نحو أدب جديد
نستأنف الحديث من حيث قطعناه منذ أسابيع عن التجديد في أدبنا العربي الحديث وفي الأدب المصري منه خاصة، وأُحب أن يلاحظ المستمعون أن مصر لم تُعزل قط عن العالم الخارجي المتحضر كما عُزلت منذ كان الفتح العثماني في أوائل القرن السادس عشر، في ذلك الوقت حِيلَ بين مصر وبين الاتصال بالعالم الخارجي، والاتصال المنظم المتصل بنوع خاص، واضطرت مصر كما اضطر غيرها من البلاد العربية إلى شيء يشبه أن يكون نومًا، وظلت كذلك ثلاثة قرون كاملة، ثم أفاقت فجأة عندما جاء الفرنسيون إلى مصر، يقودهم بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر.
أفاقت مصر واتصلت بالعالم الخارجي قليلًا قليلًا، والعالم الغربي خاصة، ولم تكد تفعل حتى تبين لها أنها قد نامت أو أغرقت في النوم، وأن العالم في أثناء هذا النوم الطويل كان يتقدم بخطوات واسعة جدًّا، وكان من أهم الأشياء التي صادفتها مصر عندما أفاقت، ومن أهم الأشياء التي تتصل بالحياة الأدبية بنوع خاص، أنها وجدت العالم الغربي قد اخترع المطبعة وجعل ينشر الكُتب والصحف، وينشر من الكُتب القديمة كما ينشر منها الحديث، وهي لا تزال كما كانت منذ القرون البعيدة جدًّا لا تعتمد في إذاعة الكُتب ونشرها إلَّا على الطرق القديمة المألوفة وهي طُرُق النَّسْخ وكتابة النسَّاخين، فعندما عرفت مصر هذه المطبعة، وعندما تعودت استعمال المطبعة في أوائل القرن التاسع عشر كان لهذا أثرٌ أيُّ أثرٍ في الحياة الأدبية العربية، وكان من أهم الآثار لمعرفة المطبعة واستقرارها في مصر أننا أخذنا نفكر في أدبنا العربي القديم الذي لم يكن يتاح للناس أن يقرءوه؛ بل لم يكن يتاح لأكثر الناس أن يعرفوه، وإنما كان العلم به مقصورًا على طائفة معينة من الناس، وكانت هذه الطائفة، طائفة العلماء، لا تقرأ إلَّا ما يلائم ذوقها المتأخر الذي طال عليه الأمد، وتراكمت عليه الأحداث، وأثَّرَت فيه الخطوب، فأصبح ذوقًا جامدًا لا حياة فيه.
كان هؤلاء العلماء لا يقرءون من أدبنا القديم إلَّا ما كان يلائم هذا الذوق المتأخر، فلما أخذنا نستأنف البحث عن أدبنا القديم وأخذنا ننشر هذا الأدب عرف المصريون أن لهم أدبًا قد مضى عليه عهدٌ بعيد، وأن في هذا الأدب قوة قد بَعُد عنهم بعضها، وأن فيه حياةً قد نسُوها أو كادوا ينسَوْنها، وأخذوا يقرءون بعض هذه الكُتب التي جعلت تُنشر فيهم حينًا بعد حين، وأخذ ذوقهم يتأثر بهذه الكُتب قليلًا قليلًا، وأخذوا ينصرفون عما كانوا قد ألفوه من الجمود شيئًا فشيئًا.
وفي أثناء هذا كان العلم بالحياة الخارجية يقوى شيئًا فشيئًا فيؤدي إلى الاتصال بهذه الحياة الغربية، ويشتد ويعظم من حين إلى حين، وكانت البعثات تسافر من مصر إلى فرنسا وإيطَاليا وبريطانيا العظمى، وكان طلاب هذه البعثات يرون حضارات لا عهد لهم بها، وأقوامًا لهم ألوان من الحياة لم تكن تخطر لهم على بال، ويسمعون أحاديث لم يكونوا يسمعون بمثلها في بلادهم، ويقرءون كُتبًا لم يكونوا يقرءون مثلها في بلادهم أيضًا.
