهي التي أتحدث عنها — وجود هذه المطبعة في مصر وشعور المصريين بأن من الممكن أن تذاع الكُتب وأن تنتشر بأكثر من هذه الطرق التي عرفوها، وهي طرق النسخ وتداول الكُتب الخطِّيَّة، ولم تَكَدْ توجد المطبعة — خاصةً بمصر — في أوائل القرن الماضي حتى أخذنا نفكر في نشر بعض الكُتب العربية التي كانت محفوظة في المكتبات والتي لم يكن يتاح للناس أن يقرءوها إلا إذا سعوا لها أو ظفروا بها بعد البحث وبالأثمان الغالية القاسية، فأخذنا ننشر الكُتب وننشر الكُتب بغير نظام، ننشر كُتبًا معاصرة في ذلك الوقت، ثم ننشر كُتبًا قديمة من الكُتب العربية التي أُلِّفَت في العصور البعيدة، وأخذ الناس يقرءون هذه الكُتب ويتأثرون بها شيئًا ما.
وفي الوقت نفسه جددنا صلتنا بالغرب فأخذنا نعرف شيئًا فشيئًا ما عند هؤلاء الغربيين، ثم قويت حاجتنا إلى هذه المعرفة فأخذنا نبعث البعوث إلى أوروبا، ونتعلم علم الأوروبيين بطريقة مفصلة واضحة، ونختار مما عند الأوروبيين ما نحتاج إليه في تجديد حياتنا وتمكينها من أن تنهض وتستأنف نشاطها القديم.
وكذلك وُجِدَ تياران خطيران جدًّا في حياتنا في أوائل القرن الماضي … أحدهما: يأتي من أعماق التاريخ الإسلامي العربي بنشر هذه الكُتب التي أخذنا ننشرها شيئًا فشيئًا، وقوي حرصنا على نشرها مع مر الزمن … والآخر تطور يأتي من وراء البحر، يأتي حين نستورد بعض الإيطاليين والفرنسيين والإنجليز لنستخدمهم في حاجاتنا، ويأتي حين نرسل أبناءنا إلى هذه البلاد المختلفة ليتعلموا علمهم وليتعلموا ما كان يُدرَس فيها من أشياء استحدثها العلم الحديث ونحن غافلون.
ومن هذين التيارين، التيار الذي يأتي من حياتنا القديمة البعيدة والتيار الذي يأتي من حياتنا الأوروبية الجديدة التي أخذنا نجلبها جلبًا، من هذين التيارين تكونت لنا حياة عقلية ناشئة حديثة … نشأت ضئيلة جدًّا في أول القرن الماضي، ولكنها جعلت تقوى شيئًا فشيئًا وتتعمق في نفوسنا وقلوبنا وضمائرنا قليلًا قليلًا حتى أثَّرَت في شعورنا وحسنا وعقولنا وحتى أخذ تأثيرها يظهر شيئًا فشيئًا فيما كنا نُنتج من أدب نعرب به عن ذات نفوسنا، وكان هذا بدء الحياة الأدبية الحديثة التي نريد أن نتحدث عنها فيما يُقبل من الأحاديث إن شاء الله.