عصر الإفاقة
كان القرن الماضي عصر الإفاقة من نوم عميق، نستطيع أن ننظر إليه الآن من بعيد فنرى شيئًا عجيبًا … نرى مصر تحاول أن تستيقظ شيئًا فشيئًا والأحداث الثقال الضخام هي التي تحاول إيقاظها، ونرى العالم الخارجي والغربي يقظًا متنبهًا يحاول أن يعرف عن مصر أكثر جدًّا مما كانت مصر تعرف عن نفسها، فهي لم تكد تتلقى الجيش الفرنسي الذي أقبل مع بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، غازيًا، لم تكد تتلقاه ساخطة عليه يُظهر بعض أهلها له الرضا ويُضمر أكثر أهلها عليه السخط؛ حتى أقبل الأوروبيون عليها إقبالًا شديدًا، أقبلوا باحثين ومنقبين ومحاولين أن يستكشفوا، ومحاولين أن يعرفوا … وكانت مصر تنظر إلى هذا كله في شيء من دهشة لا تكاد تتبين حقائقه إلا قليلًا … ولم يكد القرن الماضي يتقدم شيئًا حتى كانت أوروبا قد عرفت عن مصر الشيء الكثير، وكانت مصر تحاول أن تعرف عن أوروبا شيئًا ما، ولكنها لم تكن تحاول أن تعرف عن نفسها شيئًا.
ويمكننا أن نلاحظ أن الأوروبيين قد أغنَوْا علمهم وأغنوا أدبهم وأغنوا فنهم بما عرفوه عن مصر في أوائل القرن الماضي؛ فاستكشفوا الآثار المصرية، وأنشئوا علمًا جديدًا لم يكن للعلم به عهد من قبل وهو علم الآثار المصرية، واستُكشفت الكتابة المصرية القديمة واللغات المصرية القديمة وأُخذ في درس هذه اللغات وفي درس الآثار، ومصر تكاد لا تعرف من هذا كله شيئًا، واستُكشفت كذلك أشياء أخرى منها ما يتصل بالجغرافيا المصرية، ومنها ما يتصل بالسكان، ومنها ما يتصل بطبيعة الأرض، وما تحتاج من نبات، وما يعيش عليها من حيوان … كل ذلك استُكشف في أوروبا، وكان موضوع درس وبحث في المعاهد والجامعات ومكاتب الدرس الخاصة، والمصريون لا يكادون يحسون من هذا كله شيئًا … ومع ذلك فلم يُخْفُوا على المصريين أنهم يعيشون وأن هناك عالمًا خارجيًّا قد كان المصريون يجهلونه أو يوشكون أن يجهلوه، ثم أخذوا يتصلون به قليلًا قليلًا.
فقد كان هؤلاء الأوروبيون الذين يفدون على مصر يلقَوْن المصريين ويتحدثون إليهم، ويتصل بينهم وبينهم الحديث، وكان هذا يترك في نفوس الأوروبيين آثارًا قوية أشد القوة … ويكفي أن نقرأ كتابًا للكاتب «جيرار دو نيرفال» الذي زار مصر في الثلث الأول من القرن الماضي، لنعرف إلى أي حد كانت أحاديث هذا الفرنسي إلى المصريين تترك في نفسه الآثار الحية القوية التي أتاحت له أن يكتب هذا الكتاب الرائع … على حين أنها لم تترك في نفوس الذين تحدثوا إليه من المصريين أثرًا ما، وآية ذلك أننا لا نعرف أن المصريين الذي التقوا بهذا الكاتب أو تحدثوا إليه قد ذكروه أو كتبوا عنه شيئًا قليلًا أو كثيرًا.