وكان لهذا الأثرُ كل الأثر في تغيير الحياة العقلية المصرية، ولكنه كان تغييرًا بسيطًا يسعى على مهل وفي أناء شديد؛ فكان التجديد في النصف الأول أو الثلثين الأولين من القرن الماضي بطيئًا … كان يمس العقل وقلَّمَا يمس الذوق، وكان نادرًا، كان يمس العقل لأنه كان يُظهر المصريين على ألوان من العلم لم يكونوا يعرفونها وعلى فنون تطبيقية جديدة لم تكن مألوفة لهم، وكانوا يُدْفَعون لهذا كله بحكم الحياة التي كانوا يحيونها في ذلك الوقت، فهم عندما كانوا يتثقفون، وعندما كانوا يُرسَلون إلى البلاد الأجنبية لم يكونوا يتثقفون حبًّا في الثقافة ولا يُرسَلون طلبًا للعلم، حبًّا للعلم نفسه، وإنما كانوا يتثقفون ويدرسون لما تنتجه الثقافة وما ينتجه الدرس من فائدة عملية نافعة قريبة، فهم كانوا يدرسون الفنون العصرية لأنهم كانوا في حاجة إلى أن يكون لهم جيش، وكانوا يدرسون الفنون الأخرى لأن هذا الجيش يحتاج إلى هذه الفنون … الطبيب مثلًا كان يدرس لأن الجيش في حاجة إلى الأطباء، والصناعات كانت تُدرَّس، قليلًا أو كثيرًا؛ لأن الجيش محتاج لهذه الصناعات.
وكذلك كانت الدراسات في ذلك الوقت موجَّهة إلى تحقيق المنافع المادية القريبة، وقلَّما كان المصريون يفكرون في توجيه الدراسة أو الثقافة إلى مجرد العلم والمعرفة، وإلى مجرد ترقية العقول، وتصفية الأذواق والتقدم الطبيعي.
ولكن العلم بطبعه والثقافة بطبعها لا تمس عقلًا إلَّا أثَّرت فيه آثارًا تتجاوز ما أراد أصحابها من المنافع العاجلة إلى هذه المنافع العقلية التي تتحقق قليلًا قليلًا، فقد كانوا يحققون إذن منافعهم التي كانوا يطلبونها والتي كانوا يدرسون من أجلها … ولكن العقول عندما كانت تتعلم شيئًا لم تكن تتعلمه فحسب، وإنما كانت تتأثر بهذه الأشياء إلى جانب التأثير المادي الذي كان مرغوبًا فيه، تتأثر بهذه الأشياء تأثرًا يُبَغِّضُ لها أمورًا كانت قد ألفتها، ويحبب لها أمورًا كانت جديدة بالقياس لها.
وكذلك جعل أدبنا وجعلت حياتنا العقلية تتغير شيئًا فشيئًا … تتغير ببطء ولكنه تغيُّر متصل؛ حتى إذا تقدم القرن التاسع عشر فبلغ ثلثيه أو جاوزهما، عندها بدأ الاتصال بيننا وبين الخارج وجعلنا ندعو من الخارج الأساتذة، فيتعلم من هؤلاء الأساتذة طلاب كثيرون، وجعل هؤلاء الطلبة يتصلون باللغات الأجنبية، وباللغة الفرنسية خاصة، وجعلوا يقرءون ما كان يكتبه الفرنسيون في ألوان من الفن وألوان من الأدب، وجعلوا ينفرون من حياتهم المادية ومن حياتهم العقلية القديمة، ويطمحون إلى حياة أخرى.
وفي أثناء هذا كله كان الأدب القديم يُنشَر لهم ويُذاع فيهم وإذا عقولهم تخضع لتيارين مختلفين أشد الاختلاف؛ أحدهما مُمعن في القِدم يأتيهم من القرون الأولى للحياة العربية، والآخر ممعن في الجِدَّة يأتيهم من الحياة الأوروبية الحديثة، أو من الحياة الأوروبية المعاصرة لهم في تلك الأيام، فكانوا إذن مضطربين بين قديم عربي وجديد أوروبي، وكان ذوقهم مترددًا في التأثر بهذين التيارين، يأخذ من هذا ويأخذ من ذاك … يحاولون أن يتأثروا بالأوروبيين في كتاباتهم، ويحاولون أن يتأثروهم جادِّين في ذلك، ولكن كان فيهم الجامدُ الذي لا يتحول عن جموده إلَّا قليلًا فيمنعهم عن هذا التأثير، وفيهم هذا النظام العربي الذي يؤثر في هذه العقول من ناحية أخرى فيدفعهم أو يجذبهم إلى الماضي جذبًا …
وكذلك نشأ لنا في أواخر القرن الماضي فن جديد وأدب جديد بالقياس إلى ما كنا نألف من الأدب ومن الفنِّ … وهو فن مزيج فيه شيء كثير من الاضطراب، فيه العربي القديم الذي كنا نحاول أن نقلده أحيانًا ويخطئنا الإحسان أحيانًا أخرى، وفيه الجديد الأوروبي الذي كنا نحاول أن نقلده فنصيب مرة ونخطئ مرات.
وظلَّ عقلنا وأدبنا في هذا الاضطراب إلى أن انقضى القرن الماضي وجاء القرن الذي نعيش فيه، وقد أخذ ذوقنا يدنو شيئًا فشيئًا من النضج، وأخذنا نتأثر بهذين التيارين تأثرًا قويًّا، وأخذ الانسجام يتحقق بين هذين التيارين ونشأ عن هذا الأدبُ الذي سأحدثكم عنه فيما يأتي إن شاء الله من الأحاديث.