محاولات التحرير في الأدب والسياسة
لم يَكَدِ القرن الماضي يتجاوز ثلثيه حتى كانت مصر قد أخذت تعرف نفسها وتشعر بكثير من حقها وتشعر كذلك بكثير من واجباتها، وكانت الأحداث الكثيرة الخطيرة التي حدثت في القرن الماضي قد أتمت تحقيق الصلات المنظمة الدقيقة بينها وبين العالم الخارجي؛ فأبناؤها قد خرجوا من أرضهم محاربين في أطراف البلاد العربية؛ يحاربون التُّرك مرة ويحاربون مع التُّرك مرة أخرى، وأبناؤها قد خرجوا من أرضهم كذلك إلى العالم الخارجي الغربي يدرسون فيه العلوم ويتصلون بالفرنسيين والإنجليز والطليان في بلادهم، والأجانب قد كثر وفودهم على مصر وطالت إقامتهم فيها، وأخذوا يستكشفون من حقائق الحياة المصرية القديمة والمعاصرة ما عرف المصريون منه قليلًا جدًّا، وعرف الأجانب منه كثيرًا جدًّا.
ثم كانت الصدمة الكبرى التي أصابت مصر في أواسط هذا القرن عندما خُيِّل إليها أنها توشك أن تحقق استقلالها، ثم حالت أوروبا بينها وبين تحقيق هذا الاستقلال، وفرضت عليها نظامًا مضطربًا لا هو بالنظام المستقل الخالص ولا هو بالنظام الخاضع الخالص الذي عرفته القرون الماضية.
ثم لم تكد هذه الحرب تنجلي حتى تمَّ الاتصال بين مصر وبين العالم الشرقي على نحو لم يسبق له نظير من قبل؛ فقد تم احتفار قناة السويس وأصبحت مصر شديدة الاتصال بالعالَمين الغربي والشرقي، بل أصبحت مصر مركزًا خطيرًا من مراكز هذا الاتصال بين الشرق البعيد وبين الغرب أيضًا.
وكذلك استطاعت كل هذه الأحداث أن تنبه المصريين إلى أن لهم مكانتهم وإلى أن هذه المكانة تجعل لوطنهم خطرًا في الحياة العالمية الإنسانية، فأَوْلَى أن تجعل لهم خطرًا في أنفسهم، وكانوا كذلك قد أخذوا يعرفون أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا، وأن من حقهم أن ينهضوا وأن يحققوا لأنفسهم حياة كريمة تلائم هذا الخطر الذي تبينوه لأنفسهم في حياة البلاد الشرقية من جهة، وفي حياة العالم الإنساني كله من جهة أخرى.
وكذلك لم نكد نتجاوز ثلثي القرن الماضي حتى كان المصريون يعرفون أن لهم حقوقًا يجب أن تُنال وأن عليهم لأنفسهم ولغيرهم واجبات يجب أن تؤدَّى؛ وهذا كله ظهر بفضل الأحداث التي أشرت إليها من جهة، وبفضل المطبعة التي أخذت تنتشر بين المصريين وبين العالم الشرقي العربي كله، أثاروا القديم من العلوم، وأخذت تنتشر أشياء نُقلت لهم عن العالم الغربي الخارجي؛ منها ما هو ترجمة لما كتبه الغربيون، ومنها ما هو حديث عن الغربيين.
فليس غريبًا إذن أن تشعر مصر بأن في حياتها شيئًا من التناقض لا بدَّ من التخلص منه … تناقض ظهر فيه محافظة على قديم من جهة، وفيه تطلُّع إلى جديد من جهة، والقديم الذي يحافظ عليه كثير من أبنائها أو يحافظ عليه أكثر أبنائها ليس كله خيرًا؛ بل فيه الخير وفيه شر كثير يَحُول بينه وبين ما ينبغي له من الرقي ومن التقدم، والجديد الذي تطمح إليه ليس كله خيرًا أيضًا، فيه ما يتيح لها الرقي والتقدم، وفيه ما يعرِّضها للخضوع والضعف والتبعية للسلطان الغربي الأجنبي.
وشعرت مصر بأن من الحق عليها لنفسها أن تَخْلُصَ من هذه الأثقال القديمة التي تعوق تقدُّمها وأن تتحرر من هذه الأغلال الجديدة التي كانت تُهيَّأ لها؛ فتصرُّفُ أمرائها كان يُطْمِع فيها الغرب ويُغري بها الأوروبيين، ومحافظة الأزهر والذين يتأثرون بالأزهر كانت تَحُول بينها وبين الخطوات الواسعة في سبيل التقدم والرقي، وظهر ضيق المصريين بهذا في هذا الوقت الذي كان بين احتفار قناة السويس وبين الثورة المصرية الأولى التي نسميها الثورة العرابية، في هذه السنوات كان المصريون يشعرون بشيء من الضيق بهذه المحافظة القوية الشديدة التي تُقصِّر بهم عما يطمحون إليه والتي كان الأزهر مركزًا لها.