وبينما كان الأوروبيون الذين يزورون مصر في تلك الأوقات أيقاظًا متنبهين يريدون أن يدرسوا وأن يستخرجوا ما ينتجه لهم هذا الدرس من الحقائق التي تغني العلم والفن والأدب، كان المصريون قد أخذوا يرسلون بعض أبنائهم إلى البلاد الأوروبية، وكان هؤلاء الأبناء الذين يُرسَلون إلى البلاد الأوروبية يرون أشياء غريبة توشك أن تكون لها في نفوسهم صور تشبه تلك الصور التي نقرؤها في ألف ليلة وليلة، وأقاصيص السندباد وما يشبههما من أحاديث أولئك السائحين الذين كانوا يذهبون إلى أقصى الشرق في أوائل العصور الإسلامية ثم يأتون فيتحدثون بالأعاجيب، وكان هؤلاء المصريون يذهبون إلى فرنسا — مثلًا — فيرون ويفهمون قليلًا، ويُعْيِيهم الفهم في كثير من الأشياء، ولا يُبهرون بما كانوا يرون من مظاهر الحياة القوية والنهضة، ومن مظاهر محاولة الحكم الصالح وتحقيق العدل وتحقيق الحرية للناس في تلك البلاد، وكانوا يحسون إحساسًا يوشك أن يكون خفيًّا أشد الخفاء بالفرق بين هذه الحياة التي كانوا يرون مظاهرها في فرنسا والحياة الأخرى التي كانوا يحسون أثقالها في مصر، ولا يحاولون أن يؤدوا هذا في بعض ما كانوا يكتبون، فكانوا يتحفظون أشد التحفظ ويتحرجون أعظم الحرج في تصوير هذا الشعور مخافة السلطان ومخافة ما يمكن أن يجره عليهم غضب السلطان من الشر العظيم.
ونستطيع أن نلاحظ شيئًا من هذا عندما نقرأ كتاب رفاعة الطهطاوي الذي أُرسل إلى باريس في أوائل القرن الماضي ورأى ما رأى في فرنسا، ولاحظ ملاحظات مختلفة على نظام الحكم هناك وحاول أن يؤدِّي هذا إلى مواطنيه فأداه في تحفُّظ أيِّ تحفُّظٍ، تحفُّظ ينشأ بعضه عن أنه لم يحسن فهم ما رأى، وينشأ بعضه الآخر عن أنه لم يكن مهيَّأً ليشعر بهذا كله الشعور القوي الدقيق؛ لأن التراث الضخم الثقيل الذي كان قد تلقاه في الماضي الذي تأخرت فيه مصر أشد التأخر كان يَحُول بينه وبين ذلك، وينشأ كذلك هذا التحفظ من الخوف والفَرَقِ أن تصيبه الصراحة ببعض ما يكره فهو يؤدي لنا صورة عن الدستور الفرنسي الذي رآه في تلك الأيام، ويحتاط فيقول إن هذا الدستور فيه شيء كثير من العدل، ولكن فيه أشياء كثيرة لا تلائم الشريعة الإسلامية، وهو يمضي في حديثه عن هذه الأشياء متحفظًا متحرجًا يفهم حينًا ويخطئه الفهم حينًا آخر.
وكذلك نستطيع الموازنة بين هذا الكتاب الذي كتبه رفاعة الطهطاوي عندما زار باريس والكتاب الآخر الذي كتبه «جيرار دو نيرفال» عندما زار مصر؛ فسنرى الفرق الخطير جدًّا بين الكاتب المصري الذي يريد أن يفيق فلا يجد، أو يكاد لا يجد إلى الإفاقة سبيلًا، وبين الكاتب الفرنسي الذي يأتي وقد استجمع قوته كلها وحبه للاستطلاع كله، يملأ يديه من الحقائق ومن العلم بالشئون المصرية وبشئون المصريين في القاهرة بنوع خاص، وعاد فأغنى بهذا كله آداب قومه وفنهم.
ثم يمضي القرن مبطئًا، ولكن الأحداث السراع الثقال تُلِحُّ على المصريين حتى يفيقوا عندما يوشك القرن أن يبلغ ثلثيه؛ ومنذ ذلك الوقت أصاب المصريون في الأدب شأنًا جديدًا كل الجِدَّة، هو الذي سأتحدث إليكم عنه في الحديث المقبل إن شاء الله.