وليس أدل على هذا من إقبال مصر على أن تتخلص من تسلُّط الأزهر شيئًا ما، وتنشئ بعض المدارس التي تتيح لها أن تُوجد معلمين يعلِّمون أبناءها قديمهم على نحو جيد ملائم للنهضة التي كانت تطمح إليها؛ فأنشأت دار العلوم لتُوجد طائفة من الذين يعملون لغيرهم … طائفة أقرب إلى الحياة الجديدة، وأقدر على فهمها وإساغتها وتصديرها من العلماء الذين كان الأزهر يخرِّجهم على الطراز القديم الذي هو أشبه بالقرون الوسطى منه بالعصر الحديث، كان هذا دليلًا واضحًا على أن مصر قد أخذت تضيق بهذه المحافظة الشديدة الثقيلة التي ألحَّ الأزهر فيها في تلك الأوقات، وكان الأزهر مستعصيًا على الإصلاح في ذلك الوقت، وكان الناس يرونه شيئًا مقدَّسًا لا ينبغي أن يُمَسَّ من قريب أو بعيد، إلَّا أن يكون هذا لتمكين أهله من أن يعيشوا عيشة خيرًا من العيشة التي كانوا يعيشونها من قبل.
وكذلك أُنشئت هذه المدرسة لتخرج باللغة العربية من طورها الجامد الذي وصلت إليه في القرون الماضية إلى طور جديد فيه شيء من حياة ومرونة، وفيه قبل كل شيء بعض التيسير الذي يتيح للعقول أن تفهمه وتتسع للحياة الجديدة التي كان المصريون مقبلين عليها.
وفي الوقت نفسه أحس المصريون بخطر شيء كثير من هذا التجديد الذي كانوا يرونه ويألفونه ويطمحون إليه، أحسوا هذه الأغلال التي كانت تُهيَّأ لهم من الغرب بفضل تصرفات بعض أمرائهم وإسرافهم في المال وإسرافهم في التقرب من الأوروبيين على غير فهم وعلى غير تحقيق لما يفعلون … فأرادوا أن يكونوا أحرارًا لا يتأثرون بنتائج هذه التصرفات الخطيرة، وأرادوا قبل كل شيء أن يكون أمرهم لهم في كثير من الأشياء التي كان الأمراء يعيثون بها في تلك الأيام.
نشأت عندهم إذن فكرة الطموح إلى الحرية، وفكرة الطموح إلى تدبير أمورهم بأنفسهم، وفكرة التخلص من القديم والتخلص بنوع خاص من الضغط التركي الذي كان لا يأتيهم من مدينة القسطنطينية بقدر ما كان يأتيهم من القصر الذي كان مستقرًّا في بلادهم، والذي كان يعتمد على طائفة من التُّرك أقامت في مصر وعدَّت نفسها مصرية، مع ازدراء كثير في نفوسهم للمصريين … كل هذا نجده ظاهرًا فيما كان يُكتب في تلك الأعوام قبل الثورة عند بعض المصريين الذين أخذوا يكتبون متحررين قليلًا من الأساليب العتيقة في التعبير محاولين أن يؤدوا عن ذات أنفسهم في لفظ سهل حرٍّ لا يقيده السجع ولا تقيده تلك الالتزامات الكثيرة التي كان القدماء يلتزمونها حين كانوا يكتبون.
ونلاحظ هذا أيضًا في الشعر الذي أخذ المصريون ينشئونه شيئًا فشيئًا متحررين من القيود التي كانت مألوفة في ذلك الوقت، راجعين إلى الحياة العربية القديمة وإلى المذاهب الشعرية القديمة في قرض الشعر، وكان البارودي من أبرز الشعراء الذين ظهروا في تلك الأوقات وفي أعقاب الثورة المصرية الأولى بنوع خاص، وظهر له شعر أقل ما يوصف به أنه أحيا الشعر العباسي القديم في لفظه وفي معناه وفي أسلوبه وفي طريقته كلها بوجه عام.
فنحن نرى أن هذا العصر أو أن هذا الثلث الأخير من القرن الماضي إنما كان عصر محاولة للتحرير … إنْ يكن الإخفاق السياسي والعسكري قد أدركه، فإن الإخفاق العقلي والقلبي والأدبي لم يدركه بحال من الأحوال، وصدمةُ الإخفاق الذي دُفِعَتْ إليه الثورة المصرية الأولى والاحتلالُ الذي نشأ عن هذا الإخفاق إن تكن قد صدمته من الناحية السياسية والعسكرية، فإنه لم يغيِّر مطلقًا من اتجاهه العقلي والأدبي إلى الرقي والتحرر.
وظهر هذا واضحًا في العشرين عامًا الأخيرة التي خُتم بها هذا القرن، وتمثل بأولئك الشعراء والكُتاب الذين أخذوا يَنظِمون ويكتبون في تلك الأيام، ويصورون لوطنهم صورة جديدة تخالف ما كان مألوفًا من حياته قبل الثورة وقبل الاحتلال.